الاثنين، ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية .. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ بقلم جمال البنا

تتصدى الآيات (٢ـ٣) من سورة الصف «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» لظاهرة شائعة شديدة الانتشار بقدر ما هى سيئة الآثار، وهى تعرض للقول تجاه العمل، فما أكثر الذين يقولون .. وما أقل الذين يعملون،
وهذا لأن الكلام سهل، ولكن العمل صعب، وتأخذ هذه العملية أسوأ صورها عندما يتعارض العمل مع الكلام، فالمتحدث يقدم وعودًا ولعله يؤكدها بالإيمان المغلظة ثم لا يؤدى منها شيئاً، فهذا التناقض ما بين الكلام والعمل أمر يخل بالنظام ويقضى على الثقــة التى عليها تقوم المعاملات والعلاقات، ويتم هذا بسهولة، وكأن صاحبها لم يقترف أمرًا إدًا.
لهذا جاءت الآية قارعة «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ»، ويوحى التعبير القرآنى بأن القول يتضمن وعدًا بفعل، وأن هذا الفعل لا يؤدى، فهل هناك ما هو أكثر من هذا التعبير الصارم «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ» ولو أن المسلمين يقرأون القرآن ولو أنهم عند قراءتهم يفكرون فيما يقراءون، ولا يكرون الايات كرًا، لتبينوا الجريمة التى يقترفونها كل يوم، وهم لا يعلمون أو هم يحسبونها هينة وهى عند الله عظيمة.
إن مجتمعًا يدأب أفراده على أن يقولوا ما لا يفعلون، لابد وأن يكون مجتمعًا مفككاً مضطربًا، لا يستقيم، ولا يستقر، وكيف يستقيم أو يستقر والوعود فى واد والأعمال فى واد آخر، أو أن الكلمات تقدم وعودًا ولكن لا وفاء بها وتطبيق لها.
عندما تحدث الرسول عن أمارات المنافق قال «إذا وعد أخلف»، وهذا هو ما تندد به الآية، وما تراه كبيرة الكبائر.
المجتمع السليم يقوم على الصدق، وعلى الثقة، وعلى الأمانة، فإذا اختل هذا فلا يمكن أن يقوم مجتمع لأن هذه الظاهرة تهز المجتمع من أساسه، ولأنها ليست مقصورة على كلام من واحد لآخر، ولكنها تشمل كل «تصريحات» المسؤولين فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هى ما بين البائع والشارى، هى ما بين الصانع والعميل، فإذا كان كل هذا كلام لا يتبعه عمل، ووعود لا تتحقق، فكيف يستقر المجتمع.
إن عدم الوفاء بالعهود هو أسوأ صورة للكذب لأنه يتعلق بالتزام لا يؤدى فهو كذب مضاعف يؤدى إلى خلل فى المجتمع.
يقول المثل الشعبى «أسمع كلامك أصدقك .. أشوف أمورك أستعجب»، فهل قضى على المجتمع أن يقضى حياته ما بين الصدق الساذج، وما بين الخُـلف الشنيع.
وإلى متى؟!

إلهامات قرآنية .. وإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ بقلم جمال البنا

علمنا القرآن آداب التحية، وقد يسأل سائل: وهل كان على القرآن أن يعلمنا هذا أيضًا؟
يبدو أنه كان ضروريًا، ولهذا نزلت الآية «وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا» (النساء: ٨٦).
ومع هذا فيبدو أننا لم نتعلم ما عُلّمنا، فنحن حتى الآن لا نأخذ بما أوجبه القرآن.
بيَّن القرآن أنه إذا بدأنا أحد بتحية، فعلى الآخر أن يرد بمثلها أو بأحسن منها. وليست التحية هى السلام وحده، وإنما هى كل شىء فيه تحية.
فالهدية مثلاً هى نوع من التحية، ويفترض فيمن يتقبل هدية أن يرد بمثلها، فإذا لم يكن لديه فلا أقل من أن يشكر عليها.
وإذا أرسل أحد خطابًا يحييك فيه أو يهنئك بمناسبة أو حتى يسأل عن مسألة، فإن من الواجبرد التحية أو ترد عليه، حتى وإن كان صغيرًا وأنت كبيرًا، فمادام قد حيا فقد وجب الرد، ومن أسوأ العادات أن يكتب أحد إلى أخيه مهنئاً أو مسلِّمًا، فلا يلقى ردًا، فهذا نوع من احتقار المرسل، وعدم إعطائه حقه.
فى مقابل هذا، نجد سرفاً فى التحية أصبح مقبوحًا فما إن يلتقى أحد صاحبه حتى يعانقه ويقبله. لا أدرى من أين تسللت إلينا هذه العادة المقبوحة، وقد كانت مجهولة فى الأربعينيات، ولا أدرى سببًا لشيوعها، إلا أنها صورة من صور التسيب الشائع.
وقد بينت السُـنة، التى تُفصّل ما أجمله القرآن، أن التحية عند اللقاء هى المصافحة فحسب دون المعانقة أو التقبيل، وأن هذا الأخير إنما يحدث عند العودة من السفر فحسب، أما فى حالات التلاقى العادية فهى مكروهة. روى أن رجلاً قال للرسول يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحنى له؟، قال: لا، قال أفلا يلتزمه ويقبله، قال: لا، قال فيأخذ بيده ويصافحه، قال: نعم.
ولم يحدث أبدًا أن كان الصحابة يتعانقون كلما يتلاقون.
إن انتشار هذه العادة الغريبة، وصل من القوة لأن فرض نفسه على الأجانب عندما يقابلون عربيًا فيبادلونهم العناق والتقبيل مع أن هذا التقبيل فى العرف والمزاج الأوروبى أمر مقزز، فلا تقبيل إلا للنساء.
وآن لنا أن نتخلص من هذه العادة التى لا تمثل إلا نوعًا من النفاق والسرف.
إن الآية تلزمنا الأدب دون أن يتردى إلى ما يخالفه، حتى الوقوف ــ وهو مما يدخل فى الأدب ــ ولكن يمكن أن يتطرق إليه مظنة الخضوع، وقد أمر الرسول أصحابه ألا يقوموا له وكره من أحب أن يتمثل له الرجال وقوفاً.
الذوق والأدب والإسلام هو المصافحة، أما المعانقة فلا.

إلهامات قرآنية.. ثلاث عورات كتب جمال البنا

لا يستخدم القرآن كلمة عورة إلا لما يستقبح أو يكون مكشوفا.
فى الآية ٥٨ من سورة النور، وضّح لنا القرآن الأوقات التى لا يجوز لأحد أن يزور فيها آخر، فقال: «يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت إيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم».
يحدد لنا القرآن الكريم ثلاثة أوقات يفترض ألا يأتى زائر فيها، هى: أولاً من قبل صلاة الفجر، وثانياً حين يضعون أى يخلعون ثيابهم من الظهيرة، وثالثاً من بعد صلاة العشاء.
وبرر القرآن ذلك بأن هذه الأوقات «عورات»، بمعنى أنها الوقت الذى يقوم الإنسان فيه من نومه ويغلب أن يخلع ملابسه ليبدأ فى الاغتسال لإزالة آثار النوم، وفى الوقت الثانى حين يلوذ الإنسان بالقيلولة ظهرا عندما يعود من عمله ويخلع ملابسه ويتخفف منها إيذانا بالنوم، وهذه القيولوة أمر طبيعى فى البلاد الحارة، إذ لا يمكن مواصلة العمل دون أخذ هذه الراحة، وأخيراً بعد صلاة العشاء عندما ينتهى اليوم ويستعد الإنسان للنوم ويخلع ملابسه.
وعادة ما تقرن هذه الفترات التى تأتى بعد نوم وتستتبع خلع ملابس، بوجبة طعام قد تكون الإفطار وقد تكون الغداء وقد تكون العشاء، مما يوجد ظرفاً مضاعفاً يحول دون استقبال زائر.
يفترض فى كل واحد يتأدب بآداب الإسلام أن يتجنب الزيارة فى هذه الأوقات حتى لا يحرج صاحبه، خاصة وقد جاء فى الآية ٢٨ من السورة نفسها «وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا»، وهذا عقاب لمن يأتى دون ميعاد، وإذا كان استقباله يحرج صاحبه أو يقلب ترتيباته، فإن من حقه أن يقول له ارجع، ومن واجب هذا الزائر أن يتقبل هذا قبولاً حسناً لأنه نتيجة طبيعية للقدوم دون سابق إذن ودون معرفة بظروف صاحبه.
كنت فى زيارة للخرطوم، وفى فترة الظهيرة وبعد أن بدأت نوم القيلولة إذا بالباب يطرق ويخرج مضيفى ليقابل زائره معانقاً مرحباً، وبعد أن انصرف قلت له كان من حقك أن تقول لهذا الزائر ارجع، فقال لو قلت له ذلك لرآنى قاطعاً للرحم، مخالفا للذوق والأدب، رافضا للود، مرتكباً إهانة ولفضحنى.
وأنا شخصياً لا أكاد آوى إلى سريرى بعد عمل مرهق، وأبدأ القيلولة حتى يدق جرس التليفون، فالصحفيون والصحفيات يأتون مكتبهم فى الظهر تقريباً، وما إن يجلسوا حتى يبدأوا مكالماتهم التليفونية لإجراء تحقيق صحفى مع عباد الله الغلابة.
إنه لمن العار أننا لا نلم بآداب الإتيكيت واللياقة، فهى فى الغرب أصبحت عُرفاً متبعا دون أن يكونوا فى حاجة لتعليمها، أما نحن فعلينا أن نتعلمها، وقد علمنا إياها القرآن.

إلهامات قرآنية.. مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ كتب جمال البنا

هذه هى الجملة التى حفظها المسلمون جميعًا فى أربعة أركان الأرض عن ظهر قلب، وفهموا أنها رخصة لكى يتزوجوا حتى أربع زوجات، وفسرت فحولة البعض أن المقصود بمَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ تسع زوجات.
ولم يفكر أحد فيم جاء هذا النص الخطير، ولا ما سبقه من كلمات، وما أعقبه من حديث، والمفروض ألا تنتزع جملة قرآنية عما قبلها وما بعدها، لأن القرآن يتلاعب فى التقديم والتأخير بما يحقق ما يقتضيه النظم الموسيقى وشدة تأثيره فى النفس البشرية بحيث يحقق لها الهداية دون أى اعتبارات أخرى.
هذه الكلمات مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ، جاءت فى الآية الثالثة من سورة النساء، وسورة النساء إنما أنزلها الله تعالى ليدافع بها عن المرأة، وليستبعد كل صور انتهاكات حرياتها وانتقاص حقوقها، وهى كلها رحمة وعدل وإنسانية.
الآية الأولى فى السورة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا».
والآية الثانية «وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيرًا».
ثم تأتى الآية الثالثة «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا».
من هذا نرى أن جملة «مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ» جاءت مبنية على شرط معين هو «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى» فإذا لم يتوفر الشرط فلا إذن فى النكاح مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ثم لم تقف الآية عند هذا، إنها أعقبت ذلك بشرط «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً» وليس على إذا لم تعدلوا بالفعل.
إن الأمة الإسلامية فسرت الآية فى ظل ظروف كانت تبيح التعدد إلى عشر زوجات دون أى قيد أو شرط، فرأت أن الهبوط بالعدد إلى أربع هو تقليل لتعدد الزوجات والنزول به إلى أدنى حد، أما قضية «عدم القسِطُ فِى الْيَتَامَى» فلم يعلقوا عليها أهمية أو أنهم تجاهلوها كأن لم تكن، وأما «حوف عدم العدل» فقد فسروه بأنه العدل فى الطعام والشراب والثياب، وكأن المرأة حيوان لا يؤثر عليها إلا العدل فى الطعام والشراب والثياب، أما العاطفة فلا تعنيها.
الآية بنصها الكامل لا يمكن أن تكون رخصة حرة فى الزواج مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ لأنها مسبوقة بظرف معين ومحكومة بشرط معين، ولكن ذلك لم يكن لتحتمله الأمة العربية عند نزول القرآن، فأولت الآية بما يمكن لهذا المجتمع أن يتحمله.
وقد آن الأوان لأن نعيد للآية كرامتها وأن نحترم نصوصها لأننا فى ظل ظروف تسمح بذلك بحيث يكون الأصل هو الزواج بواحدة، ولا يكون الزواج بأخرى إلا فى حالات معينة وبعد تسوية الأمر مع الزوجة الأولى بما يرضيها.

إلهامات قرآنية.. هذا حلال.. وهذا حرام كتب جمال البنا

كان تحريم وتحليل الإسلام من العمق بحيث أن كلمتى الحلال والحرام كونتا الضمير الإسلامى، ووصلتا إلى أعماق أعماق النفس الإسلامية وجعلتاه الفيصل فى الأحكام، وقد يوضح ذلك أغنية شعبية تقول:
تـُـحرم عليَّ إيدى إن مست إيديك تـُـحرم علىَّ عينى لو طلت عليك
ولكن الآية تنقلب:
لما تكون حلالى أحطك فى عينى واتكحل عليك
إلى هذا العمق وصلت كلمتا حلال.. وحرام.
والحقيقة أن هذا التقديس إنما حدث لأن الإسلام خص كلمة حلال وحرام بالشارع نفسه، أى الله، وقال القرآن «وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» (النحل: ١١٦).
وأصبح الحلال، الذى ينص عليه الشارع، حلالاً لا يحرمه أحد، كما أصبح الحرام الذى يحرمه الشارع حرامًا لا يحلله أحد.
ولكن السلطة الدينية، وأهل الذكر، يريدون أن يشركوا أنفسهم فى القضية، والناس يستفتونهم وهم يرددون هذا حلال.. وهذا حرام.
لقد نشرنا بجريدة «القاهرة» يوم ٢٦/٩/٢٠٠١، مقالاً بعنوان «ليس للفقهاء أن يقولوا هذا حرام.. وهذا حلال»، لأن التحريم والتحليل بنص القرآن هو لله وحده.
والمفروض ألا يقولوا هذا حرام وهذا حلال إلا إذا جاء فى ذلك نص قرآنى صريح لا تأويل فيه، أما فيما لم ينص فلا يجوز لهم استخدام هذا التعبير حلال وحرام، وكان الإمام أحمد وكبار التابعين يتحرجون من الحكم بحرام وحلال، ويتجنبونه ويلوذون بتعبيرات أخرى.
ما أكثر ما نسمع هذا حرام.. هذا حرام كل يوم من مائة قناة تليفزيونية يقتعد مجلسها ويمسك ميكروفوناتها شيوخ لهم لحى طويلة مسترسلة يحرمون ما أحل الله أو ما سكت عنه ولا يستشعرون حرجًا أو حساسية والناس تأتم به، ويقولون حسبك بلحيته شاهدًا ودليلاً.
كان الدأب الذى أدب الرسول صحابته عليه ألا يسألوا وأن يعملوا بما علموا، أما ما لم يعلموه فيكلوه إلى خالقه، وأن يعتمدوا على قلوبهم التى تدلهم على الإثم عندما يحوك فى صدورهم ويعرفوا الإيمان بما يستشعرونه من رضا وقبول «إن الإنسان على نفسه بصيرًا»، وقال «لا تسألونى وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وقال «إن أكثر الناس عذابًا يوم القيامة رجل سأل عن شىء فحرم لأجل مسألته».
كان الصحابة يتصرفون فيما لم يرد فيه نص بما ترضاه قلوبهم وما تقبله عقولهم ولم يستشعروا بعد ذلك حاجة إلى أن يسألوا، رغم أن الرسول العظيم كان حيًا بينهم لأنهم يعلمون أنه كان يكره قيل وقال، وكثرة السؤال.
وهى التجارة التى ازدهرت أيَّما ازدهار بفضل الفضائيات واللحى الطويلة.

الثلاثاء، ١٥ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. حَرْث الدُّنْيَا كتب جمال البنا


من أهم القضايا التى يكون على الأديان أن تعالجها موقف الديـن من الحيـاة الدنيـا، فبعض الأديان يضيق بها ويتمنى لو خلص الإنسان منها بطريقة أو بأخرى، وبالطبع لن نجد فى الأديان من يحض على الدنيا ويأمر بالإقبال عليها والانتهال مما تقدمه، مما تحبه النفس الإنسانية من استمتاع ولذة، وقد وقف الإسلام موقفاً وسطاً، فصرح فى أكثر من آية:
· «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا» (١٨، ١٩، ٢٠ الإسراء).
· «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» الشورى: ٢٠).
يلفت النظر أن القرآن وجه الحديث إلى «مَنْ كَانَ يُرِيــدُ»، أى إلى الإرادة الإنسانية، وأنه لم يضق بالذين يريدون حرث الدنيا أو العاجلة، وأن عطاء الله ينالهم لأنه ليس محظورًا، وإن كان قد حرمهم من ثواب الآخرة.
وإذا عرفنا أن العبادة هى كل ما يرضى الله تعالى من الأفعال، بما فيها كل ما تحفل به الحياة الدنيا من أعمال يراد بها الخير، وخدمة الناس، وتيسير التكاليف، أو حتى الاستمتاع بما فى هذه الحياة من جمال وما تثيره من لذة فيمكن أن نتوصل إلى أن الفجوة ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.. حرث الدنيا وحرث الآخرة، ليست بالدرجة المتصورة، وأن هناك ما يمكن أن يملأها من العمل الصالح الذى يشترك فى أنه من عمل الدنيا وعمل الآخرة.
رغم هذا، فإن الفكر المؤصل فى النفوس، وما جرت به الأفهام من قديم أوجد فجوة كبيرة بين حرث الدنيا وحرث الآخرة فهو يضخم من العبادات، بمعنى الشعائر والطقوس من صلاة وصيام وقراءة قرآن وتلاوة أوراد، لا يقتصر على المفروض منها، وإنما هناك نوافل وتطوع تفوق المفروض أضعافاً بحيث لا تترك وقتاً للحياة الدنيا،
والمفروض إما أن تتجلى العبادة فى كل عمل دنيوى من زراعة أو تجارة أو استثمار أو صناعة، أو خدمات ومرافق أو ثقافة أو معرفة أو بحوث علمية تكشف عن أسرار الكون وتجعلنا نستخدم موارده، وأن يكون هناك مكان للفنون والآداب والاستمتاع بمشاهد الجمال، وما توحى به موسيقى عذبة أو صوت رخيم وتعد هذه كلها قربات وصور من العبادة، وإما أن نعتبرها هى حق الحياة الدنيا التى يكون على الدين أن يخلى لها الوقت الأعظم والمجال الأكبر، لأن الدنيا هى الدنيا، وما دمنا نعيش فيها فلابد أن نعطيها حقها.
أذكر أنى سمعت «نكتة» يلمز بها الغربيون المسلمين يقولون: إن المسلمين لا يفكرون إلا فى مستقبلهم بعد الموت! أما مستقبلهم فى الحياة الدنيا فلا يعنيهم، وعندما ذكرتها لبعض المثقفين لم يرفضوها، وقالوا إن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأن الآخرة هى الباقية، وأنا أقول إن هذا ليس هو فهم القرآن ولا الرسول، ولكنه الفهم الذى أدى بالمسلمين إلى التدهور وأن يخسروا الدنيا والدين.

إلهامات قرآنية.. لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا كتب جمال البنا

أكبر ما يتمناه قائد، أو حاكم، أن تألفه القلوب، وأن يكون أتباعه من الذين جمعت بينهم الألفة، وهذا ما لا يمكن أن يصل إليه حاكم حتى لو أنفق مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعًا، فالقلوب لا تشترى، كما أنها لا تحكم، وليس فى يد أعظم الحكام إلا هذان: المال لتآلف الناس، والقوة والبطش ليخضعهم، وكما قلنا فهذان لا ينفعان مع القلوب.
وإنما تكسب القلوب بالفكرة الرائعة التى تكتسب من أصالتها ومن ص ومن إبداعها ما يجذب القلوب فتنجذب، لأن الفكر هو لغة القلب، وقد تصل عزة القلوب درجة يكون الله تعالى وحده هو الذى يمكن أن يحقق تآلفها كما فى الآية «فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، والله تعالى قام بهذه المهمة الصعبة عبر وسيلتين هما القرآن والرسول، القرآن الذى لو ألقى على جبل لجعله خاشعًا متصدعًا، فما بالك عندما ينزل على القلب وهو لحمة التأثر.. ثم جاء الرسول رحمة مهداة، ومثلاً أعلى يمشى على الأرض.
وقد ظهر أثر الهيمنة الكاملة للإسلام على نفوس وقلوب المؤمنين عندما التجأ المهاجرون من أهل مكة الهاربون من بطش مشركيها، تاركين ثرواتهم وأملاكهم إلى المدينة التى «فتحت بالقرآن» كما قالت عائشة، فقابلهم الأنصار (أهل المدينة) مقابلة الأخوة الأعزة، وأشركوهم فى مالهم ومنازلهم ووصل عمق المحبة أن عرض أنصارى لمهاجر أن يشركه فى ماله وأن ينزل له عن إحدى زوجتيه، فقال المهاجر بارك الله لك فى مالك وأهلك دلنى على السوق.
هل يمكن لأى حاكم أن يصل تأثيره مثل هذا التأثير.. مستحيل، لذلك قال الله «لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ»، وهذا الأمل الطموح مع هذا يمكن تحقيقه لو جعل الحاكم القرآن دستوره، ولو تأسى بالرسول فى سياسته وتقشفه وسموه عن متاع الدنيا، يمكن للحاكم أن يملك القلوب كما ملكها أبوبكر، وكما ملكها عمر، لو احتذى بهما، وعندئذ يظفر بأعظم ما يصبو إليه حاكم: حب الناس وألفة الشعب.
أفليس هذا هو الطريق المستقيم لكسب الجماهيرية؟ أليس هو أجدى من كل وسائل الدعاية، ومن اصطناع الأتباع، وإعطاء النواب منحًا ومزايا، وحصانة يمكن فى ظلها ممارسة كل صور الفساد، أليس هو أفضل من تكوين جيش جرار باسم الأمن المركزى يضم الألوف المؤلفة من الجنود والضباط والمئات من العربات الحديدية المغلقة ــ سجون على عجل ــ والهراوات التى يصعق بعضها.. يا سيدى الحاكم لست فى حاجة لهؤلاء الذين كان يمكن أن يزرعوا ويصنعوا ويتاجروا.. كلمة حب يصدقها عمل.. أما كلمة حب يناقضها عمل، فالشعب يعلم أنها رشوة رخيصة.. واستغفال وتخدير.

إلهامات قرآنية .. وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً بقلم جمال البنا


كانت الهيمنة على العالم أجمع أمل أكبر الفاتحين فى التاريخ، وتمناها الإسكندر، وحاولها جنكيزخان وتيمورلنك، وتصورت الإمبراطورية الرومانية أنها أصبحت تحكم العالم، بل إن الإمبراطورية الإسلامية فى عهد المأمون وهارون الرشيد كادت تحكم العالم.
ولم تتحقق أمنية فتح العالم لأى واحد من هؤلاء جميعًا، فقد ظهر أن العالم أكبر وأعسر من أن يجمعه جنرال عسكرى أو إمبراطورية مهما كان قدرها.
على أن حكم العالم لا يعنى أن يكون العالم أمة واحدة، فقد يسهل على حاكم قوى الذكاء فى وقت موات أن يحكم العديد من بلاد العالم، ولكنه لا يستطيع أن يجعل منها كلها أمة واحدة.
بل إن العصر الحديث بكل قواه وإنجازاته لا يستطيع أن يحقق «العولمة» حتى وإن حطم الأبواب التى كانت تحمى الدول من عدوان الآخر، لقد تحطمت هذه الأبواب وأصبح يمكن للبيتزا.. والسيارة.. والتليفون أن توجد أكثر من أى عهد مضى رمزاً من التلاقى، أما الوحدة.. فلا.
تأتى ذلك لصعوبات اللسان والألوان، والحضارات والتاريخ.. إلخ.
ويوضح لنا التاريخ أن فكرة الهيمنة على العالم أو محاولة جعله أمة واحدة كانت هى أكبر أسباب تسلل الضعف إلى الدول التى حاولت ذلك، والتى نجحت جزئيًا، ولكنها عجزت عن القيام بمسؤوليات رعايا الدول التى احتضنتها والتى أصبحت عبئاً عليها، وإن تصورت أنها ستكسب منها، لأن الهدف غير طبيعى.
وتجربة الولايات المتحدة الدولة الأعظم التى ضمت أعتى قوة عسكرية، وأعظم اقتصاد عالمى.
هذه الدولة العظيمة هزمت فى فيتنام هزيمة مدوية، وعجزت حتى الآن فى الأفغان، مع أنها استعانت بكل دول أوروبا، ومع أنها نسفت الجبال نسفاً، فلم يفدها شيئاً، ولا تزال «طالبان» وحسبك اسمها تقف كالشوكة فى الزور،
ومع أنها رزقت نصرًا سهلاً فى العراق التى كان يحكمها أسوأ حكام العالم وكان يمكن أن تدخل دخول المحرر فيقابلها الشعب بالورود، فإن فكرة الهيمنة والسيطرة والضم جعل الشعب العراقى يواجهها وأصبح العراق مستنقعًا يريد الأمريكيون أن يخلصوا منه.
وهكذا كانت نهاية أكبر محاولة فى الحقبة المعاصرة لتفرض دولة سيطرتها على العالم.
وقد حسم الله تعالى ذلك عندما قال : «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا».
وقد أوضحت الآية أن الله تعالى إنما خلق العالم على ما هو عليه من أمم وشعوب «لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ»، أى إن كل من هذه الدول والشعوب ستقوم بدورها فى الحياة، وإن هذا لن يدع الذين يريدون الضم والهيمنة والسيطرة حرية العمل أو إطلاق اليد،
وجاءت الآية محرضة الجميع لأن يستبقوا الخيرات، فيكون هناك سباق وهناك تعددية، ولكن لن يكون هناك هيمنة وسلطة مطلقة، فهذا إذا حدث فإنه يستحيل أن يظل أبد الآبدين «وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ».

الجمعة، ١١ سبتمبر ٢٠٠٩

حمل كتاب الديمقراطيه ابدا للاستاذ خالد محمد خالد نسخه pdf





حمل كتاب جرثومه التخلف بقلم الاستاذ مراد وهبه نسخه pdf

 

حمل كتاب جوهر الاسلام للمستشار محمد سعيد العشماوي نسخه pdf طبعه مدبولي الصغير




حمل كتاب - مواطنون لاذميون _ للاستاذ فهمي هويدي نسخه pdf طبعه دار الشروق




حمل كتاب الدين للشعب للاستاذ خالد محمد خالد نسخه ( pdf )

 

إلهامات قرآنية.. إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ كتب جمال البنا

إنها سورة مختصرة، ولكنها تشير إلى البلاء الأعظم الذى تجذر فى المجتمع الإسلامى، لقد ظهر فى أيام الرسول، وتحدثت عنه السورة، وكيف أنهم اتخذوا أيمانهم جُنَّة يتسترون وراءها ويدفعون بها وهم يقترفون أعظم الآثام، والمصيبة الكبرى أنهم ادعوا الإيمان، فلم يكونوا من الكافرين الذين يعلم المسلمون بكفرهم ليتجنبوهم، ولكنهم اتخذوا إيمانهم وسيلة للدخول فى صفوف المسلمين وبث فتنتهم وكيدهم، وقد وصل خطرهم أن أعلم اللهُ رسولَه «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».
وعرض القرآن لبعض وشاياتهم وكيدهم وتحريضهم بقوله «هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ».
لنتصور قومًا يستغفر لهم الرسول، ولا يقبل الله هذا الاستغفار، لأنه يعلم ما لا يعلمه الرسول من خبثهم وخستهم، فهم يحرضون الأنصار على ألا ينفقوا على المهاجرين حتى ينفضوا وهم الذين يظنون أنهم إذا عادوا إلى المدينة من إحدى الغزوات «لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ» يريدون بذلك أنهم سوف يخرجون المهاجرين من المدينة، غير دارين أن ابن زعيمهم هو من خيرة المؤمنين، ولما سمع الابن ذلك أمسك بسيفه وعندما عاد أبوه وأراد أن يدخل منعه ابنه، وقال: حتى يأذن لك رسول الله ليعلم مَنْ هو الأعز.
على كل حال فإن شر المنافقين لم يستعر إلا فى فترات التدهور الإسلامى، الذى كانوا هم أنفسهم من أكبر أسبابه، لأنهم كانوا كالسوس ينخر فى قوائم المجتمع ليتزلزل أو ينهار.
والنفاق اليوم هو أكبر عامل مؤثر فى المجتمع المصرى، وهو أكبر أسباب تخبطه وتدهوره، وقد بدأ فى البيت، فالأم التى تدلل ابنها وتحول بينه وبين أن يتحرك أو يلعب أو يعمل خوفاً عليه، والتى تحقق كل مطالبه بمجرد أن يبدأ الصراخ، هذا الطفل ينمو فاقدًا مَلَكَة الاعتماد على النفس أو مجابهة الواقع أو التصرف وتحمل المسؤولية، ويتصور أن كلمته يجب أن تطاع، ودخل المدرسة فلم تزده المدرسة إلا خبالاً ونقلته من التدليل إلى التلقين والحفظ وحشو ذهنه بمعلومات لا فائدة منها، ولم تقدم إليه ما يتطلبه المجتمع من مهارات، وعندما جُوبه بعد تخرجه بحثاً عن عمل بالحياة الصلبة الصعبة، وأن لا أحد يأبه له، ولما كان عاجزًا عن القيام بالعمل وتحمل المسؤولية وأن يخوض معركة الحياة، فقد اهتدى إلى أن النفاق يمكن أن يفتح أمامه الطريق المغلق، فأخذ ينافق رؤساءه حتى رفعوه، وفهم الجميع أن الوسيلة الوحيدة لفتح الأبواب أمام الخائبين هى النفاق، فأخذ كل واحد فيه حتى أصبح النفاق هو وسيلة الوصول.
فإذا كان هذا هو النفاق الفردى، فإن النفاق يأخذ شكلاً اجتماعيًا يمثله التدين الكاذب كإطلاق اللحية وترديد «صلى الله عليه وسلم»، و«رضى الله عنه» وسيدنا فلان (من الصحابة)، وتلاوة الأوراد، كل هذا ليهرب من الحديث فى صميم الموضوع، وانتقل هذا إلى المجتمع فالمشاكل تقوم ويلمسها كل واحد، ولكن الجميع يتجاهلها ويتجنبها ولا أحد يريد إصلاحها، وكلهم يعرف أن ما يقوله أو يفعله هو نفاق فى نفاق وهو هروب من حل المشاكل واللواذ بقضايا أخرى.
إن النفاق الاجتماعى أصبح أكبر قوة تحكم المجتمع المصرى.

إلهامات قرآنية.. وَنَفْسٍ وَمَا سَـوَّاهَا كتب جمال البنا

من النقط الهامة فهم الدين للطبيعة البشرية .. هل هى حسنة؟ هل هى سيئة؟ وهل يفترض أن تكون حسنة لا يقربها خطأ، أو أنها خاطئة لا يصلحها شىء.
اختلفت فى هذه النظريات، والأديان بحيث يغلب بعضها جانبًا على الآخر، فيرى البعض أنها حسنة، كما تصور روسو، ويرى البعض أنها شريرة، كما تصور هوبز، وقد تنتهى بعضها إلى البراءة الأصلية، وتنتهى الأخرى إلى أن الخطيئة قد غرست فى النفس.
إن الإسلام يتقبل الطبيعة البشرية كما جبلها الله تعالى وعبر عنها فى أوجز، وأفضل تعبير «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا».
فالطبيعة البشرية ليست ملائكية، بل إن الفجور يسكنها كما تسكنها التقوى، وقد قدمت الآية الفجور على التقوى، لأن مشاركة الناس فى الفجور أعظم من مشاركتهم فى التقوى.
والحق أن هذا هو أحد أسباب بعثة الرسل ونزول الكتب التى عبرت عنها الآية «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا».
وهذا التصوير لوجود الفجور جنبًا إلى جنب التقوى فى الطبيعة البشرية لابد وأن ينعكس على المجتمع الإسلامى الذى هو مجموعة من أفراد يخضعون جميعًا للطبيعة البشرية، ولابد بالضرورة من أن تتبدى انعكاسات هذا الضغط على المجتمع فيظهر فيه صور عديدة من مظاهر الفجور الإنسانى؛ لأن المجتمع الإسلامى ليس مجتمع ملائكة، ولكنه مجتمع بشر يخضعون للطبيعة البشرية.
وهناك أناس كثيرون أكثر تديناً وإسلامًا من الدين والإسلام، فهؤلاء يرفضون أى إثارة من فجور فى مجتمع إسلامى، ويؤثرون أن يكونوا كالنعامة، ولكن يتقبل.. ولابد أن يتقبل مظاهر الفجور المنطبع فى النفس البشرية جنبًا إلى جنب التقوى، بحيث يكون مجتمعًا بشريًا وليس مجتمعًا ملائكيًا.
وليس معنى هذا بالطبع الاستسلام لانعكاسات الفجور، ولكن التعامل معها بما توصل إليه الإسلام من طرق للتعامل مع الفجور البشرى، وهل يعود هذا الفجور إلى ضعف، أو أنه يعود إلى شر؟
أما إذا كان يعود إلى ضعف فإن الإسلام يتعامل معه بطرق المقاصة على أساس الآية «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»، وأما إن كان عن شر فإن الإسلام يقابله بالحدود والعقوبات الرادعة، وأهم من هذه كلها أن الإسلام يفرض وجود دعاة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحيون فى النفس اتجاهات الخير، والإرادة، والسيطرة على الأهواء والشهوات بما يقنع النفس بأفضلية الهدى على الضلال،
وهذه هى منظومة المجتمع البشرى: الفجور بنوعيه من ضعف وشر يفرضان نفسهما عليه وفى مقابلهما توجد المقاصة، مع الضعف والقانون الرادع مع الشر، يوجد الدعاة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعمقون الإيمان فى النفوس، بحيث تقبل طائعة على الخير وتتجنب من تلقاء نفسها دوافع ونوازع الآثام «وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ»، وتكون الحياة فى هذا المجتمع مبارزة ما بين الخير والشر، يوكل الحكم الأخير فيها إلى الله يوم القيامة.

الأربعاء، ٩ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً كتب جمال البنا

فى خمس أو ست آيات تعرض سورة الفرقان خلائق المؤمنين وتسردها سردًا أخاذاً يمسك النفس، أو قل إنها تسير معها لا تملك انفكاكاً ؛ لأن الآيات كالموجات المتسابقة تسلم كل واحدة للأخرى، أو كل واحدة تبدو مستقلة قدر ما تبدو متصلة واقرأ إذا شئت:
«وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (٦٥) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (٦٨) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٠) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا».
فانظر كيف يمكن لهؤلاء الناس الذين يسيرون على الأرض هوناً، بلا بطر ولا تكبر، ولا استعلاء، ولكن بصورة طبيعية تلقائية، وهم مع هذا يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، وإذا أنفقوا لم يقتروا ولم يسرفوا، وكان بين ذلك قوامًا، ومع هذا كله فإن الآيات لم تستبعد أن يقعوا فى كبائر الآثام، ولكنهم يتوبون إلى الله متابًا ويحسنون العمل، وفى هذه الحالة يحدث أمر عجيب.. تتبدل سيئاتهم حسنات، فيا لها من صفقة لا يمكن للتصور البشرى أن يصل إليها، إن الله تعالى لم يمح سيئاتهم الشنيعة فحسب، ولكنه عندما تابوا وأصلحوا العمل حول هذه السيئات إلى حسنات، فمن يمكــــن أن يتصور هذا، أو يصل إليه بخياله، فضلاً عن عمله، ولكنه الله، وكفى.

إلهامات قرآنية.. لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كتب جمال البنا

هل هناك ما هو أعذب من هذا النداء، أو أجمل وقعًا أو أكثر شمولاً؟ إنه يقول للذين «أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ» أن «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
لقد ادعى بعض الذين يريدون تشويه الإسلام أن الله فى الإسلام جبار عتى؛ لأنه عرض لصفحة من جبروته لأكابر المجرمين، الذين لا يفهمون إلا لغة القوة والجبروت حتى يعلموا أن فوق جبروتهم جبروتاً أعظم سيحاسبهم ويوقع عليهم الجزاء، أما بالنسبة للناس جميعًا، فالله هو الرحمن الرحيم الذى يغفر الذنوب جميعًا.
هذا «كارت بلانش»، وهو تعهد مطلق لا استثناء فيه ولا شرط عليه، إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا.
حقاً إن المفسرين يفيضون القول فى هذه الآية، وهذا من حقهم، ولكن يظل النص أعظم منهم جميعًا، ويظل شاملاً قاطعًا إنه ما من ذنب يمكن أن يجاوز رحمة الله.
القضية أن الله تعالى يريد أن يعرفنا على بعض صفاته، ولكن قد لا نفهم ذلك أو نقدره حق قدره، وكيف يمكن أن نقدر، الله تعالى يقول «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .
فالله تعالى يعرض لنا رحمته التى وسعت كل شىء، ولكن هذا أمر خاص به ويعود إليه، أما عندما يراد تفعيل هذه الرحمة على المجتمع الإنسانى فيفترض أن يتم ذلك فى إطار المبادئ والأسس والسنن، التى وضعها الله تعالى نفسه لإدارة المجتمع، ومن أهمها إثابة المحسن ومعاقبة المسىء، لأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تعالج إلا بهذا المعيار، ولأنه دون ذلك فقد يتخذ بعض الناس من رحمة الله التى تغفر الذنوب جميعًا تكأة للإسراف فى الذنوب مادام الله تعالى يغفرها.
إن الآية تعرض قسمة من قسمات الله تعالى الرحمن المطلقة، التى لا يمكن لذنب أن يجاورها، وفى الوقت نفسه فإنها توضح أن تفعيل هذه الرحمة فى المجتمع البشرى إنما يتم فى إطار العدالة التى تقضى بمكافأة المحسن وبمعاقبة المسىء.
قد يقال وما الفائدة إذن من النص؟
نقول حتى لا يتألى أحد على الله، وحتى لا يدعى أحد أن الله لا يغفر هذا، وأن هذا مصيره إلى النار وبئس الجحيم، فليقم الناس العدالة، ولكن ليدعو الحكم فيها إلى الله تعالى يوم القيامة

إلهامات قرآنية.. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ كتب جمال البنا

ما إن نقوّم الأديان حتى يتصدى لها فريقان:
الفريق الأول : الحكام والأغنياء وكبار الملاك والتجار الذين يستفيدون من الوضع القائم إذ يضع فى يدهم السلطة والثروة، فمن الطبيعى أن يتمسكوا به وأن يضيقوا بأى تغيير، ويريدون أن يستمر هذا العهد أبدًا، فما إن يظهر دين جديد حتى يتصدوا للتو لمقاومة هذا الدين، فالأديان بالنسبة للطبقة الحاكمة أعظم خطر يمكن أن يظهر وأن يزلزل قوائم عهدها ليس فحسب لأنه تغيير كاسح، ولكن يضيق لأن هذا التغيير يستهدف تدمير ملكهم ويسلم هذا الملك إلى غيرهم.
والفريق الثانى: هو الذى أطلق عليهم القرآن الكريم تعبير «الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا»، وهذا التعبير يوحى بأنهم لم يكونوا أصلاً ضعفاء، ولكن النظم الحاكمة توصلت إلى جعلهم ضعفاء، بتأثير ما فرضته عليهم من ضرائب ثقيلة ذهبت بمكاسبهم وأرباحهم من عملهم، بحيث أصبح لا ييسر إلا القوت الضرورى، بل هذا القوت لا يتيسر إلا بالعمل الشاق ليل نهار، فإذا أبدوا ضيقاً أو رفضًا سلطت عليهم قوتها القاهرة الجيش والبوليس والسجون والمحاكم التى تحكم بشرعة القوى، فلم يبق أمامهم إلا الاستسلام .
تلك فى الحقيقة هى قصة الحكم ما بين سادة ظالمين وجمهور مستضعف.
يظهر القرآن الكريم الدين هنا قوة تقلب الوضع، وتنفخ فى هؤلاء المستضعفين قوة إيمانية تجعلهم يتصدون، وإنما تم هذا لأنه هو ما أراده الله، وما تم لأن الله تعالى يريد هذا، جعل دينه وسيلة لتحقيق ذلك، ولأن يرث هؤلاء المستضعفون الملك العريض من السادة المستبدين.
إن سورة «القصص» تعرض لنا بأسلوب القرآن المعجز قصة الحق الذى كان ضعيفاً، مستسلمًا حتى تملكته قوة الأديان، بينما يتملك التخبط والذعر هذه الطبقات الحاكمة فتأتى أفعالاً تؤدى إلى نهايتها.
وكان الله تعالى يرمز إلى القدر الذى أراده، بأن تأفل دولة الظلمة وأن تسود دولة المستضعفين.
سورة «القصص» تبرز لنا الدين كقــوة تحرير، يتملك المستضعفين فيعملون جميعًا، سواسية، تحت إمرة نبى يمثل القيادة الربانية فيكتب لهم النجاح والتوفيق .
«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ».
لقد حاولت الجماهير خلال تاريخها الطويل أن تحرر نفسها، وأن تتوصل إلى ما يجعل ضعفها قوة، ولكنها قلما نجحت، وفى الحالات التى نجحت فيها، شاب نجاحها نقص حال دون أن تهنأ بانتصارها، أما ثورة الأديان فقد توفر لها أفضل عناصر نجاح الثورة: النظرية ممثلة فى الإيمان بالله، والقيادة ممثلة فى الأنبياء، وإرادة التغيير الشاملة التى تنهى عهدًا لتبدأ عهدًا، وأخيرًا المشاركة الجماهيرية بشكل مباشر وفعال.
وما ترويه لنا ســورة «القصص» إنما هو الفصل الأول من تحرير الأديان للجماهير، وسيأتى فصل آخر عندما تحرر المسيحية الجماهير من إسار قبضة الإمبراطورية الرومانية القوية العاتية بفرسانها وطرقاتها وقوانينها، والسيف الرومانى القصير العريض، أما الفصل الأخير فى تحرير الأديان للجماهير فهو ثورة الإسلام التى جعلت من القبائل المتنازعة أمة تحمل الكتاب

الأحد، ٦ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا كتب جمال البنا

التفكير فى هذه الآية بالصيغة التى أنزلت بها يضعنا فى صميم قضية فكرية عقيدية عويصة.
فظاهر النص يوحى بوضع قيد على المشيئة الإلهية هو الأجل، وأنه إذا جاء هذا الأجل، فلن يؤخر الله نفسًا.
والمسلمون جميعًا يوقنون أن الله تعالى يفعل ما يشاء، وإنه لا راد لإرادته، وإرادته مطلقة وماضية إلى يوم القيامة ولا يمكن وضع قيد عليها.
وهذا صحيح، ولكن الآية لا تتنافى معه، والحل الذى يبدد الشبهة هو أن الله تعالى هو الذى وضع الأجل، فالأجل جزء من إرادته وهو عندما يلتزم به فإنما يلتزم بما وضعه.
وهناك آيات عديدة تقرر هذا المعنى مثل «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ».
وما يتردد فى نفوسنا من شبهة تعود إلى أننا نتصور أن الله تعالى يتصرف فى هذا الكون كما يتصرف ملك مطلق فى دولته، يحكمها بإرادته الخاصة، ويطلق القرارات حسب ظروفه.. إلخ، وهذه الصورة بعيدة عن الله تعالى، فالله يخلق كل شىء بقدر، وبحكمة، ويضع له طريقة سيره، وهو يضع سنناً لكى يسير عليها المجتمع، فمن أخذ بها حقق العلاج، ومن تنكر لها حقت عليه الضلالة، وهو يترك للأفراد حرية الاختيار ليحاسبهم يوم القيامة.
الكون إذن محكوم بالسنن والمبادئ، والأصول التى وضعها الله تعالى له، تستوى فى ذلك المجرات والمخلوقات من حيوانات أو إنسان وما يميزها أن بعضها مُسير والبعض الآخر مُخير.
ومما يدخل فى هذا أن القرآن يستخدم تعبير «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ» كالذى جاء فى «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الأنعام: ٤٢ــ٥٤).
وهو تعبير يريد الله تعالى به أن يقرب لنفوسنا طريقة عمله، وكذلك أن يصف نفسه بأنه «لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً»:
«فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (التوبة: ٧٠).
«وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (النحل: ٣٣).
«وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (العنكبوت: ٤٠).
«فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (الروم: ٩).
وكيف يمكن أن نتصور أن يظلم الله وهو الحق والعدل، إن الله تعالى لا يلعب بالنرد كما يقول أينشتين ولكنه يدبر الأمر، ويضع السنن والأصول والقواعد التى انبثقت عنه والتى أخذت طابع الكمال الذى يجعلها صالحة لكل زمان ومكان وتدخل فى هذه السنن القيم كالحرية، والعدل، والمساواة، والمعرفة، والخير.. إلخ.
إننا فى كثير من الحالات لا يمكن أن نصل إلى مستوى فهم وإدارة الله تعالى لهذا الكون العظيم، وأسوأ ما فى الأمر أننا نشبهه بحكم البشر، فإن أعقل البشر وأحكمهم لا يمكن أن يسمو إلى أدنى حكم الله، وإن علينا أن نتعلم منه بقدر ما تتسع له أفهامنا، وعلينا أن نقول «وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» (البقرة: ٢٨٥).

إلهامات قرآنية .. وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ بقلم جمال البنا

فى أصحاب كل دين ميل دفين للاستئثار والاستحواذ واستبعاد الأديان الأخرى، كأن هذه الأديان ستشاركهم فى «فطيرة» الدين.
ولكن الأديان نفسها لا ترى الدين «فطيرة» يكون من حق أصحابها وحدهم أن يأكلوها ويرفضوا أن يشاركهم آخرون، فالدين الحق أفكار وقيم، والأفكار والقيم والمثل لا تنفد، ولا ينقصها كثرة المهتدين بها، وهى تقدم هدايتها للجميع دون أى حساسية.
ومن تطبيقات هذه الفكرة أننا نحصر الأديان فى الأديان الثلاثة السماوية «اليهودية، والمسيحية، والإسلام»، وقيل إن الدستور المصرى لا يعترف بغيرها.
ولكن هذه الفكرة التى يبدو فيها شيء من الانفتاح تخالف ما ذهب إليه الإسلام ويرى فيها تحديدًا لأمر لم يحدده، لأن القرآن يرى أنه ما من أمة إلا وكان فيها نذير، والآية ١٦٤ من سورة النساء «وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»، فأثبت أن هناك رسلاً لم يذكرهم القرآن.
من هم هؤلاء الرسل؟؟!!
هذا ما لا يمكن أن نقطع به لأن هذا يكون نوعًا من المصادرة على القرآن أو افتئاتـًا عليه، ولو أراد الله أن يُعْرفَوا لعرَّفنا بهم .
الفكرة التى أرادها القرآن هى أن لا يترك أهل كل دين يستسلمون لمشاعر الحرص والاستحواذ والتفاخر بالأديان أو التكسب من وراء الدين، لأن الله تعالى أرسل رسلاً لا تعرفونهم، فلا تدعوا أن غيركم لم يرسل إليه، وأنكم وحدكم أصحاب الرسالة.
وإذا قال أحد الناس إن «بوذا» أو «كونفشيوس» أو «أفلاطون»، رسول، فنحن لا نملك النفى إلا إذا كان فى أقوالهم أو أعمالهم ما يخالف ما يفترض أن يتوفر فى رسل الله من كمال .
والأفضل لنا أن نضرب عن مثل هذا التساؤل، وأن نعكف على أنفسنا إعمالاً لقول الله «لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، فإذا كان هذا هو هدى القرآن بالنسبة لمن قطع القرآن بضلاله، فما بالك وليس لدينا ما يقطع بضلال أمثال بوذا وأفلاطون وكونفشيوس؟
وإذا كانت أمة من الأمم تتخلق بخلائق جميلة، وتتصف بقيم سامية، وتهذب سلوكها فى الحياة، فلماذا لا يكون ذلك عائدًا إلى رسول أرسله الله إليهم، خاصة أننا لا نعدم أحاديث مبهمة عن قادة لم يهتموا بفتوح عسكرية، ولكنهم استهدفوا هداية الناس، وتوجيههم للخير والحب والحرية والمعرفة، وهذه هى مهمة الأنبياء والرسل .

الجمعة، ٤ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. «مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا» كتب جمال البنا

هذه الآية تجعل شعر الإنسان يقف عندما يفكر فيها، وهى تقول: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِى أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ» (البقرة : ٢٦).
عندما أفكر أن الله تعالى الذى خلق هذا الكون العجيب الذى لا مثيل له، وعندما أوجد المجرات الهائلة التى لا حد لها والتى تكون الأرض بالنسبة لها كحبة رمل من صحراء أو قطرة من بحر، والذى خلق الحياة والموت، ولا حد لحكمته أو قدرته.. لا يستنكف أن يضرب المثل ببعوضة.. هل يريد الله تعالى أن يعلمنا درسًا، ألا نتعالى على أصغر الحشرات، بل أن نأخذ منها العبرة ونضرب بها المثل؟
هل يريد الله أن يعلمنا أن الإعجاز، والقدرة، والعظمة، يمكن أن تتجلى فى حشرة، كما تتجلى فى المجرات والأكوان العظيمة؟ إن شركة بوينج يمكن أن تصنع طائرة تنقل ألف واحد، ولكن لا يمكن أن تصنع طائرة فى حجم بعوضة، فأين تضع محركاتها، وكيف تختزن وقودها، فضلاً عن أن الحشرة تتجه وتهتدى لما يحفظ كيانها فى حين أن الأكوان مُسَخرة؟!
يُفترض أن يعلم المؤمنون به، فيقولوا «أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ»، أما الجاهلون فيلجأون إلى المماحكة «مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً» .. الخ .
لقد أردت أن أعلم كيف يفهم مفسرونا هذه الآية، فرجعت إلى الطبرى وابن كثير، فرأيت روايات ساقطة وأقاويل تافهة، وكلاماً لا معنى له، فنحيّت المجلدين فى سخط .
الذى يسمع الآية بسمعه، وقلبه، وعقله، سيكتشف بعض إعجازها ثم يأتى التدبير فتتضح الصورة، فلا يكون فى حاجة إلى من يفسرها له لأن تفسيره لن يتضمن إلا أقاويل وروايات، فى حين أن تدبرها يجعله يحس إعجازها ويتلمس معانيها، وتكون النتيجة أن يعظم الله تعالى ويسبح بقدرته، ولا يحتقر صغيرًا ولا يستبعده، لأن الله تعالى يمكن، كما يقول المثل الشعبى، أن يضع «سره فى أضعف خلقه»، وتأمل كلمة «سره» فإنها لمست المحك.

الخميس، ٣ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ» كتب جمال البنا

الآيات التى تبين مهمة الرسول وصلاحياته ومدى سلطته عديدة فى القرآن، وتكاد تكون مكررة، وهذه الكثـرة وهذا التكرار مغـزاه أن الموضوع لـه أهمية خاصة، وأن هناك احتمالات للتجاوز، أو إساءة الفهم، فاقتضى الأمر من القرآن أن يبين، ويوضح، ويحدد، وألا يكتفى بذكر ذلك مرة أو مرتين، ولكن مرارًا وتكرارًا حتى لا يبقى ظلاً لشك أو وجودًا لشبهة، فالرسول رسول ومهمة الرسول هى التبليغ، وما قد يتطلبه هذا التبليغ من إيضاح حتى لا يخطئ أحد فى الفهم أو يسبق إلى فكرة معنى لا يريده القرآن، وهكذا فالقرآن يذكر لنا:
«مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ» (المائدة : ٩٩) .
«فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية : ٢١ـ٢٢) .
وآيات أخرى عديدة لا يتسع لها المقام .
ما سر هذا الإلحاح من القرآن على هذا المعنى وتكراره وتأكيده؟
السر أن الداعية، بحكم كونه داعية، يود لو أن الناس جميعًا آمنوا بدعوته، وبقدر إيمانهم بقدر ما يتملكه الرضا، فإذا انصرفوا عنه تملكه الحزن، وقد يدفعه حرصه على هداية الناس إلى وسائل وأساليب تمثل إغراءً أو ضغطاً، أو قد يقبل تنازلاً أو ترخصًا حتى يكسب أكبر عدد، وواضح بالطبع أنه لا يريد إلا الخير، وأى خير أفضل من هداية أكبر عدد ممكن من الناس!
القرآن الكريم يخترق أعماق النفوس، ويستبعد بكل قوة مثل هذه الأحاسيس، لأنها تخرج عن دوره، فدوره أنه رسول يبلغ، ويبشر، وينذر، ولكن لا يتعدى هذا أبدًا ولا يؤثر عليه سلوك الناس تجاهه، وإقبالهم عليه، أو انصرافهم عنه.
ولا جدال أن الداعية يكاد يكون مفطورًا على الرغبة فى تحقيق الهداية، ولكن القرآن يعلم أن تحقيق الهداية له شروط ومقتضيات، وتكتنفه عوامل وأوضاع .. إلخ، فضلاً عن أن الإنسان لا يخضع لمقتضيات العقل، قدر ما يستسلم لنوازع العواطف.. وعلاج هذا كله يخرج عن إطار تبليغ الرسالة ويقذف به فى غمرات الدنيا .
إذن كيف يكون الموقف إذا رفضوا دعوته؟
إن القرآن يؤكد للرسول «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَـــلاغُ»، «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ»، «وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى»، « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ»، «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِىءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» .
ليس للرسول سلطة على الناس، ليس جبارًا، ولا مسيطرًا، ولا حتى وكيلاً، إن هو إلا رسول .
ليس الرسول حاكمًا، ولا جابيًا، ولكنه هادٍ.
وفى هذا يكمن فخره وتتبلور رسالته ويظل دائمًا حاملاً رسالته .. داعيًا إليها .. لا يشرك بذلك شيئاً آخر يشغله ويورطه، والأمر بعدْ ليس أمره، إنه لا يملك الهداية حتى لأحب الناس إليه «إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» .
الرسول يدعو .. والله يهدى .. وهو أعلم بمن يهتدى ومن تتحكم فيه ظروفه فيأبى .
«وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا».

إلهامات قرآنية .. وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ بقلم جمال البنا

أشك فى أن المسلمين يقرأون القرآن، بل أقطع أن كبارهم على الأقل لا يقرأونه.. ولو كانوا يقرأونه لقرأوا بالطبع آيات عديدة قارعة تندد بالتنازع، وتدين التفرق، وتوضح للمسلمين أن التنازع والتفرق هو السبيل للفشل، ولأن تذهب ريحهم، فلا تحرك ساكناً.
إنها لمفارقة مذهلة أن نجد أن المسلمين الذين أكد كتابهم الوحدة والاتفاق والألفة والتعاون هم على وجه التحديد أشد سكان العالم اختلافاً وتنازعًا، رغم أن هذا التنازع قد جمد كل صور العمل والبناء التى كانت قائمة، وأوجد حربًا أهلية، لا غالب ولا مغلوب فيها ولكنها تستمر وتستعر وتأكل بعضها بعضًا، والجميع مغلوبون فيها.
خلافات وحروب فى الصومال البعيدة عن مجالات التوتر العلمى، التى كان يمكن أن تكون من أسعد الدول، فهى تشرف على مصايد أسماك غنية، ولديها أكبر عدد من أسراب الماشية، وأرضها خصبة ترويها السماء، وكل شىء فيها يجعل شعبها وديعًا.. سعيدًا.. متفقاً مع غيره.
واليمن التى لديها عشرات الأنواع من الأعناب، والتى نجد فيها الجبال والسهول، وتشرف على البحار، وبعيدة كل البعد عن مناطق التوتر العالمية، ما الذى دهاها حتى انشق جزء كبير من أهلها عن سلطتها، وجعل سلطتها تحاربها كما لو كانت عدوًا جاء يحاربها من الخارج .
والسودان الواسع الفسيح الذى يشقه النيل وتترامى على ضفتيه الأراضى الخصبة ويتسع لأضعاف سكانه، لماذا يحارب جنوبه شماله مع أن المصلحة واحدة؟ فالجنوب يختنق دون الشمال والشمال يفقد امتداده دون الجنوب، وكيف تصل دارفور إلى ما وصلت إليه بعد أن فشلت كل جهود الصلح ووساطة الوسطاء.
فى الصومال واليمن والسودان بعد أن أدت الحروب لهجرة الناس من البيوت وأماكن القتال، أصبحوا لاجئين يبيتون فى خيام وكانوا ينامون فى بيوت ويأكلون من معلبات المعونات، التى تصلهم بعد أن كانوا يأكلون من أرضهم ومن طبخهم، فى كل هذه الحالات تسمع صيحات هيئات الإغاثة تستغيث بالعالم لمزيد من المعونة بعد أن كادت مواردها تنفد مع أن هناك الملايين من الجوعى والمشردين ونشاهد صور السيدات الشقراوات يقدمن المعونات بيد يمتزج فيها الرثاء بالاحتقار لهؤلاء الناس، الذين لا يعرفون كيف يديرون أمورهم .
وأعجب نزاع، وأكثره أسى ومأساوية هو ما بين فتح وحماس، هذا النزاع الذى فشلت على صخوره وساطات مصر المتكررة للجمع بين الأخوين المتمردين، كلها تفشل إما للعناد والمصالح الذاتية، وإما لتدخل دول تكسب من هذا الصراع، ولو عقل الفريقان لعلما أنهما يضيعان فرصة ذهبية ويجنيان على شعب فلسطين، لأن العالم يضغط على إسرائيل لنقل المستوطنات وللدخول فى مفاوضات، وإسرائيل تتذرع بهذا الصراع لتتجنب المفاوضات ولتستمر فى غرس المستوطنات.
فكل هذا وهم يؤمنون بكتاب يقول:
(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)

الثلاثاء، ١ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية .. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ بقلم جمال البنا

أى رحمة من الله.. بأى قدرة وقوة.. وهب الله رسوله تلك الصفة التى يندر أن توجد فى الرؤساء.. والكبار.. والحكام وهى «اللين»، فاللين صفة تحمل طابعًا حميمًا، يعيش فى الإطار الطبيعى للأسرة ويتبدى ما بين أعضائها، والعهد فى الرؤساء والكبار أن يحيطوا أنفسهم بستار من الكبرياء والتعالى والأنفة، وطبيعة القيادة تتطلب تميزًا، ومفردات هذا التميز من وجود الحرس ومن علو المقعد، ومن الفخامة فى المبنى.. إلخ.
وما كان شىء من هذا يمكن أن يوجد، أو يقترب من مكان الرسول ومن مقعده، فكان يجلس على الأرض كبقية العرب وحوله أصحابه، كما يجلس الأب وسط أبنائه، يأتيه الأعراب الجفاة، بعضهم ينادى بصوت عال، فيبتسم ابتسامة تذوب أمامها غلظتهم، ويأتى أحدهم فيتبول فى المسجد فيقول «لا ترزموه»، وتأتيه الجارية فتأخذ بيده وتسير به فى طرق المدينة، فإذا زارته سيدة بسط لها رداءه ويقول إنها كانت تزورنا أيام خديجة.
وتوضح الآية أنه لو كان «فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ»، وانظر إلى الإعجاز فى صياغة «فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ» فإنها تعطى أقوى صورة للمعنى.
علاقات مفعمة بالمحبة، للمؤمنين والمؤمنات قائمة على اللين لعامة الناس، فسبحان الله الذى مكّن لرسوله هذا المنهج، والذى أدبه هذا الأدب الذى يعجز عنه أشهر فلاسفة التربية.
وتتوالى الحبات الثمينة للآية «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».
هنا فى هذه الكلمات المعدودة يرسم القرآن أساسًا لسياسة تعامل القائد مع جمهوره بالطريقة الدينية.. الإنسانية.. وليس بالطريقة الإدارية أو القيادية الجافة، بدءًا من اللين والعفو، ثم الاستغفار، ثم استشارتهم «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ».
إن تفصيل هذه التوجيهات يحتاج إلى كتاب لا يقتصر على أنه يعالج موقف القائد من الجمهور.. الحاكم من المحكومين، وكيف تـُـتجاذب ما بين العفو عنهم، والاستغفار لهم، ومشورتهم.. ثم تأتى «القفلة» المحكمة «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».
ما هى طبيعة لين الرسول وعفوه واستغفاره؟ ما هى حدود ومدى مشورتهم فى الأمر؟ ماذا تعنى بالضبط «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»، إن استيعاب هذا يتطلب كتابًا، ومع هذا فإن ما نخرج به من الآية من انطباع يظل أفضل من أى شرح آخر، لأنها تضم فيما تضم كحبات المسبحة «اللين»، والعفو والاستغفار جنبًا إلى جنب العزيمة التى هى الخاتمة، والتى تعتمد فى الوقت نفسه على «التوكل على الله».
كل هذا فى سطور معدودة، وهذا هو القرآن.