الأربعاء، ٢٥ نوفمبر ٢٠٠٩

هل رضى الله تعالى عن الصحابة ؟!


الواد عطوة والصحابة .
1 ـ فى ذات يوم أغبر استيقظ ـ فجأة ـ الواد عطوة وقد قرر أمرا ؛ وكعادته فى المواقف المصيرية فقد هرش مؤخرته وذهب رأسا الى مأمور قسم الشرطة الذى يرتعب منه الجميع .
الواد عطوة دخل مباشرة على مأمور القسم وقال له : لقد أصدرت قرارا بأن سيادتك قد رضيت عن الأستاذ صالح لأنه رجل فاضل .
إنتفض المأمور غاضبا وصرخ فى الواد عطوة : وإنت مال أهلك ؟ وإنت مال أمك ؟ ومن أنت أيها الحقير حتى تتدخل فيمن أرضى عنه أو أغضب عليه ؟! هل سمحت لك بهذا ؟!! أننى الذى أملك تعليقك وضربك ونفخك ومع ذلك لم أسمح لنفسى أن أتدخل فى حريتك وأقول أنك تحب فلانا أو تكرهه .... فكيف تسمح لنفسك أيها الحقير أن تتدخل فى شئونى ؟!.
الواد عطوه لم يسمع ولم يفهم ،إذ قال دون أن يتلعثم : ولكن الأستاذ صالح رجل فاضل فلابد أن ترضى عنه ..
صرخ المأمور :تانى ..!! لابد أن أرضى عنه ؟ تكررها تانى يا فلاح يا جلف ؟!
الواد عطوة رد بكل ثبات : أقصد أن الاستاذ صالح رجل فاضل ، وطالما هو رجل فاضل صالح فلابد من أن ترضى عنه لأنك عادل.
هدأ المأمور وجلس ، وقال : ومن أدراك يا عطوة بأنه رجل فاضل ؟ هل تعاملت معه ؟ هل عايشته ؟هل دخلت فى سريرته ؟ هل أنت معه فى صلاته وخلوته ؟
الواد عطوة تلعثم وقال : لا.
قال المأمور : هل رأيته ؟ هل قابلته ؟ هل تكلمت معه ؟ هل تكلم معك ؟
الواد عطوة هزّ رأسة بالنفى .
قال المأمور : إذن كيف عرفت بأنه صالح وفاضل ؟
الواد عطوة هرش مؤخرته وقال : سمعت الناس يقولون هكذا ...
ابتسم المأمور وقال : وهل الناس الذين قالوا عنه هكذا رأوه أو تعاملوا معه ؟
أعاد عطوة هرش مؤخرته وقال : لا. أنهم سمعوا ذلك من الجيل السابق . ضحك المأمور وقال : وهل ذلك الجيل السابق رأى الأستاذ صالح وتعامل معه ؟!.
هرش عطوة مؤخرته بقسوة وهز رأسه نافيا .
قال المأمور:هل كل الأجيال التى عاشت فى بلدكم بل فى وطنكم رأت ذلك الأستاذ صالح الذى تتحدث عنه؟..
نظر عطوة متضرعا إلى المأمور وقال : كفى أسئلة فقد أوجعت أسئلتك مؤخرتى .... قال المأمور: بأمكانى أن أذيقك عذابا لم تشهده من قبل ولكنى أردت إعطاءك فرصة لتفكر قليلا .
كى يفكر فقد أعاد عطوة هرش مؤخرته ، ولكن لم يجد الاجابة..
ابتسم له المامور وقال بين التعجب والاشفاق : أنت يا عطوة إنسان ضعيف وهزيل ولكنك جبار تتدخل فى حرية من هو أقوى وأعظم منك وتفرض عليه ما ترفضه ، فأنت ترفض أن أتدخل أنا فى حريتك بينما تتدخل أنت فى حريتى... ثم أنك يا عطوة جاهل ولكنك تدعى العلم الإلهى لأنك زعمت أنك تعرف سريرة إنسان آخر لم تره ولم تقابله فى حياتك .. ثم بعد هذا كله يا عطوة فأنت إنسان تافه لأنك تشغل نفسك بقضية ليس لك فيها من الأمر شىء ، فما شأنك أنت إذا كنت أحب أنا الأستاذ صالح هذا أم لا أحبه ؟ أليس الأجدر بك أن تكون علاقتك طيبة معى حتى لا أغضب عليك ؟
الواد عطوة نكس رأسه وسكت ..
استمر المأمور يقول : أليس الأجدى لك يا عطوة أن تفكر فى تحسين أحوالك ؟ فأنت يا عطوة عاطل عن العمل، تتسول من الناس غذاءك ودواءك ومركبك وملبسك، وتنسى ذلك وتشغل نفسك بما ليس لك به علم .!!
لم يجد الواد عطوة إجابة.
استمر المأمور يقول : أننى أعرف يا عطوة أن عمدة البلد قد استولى على حقلك وطردك من بيتك وقتل أباك واغتصب أمك وفعل الفاحشة بزوجتك واعتدى على أختك وفجر بابنتك وعذّب أخاك وطرد أبنك من العمل وأدخل عصاه فى مؤخرتك وجعل سمعتك سيئة فى كل القرى المجاورة ، ومع ذلك أراك يا عطوة تنسى كل هذا وتظل تدور فى كل ناحية فى القرية تطلق الأشاعات بأننى قد رضيت عن الأستاذ صالح الذى لم تعرفه ولم تقابله فى حياتك . أليس الأجدى لك يا عطوة أن تعيد التفكير حرصا على مؤخرتك من الهرش ... وخلافه؟! .
الواد عطوة لم يفهم ولن يفهم ... لأن عقله ليس فى رأسه ولكن فى مؤخرته ...

2 ـ المسلمون أصحاب الديانات الأرضية فى النظم الاستبدادية هم ذلك الواد عطوة.
الأدلة كثيرة، ومنها أنهم إذا قرأوا قول الله تعالى "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا: الفتح 18 "فهم يفرضون على الله تعالى ان يكون قد رضى عن فلان وفلان من الصحابة ، ويعطون لأنفسهم التدخل فى مشيئة الرحمن وفرض آرائهم عليه تعالى ، ويزعمون علمه الغيبى ، وهم بذلك ما قدروا الله جل وعلا حق قدره ، هذا فى ذات الوقت الذى يتصاغرون فيه أمام حاكم ظالم يتصاغر بدوره أمام حكام الدول الديمقراطية القوية.
ومن عجب أن أولئك المسلمين ذوى الديانات الأرضية مختلفون فى فهمهم للآية الكريمة سالفة الذكر التى تتحدث عن رضا الله تعالى عن بعض الصحابة ، فالسنيون يفهمون انها " لقد رضى الله عن أبوبكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير ..الخ ، بينما يفهمها الشيعة :"لقد رضى الله عن على وفاطمة وحمزة والحسن والحسين وآل البيت..."أى يدخل كل منهم على الآية برأى مسبق يحول معناها من صفة لمؤمنين فى زمان ومكان وموقف معين لا يعلمهم الا الله وحده إلى أشخاص يختارونهم حسب الهوى ،ويفرضون رأيهم على رب العزة جل وعلا .
ولهذا نتوقف مع الآية الكريمة بالتدبر والدرس .

كيف نفهم الأية الكريمة؟.( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا : الفتح 18 )
1 ـــ هناك مستوى الهداية ، وهو المستوى البسيط المباشر الميسر للذكر ، يستطيع به كل انسان عاقل ان يفهم الآية الكريمة بمجرد تكرار كلماتها ، أى أن الله تعالى قد رضى عن المؤمنين حين كانوا يبايعونه تحت الشجرة ، ولقد علم الله تعالى ما فى قلوبهم فكافأهم بالنصر.
وهنا يتوقف فهم الطالب للهداية ، فلا يبحث فى أسماء أولئك المؤمنين الذين تتحدث عنهم الآية لأنه يعلم أن الله جل وعلا وحده هو الأعلم بمن هم أولئك المؤمنون ، وليس له أن يصدق روايات السيرة لأنه جل وعلا لم يعط علمه بالغيب لخاتم النبيين عليه السلام فهل أعطاه لمن كتب سيرته بعد موته بقرنين وأكثر ؟
ولأن طالب الهداية لا يعنيه سوى الهداية فهو يأمل فقط أن يكون ممن رضى الله تعالى عنهم ، ولأنه حريص على مستقبله يوم الدين فهويعرف أنه ليس له إلا ما سعى ، ولن يأخذ شيئا من سعى أحد من الحاضرين أو السابقين أو اللاحقين .
هذا هو مستوى الهداية القريب الواضح المباشر السهل لكل راغب فى الهداية.

2 ـــ ثم هناك مستويات مختلفة للتعمق فى فهم الأية الكريمة لدى الراسخين فى العلم، وهى تتنوع حسب مقدرة كل منهم لأنها تطرح الكثير من القضايا والتساؤلات وتجيب عليها.
وعلى سبيل المثال نطرح بعضها ونجيب عليها .

3 ـــ لماذا قال الله تعالى ( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة )، ولم يقل ( لقد رضى الله عن المؤمنين الذين بايعوك تحت الشجرة )؟ .
هنا يأتى إعجاز الدقة فى إختيار اللفظ القرآنى ، لأن الله تعالى لو قال ( لقد رضى الله عن المؤمنين الذين بايعوك تحت الشجرة) لكان هذا الرضى مستمرا الى يوم الدين، ولكان هذا الرضى شهادة إعفاء لهم من أى مسئولية،أى يتمتعون بالرضا الإلهى مهما فعلوا بعدها من ذنوب،أى مغفور لهم مقدما مهما فعلوا،أى تشجيع لهم على العصيان ، حيث أن لهم حصانة مقدما بالرضى الإلهى ، وهذا يتنافى مع العدل الإلهى ،ولذلك قال تعالى ( لقد رضى الله عن المؤمنين ( إذ ) يبايعونك تحت الشجرة ) لأن "إذ" هنا تحدد المكان والزمان للرضى الإلهى . فالرضى الإلهى هنا محدد بوقته ومكانه لا يسرى على ما سبقه ولا يسرى على ما جاء بعده .
نفس الإستعمال المحدد لكلمة ( إذ ) جاء فى قضية التأسى بإبراهيم والذين كانوا معه ( راجع مقال : الولاء والبراء فى الاسلام :
http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=151

4 ـ (لقد رضى الله عن المؤمنين ) ما هو مفهوم المؤمنين هنا ؟هل هم المؤمنون بحسب الظاهر أم بحسب العقيدة ؟
هناك إيمان ظاهرى بمعنى إيثار الأمن والأمان ، وهناك إيمان باطنى يعنى الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الأخر. ومثلا يقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ : النساء 136 )، فالخطاب هنا يأمر الذين آمنوا إيمانا ظاهريا بمعنى إيثار الأمن والأمان بأن يقرنوا هذا الإيمان الظاهرى بإيمان قلبى وعقائدى بالله تعالى ورسله وكتبه. راجع مقال : الاسلام دين السلام :http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=14
وتكرر هذا كثيرا فى القرآن الكريم السياق كقوله تعالى ( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ...) ( الأحزاب 70 ) ، ( الحشر 18 ) ،( البقرة 278 ) ، ( النساء 1 ) ، ( المائدة 35 ، 57 ) ، ( التوبة 119 )، ( الزمر 10 ) ،فهنا أمر للذين آمنوا ايمانا ظاهريا بأن يتقوا الله جل وعلا ليكتمل ايمانهم الظاهرى بايمان قلبى ينتج عنه صلاح الأعمال . ويقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا : التحريم 6 ) فى ذلك كله – وهو كثير – جاء الخطاب للذين آمنوا إيمانا ظاهريا بمعنى الأمن والأمان أن يؤمنوا إيمانا عقائديا بالله تعالى وأن يتقوه حتى لا يكون مصيرهم إلى النار .
ونعود للسؤال : هل ( المؤمنون) فى قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) هم أصحاب إيمان ظاهرى أم باطنى ؟
المقصود هنا هو الإيمان القلبى الباطنى بدليل قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) أى علم أن الإيمان قد غمر قلوبهم فى ذلك الوقت ، حين أقبلوا يبايعون النبى تحت الشجرة ، أى هى لحظة إزداد فيها الإيمان وتجلى . ولأن الله تعالى وحده هو الذى علم فى قلوبهم فان من يزعم أن منهم فلانا وفلانا فقد زعم أنه يشارك الله تعالى فى علم الغيوب وما فى القلوب،أى إدعى الالوهية دون أن يدرى .

5 ـــ هل معنى ذلك أن الإيمان يزيد وينقص ؟
نعم وبالتأكيد .

6 : وطالما أن المؤمنين المشار إلى إيمانهم فى الأية الكريمة هو إيمان ذى صفات قلبية زادت فى وقت محدد وفى مكان محدد وفى وقت محدد فإن حديث القرآن الكريم هنا مختلف عما كتبه ابن إسحاق وغيره فى السيرة النبوية عن الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة ..

ونقول نعم فالقرآن دائما يتحدث عن صفات ولا يسمى أشخاصا بالإسم ، أما وظيفة التاريخ فهى تحديد المكان والزمان وأسماء الأشخاص.
وهناك نوعان من التاريخ :تاريخ كتبه المؤرخ معاصرا للحدث وكان موجودا وقت ومكان حدوثه، وهو تاريخ أقرب للدقة ، وهناك تاريخ شفهى جرى تناقل رواياته فى حكايات عبر الأجيال إلى أن تمت كتابته من الذاكرة بعد حدوثه بقرنين أو أكثر من الزمان ، وهذا ينطبق على السيرة النبوية التى شهدت عصر الرواية الشفهية خلال قرنين فى الخلافة الراشدة ثم الخلافة الأموية ، ثم بدأ تدوينها فى العصر العباسى ، وتعرضت فى فترتى الرواية الشفهية والتدوين إلى الكثير من التغيير والتحريف حسب الخلافات المذهبية ؛ تلك الخلافات بين الشيعة والسنة والخوارج والمرجئة والمعتزلة والتى دارت أساسا حول الصحابة.
ومن حسن الحظ أن هذا كله تاريخ بشرى ليس جزءا من الإسلام ،فالإسلام هو قرآن فقط .
وفى هذه الأية الكريمة فإن الله تعالى يتحدث عن قلوب إرتفع فيها ترمومتر الإيمان فاستحقوا رضا الله تعالى وقتها، وهو رضى إلهى وقتى يكافىء تلك الشحنة الإيمانية الوقتية .

7 ـــ الملاحظ فى هذه الآية الكريمة إنها الوحيدة فى القرآن الكريم التى جاء فيها رضى الله تعالى عن بعض الناس دون أن يقول ( ورضوا عنه ) ... فلماذا ؟

نعم. وهنا فصل الخطاب . ونستعرض تلك الآيات :
* يقول تعالى (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ :المائدة 119 ) الحديث هنا ليس عن يوم من ايام الدنيا أو موقف معين فيها بل هو عن يوم القيامة بعد موت البشر وتحديد أصحاب العمل الصالح من أصحاب العمل السىء ، وعندها يكون الرضى الإلهى الكامل – وليس المحدد – ويدخل من رضى الله تعالى عنه الجنة ، ويقابلون رضى الله تعالى عنهم بالرضى على الله لأنه أدخلهم الجنة .
* ويقول تعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: التوبة 100 ) واضح هنا أن الحديث عمن سيدخل الجنة من السابقين فى الإيمان والعمل من الصحابة والتابعين لهم فى السبق بالإيمان والعمل إلى يوم القيامة ، وعند دخولهم الجنة يكون الرضى الإلهى التام عنهم ويكون رضاهم عن الله تعالى .
*ويقول تعالى (... أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: المجادلة 22 ) يوم القيامة سيكون الناس إما فى النار وهم حزب الشيطان،أو فى الجنة وهم حزب الله. وأصحاب الجنة يتمتعون برضى الله تعالى ويعلنون رضاهم عن الله ...
* ويقول تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ: البينة 7- 8 ) يوم القيامة سيكون خير البرية من الناس فى الجنة ، رضى الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، وذلك متاح لكل إنسان يعيش إلى أن يموت متقيا يخشى ربه جل وعلا .
لم يأت فى القرآن الكريم (رضى الله عنهم ورضوا عنه) سوى فى تلك الآيات الكريمة. وإذن فهناك أية واحدة جاء فيها ( رضى الله تعالى ) دون أن يقال ( ورضوا عنه ) وهى (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) لأن الرضا الإلهى هنا محدد بموقف معين فى وقت معين وفى مكان خاص.
وسبحان من كان القرآن الكريم كلامه.!!
لأنه لو كان كلام بشر لحدث فيه إختلاف كثير وتناقض فى الأيات المتشابهة ، ولكن من نواحى الإعجاز القرآنى تلك الفوارق الدقيقة فى التكرار القرآنى والأيات المتشابهات . وهنا يتجلى أيضا إعجاز الحفظ للقرآن الكريم بألفاظه وكلماته ....
سبحان ربى العظيم ...!!
8 ـــ وإذن فالرضى الإلهى فى قوله تعالى ( لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) لا تعطى حصانة لأولئك الصحابة المؤمنين الذين تحدث عنهم رب العزة حيث تتحدث الأية عن مشاعر إيمانية ارتفعت فى موقف معين .
نعم . إن آية ( لقد رضى الله عن المؤمنين ) يكمل معناها آية أخرى فى نفس السورة حيث أن من يلتزم بالبيعة ويحفظ العهد حتى الموت سيكون من أهل الجنة ، ومن ينكث العهد ويتناقص إيمانه سيكون من أهل النار ، يقول رب العزة عما سيحدث بعد البيعة (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا : الفتح 10 ).
ونفس الحال تكرر فى موقف آخر تعرض فيه النبى والمؤمنون لهزة عنيفة فى غزوة ذات العسرة ، ثم انتبهوا فتاب الله تعالى عليهم مما وقعوا فيه وقتئذ :( لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ التوبة 117 ) فهو موقف محدد بزمانه ومكانه، وتعميمه يناقض عدل الله تعالى ، كما أن القول بأن الآية تنطبق على فلان وفلان هو اعتداء على غيب الله جل وعلا وزعم للالوهية لا يليق بمسلم ولا بعاقل .
إن من طبائع البشر تغير السلوك والقلوب ، فالإيمان يزداد وينقص ، ويترتب على زيادة الإيمان وتقديم عمل صالح فى وقت معين أن يتمتع ذلك المؤمن الذى عمل ذلك العمل الصالح برضى الله تعالى وقتها على ذلك العمل وخلفيته الايمانية الزائدة، ثم يحدث أن يقع ذلك المؤمن فى الزنا أوالقتل فيستحق غضب الله تعالى على إجرامه. والحياة مزيج من هذا وذاك ، ويتراوح ترمومتر الإيمان زيادة ونقصا حسب عمل الإنسان ، وفى النهاية يتحدد مصيره؛إما من أصحاب الجنة أو من أصحاب السعير (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ : الشورة 7 ).
ولهذا فإن من يحرص على مستقبله يوم القيامة لابد أن يشغل حياته بالعمل الصالح النافع للمجتمع ومنه العبادة ،وأن يخلص عقيدته وعبادته لله تعالى وحده، وأن يتوب إذا وقع فى ذنب وأن يبتعد عن الكبائر ما أمكن. وإذا حافظ على هذه الأستقامة إنتهت حياته بالإسلام الحق ومات مسلما ، وهذا معنى وصية الله تعالى للذين آمنوا بالتقوى إلى أخر لحظة فى العمر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ : آل عمران 102 )
وإذا طبقنا هذا المقياس القرآنى على الصحابة ، فمنهم من اتقى وعاش نقيا مخلصا لم يظلم الله تعالى ولم يظلم البشر،فسيكون يوم القيامة ممن قال الله تعالى عنهم : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ : التوبة 100 ).
ومنهم من خلط عملا صالحا وأخر سيئا وقد يتوب الله تعالى عليهم ويدخلهم الجنة ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ : التوبة 102 ).ومنهم المنافقون . وطبعا لا نعرف أسماء الصحابة من هؤلاء أوهؤلاء ، وليس لنا أن نتدخل فى غيب الله تعالى وإلا كان حالنا مثل الواد عطوة ..
أى بالرجوع إلى الأية الكريمة(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) نقول أنه كان من ضمن الصحابة الذين حظوا بالرضى الإلهى الوقتى فى ذلك الموقف من حافظ على الرضى بإيمانه وسلوكه الى أن مات نقيا تقيا مخلصا فسيكون يوم القيامة من السابقين الذين رضى الله تعالى عنهم ورضوا عنه.
ومنهم من انشغل بحطام الدنيا واعتدى وظلم وقاتل فى سبيل الثروة والمطامع الدنيوية الزائلة ، فاستحق الخروج من دائرة حب الله القائل (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ : البقرة 190 ) ، فالله تعالى لا يحب المعتدين ولا يحب الظالمين .

9 ـ نريد لمحة عن اليوم الآخر فيما يتعلق بالرضى الالهى النهائى ..
* نتوقف مع بعض آيات سورة الفجر.
* يوم القيامة سيكون كل البشر فى موقف مهيب حيث يتم تدمير العالم ويأتى عالم جديد يتحمل مجىء الله تعالى ومعه ملائكته صفا صفا (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا : الفجر 21-22 ).
* عندها ستكون أنت وأنا واحدا من اثنين:
ـ إما أن نظل متمتعين بصفة الأنسان ، والإنسان فى مصطلح القرآن الكريم هو الكافر لربه ولنعمته والمتبع لغرائزه الجسدية، وحين يظل ابن أدم متمتعا برذائله ويموت بها فإنه يبعث بها ويكون مسئولا عما أسلف من عصيان فى الدنيا. عندما يرى هذا الإنسان جهنم يندم ويتمنى لو كان قدم عملا صالحا لمستقبله الحقيقى أى لآخرته حيث الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار ، وهو الأن عليه أن يعيش خالدا فى النار . يقول تعالى عن هذا الصنف من البشر يوم القيامة عند مجىء جهنم (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ: الفجر 23-26 ).
ـ وإما أن تكون من الصنف الفائزالذى ينجح فى تزكية نفسه بالإيمان التقى والخشوع لله وحده (أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي: الفجر 27-30 ). هنا رضى الله تعالى عن تلك النفس المطمئنة ، ورضى تلك النفس المطمئنة عن الله جل وعلا.
* ولكى تكون يوم القيامة نفسا مطمئنة راضية مرضية فابتعد عن عقلية الواد عطوة . 

الصحابة والتقسيم الثلاثى للبشر حسب الايمان و العمل


مقدمة
1 ـ المشكلة الحقيقية فى فهم الاسلام أن معظم غير المسلمين يكرهون كلمة الاسلام ، ولا يرون دين الاسلام إلا مجسدا في تراث الأديان الأرضية للمسلمين وفى اعمالهم الحاضرة و تاريخهم السابق. أول من يقول بذلك الخطأ هم أولئك المسلمون ذوو الديانات الأرضية الذين يلصقون تحريفاتهم المناقضة للاسلام الى الاسلام عبر أحاديث ضالة وتفسيرات محرفة وتاويلات آثمة ، ثم يأتى أعداؤهم من أتباع الديانات الأرضية الأخرى التى ابثقت عن رسالات سماوية قبل القرآن ليدعموا هذا الخطأ ليحملوا دين الاسلام أوزار أولئك المسلمين.
والاسلام الحقيقى لا شأن له بذلك الفهم الخاطىء.
الاسلام الحقيقى هو السلام مع البشر والاستسلام طاعة لله جل وعلا وحده على نحو ما فصلناه فى مقال ( الاسلام دين السلام ) ومقال ( معنى الاسلام ومعنى الطاغوت ) .
والاسلام بهذا المعنى مخالف لما سار عليه تاريخ المسلمين وتاريخ البشر ، فهو دين الله جل وعلا الوحيد الذى نزلت به كل الرسالات السماوية وليس القرآن الكريم وحده، إنه الدين الالهى الأصلى الذى خالفه البشر فى كل عصر فأنشأوا على انقاض رسالاته السماوية أديانا أرضية ، ليس أولها الزردشتية واليهودية والارثوذكسية والمانوية واليعقوبية والكاثولوكية والبوذية وليس آخرها السنة والتشيع والتصوف والبروتستانتية والنورمان والبابية والبهائية.
الأصل هو دين الاهى واحد نزل فى رسالات سماوية مختلفة كل رسالة بلسان قومها ، ثم نزلت الرسالة الخاتمة قرآنا باللغة العربية لتظل حجة على البشر الى قيام الساعة، ولكن قام البشر بتحريف تلك الرسالات السماوية ، وأنشأوا على انقاضها أديانا أرضية، ولا يزالون .
والواقع أن البشر كانوا ثلاثة أقسام بالنسبة لمدى طاعتهم للرسالة السماوية : قسمان من أهل الجنة و قسم من أهل النار وهو الأكبر والأكثر. وبالتالى فهناك : فجوة بين الرسالة السماوية وتطبيقها البشرى ، ثم هناك فجوة داخل التطبيق البشرى نفسه بين أكثرية ضالة مضلة ستكون من أصحاب السعير ، وأقلية مؤمنة ستفوز بالجنة . بل أن هناك فجوة داخل تطبيق الأقلية المؤمنة، فهناك السابقون منهم بالعمل والطاعة والايمان وهناك من توسط واذنب وتاب واهتدى فلحق فلحق بالجنة مؤخرا.
ونعطى بعض التفصيلات فى شرح ما سبق .
أولا : كل الرسالات السماوية تقول شيئاً واحداً.
كل الرسالات السماوية من آدم إلى محمد عليهم السلام اختلفت لغاتها, وكانت كل رسالة تنطق بلغة القوم ولهجتهم, (14 / 4) ولكن مع اختلاف اللغات فى كل الرسالات إلا أن المضمون واحد هو التأكيد على الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح. وبهذا نطق كل نبى باللغة التى يتفاهم بها مع قومه إلى أن نزلت الرسالة الخاتمة على النبى محمد خاتم النبيين تنطق باللغة العربية ، وتكرر فى القرآن العربى نفس ما قيل قبل ذلك فى الرسالات السماوية باللغات البشرية المختلفة, (41 / 43))39 / 65-66 ). والقرآن الكريم نقل آيات من الوحي الذي نزل على إبراهيم وموسى في الأمر بالصلاة وإيثار الآخرة ( 87 /14 -)" وتكرر ذلك في سورة النجم ( 53 / 36 –). وأكد الله تعالى أن الوحى واحد وأساسيات التشريع واحدة فى كل الرسالات السماوية (4 / 163) (42 / 13).
وليس المؤمنون هم أتباع القرآن الكريم فحسب بل المؤمنين هم أتباع كل رسالة سماوية وأتباع كل نبي، لأن الحساب يوم القيامة يوم عام لجميع الناس ولكل الأمم ( 11 /103) ".
وفي نفس الوقت فذلك الحساب العام حساب موحد بشرع واحد في أساسياته، أنزله الإله الواحد. ومهما اختلف اللغات التي يصلى بها البشر لله تعالى فالعبرة بالتقوى ، فلن يدخل الجنة الا المتقون ( 19 / 63 ) ، وهم الذين يخشون الله تعالى وحده فلا يؤمنون باله غيره ، ولا يظلمون أحدا من البشر.
ثانيا : البشر جميعا ثلاثة أقسام فى تطبيقهم للدين الالهى :
1 ـ وكما أن الدين الالهى واحد للبشر جميعا ، وهم فيه مأمورون بالعمل الصالح عبادة لله الاله الواحد جل وعلا ، فانهم جميعا موعدهم يوم واحد هو اليوم الاخر.
وفى هذا اليوم سيتنوع البشر حسب الايمان والعمل الى ثلاثة أقسام : قسمان فى الجنة هما السابقون و اصحاب اليمين ـ وهما معا أقلية ـ ثم القسم الثالث وهو اغلبية البشر ، وهم أصحاب الشمال . يقول تعالى ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) ( الواقعة 7 ـ ).
2 ـ ونفس التقسيم نراه فى اهل الكتاب . فليسوا سواء ، منهم السابقون بالايمان و العمل الصالح ، يقول تعالى : (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( آل عمران 113 ـ )
يقول تعالى عن اهل الكتاب " لَيْسُوا سَوَاءً" أى انهم جميعا ليسوا فى التطبيق للكتاب المقدس سواء ، وان كانوا جميعا اتباع الكتاب المقدس الحق الذى نزل القرآن الكريم يؤيده ويصدقه . لكنهم فى تطبيق الدين لم يكونوا سواء، وتطبيق الدين بصدق يعنى التقوى أو اقامة الصلاة وايتاء الزكاة، وهنا يختلف الناس حسب الايمان والسلوك برغم الشعارات المرفوعة ؛ بعضهم سابق فى الخير وبعضهم توسط ، وبعضهم ضل وفسد ، وتتحدث الآية عن الصنف المفلح من أهل الكتاب فتقول عنهم بصيغة الجملة الاسمية التى تفيد الثبوت والدوام فى كل عصر وأوان: ( مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) أى قائمة بالدين ايمانا وشعائروسلوكا أو بمعنى آخرهى أمة تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة ، ولذلك فانهم كما قال تعالى : " يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ولذلك فان الله تعالى لن يضيع أجرهم، فالمتقون هم أصحاب الجنة : ( وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) آل عمران 113-115)
وكرر نفس المعنى فى نفس السورة ( آل عمران 199 )
وفى مواضع آخرى يقارن رب العزة بين أولئك السابقين من أهل الكتاب والضالين منهم ( النساء 160 ـ 162 ) ( الحديد 26 ـ 27 ).
والفيصل هو فى تطبيق الكتاب السماوى أو فى إتخاذه مهجورا، ولذلك فلو قام أهل الكتاب بتطبيق الكتاب السماوى باخلاص لنعموا برضى الله تعالى عنهم فى الدنيا والاخرة ، يقول تعالى :(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ) ( المائدة 66 ). فهنا يذكر الله تعالى الصنف المقتصد أى المتوسط والذى سيلحق بالجنة تحت اسم ( أصحاب اليمين ) ، ويذكر الله جل وعلا الأكثرية التى أساءت العمل فاستحقت الجحيم.
3 ـ ونفس التقسيم الثلاثى قاله رب العزة عمن يسمون بالمسلمين الذين توارثوا الكتاب الخاتم، فهم أيضا ثلاثة أقسام : منهم السابقون ومنهم من اقتصد وتوسط ، ومنهم الأكثرية الظالمة ، يقول تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ( فاطر 32 ).
ثالثا :
وهذا التقسيم الالهى الثلاثى سنعرفه فقط يوم القيامة على المستوى الفردى و المستوى العام ، والذى يخبرنا الان عنه هو الله جل وعلا الذى يعلم الغيب والذى له وحده الحكم على عقائد الناس وما تخفيه صدورهم ، ولقد أمر بتأجيل الحكم فى الاختلافات العقيدية اليه جل وعلا وحده فى ذلك اليوم : يوم الحساب : (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر 46 ) وبذلك ينبغى الا تكون هناك مشكلة. ولكن تتأسس المشكلة بتحكم أصحاب الأديان الأرضية فى عقول أتباعها وطلبا لجاه دنيوى مؤسس على التلاعب بالدين . ومن هنا يقوم الاضطهاد الدينى ومحاكم التفتيش، وتثور الحروب الدينية والطائفية التى تغذيها أكاذيب الأديان الأرضية ، ثم ينسبون كل ذلك الافك الى دين الله جل وعلا بالتأويلات المغلوطة والتحريفات الاثمة والأحاديث الكاذبة .

رابعا
استعراض لسورة الواقعة
تنفرد سورة الواقعة باستعراض مؤثر لتقسيم البشر الى ثلاثة أقسام حسب عملهم وايمانهم ، من سابقين مقربين ـ ثم أصحاب اليمين ، وهما معا فى الجنة على اختلاف فى مستوى الجنتين ، ثم اصحاب الشمال وهم أصحاب النار. وتصف نعيم السابقين ونعيم اصحاب اليمين ثم تصف عذاب اصحاب الشمال .
ولكن اللافت للنظر ان السورة تبدأ بذكر بعض مشاهد قيام الساعة ـ وتسميها الواقعة ـ ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا) ( الواقعة 1 : 6 ) وتدخل بعدها فى التقسيمات الثلاثية للبشر يوم القيامة ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) وتشرح نعيم المقربين السابقين ونعيم اصحاب اليمين ، ثم عذاب أصحاب الشمال ( الواقعة 7 ـ 56).بعدها يوجه الله تعالى حديثا للبشر يذكرهم فيه بانه جل وعلا هو خالق الحياة والموت والزرع والماء والنار، ويقسم بمواقع النجوم على ان القرآن الكريم تنزيل من رب العالمين ، ولكنهم يكذبون به لدوافع دنيوية ( الواقعة 57 : 82 ) .
وكما افتتحت السورة بالحديث عن بعض احداث يوم القيامة (الواقعة ) وتقسيم البشر الى ثلاثة أقسام تنتهى السورة بحديث آخر عن علامات الاحتضار عند الموت( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وكيف سينقسم البشر حسب ما قدموه من ايمان وعمل الى ثلاثة أقسام، هو نفس التقسيم الثلاثى للبشر حسب الايمان و العمل :( فَأَمَّاإِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ) (وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) (وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) ثم تنتهى السورة بالتاكيد على الحق القرآنى وتسبيح رب العزة جل وعلا (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الواقعة 83 ـ 96).
إن محور سورة الواقعة يقوم على هذا التقسيم الثلاثى لكل البشر. وهو تقسيم مبنى على الحياة العملية الواقعية لكل انسان من ايمان وعمل فى هذه الحياة الدنيا ، وسيراه كل البشر يوم القيامة بعد ان تنتهى فرصتهم فى التوبة وتنعدم حريتهم فى الايمان والكفر وفى الطاعة و المعصية. كما أن هذا التقسيم سيراه كل فرد عند الموت بعد أن أمضى حياته و تم قفل كتاب أعماله ورقد على فراش الموت أسيرا لا يستطيع أحد إنقاذه .. عندها سيرى بنفسه مصيره هل هو من السابقين المقربين أم من أصحاب اليمين أم من الخاسرين ، حسب ما سارت عليه حياته الدنيا من طاعة أو معصية وايمان أو كفر.
ولأن هذا التقسيم لن يراه البشر إلا بعد فوات الأوان وضياع فرصة التوبة بدءا بالاحتضار والموت ثم قيام الساعة فان من رحمة الله جل وعلا أن يخصص الجزء الأوسط من السورة لعظة البشر وتذكيرهم وهم أحياء فى هذه الدنيا يتمتعون بحريتهم وحياتهم ومقدرتهم على الطاعة و المعصية ، وهو جل وعلا يتجلى برحمته الى درجة أن يقوم هو نفسه باجراء حوار مع خلقه الضالين يدعوهم الى الهداية ، وباسلوب عقلى لامناص فيه من الموافقة ، حيث يطرح جل وعلا أسئلة لا بد أن تنتهى الاجابة عليها بالموافقة ، كقوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ؟) ( أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ؟) (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ؟ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ؟) ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ؟ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ) ( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ ؟ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ . فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) .. سبحان ربى العظيم ..
خامسا: الصحابة وسورة الواقعة
وسورة الواقعة تجعلنا نتساءل : كيف كانت استجابة الصحابة لها ؟ المتوقع والذى نتمناه أن يكون الصحابة كلهم من السابقين المقربين ، أو حتى على الأقل من الصنفين الفائزين بالجنة (السابقون وأصحاب اليمين ) فهم أول من قرأ القرآن مع النبى محمد عليه السلام، وهم الذين عايشوه ،ولكن المؤسف أن التقسيم الثلاثى يسرى عليهم كما يسرى على الجميع .
لقد تحدث رب العزة عن التقسيم الثلاثى لأهل الكتاب ، من السابقين والمقتصدين (أصحاب اليمين ) واصحاب الشمال : ( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( آل عمران 113 ـ ) :(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ) ( المائدة 66 ).
نفس التقسيم يسرى على كل المسلمين الذين ورثوا ويرثون القرآن الى يوم القيامة؛ فمنهم الظالم ، ومنهم المقتصد ، ومنهم السابق ، قال جل وعلا عنهم: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) ( فاطر 32 ).
وهو نفس الحال مع الصحابة، مع إنهم الذين شهدوا نزول الوحى القرآنى وهو يخبر بما يعملون و يصفه ويصنفه فى سياق الدعوة الى الهداية. ولا نعرف كم منهم تاب متاثرا بما نزل من القرآن ، ولكننا نعرف من تاريخهم المكتوب أنهم بمجرد موت النبى محمد وانتهاء القرآن الكريم نزولا قاموا بأكبر حملة عصيان مسلح للقرآن الكريم فيما يعرف بالفتوحات الاسلامية، ولم يكن ضحيته ملايين البشر من الشعوب المسالمة فقط ، ولكن كان الاسلام نفسه هو الضحية الأولى.
سادسا : التقسيم الثلاثى للصحابة
1 ـ السابقون فى التقسيم الثلاثى للصحابة جاء ذكرهم فى قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فهنا السابقون من الصحابة وممن سيأتى بعدهم الى يوم القيامة قائما بالايمان الخالص والعمل الصالح.
أولئك السابقون من الصحابة فى الايمان و العمل كانوا من الأهمية بحيث ذكرهم الله جل وعلا فى كفة وذكر كل من اتبعهم باحسان فى كفة مساوية . الأهمية هنا فى أن الفترة الزمنية التى عاش فيها أولئك الصحابة الأبرار الذين رضى الله تعالى عنهم ورضوا عنه تساوى فى أهميتها عشرات الألوف من السنين التى عاشها وسيعيشها من اتبعهم باحسان من الملايين من كل البشرالى يوم الدين . أى إنه فى ميزان القرآن الكريم هناك فترة زمنية ـ لا تتعدى عقدين من الزمان ـ ولكن عاش فيها على هذا الكوكب أناس سابقون فى الايمان و العمل الصالح ، أضاءوا بعملهم الصالح تلك الفترة الزمنية فى عمر هذا الكوكب الأرضى ، فاستحقت تلك الفترة الزمنية القصيرة ( حوالى عشرين عاما ) أن تعادل العمل الصالح لكل البشر التابعين للصحابة الأبرار الى قيام الساعة . أكثر من هذا أن يظل أولئك الصحابة الأبرار ـ الذين لا نعرف أسماءهم الحقيقية ـ قادة فى السبق فى الايمان و العمل الصالح ، سواء من كان منهم مهاجرا أو من الأنصار الذين آمنوا بعد المهاجرين ولكن صاروا مثلهم فى قوة الايمان و حسن وصلاح العمل واخلاص القلب لله جل وعلا. فالسبق ليس فى الزمن ولكن فى الايمان والعمل.
لم يعطنا الله جل وعلا اسماءهم لأسباب كثيرة منها ما يرجع لمنهج القرآن الكريم فى القصص ، وخوفا من تأليه أسماء بعينها احتجاجا بوجود أسمائهم مكرمة فى القرآن ، ولأن الآية نزلت وهم أحياء يرزقون لم تنته حياتهم بعد ،أى كان لا يزال أمامهم الاختبار مفتوحا ، وكان كتاب أعمالهم لا يزال مفتوحا بعد يقبل السيئة و الحسنة ويزداد فيه الايمان وينقص حسب المواقف ، لذا فالتقييم لا يكون الا بانتهاء الحياة وعند يوم الحساب . لذلك فتحديد أسماء أولئك الصحابة الأبرار الذين رضى الله تعالى عنهم ورضوا عنه لن نعرفه إلا يوم القيامة . ومن يقترح أسماء من عنده سيكون معتديا على غيب الله تعالى الذى لا يعلمه غيره جل وعلا.
ويبقى أن نقول إن أعظم إنجاز حققه خاتم النبيين فى دعوته الى الاسلام ، وأعظم إنجاز للاسلام والقرآن الكريم هو فى وجود أولئك الصحابة الأبرار السابقين فى الايمان والعمل الصالح وفى كونهم إئمة فى الصلاح والفوز الى يوم الدين . وموضوع الامامة والتأسّى فى الاسلام لا يكون بالشخص ولكن بالمبدأ ، وهوالايمان والعمل الصالح، أو باختصار: التقوى .
هذا هو الصنف الأول والأعظم من الصحابة المهاجرين منهم والأنصار.

2 ـ أما أصحاب الشمال فمنهم من قال عنهم رب العزة ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) وهنا إشارة الى أشد المنافقين كفرا ـ وهم بالتالى أسوأ أصحاب الشمال .

3 ـ أما أصحاب اليمين من الصحابة فقد قال تعالى عن بعضهم : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة 100 : 102 ) وهؤلاء هم المقتصدون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولا بد لهم من الاسراع بالتوبة قبل فوات الأوان.

سابعا : السلفيون ورفض التقسيم الثلاثى للصحابة
1 ـ تلك التفصيلات الاجمالية للصحابة تنوعت الاشارة اليها فى آيات كثيرة سياتى أوان التوقف معها . ولكننا هنا نتوقف مع تعاطى فقهاء السلف لتلك الايات ، ولا نقصد فقط السلف السنى ولكن نضم له السلف الشيعى وكل من يجعل التاريخ وتراثه الماضى دينا .

2 ـ السلفية الشيعية يبدأ دينها ببيعة السقيفة ثم يتطور بالفتنة الكبرى ويزدهر بكربلاء ويستمر حتى الآن ، ونظرة الشيعة الى الصحابة متاثرة بالدين الفارسى القديم الذى يقسم الالوهية بين الاهين اله الخير والنور واله الشر والظلام . وعليه فالصحابة عندهم لهم تقسيم ثنائى : آلهة الخير وهم على بن أبى طالب وذريته ، وآلهة الشر وهم الخصوم السياسيون لعلى وذريته بدءا من أبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية ...الخ. وبتعبير آخر فان الذين دمروا الامبراطورية الفارسية واستعبدوا أبناءها أصبحوا فى التشيع آلهة الشر مقابل على بن ابى طالب وبنيه.
السلفيون السنيون قالوا بتأليه الصحابة جملة تحت مصطلح ( عدالة الصحابة ) ، ثم جاء دين التصوف فجعل الكون كله الاها مع الله جل وعلا أو هو الاله طبقا لعقيدة وحدة الوجود.
وكلهم ـ بالاسم ـ مسلمون .!!
3 ـ وقبل الرد على ما سبق نتوقف مع توضيح بعض المصطلحات .
فالقول بأنهم يؤلهون الصحابة أو البشر او الأئمة يأتى صادما للقارىء . ولكنه التوصيف الحقيقى لمعنى التأليه ، فالله وحده هوالذى لا يخطىء قط ، وأنه وحده المستحق للتقديس و التحميد ، ومن عداه يخطىء و يجوز نقده بل يجب نقده إثباتا لبشريته وتاكيدا على أنه لا اله مع الله ولا اله إلا الله،ولكنهم يضفون صفات الله جل وعلا الالهية على البشر ، ويقيمون آلاف المعابد المقدسة على رفات أولئك البشر ، يحجون اليها ويقدمون لها القرابين ويطلبون منها المدد والعون . بل ترى لنفس الشخص أكثر من معبد وأكثر من قبر وأكثر من ضريح ..إن لم يكن هذا تأليها فبماذا نصفه ؟ وأخطر أنواع التأليه ما يسمى بالشرك العلمى أو تقديس الكتب و الأسفار كما يفعلون مع البخارى وغيره ، والعادة أنك إذا حاورت أحد السنيين واستشهدت بآية قرآنية فانه يجادل فيها ، ولكن إذا استشهدت بحديث من البخارى فانك تراه قد خرّ راكعا .!!. إن لم يكن هذا عبادة للبخارى وتأليها له فماذا يكون ؟ ثم ألا ينبغى أن نسمى الأشياء باسمائها الحقيقية ؟ إنه التوصيف الصحيح للمرض ، ولا بد من التوصيف الصحيح لبدء الشفاء. أما إذا أخطأنا فى تسمية المرض وفى توصيفه فسيظل ذلك المريض متمتعا بمرضه الى أن يدخل به الجحيم .
لا بد من توضيح تلك المصطلحات و كشفها لتحقيق الاصلاح ؛ ومثلا فان مصطلح ( العصمة) من الوقوع فى الخطأ هى القاسم المشترك الأعظم فى تقديس تلك الأديان الأرضية لالهتها من البشر . ولأن مبنى القرآن وغايته ومنتهاه فى التأكيد على أنه لا اله إلا الله فلقد جاءوا بمصطلحات جديدة تسوغ وتبرر التأليه مثل ( العصمة )و ( الحفظ ) و ( العدالة ).
4 ـ السلفية السنية فى سعيها لتأليه الصحابة جملا وتفصيلا تستشهد دائما بقوله تعالى :(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).. وتنسى الآتى :
*الايات التالية والتى تتحدث عن الصنفين الآخرين من الصحابة كما تنسى مئات الايات الأخرى التى تتحدث عن أصناف الصحابة المنافقين وضعاف الايمان .
*(السبق) المراد فى قوله تعالى :(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ) موصول المعنى بما جاء فى سورة الواقعة عن السابقين من كل البشر فى كل عصر الى يوم القيامة ، أى لا يعنى السبق الزمنى ، أى لا يعنى من أسلم أولا قبل الاخرين ، بل هو السبق فى الايمان أى بالايمان الزائد والعمل الصالح. والدليل أن الاية نفسها تحدثت عن المهاجرين والأنصار معا ـ ولم يكن كل الأنصار سابقين من حيث الزمن لأنهم أسلموا قبيل وبعد الهجرة وسبقهم المهاجرون اسلاما بسنوات . بل إن الآية نفسها تجعل السبق بالعمل متصلا الى يوم القيامة ، فكل من يتبع الحق ويعمل به متقدما على غيره فى الايمان والعمل الصالح فهو مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار مهما تباعد الزمن ، لأن المهم هو اتباع الحق باحسان الى يوم الدين ، وهذا معنى قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ ...).
*معنى (الأولون ) هو (السابقون ) لأن بيان القرآن يأتى فى القرآن نفسه ، أى أن الأولوية فى العمل هى السبق فى العمل .
*السبق يتعلق بحقيقةالايمان والعمل ، لذا فمرجعه الى الله جل وعلا وحده الذى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) ( غافر19)، وفى الآية التالية تأكيد على وجود صحابة منافقين من أهل المدينة أدمنوا النفاق حتى خدعوا بايمانهم المغشوش خاتم النبيين فلم يعرفهم وهم يحيطون به: ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ).وفى آية أخرى يقول تعالى (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم ) ( النساء 25)
*الأولية أوالسبق فى اعتناق الاسلام ـ طبقا لما جاء فى التاريخ نرد عليه بنفس التاريخ . بعض أولئك الصحابة السابقين زمنا ارتدوا عندما شاع فى مكة حديث الاسراء ، وبعض السابقين زمنا استمر على اسلامه وتصدر قيادة المسلمين بعد موت النبى محمد عليه السلام ثم أصبحوا قادة الاعتداء على أمم لم تبدأهم بالعدوان ، ثم أصبحوا قادة فى الحرب الأهلية أو ما يسمى بالفتنة الكبرى . وفى هذا وذاك استباحوا قتل مئات الالوف ، معظمهم كان من الشعوب المستعبدة ..
*ولنتامل قوله تعالى فى جريمة قتل نفس واحدة بريئة مسالمة: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء 93 ) ولقد قتل أولئك الصحابة عشرات الألوف من الأبرياء المسالمين ، واستعبدوا الملايين من الشعوب الأخرى التى لم يكن لها اى شأن بالعرب . وقد يهون الأمر حين يكون مجرد حروب واحتلال استعمارى سبقه الروم وغيرهم وجاء آخرون من بعدهم يحتلون بلاد الاخرين ويستعبدونهم ، يهون الأمر هنا لأنه عادة بشرية سيئة لا تزال تجرى حتى الان تحت دعاوى علمانية ودنيوية ، ولكن عندما تتخفى المطامع الدنيوية تحت اسم الاسلام وتقيم المذابح وسبى أو استعباد النساءوالأطفال باسم الله جل وعلا فهنا يكون الظلم الأعظم لله تعالى ودينه ورسوله وكتابه وشرعه. ثم تكتمل المأساة حين ينشأ بتاثير تلك (الفتوحات ) أديان أرضية يتحول فيها قادة الفتوحات الى آلهة يعبدها أحفاد المظلومين المقهورين ، ويصبح الاسلام الحقيقى مسئولا عن كل تلك الجرائم التى حرمها سلفا ومن قبل حدوثها.
*بعض أولئك الصحابة انتهى امرهم بالتقاتل بلا رحمة فى صراع على حطام الدنيا. قد يكون بعضهم على الحق والاخر على الباطل ، وقد يكون كلاهما على الباطل ، ولكن لا يمكن أن يكونوا جميعا على الحق ،أى لا يمكن أن يكونوا (عدولا ) بالمفهوم الانسانى للعدل ، فكيف بالمفهوم السلفى الذى يجعلهم آلهة لا تخطىء؟ لا بد من وجود مخطىء فى تلك الحروب الأهلية التى قامت بين الصحابة. وهنا يختلف السنة و الشيعة ولا يزالون .
فمن هو المخطىء الحقيقى ؟ أم أن تلك الحروب الأهلية كانت خيرا محضا لا خطأ فيه ؟.
وأخيرا :
1 ـ المسلم المؤمن بالقرآن حق الايمان عليه ان يؤمن بوجود صنف من الصحابة قال الله تعالى عنهم انهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ويرجو ذلك المؤمن أن يكون مثلهم تابعا لهم ، وأن يكون (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا ) ( النساء 69).
2 ـ مثل هذا المؤمن الحقيقى لا يمكن أن يفترى على الله تعالى كذبا ويتدخل فى علم الله جل وعلا ويقول :إن فلانا وفلانا من السابقين الأولين المشار اليهم فى الآية الكريمة ، لأنه إن قال ذلك أواعتقده فقد أصبح من أتباع الديانات الأرضية التى تتخذ دينها من أساطير الأولين وروايات التاريخ المكتوب بيد البشر.. 

(الصحابة: هل كانوا خير أمة أخرجت للناس ؟)


مقدمة
1 ـ يعتقد السلفيون انهم خير امة أخرجت للناس مهما ارتكبوا من آثام ، ويقف لهم بالمرصاد العلمانيون المتطرفون يتهمون الاسلام بأنه أعطى تفضيلا مطلقا لأتباعه.

2 ـ والحقيقة أنه فى دين الله جل وعلا يأتى التفضيل مرتبطا بمسئولية مترتبة عليه ، فاذا قام المسئول بأعباء مسئوليته استحق التفضيل ، أما إذا فرّط فى المسئولية ضاع منه التفضيل و التكريم وأصبح مستحقا للعنة والتحقير. والعادة ان الأكثرية تعصى فيلاحقها التحقير بينما تطيع الأقلية فتستحق التفضيل .
أما فى أديان البشر الأرضية فكل منها يحتكر التكريم لأتباعه مهما فعلوا ، ويحتفظ بالتحقير لأصحاب الأديان الأخرى واصفا إياهم بالكفر و الضلال محتكرا لنفسه كل الهدى ..
وننتبع الموضوع من بدايته الى نهايته .

أولا :فى تفضيل البشر على بقية الكائنات
يقول تعالى ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ( الاسراء 70 )
يتجلى تكريم الله جل وعلا لبنى آدم أن جعلهم خلفاء فى الأرض ، وسخر لهم كل ما فى السماوات والأرض جميعا منه ( الجاثية 13 ). ولكن أغلب البشر يصنعون آلهة وقبورا مقدسة من التراب ومواد الطبيعة المسخرة لهم والتى يسيرون عليها بأقدامهم . وهنا يفقد الانسان ميزته العقلية على الحيوان ، بل يصبح الحيوان أفضل منه ـ لأن الحيوان بلا عقل ، اما الانسان فقد أعطاء الله تعالى العقل وأرسل له الرسل بالكتاب السماوى ، ومع ذلك وقع فى الضلال وهجر الكتاب الالهى . يقول تعالى فى تحقير المشركين الذين فقدوا التكريم و التفضيل :( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) ( الاعراف 179 ) أى جعلهم أقل منزلة من الأنعام.
وفى موضع آخر يجعلهم شر أنواع الدواب (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (الأنفال 22 ، 55). وهو تحقير لا نهاية له أن يكون بعضهم شر الدواب بدءا من الكائنات العضوية والجراثيم و البكتيريا و الحشرات الى الأنعام وحيوانات البر و البحر..
ثانيا :فى تفضيل بنى اسرائيل :
1 ـ ومن المسكوت عنه تكرار القرآن على تفضيل بنى اسرائيل على العالمين . وهى آيات قرآنية يتجاهلها السلفيون ، ويعرض عنها المتطرفون العلمانيون ، وإنشغل هؤلاء واولئك بآية وحيدة تقول (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)
وما ذكره القرآن الكريم من تفضيل بنى اسرائيل يتفق ـ فى ظاهره ـ مع ما يعتقده معظم أهل الكتاب أن بنى اسرائيل هم شعب الله المختار المفضلون على كل الناس ، وكالعادة يرون أن لهم هذا التفضيل مهما فعلوا . وهى نفس العادة السيئة لأكثرية المسلمين التى تزعم أنهم خير أمة أخرجت للناس لمجرد أنهم مسلمون . وهذا ينافى الحق القرآنى لأن الله تعالى ليس منحازا لأحد ، فالانحياز ظلم و ليس رب العزة ظالما .. سبحانه وتعالى عما يصفون.
وبنو اسرائيل هم ـ كما نعلم ـ ذرية يعقوب أو (اسرائيل ) بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام. ولقد انجب يعقوب أو اسرائيل إثنى عشر رجلا ـ منهم يوسف عليه السلام ـ وصار كل رجل منهم رأس قبيلة بأكملها ، وتكاثرت القبائل الاسرائيلية فى عهدموسى عليه السلام ، وكان من الايات التى أعطاها الله جل وعلا لموسى أن ضرب بعصاه الحجر فنبعت منه إثنتا عشرة عينا ، وصار لكل قبيلة من بنى اسرائيل عين الماء الخاصة بها ( البقرة 60) ( الأعراف 160).

2 ـ لقد ذكر الله تعالى تفضيل بنى اسرائيل بارسال الرسل وانزال الكتب السماوية فيهم ليأمروا الناس بالبر ، وليكونوا قدوة لغيرهم فى التمسك بالحق الذى نزلت فيه الكتب السماوية على انبيائهم . ولذا فان تفضيل بنى اسرائيل يأتى فى القرآن الكريم مرتبطا بمسئوليتهم عن الكتب السماوية ، كقوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (الجاثية 16 ).
ولكن الأغلبية منهم فهموا التفضيل امتيازا مستمرا لهم مهما أجرموا ، فكانوا يأمرون غيرهم بالبر و ينسون أنفسهم ـ كما يفعل شيوخنا فى هذا الزمن الردىء ـ فقال تعالى لهم : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ( البقرة 44 ). نزلت هذه الاية الكريمة ضمن خطاب متصل لبنى اسرائيل فى عهد النبى محمد استمر فى عشرات الآيات فى سورة البقرة، منها تلك الايات ( 40 : 141 ).
وفى هذا الخطاب جاء لهم التفضيل فى معرض التذكير باليوم الاخر الحقيقى الذى لا مجال فيه للشفاعات البشرية ، وقد تكرر هذا مرتين خطابا قرآنيا لبنى اسرائيل يذكرهم بأن تفضيلهم مرتبط بايمانهم باليوم الاخر الذى لا تجزى فيه نفس بشرية عن نفس بشرية ولا يشفع فيه بشر لبشر : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) ، ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ )(البقرة 47: 48 ـ 122: 123 ). وهنا إشارة لارتباط أكذوبة الشفاعة بأكذوبة التفضيل المطلق لدى أصحاب الديانات الأرضية ، فهم يعتقدون أنهم الأفضل وأن النبى والأئمة سيشفعون لهم يوم القيامة ، مهما ارتكبوا من آثام .
هذا التذكير لهم بالأفضلية المبنية على مسئولية القيام بالحق ونصرته قاله موسى من قبل لقومه ، فقد حملوا معهم وهم يفرون من مصر تاثرهم بالديانة المصرية القديمة ومعابدها ، وبمجرد أن جاوز بهم موسى البحر الى سيناء رأوا معبدا مصريا فقالوا لموسى : إجعل لنا الاها كما لهم آلهة. فقال لهم موسى (أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف ـ 140 ) وهوتأنيب قاس لهم ، فقد ظنوا أنهم المفضّلون عند الله مهما قالوا ومهما فعلوا فجاء هذا التنبيه القاسى لهم .
3 ـ ولم يكن كل قوم موسى عصاة ، بل كان منهم صالحون ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الاعراف 159 )، وتلك هى طبيعة البشر أن يوجد منهم الطيب و الخبيث ، أو كقوله تعالى (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (الاعراف 181 ).
إلا إن العصاة من بنى اسرائل كفروا بالكتاب وقتلوا الأنبياء ، أى أن أولئك العصاة بعد التفضيل استحقوا اللعنة و التحقير (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) ( البقرة 61 ).
واستمر عصيانهم واعتداؤهم على الغير فاستحقوا اللعن على لسان أنبيائهم : داود وعيسى بن مريم عليهما السلام ، يقول تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) وفى نفس الوقت ضاع التواصى بينهم بالمعروف و النهى عن المنكر (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) واستمروا على اعتدائهم فى عهد النبى محمد عليه السلام فكانوا يتحالفون مع المشركين المعتدين ضد المسالمين المسلمين فقال تعالى (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ( المائدة 78 : 81). وهكذا حلّ اللعن محل التكريم و التفضيل جزاءا على ما ارتكبوه.
والايات الكريمة السابقة جاءت فى السياق القرآنى فى سورة المائدة فى مجال الوعظ لبنى اسرائيل فى عهد خاتم النبيين عليهم جميعا السلام ، ومنه تعداد أفعالهم السيئة وتآمرهم وتكذيبهم كما فى الايات ( 58 : 71 ) من سورة المائدة ، وهى تتحدث عن استهزاء أولئك الناس بالصلاة ، وكيف كانوا يخادعون النبى محمدا يدخلون عليه يزعمون الايمان ثم يخرجون بكفرهم كما هو ، مع مسارعتهم فى الاثم والعدوان وأكل السحت ، وسكوت الربانيين والأحبار عن وعظهم ، وقد لعنهم الله تعالى بسبب قولهم أن الله تعالى يده مغلولة، ولو أنهم آمنوا واتقوا وأقاموا التوراة والانجيل لأنعم الله تعالى عليهم بشتى النعم ..
ثم يذكر رب العزة أن منهم مقتصدين وكثير منهم فاسقون ، وقد مدح السابقين منهم فى مواضع كثيرة وقال مثلا يمدح الصالحين منهم فيقول (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) ( الاعراف 170) كما قال عن بنى اسرائيل (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة 24 ).
وفى مجال الوعظ أيضا كان القرآن الكريم يذكرهم باللعنة التى حاقت بأولئك المعتدين من تلك القرية التى كانت حاضرة البحر فانتهكوا حرمة السبت فحق عليهم غضب الله جل وعلا ولعنته ـ بدل التكريم والتفضيل ( الأعراف 163 : 166 ) وأنبأ الله تعالى أن العذاب سيظل يلحق بالعصاة منهم الى يوم القيامة بينما من ينجح منهم فى الاختبار ويخرج منه صالحا سينال أجره (الاعراف 166: 168 ).
وفى معرض الوعظ و التذكير لبنى اسرائيل كان القرآن الكريم يشير الى أولئك الذين استحقوا نقمة الله ولعنته ( المائدة 60 ) ( النساء 47 ) ( البقرة 65 )
وهكذا فان الله تعالى فى تحذيره لهم فى القرآن الكريم كان يذكر العصاة منهم وما ترتب علي عصيانهم من لعن وتحقير كما كان يذكر الصالحين منهم القائمين بمسئولية التفضيل واستحقاقاته .
ثالثا : كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
1 ـ بل انه حتى فى سياق وعظ أهل الكتاب ليضطلعوا بمسئولية التفضيل جاء قوله تعالى للمسلمين : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )
لقد قال تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (آل عمران 64 ) وتوالت الايات فى حواروعظى لأهل الكتاب استمر حتى قوله تعالى يحذر المؤمنين من طاعة العصاة من اهل الكتاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( آل عمران ـ 101 ) والرسول هنا بمعنى آيات القرآن طالما تتلى بين المسلمين . والتمسك بالكتاب هو الفيصل فى التفضيل ، وهجر الكتاب و تكذيبه بالفعل والقول يستحق اللعن و التحقير .
بعد الايات الكريمة السابقة جاء وعظ الله تعالى للمؤمنين يأمرهم بالتقوى والاعتصام بالقرآن حبل الله المتين ، الى أن قال لهم (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ( آل عمران 110 ). هذا هو السياق القرآنى لعبارة التفضيل (الوحيدة ) التى جاءت عن المسلمين .
2 ـ والعادة السيئة أننا نعتقد أننا خير أمة أخرجت للناس مهما ارتكبنا من آثام. والقراءة للآية الكريمة تنفى هذا الفهم.
فالآية الكريمة تقول :(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) أى تربط التفضيل (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) بمسئوليته وهى : ...(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ..فالأمر بالمعروف يعنى المتعارف عليه من قيم عليا وفضائل عالية مثل العدل و الحرية و السلام و الصدق و الوفاء والاحسان والكرم والشجاعة والدفاع عن المظلوم و الصبر والرحمة .والنهى عن المنكر أى الخبائث الأخلاقية من الاعتداء و الظلم والبخل و الطمع و الكذب و الخداع و البغى و سوء الخلق و خلف الوعد . ومع الأمر بالمعروف والنهى يقترن الايمان بالله تعالى ايمانا صادقا باخلاص الدين له وحده بلا تقديس لبشر او حجر .
فإذا فعل المسلمون ذلك كانوا فعلا خير أمة أخرجت للناس ، واستحقوا هذا التفضيل لأنهم قاموا بشروطه ومستلزماته . أما إذا فرّطوا فهم مستحقون للتحقير، وان يوصفوا بأنهم كالأنعام بل أضل سبيلا ، وهذا ما قاله جل وعلا لرسوله الكريم عن أولئك الذين صحبوه فى حياته وكانوا ممن يتخذ هواه الاها له ومن خلاله يتلاعب بأيات القرآن يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تاويله وتحريف معانيه ، يقول تعالى يخاطب خاتم النبيين :(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا )(الفرقان 43: 44 ) .
ولنتذكر ان قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) جاء فى تحقير أولئك الصحابة الذين كرهوا ما أنزل الله تعالى فى القرآن ، أى نزل يشير أولا الى الصحابة فى عهد النبى محمد عليه السلام ، والصحابة هم كل من عاصر النبى محمدا ورآه سواء كان معه أو ضده .
لقد جاء الخطاب للذين آمنوا حول النبى محمد يحذرهم من أن يكونوا كالكافرين العصاة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ) بعدها قال يحذرهم من مصير أولئك العصاة وتحقيرهم (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ). وفى نفس السورة أعاد نفس الوصف عن الكافرين المعتدين الذين ينقضون عهود السلام اصرارا منهم على الاعتداء: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ) ( الأنفال ـ 22 ، 55 ـ )
3 ـ على ان هناك نبوءة خطيرة فى السياق القرآنى الذى جاءت فيه آية :(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) إذ بعدها يشير رب العزة فى نفس الآية الى تجربة أهل الكتاب فى التفضيل وكيف قام بمسئوليته بعضهم و فرط فيها معظمهم فاستحقوا الذل و اللعنة ( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) أى فليس أهل الكتاب جميعا فاسقين .
والنبوءة هنا تتعلق بالمسرفين من أهل الكتاب وعلاقتهم بالمسلمين المتمسكين بالقرآن وشرعه ، فطالما ظل المسرفون من أهل الكتاب بعيدين عن هدى الكتاب الحق فلن ينتصروا فى اى اعتداء يشنونه على المؤمنين مادام المؤمنون متمسكين بالهدى الحق والسلام والعدل مع الله ومع الناس . ولهذا تقول الاية التالية فى حكم الاهى يسرى مستقبلا فوق الزمان والمكان : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ) أى لن ـ ولن نفى للمستقبل ـ يضركم أهل الكتاب المعتدون إلا بمجرد الأذى القولى ، ولو تطور أذاهم الى اعتداء وقتال حربى فسينهزمون لأن الله تعالى كتب عليهم الذلة بسبب هجرهم للهدى الحق فى كتابهم ، فيقول تعالى ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ ) ( الثقف هو التصادم الحربى عند القتال) ، أى إنهم حين يبدأون قتالا معتدين فهم على باطل يستحقون معه وبه وقوع الذلة عليهم ، ولن ترتفع هذه الذلة إلا باصلاح علاقتهم بالله جل وعلا بالاستسلام والطاعة لأوامره ـ وبالسلام مع الناس أى بعدم الاعتداء عليهم ، أو( إشاعة السلام فى الأرض )، هذا هو المراد من قوله تعالى ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ).
ثم يقول تعالى عنهم : ( وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) أى كان العصيان وقتل الأنبياء سبب ما حاق بهم من ذلة ومسكنة وغضب الاهى . ولأن هذا لا يسرى إلا على الظالمين فقط من أهل الكتاب فان الاية التالية تقول عن السابقين المتقين منهم (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ..) (آل عمران 113 : 115 ).
4 ـ أى أن قوله تعالى :(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) جاء فى سياق تجربة اهل الكتاب فى اختبار التفضيل الذى يعنى المسئولية .
والتدبر فى حديث القرآن الكريم عن هذه المسئولية و عقوبة التفريط فيها لا بد أن يذهب بنا الى الوضع الراهن للمسلمين ، وقد استحقوا الذل و الخزى والهوان أمام أهل الكتاب فى الغرب والشرق (الأوسط ) بحيث أن القارىء المنصف المحايد حين يقرأ قوله تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ) يراها تنطبق على حال المسلمين اليوم . وحتى لو قرأ قوله تعالى فى نفس الاية (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ) لرآها يمكن أن تنطبق على المسلمين اليوم لو لم يكن محمد عليه السلام خاتم النبيين. أى لو إفترضنا أن جاءهم اليوم نبى بعده لقتلوه كما كان مجرمو اهل الكتاب يفعلون. ولولا أن الله تعالى ضمن حياة النبى محمد وقال له (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ( المائدة 67 ) لكانوا قد قتلوه. ولو تخيلنا ان النبى محمدا بعثه الله تعالى من قبره وسار فى القاهرة وراى ضريح الحسين ودخل الأزهر و اعترض على ما يسمع من أحاديث منسوبة له كذبا لأتهمه الشيوخ بانكار السنة و إزدراء الدين ، ولكنه سيكون أسعد حالا مما لو ذهب الى بلد آخر يقنن القتل بحد الردة.!!
واليوم فان كل من يدعو الى ما دعا اليه النبى محمد عليه السلام تلاحقه فتاوى التكفير والقتل بالردة ، وهو نفس ما كان يفعله الظالمون من أهل الكتاب فى العصور القديمة و الوسطى ، وقد أشار رب العزة الى انهم كانوا يقتلون الأنبياء وأتباع الأنبياء الذين يأمرون بالقسط ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( آل عمران 21 ).
رابعا : علماء الدين والتفضيل :
1 ـ والذين يأمرون بالقسط من الناس هم بمصطلح القرآن الكريم ( العلماء ). ولكن هناك (علماء ) يتخلفون عن هذه المهمة السامية: يخونون امانة العلم ، يشترون بآيات الله جل وعلا ثمنا قليلا ، يخدمون الحكام ، يبررون الظلم ، يأكلون السحت . وبين العلماء ( الصالحين ) والعلماء (الضالين ) ترى التفضيل او اللعنة والتحقير .. وكل ـ حسب عمله .
ونضع القضية على النحو التالى :
1 ـ فالعالم هنا فى المصطلح القرآنى هو الذى يرتبط علمه بتقوى الله جل وعلا ، وبخشيته (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (فاطر 28 ) ،وهو الذى يقضى الليل عابدا ساجدا ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (الزمر 9 ) وبالطبع لا يمكن ان يتساوى هذا العالم التقى النقى بمن يسهر الليل فى خدمة السلطان وحاشية السلطان . وبهذا التحديد فان المجال مفتوح أمام كل انسان ليتبحر فى العلم و ليتعمق فى الايمان و العمل الصالح. ليس هنا كهنوت أو طبقة تحتكر العلم والتقوى ، وإنما هو مجال مفتوح للجميع لمن شاء الهداية والعلم ، ولمن شاء الضلال والاضلال .
2 ـ هذا العالم التقى يستحق التكريم والرفعة عند الله تعالى :(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( المجادلة 11 )
3 ـ وفى مقابل هذا التكريم للعالم فان مسئوليته شديدة الحساسية ، فليس عليه فقط ان يمتنع عن قول الباطل ، ولكن عليه أيضا ألاّ يكتم الحق ، فإذا سئل أجاب بالحق ولو كره الكارهون الظالمون المعتدون . فإن كتم الحق استحق اللعنة بدل التكريم ، يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) فإن تاب فلا بد أن تبدأ توبته باعلان الحق الذى كتمه ، وهنا فقط تسقط عنه اللعنة (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة 159 ـ 160 )
4 ـ هذا عن العالم الربانى الحقيقى . أما الصنف الآخر من العلماء الذى باع للشيطان نفسه فان رب العزة جعله كالكلب فى هذا المثل : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الاعراف 175 : 176) ومهما قصصنا هذا المثل فهل سيتفكر علماء السلطة ؟
ويقول تعالى فى توصيف أولئك العلماء (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ) أى انهم لا يكتمون الحق فقط بل ايضا يتلاعبون به ويقلبونه باطلا ليشتروا به ثمنا قليلا . ويقول تعالى عن عذابهم ( أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة 174 )
الخطورة هنا فى قوله تعالى عنهم يوم القيامة (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ) فهذا يعنى انهم أصبحوا خصوما لله جل وعلا، أى أصبح القاضى الأعظم يوم القيامة خصما لهم لا يكلمهم ولا يزكيهم بل حتى و لا ينظر اليهم كما جاء فى قوله تعالى عنهم فى موضع آخر (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( آل عمرن 77)
ولكن ماهى ماهية ذلك العذاب الأليم الذى ينتظرهم ؟
يقول تعالى عنه(أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) ( البقرة 175 ) اى يتعجب رب العزة من صبرهم على النار (فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ).
وهكذا .. فالتفضيل مسئولية ، من قام بها استحق التكريم فان فرط فيها استحق التحقير .. وليس الله تعالى منحازا لفرقة او طائفة .. سبحانه الغنى عن العالمين ..
أخيرا :
وفى النهاية هيا نحتكم الى القرآن الكريم وتشريعه فى تحريم البغى و الاعتداء الظالم على الشعوب المسالمة و احتلال أراضيهم واستعبادهم وسبى نسائهم وذرياتهم .. سنجد القرآن الكريم يحرّم ويجرّم ذلك .
فإذا ارتكب الظالمون ذلك مستغلين دين الله تعالى واسمه العظيم فالجريمة هنا تكون أفدح لأنها تكون ظلما لله تعالى ودينه قبل أن تكون ظلما للبشر المقهورين المظلومين.
فإذا ارتكب الصحابة ذلك تحت اسم (الفتوحات الاسلامية ) فهل يكونون خير أمة أخرجت للناس أم شرّ أمة أخرجت للناس ؟
طبعا لا نحكم على كل الصحابة ، ولكن على من ارتكب ذلك منهم فقط .

الصحابة فى القرآن الكريم ـ المقال الثانى


وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ 

أولا : 
1 ـ من الحقائق الغائبة والغريبة عن الاسلام أن العرب ـ الذين حملوا إسمه للعالم الخارجى وبه عرفهم العالم وبه سادوا معظم العالم المعروف وقتها ـ هؤلاء العرب هم الذين قدموا للعالم مجرد إسم الاسلام فقط ـ أما الاسلام الحقيقى فقد أضاعوه لأنهم فى الأصل كذبوا به. قدموا للعالم القرآن الكريم الذى كان حفظ الله تعالى له فوق طاقة البشر على التلاعب به وتحريفه. لم يستطيعوا تحريفه ولكن استطاعوا إتخاذه مهجورا باساليب شتى منها الاعتماد على بدائل صنعوها وجعلوها أعلى من القرآن كالحديث وتأويلهم للقرآن وتعطيل أحكامه بأكذوبة النسخ التراثى ، وكلها من أنواع التكذيب العملى للقرآن الكريم. 
وبسبب هذا التكذيب العملى ـ الذى صاحب القرآن فى حياة النبى محمد عليه السلام ثم استشرى بعد موته ـ فان الاسلام الحقيقى لم يتم تطبيقه سوى سنوات فى حياة النبى محمد فى المدينة، وفيها حفل حديث القرآن عن مكائد من أحاط بالنبى محمد عليه السلام من المنافقين ومن فى قلبه مرض ، بالاضافة الى الأعداء المحاربين. 
لقد نزل القرآن الكريم ـ وهو دين السلام ـ فى بيئة عنف تحترف الإغارات كاسلوب حياة ومورد رزق وتعتبر السلب والنهب والسطوة والظلم من شيماء العزة كما يعبر عنه شعرهم (الجاهلى ) بيئة العنف هذه قسمت أغلب العرب الى قسمين : أحدهما استكان للظلم والخنوع ولما جاء الاسلام أسرع بالدخول فيه أملا فى تغيير الواقع ، أما القسم الآخرالذى تزعمته قريش فهو الذى وقف ضد الاسلام بالسلاح والمكائد. 
تلك الحروب عكستها تشريعات القرآن الكريم فى الدعوة والجهاد والقتال الدفاعى. تلك الحروب أسهمت فى تقصير المدة التى تم تطبيق الاسلام فيها، خصوصا بعد موت النبى محمد ، حيث كانت الحرب أبرز وسائل العرب العملية فى تكذيب القرآن الكريم فى حياة النبى محمد وبعد موته ايضا. 
بالطبع هذا زعم خطير يستلزم الدليل . 
وبالطبع نحن نتحدث عن الأغلبية ، الأغلبية التى ينطق باسمها ويقودها الملأ المتحكم . أى قريش قبيلة النبى محمد عليه السلام ـ أو بالتعبير القرآنى (قومه ) عليه السلام. 
2 ـ فى سورة مكية انبأ الله جل وعلا بما سيحدث للقرشيين بسبب تكذيبهم للقرآن الكريم ، وحذرهم مسبقا مما سيحدث لهم من حروب أهلية جراء هذا التكذيب فقال : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )، ولأنه جل وعلا علام الغيوب وما يدور فى القلوب فقد فضح حقيقة قلبية لدى معظم القرشيين وهى تكذيبهم القرآن الكريم فقال لخاتم النبيين عليه السلام عن قومه (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) ثم أكّد إنذاره للقرشيين بنتائج تكذيبهم القرآن ـ أى ما ينتظرهم من حروب أهلية يكونون قادتها ووقودها: (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )( الانعام 65 : 67 ).وكل ذلك حدث فعلا بعد موت النبى محمد عليه السلام ، فليس هناك من تعبير أبلغ فى وصف الفتنة الكبرى وانقسامات المسلمين المذهبية وحروبهم الأهلية التى لا تتوقف من قوله تعالى ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ) 
ومنذ موقعة الجمل وصفين والنهروان وكربلاء وعين الوردة فى القرن الأول الهجرى وحتى الآن ـ لا يزال المسلمون يقتتلون فى حرب أهلية لا تنقطع. والغريب أنها تتواصل الان فى العراق ، ربما فى نفس الأماكن . ولا يمكن لبشر من العقلاء أن يستمروا فى الوقوع فى نفس الخطأ طيلة هذه القرون إلا إذا كانت تلك لعنة يستحقها أولئك القوم . ولعل هذا ما تشير اليه نفس الاية حين قالت (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) فلم ينظر أحد ولم يتعقل أحد ولم يفقه أحد ، فظلت الاية الكريمة مهجورة ضمن القرآن الذى اتخذه القوم مهجورا طيلة هذه الدنيا الى قيام الساعة، واستحقوا بسببه أن سيشكوهم الرسول محمد عليه السلام وسيتبرأ منهم يوم القيامة: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) (الفرقان 30 : 31 ) . 
3 ـ ان الجريمة التى وقع فيها القوم ـ ولا يزالون يقعون فيها ـ هى التكذيب بالقرآن الكريم. وهو إما تكذيب صريح بالقول والعمل كما كان يفعل الملأ من قريش (الأمويون )فى مكة ، وإما تكذيب ضمنى بالعمل المسلح،كما فعل الأمويون حين سيطروا من خلف ستار على الخلفاء (الراشدين ) وقاموا بما يعرف بالفتوحات ثم بالفتنة الكبرى، وقد يتستر التكذيب بالقرآن تحت مصطلحات شى مثل قولهم أن القرآن حمّال أوجه ، أو أن السنة البخارية وغير البخارية تفسر القرآن وتشرحه وتعطل تشريعاته بزعم النسخ. تعددت أنواع التكذيب والمضمون واحد .وتعددت أنواع التكذيب والعقاب واحد وهو أنهم أصبحوا ـ ولا يزالون ـ شيعا وفرقا يذيق بعضها بأس بعض من العراق الى أفغانستان ومن اندونيسيا الى باكستان ومن المغرب الى الشيشان . 
ثانيا : قريش قوم النبى 
وفى قوله تعالى (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ)نتوقف مع بعض التفصيلات فيما يخص حديثنا عن الصحابة : 
1 ـ القوم الذين كذبوا هنا هم الصحابة من اهل مكة الذين صحبوا محمدا فى نفس الزمان قبل وبعد البعثة ، منهم من آمن ومنهم من كفر ، ثم دخلوا فى الدين أفواجا قبيل موت النبى محمد ، ثم خرجوا منه أفواجا بعد موته بالفتوحات والحروب الأهلية والانقسامات السياسية التى أنتجت أديانا أرضية لا زلنا نشقى بها حتى الآن ويشقى بها معنا العالم .. والاسلام الحقيقى. 
2 ـ جاء الخطاب مباشرا للنبى محمد عن قومه القرشيين ( قومك )اى تكذيب قريش للقرآن. وسيلاحظ القارىء ان كلمة (قومك ) و(قومى ) الخاصة بالنبى محمد وما يتعلق بها والتى نستشهد بها فى هذا المقال ـ كلها جاءت فى آيات قرآنية مكية، أى فالحديث هنا عن قوم النبى محمد من القرشيين. ولقد كانوا نوعين : نوع أسلم وأصبح من المهاجرين ، ونوع ظل كافرا معتديا ثم أسلم بعد فتح مكة ، مثل الملأ القرشى الأموى . 
3 ـ ومع ذلك فان قوله تعالى (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) لا يعنى كل القوم بل الأغلبية منهم ، فالنسق القرآنى أن يعطى الأغلبية حكما عاما مع وجود استثناء صريح أو مفهوم. 
إن القرآن الكريم يقول ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (الاعراف 97 ) وهنا كلام عن الأغلبية و ليس كل الأعراب ،فالله جل وعلا يقول ( وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (الاعراف 99 ) 
4 ـ ومع أن الأغلبية من قوم النبى هى التى كذبت فان الله جل وعلا يشير ضمنا الى انها أغلبية ـ ليست فقط فى العدد ولكنها أغلبية قائدة ومسيطرة تتبعها آلاف مؤلفة من العرب وغيرهم، بل نقول آلاف الملايين حتى الان. وهنا نفهم أن تعبير القوم هنا أيضا قد يتسع ليضم كل من اتبع قريش فى كفرها من وقت البعثة الى قيام الساعة،لأن قريش هى التى قادت العالم (المسلم ) فى تكذيب القرآن وفى اختراع أديان أرضية لا تزال تعبش بيننا . 
ثالثا : قريش هى التى قادت معظم العالم ولا تزال حتى الآن . 
1 ـ قريش أقوى قبيلة عربية من ذرية اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام ، وإكتسبت قوتها من التحكم فى التجارة بين الشرق والغرب ـ عبر رحلتى الشتاء والصيف وعبر تحكمها فى البيت الحرام وسيطرتها على الحياة الدينية للعرب فى الجاهلية ـ أى قبل ظهور الاسلام. وحرصا على احتفاظها بالجاه والقوة فقد عارضت الاسلام وحاربت المسلمين ثم حرصا على مصالحها أيضا دخلت فى الاسلام متأخرا فسيطرت على المسلمين بدءا من خلافة ابى بكر. وبالفتوحات حكمت قريش معظم العالم المعروف أطول فترة فى التاريخ الانسانى والعالمى من حدود الصين والهند شرقا الى جنوب فرنسا غربا، ومن جزر البحر المتوسط وجنوب إيطاليا وآسيا الصغرى شمالا الى المحيط الهندى والصحراء الأفريقية جنوبا. 
أهم عائلتين من قريش هما الأمويون والهاشميون. الهاشميون ينتمى اليهم العباسيون والفاطميون وقد كونوا امبراطوريات باسم الاسلام ، وأسسوا أديانا أرضية للمسلمين تخالف الاسلام وتكذب بالقرآن ، ولا تزال تلك الأديان باقية ومسيطرة . 
2 ـ الهاشميون والأمويون ينتمون معا الى أب واحد هوعبد مناف. وهاشم بن عبد مناف هو توأم عبد شمس بن عبد مناف. 
أنجب هاشم أبناء كثيرين منهم عبد المطلب الذى انجب بدوره عشرة أبناء منهم عبد الله والد النبى محمد ، و أبو طالب عم النبى محمد ووالد على بن أبى طالب أقرب الناس لآبن عمه محمد والذى تزوج إبنته فاطمة وأنجب منها الحسن والحسين ، ومنهما تفرع البيت العلوي من الطالبيين. ومن ذرية عبد المطلب كان العباس بن عبد المطلب الذى تنتمى اليه الدولة العباسية. 
أما عن الأمويين ، فجدهم هو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.كبير الأمويين فى عهد النبى محمد كان أباسفيان بن حرب بن أمية ،وكان معه ابن عمه الحكم بن العاص بن أمية ، وكانا من ألد أعداء الاسلام وقادة الحرب ضده ، ثم ركبوا موجة الاسلام بعد موت النبى محمد ، وما لبث أن أقام معاوية بن أبى سفيان ثم مروان بن الحكم ابن العاص الامبراطورية الأموية العربية باسم الاسلام. ثم جاء بعدهم العباسيون الهاشميون . 
3 ـ وهنا نتوقف مع العباس وابنه عبد الله بن عباس. 
قبل نزول القرآن كانت ذرية عبد مناف ( الهاشميون والأمويون ) هم قادة قريش فى الدين وفى الدنيا. وقد تقاسم أبناء العم السلطة فى قريش. تخصص بنو أمية فى قيادة الحرب ورحلة الشتاء والصيف ، بينما تخصص بنو هاشم فى رعاية البيت الحرام والحجاج. 
وبظهور الاسلام كانت رعاية البيت الحرام والحجاج من نصيب العباس بن عبد المطلب عم النبى محمد ، بينما كانت قيادة الحرب والتجارة من نصيب صديقه أبى سفيان بن أمية. 
وخوفا على إرثه الدينى فى مكة والبيت الحرام فقد تحالف العباس مع أبى سفيان ضدالاسلام ومحمد عليه السلام. وفى معركة بدر كان قائد القافلة التجارية القرشية أبا سفيان ، بينما كان قادة الحرب من أعمدة بنى أمية وكان معهم العباس عم النبى محمد ، وبهزيمة قريش فى تلك الحرب وقع العباس عم النبى أسيرا، وقد إفتدى نفسه ورجع الى مكة مع رفاقه المشركين المعتدين إلى أن أضطر هو ورفيقه أبو سفيان الى الدخول فى الاسلام قبيل فتح مكة بعد أن أدركا أن مصلحتهما تحتم عليها ذلك. 
وفي الصراع بين الخليفة على بن أبى طالب ومعاوية الأموى الثائر عليه كان عبد الله بن عباس مع إبن عمه على بن أبى طالب الخليفة الشرعى ، الى أن وضح إنتصار معاوية فإنشق عبد الله بن العباس (ابن عم على بن أبى طالب ، وابن عم النبى محمد ) عن الخليفة على ، وسرق الأموال التى كانت فى حوزته ولحق بأخواله فى الصحراء بعد ان أيقن ان الخليفة إبن عمه لا يستطيع فى محنته ان يسترد منه الأموال المسروقة. وبذلك تمهد الطريق لمعاوية لأن يؤسسس دولة الأمويين ويتوارث فيها آله الحكم بالقوة. 
وعاش أبناء عبد الله بن عباس مكرمين فى الدولة الأموية ، ثم جاءتهم الفرصة بموت حفيد لعلى ابن أبى طالب كان يتزعم دعوة سرية عنقودية لقلب نظام الحكم الأموى ، ولا يعرف شخصيته إلا قلة من كبار الدعاة الذين كانوا يدعون الى إمامة شخص مجهول تحت إسم (الرضى من آل محمد ) دون تحديد إسمه ونسبه . أدرك هذا الرجل الموت مسموما بمؤامرة أموية عشوائية وكان على مقربة من بيت محمد بن على بن عبد الله بن العباس فى منطقة الأردن ، فمات بين يديه بعد أن أفضى اليه بأسرار الدعوة والتنظيم فركب العباسيون هذا التنظيم العنقودى ووصلوا به الى إقامة الدولة العباسية، وفيها إضطهدوا أبناء عمهم العلويين الطالبيين ـ من ذرية على بن أبى طالب. 
أى ان قادة قريش فى العداء للاسلام من الأمويين والعباسيين هم الذين إستغلوا الاسلام فى إقامة امبراطوريتين نبتت فيها أديان أرضية للمسلمين تناقض الاسلام وتتفق مع تراث تلك العائلتين فى تكذيب القرآن قبل فتح مكة . 
4 ـ الخلفاء الراشدون ( أبوبكر ، عمر ، عثمان ، على ) ينتمون الى قريش ، ومنهم واحد ينتمى للأمويين وهو عثمان ، وآخر ينتمى للهاشميين وهو على بن أبى طالب . وبجهود الأمويين بدأت الفتوحات وتوطدت فى عهد (الراشدين ) ثم أكمل توسعها الأمويون ، وهم من قريش . جاء بعدهم العباسيون وهم أيضا من قريش. 
5 ـ خصوم العباسيين كانوا أيضا من قريش. لم يسيطر العباسيون على كل ما كان فى حوزة الدولة الأموية ، خرج عن طاعتهم الأندلس ( أسبانيا المسلمة ) وقد حكمها عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) وهو امير أموى هارب من المذابح التى أقامها العباسيون للأمويين عندما هزموهم. وخرج عن سلطة العباسيين المغرب حين تولاه الأدارسة ، وهم أيضا من قريش ينتمون الى نسل على بن أبى طالب. وخرج ـ مؤقتا ـ عن سلطة العباسيين مصر والشام وشمال أفريقيا لصالح الخلافة الفاطمية ، الفاطميون ينتمون الى ذرية على بن أبى طالب. 
وظل ( الأشراف ) ـ وهم من ينتسب الى ذرية على بن أبى طالب ـ يحكمون الحجاز بعد انهيار الدولة العباسية فى القرن الثالث عشر الميلادى الى سنة 1925 حين استولى عبد العزيز آل سعود على الحجاز وطرد عليا بن الشريف حسين. 
أبناء الشريف حسين أصبحوا حكاما فى العراق وسوريا والأردن. وأسرة عبد الله بن الشريف حسين هى التى تحكم الأردن حتى الآن. وفى المغرب أسرة أخرى تحكمه تنتمى الى ذرية على بن أبى طالب ،أو الأشراف. والى عهد قريب كان حاكم ايران هو الشريف محمد خاتمى الذى ينتمى الى الأشراف ، اى هو أيضا قرشى . 
فهل هناك قبيلة فى العالم تماثل قريش فى سطوتها وسلطانها السياسى ؟. 
6 ـ لقد عضدت قريش هذا السلطان السياسى باستغلال الاسلام أو ملة جدها ابراهيم. وتمخض هذا الاستغلال عن إنشاء أديان أرضية ، كلها تنتمى للاسلام وتتناقض معه فى نفس الوقت.وراج حديث منسوب كذبا للنبى محمد يقول ( الأئمة من قريش ) وصار قاعدة فقهية سياسية فى التشريع السنى ، يمنع أن تكون السيادة السياسية لغير قرشى مهما كان ، ويتفق الدين الشيعى مع هذا الحديث إلا إنه يحصر الامامة بالوصية فى ذرية الامام على . 
أى أن قريش تلاعبت مرتين بالاسلام، فى المرة الأولى حين أصبحت لها السيادة على مكة والبيت الحرام فى عهد قصى أقدم زعيم معروف لمكة ، وهو جد قديم للنبى محمد ، ثم حين أصبحت لها السيادة على المسلمين بعد وفاة النبى محمد . 
وهذا يجعل من الاعجاز التاريخى للقرآن الكريم قوله تعالى (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) فهؤلاء القوم بمن اتبعهم من كل الأمم وفى كل الأزمنة قد كذبوا بالقرآن الكريم مع انهم ينسبون أنفسهم للنبى والاسلام ، وفى ظل هذا الزعم الكاذب أقاموا أديانا أرضية . 
رابعا : كيف كذبت قريش بالقرآن الكريم ؟ 
أمر الله جلا وعلا النبى محمدا عليه السلام أن يستمسك بالقرآن الكريم الصراط المستقيم ، وجعل القرآن هو الذكر له ولقومه وانهم سيسألون عنه يوم القيامة : ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) (الزخرف 43 : 44 ) 
وبدلا من التمسك به فان (قوم ) النبى محمدا افتعلوا من الأساليب التى يعبرون بها عن رفض القرآن الكريم وتكذيبه ، ومنها : 
1ـ الجدال بالباطل فى القرآن الكريم ، حيث كانوا يأتون الى داره ليجادلوه يتهمون القرآن: (حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) ثم يتعاهدون انفسهم بعدم الاستماع اليه (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ( الأنعام 25 : 26 ) 
وكانوا فى جدالهم يستعملون كل فنون المغالطة لتحويل الجدال الى خصومة: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) (الزخرف 57 : 58)ن ولذلك أمر الله جل وعلا النبى الكريم بالاعراض عن جدالهم التكذيبى للقرآن الكريم (وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (الحج 68 : 69 ) وقرر رب العزة أن من يجادل فى آيات الله تعالى هم الكافرون فى كل زمان ومكان (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) ( غافر 4). وهذا الجدال بالباطل لا يزال مستمرا حتى اليوم ، ودائما يتحول الى سب وشتم واتهامات بالباطل يعانى منها القرآنيون اليوم بمثل ما كان فى الماضى. 
2 ـ أختراع أحاديث لالهاء الناس عن القرآن : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (لقمان 6 : 7 )ولكن المكذبين من قريش اتخذوها بديلا للقرآن بزعم أنها وحى ،فأكّد الله تعالى أنه حديث واحد ذلك الذى يجب الايمان به ، ألا وهو حديث الله تعالى فى القرآن الكريم ، يقول تعالى :(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (الجاثية 6 : 9 ) 
واوضح رب العزة أنه جهد معتاد لكل أصحاب الديانات الأرضية ، وأنه يسرى الى قيام الساعة : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) ( الانعام 112 : 114 ). واليوم تتمسك الديانات الأرضية للمسلمين بأحاديث تزعم أنها وحى الاهى تمت كتابته بأثر رجعى بعد موت النبى بقرنين وأكثر من الزمان ، وهى نكتة مؤسفة .!! ولقد ناقشنا ذلك فى بحث (الاسناد ) وهو منشور على الانترنت. 
ـ رفض القرآن الكريم والمطالبة باستبداله بقرآن آخر يوافق اهواءهم . يقول تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ) ويأمره ربه جل وعلا أن يقول لهم : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) وأن يؤكد عليهم ( قل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ثم يجعل الله جل وعلا التكذيب بالقرآن أفظع انواع الظلم:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) (يونس 15 : 17 ). 
وفيما بعد حققوا أمنيتهم تحت مصطلح (النسخ ) بمعنى حذف تشريعات القرآن الكريم وإبطالها . عجزوا عن حذف ألفاظ القرآن الكريم لأن الله جل وعلا ضمن حفظه الى قيام الساعة ، فزعموا حذف حكمها التشريعى . 
وكما اختلفوا ـ رأسيا وأفقيا ـ فى الأحاديث التى اخترعوها فقد اختلفوا أيضا فى الآيات التى زعموا (نسخها ) أو إلغاء حكمها. ولنا بحث منشور على الانترنت يثبت زيف اسطورة النسخ فى القرآن الكريم ، وهو بحث ( النسخ فى القرآن معناه الاثبات و الكتابة و ليس الحذف والالغاء ). 
ولهذا فان القرآن الكريم قد نبأ سلفا بأن تكذيب قوم النبى سيستمر الى قيام الساعة حين يعلن الرسول براءته منهم ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) (الفرقان 30 : 31 ) 
أى جعل الله تعالى أعداء النبى محمدا صنفين من الناس : الذين هجروا القرآن الكريم كما فى الاية السابقة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا )والمتمسكين بالأحاديث الضالة التى يزعمون أنها وحى الاهى كما فى قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )هم فى الحقيقة صنف واحد قال عنه رب العزة (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ). 
أخيرا : 
وفى النهاية ، فنحن لا نحكم على كل الصحابة ولكن على الظالمين منهم فقط .. 

الصحابة فى القرآن الكريم ج 1


الحلقة الأولى

أولا : 
ـ هناك ثلاثة انواع من الجهل .. الجهل الانسانى العام ، و الجهل المتعلم ( بفتح اللام ) و الجهل المتدين . 

*الجهل الانسانى العام يشترك فيه البشر جميعا ولا يخلو منه انسان مهما بلغ علمه ، فلا يستطيع أى إنسان أن يحيط بأى شىء علما ، فالعلم المحيط هو لله جل وعلا وحده . 
غاية ما يعرفه العالم المتخصص أنه مهما بلغ علمه فى مجال تخصصه فهو يدرك أنه لا يزال على ساحل المعرفة وما أوتى من العلم إلا قليلا ، وأنه كلما إزداد علما فى تخصصه إزداد إدراكا بقلة ما يعرفه وكثرة ما يجهله . الاعتراف بالجهل العام هو الصفة الأولى لأى باحث ، لذا ترى الباحث الحقيقى ساعيا وراء الحقيقة لينير بها جوانب من الجهل الانسانى العام الذى بداخله. 

*وهناك صناعة للجهل تقوم بها اجهزة التعليم و الاعلام ، حيث يخضع العلم للتوجيه السياسى ، وحيث تسيطر الرقابة على المعلومات فلا يعرف الناس سوى بعض الحقائق او أنصاف الحقائق ، ثم تقوم أجهزة التعليم بتنشئة الطلبة على الحفظ و التلقين دون الابتكار والتجديد والنقاش الحر فيتخرج الطالب وقد عرف رأيا واحدا يرى انه الصحيح وما عداه هو الخطأ، وتندرج كل الأمور فى عقله فى إطار واحد من إثنين إما وإما..وهذا ما عايشناه فى عصر عبد الناصر ، ولا نزال... 
وهذا هو الجهل المتعلم ـ بفتح اللام ـ أى الذى تقوم أجهزة الدولة على تعليمه ليقدس الفرد الوطن ثم يتقزم الوطن فى الدولة ، ثم تتقزم الدولة فى الحكومة ، وفى النهاية يتقزم الوطن والدولة والحكومة فى شخص الحاكم المستبد الذى يقوم بتجسيد الوطن والدولة و الحكومة ، ويصبح انتقاده أو هجوه خيانة للوطن ، ويصبح من يكرهه الحاكم المستبد عدو الشعب ، وبالتالى تتركز هيبة الحاكم ، فلم يعد خادما للشعب بأجر يأخذه من الضرائب التى يدفعا الشعب بل يصبح الاها للشعب فلا نقترب منه إلا بالرهبة والخوف ، وحتى لو جرؤنا على الجهر بمعصية الله تعالى فلا يستطيع أحدنا الجهر بنقد الحاكم وجيشه واجهزته. 
هذه هى مهمة التعليم والاعلام فى انتاج الجهل المتعلم ـ بفتح اللام. 
* الأخطر من ذلك هو ما يحدث اليوم فى مصر ومعظم العالم العربى ، مما يطلق عليه (الجهل المتدين ) ، إذ سيطر الدين الأرضى السنى على الساحة ، وتعاون المسجد والأزهر مع أجهزة التعليم والاعلام و الثقافة وتحت مظلة الاستبداد و الفساد فى انتاج جيل تعلم الأكاذيب على الله تعالى ورسوله على انها هى الدين ، و تشرب الخرافة على انها القداسة ، و تكاثرت فى قلبه اشباح الآلهة الأرضية بدءا من الأنبياء والرسل و الصحابة والأئمة والأولياء ..هنا ترى الجهل المتدين .. وتتعجب حين تسمع شيخا ملتحيا يخطب باكيا دامعا وهو يسرد قصة خرافية لا يقتنع بها طفل فى العاشرة، لأن عقل هذا الشيخ الوقور قد تجمد عند سن الرابعة او الخامسة ، بينما نما جسده و تكاثفت لحيته، وتراه قد انطبق عليه قوله تعالى عن المنافقين من الصحابة ، الذين تعجبك أجسامهم و تتعجب من قلة عقولهم (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ) ( المنافقون 4 )، أى أجسام بلا عقول فأصبحت مثل كتل الخشب المسندة على الحائط . 
هذه الأجساد فارغة من العقول الناقدة الحية ، لأن المساجد والأزهر والتعليم والاعلام قام بتغييب العقل فى تلك الأجساد وقام بحشوها منذ الصغر بأكاذيب وخرافات تؤكد تقديس البشر و الحجر . 
ثانيا : 
فى هذه العقلية التى تتمتع بالجهل المتدين بالدين الأرضى نرى الخلط بين الحقائق المطلقة(فى الدين السماوى والتى جاءت فى القرآن الكريم ) والحقائق النسبية فى التاريخ و ما توارثناه من أخبار السابقين. 
ولأن العادة فى الدين الأرضى أن يتحول تاريخ البشر المقدسين الى دين فان تاريخ الصحابة قد تحول عندهم الى دين صار فيه الصحابة ذواتا معصومة من الخطأ ـ أى مقدسة مطهرة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها . 
ومع وجود القرآن الكريم محفوظا من لدن الله جل وعلا فان تحول تاريخ الصحابة الى دين قد أصبح يمثل مشكلة لهم، لأن ما جاء فى القرآن الكريم يقطع بأن الصحابة بشر مثلنا فيهم الصالح والطالح . أكثر من هذا فإن تاريخ الصحابة نفسه يقطع بمخالفته للقرآن الكريم بعد موت النبى محمد عليه السلام ، بل كانوا فيه أئمة لنا فى الاعتداء و الظلم والفتن والحروب الأهلية والصراع على السلطة و استغلال الاسلام فى المطامع الدنيوية . وهذا لا ينسجم مع مزاعم العصمة و التقديس و العدالة التى أضيفت اليهم. 
على أنها مشكلة عايشها الصحابة انفسهم فى بداية الدعوة ، حين كانت قريش فى عنفوانها تمارس ضغطها على خاتم النبيين عليه السلام بتخويفه من غضب آلهتهم البشرية والحجرية ، فقال تعالى له (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ) ( الزمر 36) ، وبالاضافة للتخويف من (الاعتراض على الأولياء خشية المقت والتعرض لتصريفهم وكراماتهم ) فان قريشا لجأت الى الأمر المباشر للنبى بان يعبد تلك الآلهة مع الله جل وعلا على اعتبار انها تقربهم الى الله تعالى زلفى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) ( الزمر3 ) . 
وهو جهل هائل أن تتمسك بتقديس بشر مثلك على الأرض يسعى ويصيبه الامساك والاسهال و البلهارسيا ، أو يكون قد مات وتحول الى تراب ، ولذلك أمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوة قائلا (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ؟!!)( الزمر 64 ) وبنفس القوة حذره ربه جل وعلا من ان يستجيب لهم فلو فعل لأحبط الله تعالى عمله ولجعله من الخاسرين (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ )(الزمر 65 ـ ) . 
الذى يهمنا هنا ان الله تعالى أشار فى قوله جل وعلا (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ؟!!) الى ارتباط الجهل بالدين الأرضى القائم على تقديس البشر و الحجر..أى الجهل المتدين ، والذى لا زلنا نعانى منه خصوصا فى موضوع الصحابة وتقديسهم واعتبار تاريخهم دينا لا يقترب أحد منه إلا بالتقديس و التحميد ، فاذا انتقدهم وعاملهم كبشر ـ أى بدون تقديس ـ لاحقته الاتهامات واللعنات والتخويف والتخريف . هنا عليه أن يستن بالسنة الحقيقية للنبى محمد عليه السلام ، وهى التمسك بالقرآن ، ويقول ما أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يقوله ؛ أى أن يقول لهم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ) ويقول لهم : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) . 
ثالثا : 
1 ـ ومن مظاهر الجهل المتدين فى موضوع الصحابة الخلط فى فهم القرآن الكريم بين الصفات والأسماء التاريخية . 
فالقرآن الكريم لم يذكر عن الصحابة سوى صفات ، وهو منهج القرآن الكريم العام فى القصص ، ونادرا ما يذكر اسما ، وعندما يذكر إسما فانه يتحول الى رمز أى صفة ذات دلالة على معنى هام مقصود فى السياق القرآنى . فمثلا : ذكر الله تعالى اسم والد ابراهيم (آزر ) واسم عم النبى محمد ( ابو لهب ) لأنهما تحولا الى رمز يؤكد أن القرابة لا صلة لها بالهداية . وعندما ذكر اسم (زيد ) أى من نعرفه فى كتب التاريخ بزيد بن حارثة ـ فان (زيد ) ما لبث أن اصبح شائعا فى الاستعمال اللغوى دليلا على أى شخص ، وأصبح عاما فى الاستعمال العربى والنحوى أن تقول ( ضرب زيد عمرا ) أو ( قال زيد ) حين تتكلم عن شخص مجهول أو رمز ، بمثل ما فى الثقافات الأخرى من تخصيص اسم معين ليدل على شخص مجهول أو على ( فلان ). 
( زيد ) هذا هو المذكور فى موضوع التبنى (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ) ( الأحزاب37 ) ـ وهو تشريع بالغ الدلالة اجتماعيا وعقديا ـ وعداه فلا يوجد اسم آخر لأى ممن عاصر النبى محمدا عليه السلام ، سوى بالوصف . 
وعادة ما يأتى الوصف ليدل على المجموع كالمنافقين و المشركين و المؤمنين و المرجفين والسابقين و الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . 
وأحيانا يأتى الوصف ليدل على واحد فقط من الصحابة ، كقوله تعالى عن أحد الضالين فى المدينة (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( المنافقون 11 )، وكقوله تعالى عن رفيق النبى محمد عليه السلام فى الغار (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) ( التوبة 40 ). 
هنا يقع الخلط لدى المصابين بالجهل المتدين . إذ أنه فى موضوع الايمان يجب أن نؤمن بقوله تعالى (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) دون أن يدخل فى ايماننا من هو ذلك الشخص المعين الذى يقصده الله تعالى . وأن نؤمن بقوله تعالى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) دون ان يتضمن إيماننا أن صاحب النبى فى الغار هو فلان بالتحديد . هذه هى دائرة الايمان . أما إذا دخلنا الى دائرة العلم فالتراث يقول لنا ان الأول هو عبد الله بن أبى كبير المنافقين ، وأن الثانى هو أبو بكر الصديق. وإذا هب احدهم وقال شيئا مخالفا فان ذلك لا ينقص شيئا من إيمانه ـ ولكن ينقص الكثير من علمه . هذا هو الفارق بين دائرة الايمان ودائرة العلم . 
هنا يقع الجهل المتدين فى خطأ الخلط بين هذا وذاك ..إذ يجعل من حقائق الايمان أن أبا بكر هو الصاحب فى الغار ـ وأن من أنكر هذا فقد أنكر معلوما من الدين بالضرورة وأصبح كافرا ، وبالتالى تتحول أخبار التاريخ الى حقائق ايمانية ضمن عادة الأديان الأرضية التى تجعل تاريخ البشر المقدسين لديها دينا. 
2 ـ ونعطى نماذج أخرى من مظاهر هذا الجهل المتدين . 
هم حين يدافعون عن كبار الصحابة يجعلونهم السابقين المقصودين بقوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 100 ) مع ان ألاية تتكلم عن السبق فى العقيدة و العمل الصالح وليس على السبق الزمنى أى كون فلان أول من آمن أو ضمن العشرة الأول الذين آمنوا سابقين غيرهم. الآية تتحدث عن السبق فى العمل الصالح القائم على عقيدة ايمانية ، بدليل أنها ـ نفس الآية ـ الحقت بهم كل من يتبعهم فى السبق بالايمان و العمل الصالح حتى يوم القيامة. وهناك أدلة أخرى منها أن الله تعالى وحده هو الأعلم بحقيقة ايمان الناس ومنهم الصحابة ، والآية التالية تقول للنبى محمد عليه السلام عن بعض أصحابه (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة 101 ) أى فهناك منافقون أدمنوا النفاق وهم حول النبى و النبى لا يعلم شيئا عن مكنون قلوبهم ، لأن الله تعالى وحده هو الأعلم بما تخفى الصدور ، وهو القائل للنبى ومن معه ولكل الناس (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ) ( النساء 25 ) . وإذن فهو وحده جل وعلا صاحب الحق الوحيد فى معرفة من هم السابقون ايمانا وعملا بين الصحابة. ومن يزعم أنه يعرف مكنون قلوب الصحابة فقد ادعى الالوهية دون أن يدرى لأنه لا يعلم الغيب سوى الله جل وعلا (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ) ( النمل 65 ). 
المصابون بالجهل المتدين يقعون فى هذا الاثم حين يحكمون أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الخلفاء الأربعة ومن أسموهم بالعشرة المبشرين بالجنة وبقية كبار الصحابة المذكورين فى كتب التاريخ والتراث. وبالتالى يجعلون كلام الله تعالى فى القرآن الكريم خاضعا للتاريخ المكتوب ، ضمن الخبل المعتاد الذى يجعل التاريخ دينا. 
وبمراجعة سريعة لتاريخ المسلمين خلال نصف قرن ستجد أن الأمويين كانوا أعمدة الحرب ضد الاسلام طيلة حوالى ثلاثين عاما ، ثم أضطروا للاسلام قبيل موت النبى محمد ، وبعده ما لبثوا ان تحكموا فى المسلمين وجعلوهم يتجهون للفتوحات ثم الفتنة الكبرى ، لينتهى الأمر بقيام الدولة الأموية التى قهرت ملايين الناس من المسلمين وغيرهم . لم يكن هذا سهلا ، بل سالت من أجله دماء الملايين خلال نصف قرن فقط من الزمان فى سبيل هذا التطاحن على الدنيا باسم دين الله جل وعلا. والتاريخ هو الذى يسجل مسيرة صناع الدول و الحكام و المنغمسين فى السياسة ، والسياسة التى تطمح وتطمع فى الوصول للحكم بالخداع واستحلال الدماء. وهذا ليس من سمات السابقين فى الاسلام بل من صفات السابقين فى العدوان . وهكذا تجد هناك فجوة هائلة بين العظماء فى التاريخ من الحكام و القادة ، والعظماء فى الايمان والعمل الصالح ، وبعد الأنبياء فاننا لا نعرف أسماء العظماء من الصنف الأخير ـ أى من السابقين فى الايمان و العمل الصالح . 
ويوم القيامة قد نفاجأ بأن بعض من كنا نحسبهم من كبار الصحابة كانوا هم المقصودين بقوله تعالى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) . 
3 ـ ولمزيد من التفاصيل نقول : 
ليس فى القرآن أسماء كبار الصحابة مثل ابى بكر وعمر و عثمان وعلى و عبد الله بن الزبير و طلحة بن عبيد الله و ابى هريرة و عمرو و سعد بن أبى رقاص و عبد الرحمن بن عوف ..ألخ .. ولم يقل القرآن ( يا أيها الذين آمنوا ان ابا بكر هو الصديق ، وهو صاحب النبى فى الغار ) ولم يقل ( يا أيها الذين آمنوا ان عمر هو الفاروق الذى ينطق الوحى بلسانه ) ولم يقل ( يا أيها الناس ان عثمان هو ذو النورين ) ولم يقل ( يا أيها الذين آمنوا أن عليا بن أبى طالب هو من كرّم الله وجهه ، و هو الوصى ) ولم يقل ( يا ايها الذين آمنوا ان الزبير بن العوام هو حوارى رسول الله ) ولم يقل (إن اسماء بنت أبى بكر هى ذات النطاقين ) ولم يقل عن اختها السيدة عائشة (يا ايها الذين آمنوا خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء ). 
ليس هذا فى القرآن الكريم ، وربما لولا حفظ الله تعالى لكتابه العزيز لأدخلوا فيه تلك الأحاديث وأكثر منه مما تحتويه كتب المناقب من مبالغات وخرافات فى مناقب كبار الصحابة ، وما يتبارز فيه السنة و الشيعة فى تعداد مناقب هذا وذاك . 
ولأنه ليس فى القرآن أى إسم من تلك الأسماء فان كل هذه الشخصيات لا تعد جزءا من الايمان والعقيدة. هى فقط جزء من تاريخ المسلمين . 
وعليه فاذا قلت بأعلى صوتك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلى وعائشة وغيرهم ليسوا جزءا فى دين الاسلام فأنت حينئذ تعبر عن حقيقة من حقائق الاسلام . وأنت صادق تماما فيماتقول لأن الاسلام هو القرآن فقط ، وليس أولئك مذكورين فى القرآن . 
ولكن إذا قلت أن أولئك الأشخاص جزء من تاريخ المسلمين المكتوب فأنت صادق لأنهم أعلام فى تاريخ المسلمين المكتوب، ولو أنكرت ذلك فهنيئا لك بالجهل . 
على أن التاريخ الحقيقى للمسلمين لا يعلمه الا الله تعالى ، وسنعرفه يوم القيامة حين يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة 6 : 8 )، وليس لنا أن نتحدث عنه لأنه غيب لا يعلمه الا الواحد القهار جل وعلا. ولا يعلم حقيقته إلا الذى يعلم السر و ما تخفيه الصدور ، والذى هو قائم على كل نفس بما كسبت ، والذى هو على كل شىء شهيد. انه رب العزة جل وعلا وحده. 
التاريخ المكتوب للمسلمين ليس دينا ـ هو فقط عمل بشرى ، فيه الخطأ والصواب ، وقد تمت كتابته بعد حدوثه ممتلئا بالروايات المتضاربة المتناقضة ، بسبب الخلاف المذهبى بين الشيعة و السنة ، وهناك منهج تاريخى لبحثه ، وما يصل اليه اى باحث هو أحكام نسبية تدخل فى إطار العلم وليس الدين ، وما يقوله أى باحث هو خطأ يقترب من الصواب ـ أو صواب يقترب من الخطأ ، أو هو خطأ تام ، والعبرة بما يمتلكه من أدوات البحث والاجتهاد وما لديه من ابداع و ملكة بحثية و سعة اطلاع مع نزاهة وموضوعية ، ومهما أوتى من كل ذلك فما يقوله هو مجرد تخمين لأنه يبحث خلال روايات كتبها من لم يكن شاهدا على الأحداث ، وحتى لو كان شاهدا على الأحداث وكتبها من واقع المشاهدة و المعاينة فهناك شك فى صدقيته وحياده ونزاهته. أى يبقى دائما أن التاريخ المكتوب و البحث التاريخى القائم عليه هى وجهات نظر تقع فى دائرة الظن و التخمين ، وبالتالى فمجالها العلم وليس الدين لأن الدين قائم على الاعتقاد واليقين والحقائق المطلقة التى أوحى الله الله جل وعلا بها فى القرآن الكريم. 
وبالتالى إذا جاء أحد المصابين بالجهل المتدين وقال ان السابقين فى الاسلام المذكورين فى سورة التوبة هم أولئك الأشخاص من كبار الصحابة فى كتب التاريخ فهو فى حاجة ماسة للنصيحة ، فهو لم يعش عصر الصحابة ، ولم يصاحبهم ، وهو حتى لو كان مصاحبا لهم فى عصرهم فلم يكن مطلعا على ما فى قلوبهم ، وهو ليس أعظم من النبى محمد عليه السلام الذى لم يكن فى حياته يعلم ما فى قلوب أصحابه المحيطين به. والمصيبة التى اوقع نفسه أنه زعم ـ دون أن يدرى ـ الألوهية وجعل نفسه فوق مكانة النبى محمد عليه السلام. 
من هنا وجب علينا أن ننصحه. فاذا استمر فى عناده فليهنأ بما وضع فيه نفسه ، حيث سيندم وقت لا ينفع الندم. 
والمزيد فى الحلقات القادمة حيث نقدم قراءة قرآنية لبعض ملامح أولئك (الصحابة )..