الثلاثاء، ١٥ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. حَرْث الدُّنْيَا كتب جمال البنا


من أهم القضايا التى يكون على الأديان أن تعالجها موقف الديـن من الحيـاة الدنيـا، فبعض الأديان يضيق بها ويتمنى لو خلص الإنسان منها بطريقة أو بأخرى، وبالطبع لن نجد فى الأديان من يحض على الدنيا ويأمر بالإقبال عليها والانتهال مما تقدمه، مما تحبه النفس الإنسانية من استمتاع ولذة، وقد وقف الإسلام موقفاً وسطاً، فصرح فى أكثر من آية:
· «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا» (١٨، ١٩، ٢٠ الإسراء).
· «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» الشورى: ٢٠).
يلفت النظر أن القرآن وجه الحديث إلى «مَنْ كَانَ يُرِيــدُ»، أى إلى الإرادة الإنسانية، وأنه لم يضق بالذين يريدون حرث الدنيا أو العاجلة، وأن عطاء الله ينالهم لأنه ليس محظورًا، وإن كان قد حرمهم من ثواب الآخرة.
وإذا عرفنا أن العبادة هى كل ما يرضى الله تعالى من الأفعال، بما فيها كل ما تحفل به الحياة الدنيا من أعمال يراد بها الخير، وخدمة الناس، وتيسير التكاليف، أو حتى الاستمتاع بما فى هذه الحياة من جمال وما تثيره من لذة فيمكن أن نتوصل إلى أن الفجوة ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.. حرث الدنيا وحرث الآخرة، ليست بالدرجة المتصورة، وأن هناك ما يمكن أن يملأها من العمل الصالح الذى يشترك فى أنه من عمل الدنيا وعمل الآخرة.
رغم هذا، فإن الفكر المؤصل فى النفوس، وما جرت به الأفهام من قديم أوجد فجوة كبيرة بين حرث الدنيا وحرث الآخرة فهو يضخم من العبادات، بمعنى الشعائر والطقوس من صلاة وصيام وقراءة قرآن وتلاوة أوراد، لا يقتصر على المفروض منها، وإنما هناك نوافل وتطوع تفوق المفروض أضعافاً بحيث لا تترك وقتاً للحياة الدنيا،
والمفروض إما أن تتجلى العبادة فى كل عمل دنيوى من زراعة أو تجارة أو استثمار أو صناعة، أو خدمات ومرافق أو ثقافة أو معرفة أو بحوث علمية تكشف عن أسرار الكون وتجعلنا نستخدم موارده، وأن يكون هناك مكان للفنون والآداب والاستمتاع بمشاهد الجمال، وما توحى به موسيقى عذبة أو صوت رخيم وتعد هذه كلها قربات وصور من العبادة، وإما أن نعتبرها هى حق الحياة الدنيا التى يكون على الدين أن يخلى لها الوقت الأعظم والمجال الأكبر، لأن الدنيا هى الدنيا، وما دمنا نعيش فيها فلابد أن نعطيها حقها.
أذكر أنى سمعت «نكتة» يلمز بها الغربيون المسلمين يقولون: إن المسلمين لا يفكرون إلا فى مستقبلهم بعد الموت! أما مستقبلهم فى الحياة الدنيا فلا يعنيهم، وعندما ذكرتها لبعض المثقفين لم يرفضوها، وقالوا إن الحياة الدنيا لعب ولهو، وأن الآخرة هى الباقية، وأنا أقول إن هذا ليس هو فهم القرآن ولا الرسول، ولكنه الفهم الذى أدى بالمسلمين إلى التدهور وأن يخسروا الدنيا والدين.

0 التعليقات:

إرسال تعليق