الاثنين، ٣١ أغسطس ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ كتب جمال البنا

فى مجال حرية الاعتقاد، أى شىء أفضل من هذا النص القاطع الصريح المطلق «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ».
مع وجود هذه الآية لا يتصور وجود نص يسمح بإكراه أو يضع قيودًا على حرية العقيدة، لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضًا.
ولا يمكن القول إنها «منسوخة».
فمثل هذا النص الصريح القاطع لا يمكن أن ينسخ.
ولو فرضنا جدلاً أنها منسوخة، فماذا تفعلون فى عشرات الآيات التى تؤكدها وتقرر حرية العقيدة مثل:
- «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: ٢٩).
- «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (يونس: ٩٩).
- «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» (يونس: ١٠٨).
- «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ» (الكافرون: ١ــ٦).
وقد ذكر الله تعالى الردة مرارًا فما رتب عليها عقوبة دنيوية، وإنما ترك أمرها لله تعالى يوم القيامة.
- «وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة: ١٢٧).
- «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ» (آل عمران: ٩٠).
- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً» (النساء: ١٣٧).
- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (المائدة: ٥٤).
بعد هذه الآيات البينات، هل يجرؤ أحد على أن يقول إن القرآن لا يقرر حرية العقيدة، وإنه يجبر الناس على الإيمان؟ هل هناك من يقول نأخذ بكلام عكرمة (وهو مولى ابن عباس): «من ترك دينه فاقتلوه»، ونرفض كلام جبريل عن الله رب العالمين؟
هذا لا يكون.
ولا جدال فى أن هذا حديث مكذوب، لأن الرسول لم يقتل أحدًا لمجرد الردة، وإنما قتـل مَنْ جمع مع ردته قتلاً أو حربًا على المسلمين، وقال هذا ابن تيمية نفسه.
وقد ارتد على عهد الرسول عدد من أصحابه، فما استتبع أحدهم بعقوبة.
فكيف يقول الرسول هذا الحديث الركيك؟
أليس الأولى أن نقول إنه من وضع الوضاع الصالحين كما أطلق عليهم الذين أرادوا الدفاع عن الدين بغير ما أنزل الله، فظنوا أنه يكمل الدين ويحميه؟
والله لا ينصر دينه أو يحميه إلا بما يقرره هو، وليس هم.

الأحد، ٣٠ أغسطس ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا كتب جمال البنا

فى القرآن الكريم آيات محكمات، وفيه أيضًا أُخر متشابهات، وقد عبر عن هذه الحقيقة، كما حددت الموقف الأمثل إزاءه الآية ٧ من سورة آل عمران «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ».
ما هى هذه الآيات المتشابهات ؟ لقد ظن البعض أن القرآن عندما عرض لوقائع الأديان، أو قص قصصًا مثل الكهف ويوسف لم يذكر أسماء، ولا أعداداً، ولا تاريخاً إلا فى القليل النادر، وقد يشير إلى العدد ولكنه لا يذكره صراحة أو يذكره صراحة ويورد عليه ارتفاقات، ظن بعض المفسرين أن هذه تدخل الآيات فى باب المتشابه فشمروا عن ساعد الجد ليبينوا كل ما أبهم فى القرآن.
ولكن الحقيقة غير ذلك.
نحن نعتقد أن كل الآيات التى جاءت عن ذات الله تعــالى وأشارت إلى أقواله، وكل الآيات عن الغيب من جنــة أو نار، ثواب وعقاب، هى من المتشابه، لأن اللغة تعجز عن تصوير طبيعة الله تعالى وذاته وكنهه، فاللغة لا تملك إلا عالم الشهادة، أى ما فى الوجود المادى لهذه الحياة الدنيا على الكرة الأرضية، أما عالم الغيب فإنها تعجز عنه، وبالذات طبيعة الله تعالى وإشاراته إلى «يَدِ اللَّهِ» أو «عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» أو «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا»، «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى».. إلخ.
فهذه الآيات تنسب إلى الله تعالى «استواءً وتكليمًا»، ولكن هذه الآيات من المتشابهات، لأنه لا يمكن أن نتعرف على شىء من ذات الله إلا بأن يُقدم بشىء يعرفه الناس، وعلى كل حال، فإن البلاغة العربية اقتضت استخدام المجاز عندما يراد تعميق المعنى وترسيخه، فيقولون عن رجل ما إنه بحر فى السخاء أو أنه أسد فى الشجاعة، وليس هو بحرًا أو أسدًا، ولكنه رجل من لحم ودم،
ولكن هذا المجاز يعطى معنى فى الكرم أو الشجاعة يجاوز بكثير مجرد كلمة شجاعة وكرم، وقد لجأ القرآن إلى المجاز فى كل ما يتعلق بذات الله تعالى، على أن هذا لا يعد تأويلاً أو تحايلاً، لأن القرآن الكريم نفسه استخدم تعبير «اليد» بالنسبة للقرآن وبالنسبة للعذاب وللرياح «وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ» (الأعراف: ٥٧)، وقد تكررت فى سورة النمل الآية ٦٣، «إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (سبأ: ٤٦)، «إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» (الأحقاف: ٣٠)، «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ» (سبأ: ٣١)، «قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» (الأحقاف: ٣٠)، ففى كل هذه الآيات لا يمكن أن تشبه اليد التى جاءت فيها «يد» باليد فى الإنسان.
وتشير آية آل عمران إلى أن الآيات المتشابهات هى ما يستهدفه الذين فى قلوبهم زيغ فيعمدون إليها ابتغاء تأويلها، وهم فى الحقيقة يريدون الفتنة، وهذا ما ينطبق على التشدد الوهابى، لأنهم يقولون بأن لله تعالى «يدين تليقان بكماله ولا تشبهان أيدى البشـر»، فادعوا أن لـه يدين وهذا هو التجسيم بعينه حتى لو كانتا لا تشبهان أيدى البشر، أما المعتزلة وغيرهم من المتفلسفين والمستشرقين فإنهم أرادوا تنزيه الله عن أن يكون له جارحة يتكلم بها، وذهبوا إلى أنه لا يتكلم ولا يسمع.. الخ، فنفوا عنه القدرة، ونسى الفريقان أنه لا يعلم تأويله إلا الله.
قال القرآن «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ»، ولو قدر لنا أن نسمع القرآن من شفتى الرسول لأدركنا أنه وقف عند «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ»، لتبدأ جملة جديدة «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»، ولكن العرب عندما كتبوا الآيات فى المصحف لم يكونوا يلمون بأدوات التنقيط والتشكيل والنقطة والشولة.. إلخ، ولذلك فإن بعض الناس يجمعون ما بين الله والراسخون فى العلم، وهذا فيما نرى خطأ، فالله وحده هو الذى يعلم الغيب.

السبت، ٢٩ أغسطس ٢٠٠٩

حمل كتاب تفسير القران بين القدامى والمحدثين للاستاذ جمال البنا نسخه ( pdf )

 

حمل كتاب ملخص نحوف فقه جديد نسخه ( pdf )

 

حمل كتاب نحو فقه جديد للاستاذ جمال البنا نسخه ( pdf )

 

أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ بقلم جمال البنا

إذا ذُكر رمضان، تبادر إلى أذهان الناس أنه شهر «الصيام» لأنه فيما تصوروا أن هذا هو أبرز ما فى هذا الشهر، وما يميزه عن غيره من الشهور، فالناس ابتداء من فجره، يمتنعون عن الطعام والشراب والمخالطة الجنسية، ويفطرون عند الغروب فيما يشبه «الزفـة»، ويتلو ذلك ما ابتدعوه من مسلسلات وأفلام، تجهد الإذاعة والتليفزيون نفسها قبل الشهر «الفضيل» بستة أشهر تقريبًا فى الإعداد له وتحشد كل إمكانياتها.
كلا.. أيها السادة.. إن رمضان هو شهر «القرآن»، لقد قالها القرآن نفسه:
«شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» (البقرة: ١٨٥).
ونفهم من سياق الآية أننا إنما نصوم رمضان لأن فيه نزل القرآن، وهذا هو سبب تميزه عن الشهور قاطبة سواء فى الإسلام أو غير الإسلام، فالصيام موجود فى كل الأديان، وله أشهره وأوقاته، ولكن رمضان وحده هو الذى أنزل فيه القرآن،
ومن ثم أراد الله منا صيامه، فكأن الصيام احتفال وتقدير للقرآن، وأن شهر رمضان هو شهر القرآن خاصة، كل شىء فيه كان يجب أن يكون للقرآن، وما نسلكه اليوم من حشد المسلسلات والأفلام والأغانى التى تملأ اليوم كله نهاره وليله ولا تدع لغيره وقتاً أو مجالاً هو النقيض الذى أراده الله من أن تقضى هذا السهر فى تدبر القرآن.
والقرآن هو الأساس الأصيل للإسلام، وإذا كان للرسول من دور كبير وهام فهو أنه حمله وبلغه للناس، وإذا كان له حق على الناس فذلك لأن القرآن قد نص على ذلك وحدده، فالأمر كله إلى القرآن، ومن يلتمس الهداية فى غيره أضله الله، وأول من يقرر ذلك هو الرسول نفسه، فقد قال: «الحلال ما أحله الله فى كتابه، والحرام ما حرمه الله فى كتابه»،
وقال: «لا يأخذن على أحد بشىء فإنى لا أحلل إلا ما أحله القرآن ولا أحرم إلا ما حرم القرآن»، واعتبر أن الخوض فى الأحاديث فتنة، وأن المخرج منها هو «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفيصل ليس بالهزل من تركه من جبار فخصمه الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله».
وقد «عشنا» و «شفنا» أناسًا يتهمون بأنهم «قرآنيون».. فهل يعقل هذا ؟ هل يتهم أحد بأنه «قرآنى»، وهذا هو فخر كل مسلم، فإذا كانوا يريدون أن يقولوا إن هؤلاء ينكرون «السُـنة» فإن التعبير الذى اصطنعوه لا يقدم اتهامًا، بل يقلدهم فخارًا، وكان يجب أن يقولوا منكرى السُـنة، على أن هؤلاء لا ينكرون السُـنة التى لابد أن تكون بحكم تكوينها اللغوى عملية، وإنما هم ينكرون الأحاديث، أما السُـنة العملية التى نقلنا عنها أداء الصلاة وإيتاء الزكاة ومناسك الحج فهم لا ينكرونها، فالوصف الصحيح لمن يقولون عنهم منكرى السُـنة هو أنهم منكروا الأحاديث.
ومعظم الناس يتصورون أنهم لا يفهمون القرآن إلا إذا رجعوا إلى التفاسير المعتمدة كالطبرى وابن كثير والقرطبى حتى سيد قطب، فحذار.. ثم حذار لا تشرك بالقرآن أحدًا، ولا تبتغى بينك وبينه ترجماناً، فقد قال الله «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ»، فإذا أردت القرآن هداية ونورًا وشفاء قلب، وسكينة نفس، فسيعطيك القرآن كل هذا، أما إذا أردت «المعلومة» فستأتيك التفاسير بألوف منها، وهى تمثل اجتهادات وفهم المفسرين، ولكنها ليست بالضرورة هى القرآن،
ولكنها تضل وتشتت وتميع بدلاً من أن تهدى وتلهم، إن عليك أن تقرأ القرآن فما فهمته ورضيته فخذ به، وما جهلته فدعه إلى خالقه، فإنك لست مأمورًا بأن تعرف كل كلمة جاءت فى القرآن، وقد تحير عمر بن الخطاب حيناً فى لفظة «وَأَبّاً»، فقال هذه الفاكهة عرفناها، فما هى الــ «الأَبّاً» ثم عادت إليه سكينته وقال «هذا والله هو التكلف»، وما يضيره أن يجهل «الأَبّاً»، وما يقدمه أو يؤخره التعرف عليها أو الجهل بها.

إلهامات قرأنية .. وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبـِقُوا الْخَيْرَاتِ بقلم جمال البنا

الآية ١٤٨ من سورة البقرة التى تقول «وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ» ترسى عددًا من المبادئ والأسس، فعندما يقول «وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا» فإنها تقرر حرية الاختيار وحرية الإرادة واعتراف القرآن بذلك، وأن هذا من حق كل فرد، فلا يقولن أحد ما هى مؤهلاته حتى يتخذ وجهة ويوليها؟ القرآن لا يسأل عن المؤهلات،
فهذه أساليب «برجوازية» تقليدية يعود أصلها إلى أن كل واحد له وضع ومستوى يجب ألا يتعداه، وأن عليه أن يسأل «أهل الذكر» ويقلد الأئمة الأعلام، وهذا ما ترفضه الآية، فهى دعوة صريحة مطلقة للاجتهاد،
فلا يقال إن غير المؤهل سيقع فى أغلاط، فليكن.. فإنه سيتعلم من أغلاطه، وإقدامه على التجربة وثقته فى نفسه فى حد ذاتها تستحق «الحسنة» حتى لو لم يصادفه التوفيق.
لا تصل أى كلمة إلى ما تصل إليه «لكل» فى الاعتراف بالفرد ومنحه حريته وإرادته وفتحه الباب على مصراعيه للانطلاق.
وينبنى على هذا وجود التعـددية وأنها لا تتنافى مع فكرة «الوحدة» الإسلامية، لأن التعددية إنما تكشف عن بعد من أبعاد الوحدة الإسلامية لا يمكن أن يعرف إلا بالتعددية، وقضية مثل الوحدة الإسلامية لابد وأن تكون لها أبعاد عديدة متفاوتة، بل إن القرآن ليس فحسب يتقبل ذلك، بل إنه يأمر به، بل ويعطيه طابع «الاستباق».
وهذا الاستحسان والأمر به يعود إلى أن القرآن يكره الغافلين الذين لا تحركهم آيات الله فى الآفاق، وفى أنفسهم مثارات العجب والدهشة والإعجاب والتفكير الذى يدفع للعمل وللانطلاق.
هناك إذن اعتراف بحرية المنطلق للأفراد، بل هناك حث عليها، ومهما كانت اختلافاتكم فإن مصيركم إلى الله الذى يأتى بكم جميعًا.
إن هذه الآيــة يجب أن يضعها كل واحد على صدره أو يضعها نـُصب عينيه، لأنها تمثل الانطلاق، والحرية، والمبادرات الفردية، وأن يتم هذا كله فى صورة سباق، وما فى السباق من بذل أقصى الجهد للفوز بالأولوية.
وعندما يتحقق هذا فإن الأمة لابد أن تتقدم وأن كل واحد يبذل غاية جهده، وهذا هو أكبر فلاق بين أمم متقدمة، وأخرى متخلفة تعيش فى سبات عميق، وإذا تحركت لم تعمل، وإذا عملت لم تـُحسن أو تبذل الجهد.

الجمعة، ٢٨ أغسطس ٢٠٠٩

جمال البنا يكتب: تحقيق حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»

رأى كثيرون أن هذا الحديث يتناقض مع المبادئ التى أرساها القرآن الكريم عن حرية الفكر والاعتقاد، وأن الرسول لم يؤمر بالقتال ولكن بالتبليغ، وأنه ليس إلا مبشرًا ونذيرًا، داعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، وأنه ليس مسيطرًا، ولا جبارًا.
■ «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِىءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» (يونس: ٤١).
■ «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (النحل: ٨٢).
■ «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية: ٢١ـ٢٢).
ولكن الحديث مذكور فى الصحيحين (البخارى ومسلم)، ومن ثم انصب كفاح الذين أرادوا الرد على أنه يخالف ما جاء فى القرآن الكريم عن حرية الاعتقاد على تأويل الحديث، أنه ليس موجهًا إلى كل الناس، ولكن إلى مشركى الجزيرة العربية، ولا يتوجه إلى أهل الكتاب (اليهود والمسيحيين)، ويستشهدون على ذلك باستخدام القرآن الكريم لتعبير الناس فى مواقع كثيرة على أنهم مشركى الجزيرة.
على أن هذا لو صح، فإنه لا يمنع أن يكون مخالفاً لحرية الاعتقاد، لأن الشرك اعتقاد بطريقة ما، ولأن المشركين أنفسهم قالوا عن أصنامهم «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» (الزمر: ٣).
ولم يتطرق الشيوخ إلى نقد السند لأنه كما قلنا فى الصحيحين، ومادام الحديث فى الصحيحين، فلا كلام.
ولكن باحثاً شابًا مجهولاً، وما أكثر المجهولين المبدعين الذين لا يعرفهم الناس لأنهم لا يشغلون وظيفة، أو منصبًا مسؤولاً.. إلخ، عُنى بتحقيق السند، ولم يثنه أنه فى الصحيحين.
هذا الباحث الدؤوب، المتمكن، والمجهول رغم ذلك هو الأستاذ متولى إبراهيم الذى عُنى بتحقيق السند عن طريق استخدام الحاسوب.
فتبين له من جهة السند بطلانه حسب القواعد المعتمدة عند جمهور المتقدمين من علماء الحديث.
ولندع الأستاذ متولى إبراهيم يتحدث بنفسه.
خلاصة بحث عن حديث
(أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)
من خلال موسوعة خاصة على حاسوب به نحو ٢٦٥٠٠٠ طريق فضلا عن المستقى من أمهات مطبوعة تم استخلاص بحث، ومن هذا البحث، ومن قواعدِ تحقق من صحة الأسانيد مبيَّنةٍ فى مقدمته تم استخلاص ٢٣٤ طريقا لهذا الحديث:
■ منها ٤٠ تـدور كلها على الزهرى، و٢٤ على الأعمش، و٢٠ على حميد الطويل، و١٦ على شعيب بن أبى حمزة، و١٢ على سفيان الثورى، و٦ على الحسن البصرى، و٤ على شريك النخعى.
وكل من هؤلاء مدلس، ولم يصرح هنا بسماعه، فالمدارات كلها مظلمة، فباطلة، فلا اعتبار بها.
هذا فضلاً عن عورات أخرى بالأسانيد.
■ ومنها ٢٣ تدور كلها على سماك بن حــرب عمن فوقه عمن فوقه و٨ على كثير بن عبيـد، و٤ على ســفيان بن عامر الترمذى، و٣ على زياد بن قيس و١ على حاتم بن يوسف الجلاب عن عبد المؤمن بن خالد، و١ على عبد الرحمن بن عبيد الله، و١ على عجلان مولى فاطمة، و١ على أبى عبيدة مسلم بن أبى كريمة و٢ مرسلتان.
وسـماك ضعيف وسائر هؤلاء مجهـولون، فالمدارات كلها مظلمـة، فباطلة، فلا اعتبار بها، هذا فضلا عن عورات أخرى بالأسانيد.
■ ومنها ٧ تـدور على العلاء بن عبد الرحمن، و٢ على سليمان بن أبـى داوود و١ على عمرَ بن أبى بكر الموصلى عن زكريا بن عيسى، و١ على يحيى بن أيوب الغافقى، و١ على سليمان بن أحمد الواسطى، و١ على أبى عبد الرحمن الوكيعى عن إبراهيم بن عيينة.
وكل من هؤلاء ليس بمحل للحجة مطلقاً، لا مفردًا ولا مقروناً بغيره، فالمدارات كلها مظلمة، فباطلة فلا اعتبار بها، هذا فضلاً عن عورات أخرى بالأسانيد.
■ ومنها ٨ تدور على يونس بن يزيد الأيلى، و٥ على ابن المذهب عن القطيعـى و٥ على عبد الحميد بن بهــرام عن شهر بن حوشـب، و٣ على سهيل بن أبى صالح، و٣ على عبد العزيز الدراورى عن محمد بن عمرو بن علقمة، و١ على أبى بكر بن عياش عن عاصم بن بهدلة، و١ على مصعب بن ثابت.
■ وكل من هؤلاء ضعيف، هذا فضلاً عن عورات أخرى بالأسانيد تحيل اعتبار بعضها ببعض.
■ ومنها ٣ على يحيى بن بكيـر عن الليث بن سعد ويحيى ضعيف والليث مدلس ولم يصرح بالسماع.
■ ومنها ١١ على قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد والليث مدلس ولم يصرح بالسمـاع، وهنا شذوذ لعله مما أدخله خالد المدائنى على الليث.
■ ومنها ١٠ على شعبة عن واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر، وهنا شذوذ وجهالة متنًا وإسنادًا.
■ ومنها ٢ على أحمد بن عمرو البزار عمن فوقه عن القاسم بن مالك عن أبى مالك الأشجعى سـعد بن طارق بن أشـيم عن أبيه. والبزار ضعيف يخطئ فى المتـن والإسناد، والقاسم ضعيف وفى سعد ريبة، وفى دعوى صحبة أبيه ريبة أيضًا، فالإسناد مظلم، فباطل، فلا اعتبار به.
■ ومنها ١ على نعيم بن حماد عمن فوقه عن أبى مالك الأشجعى سعد بن طارق عن أبيه ونعيم ليس بثقة، وفى سعد ريبة، وفى دعوى صحبة أبيه ريبة أيضًا، فالإسناد مظلم، فباطل، فلا اعتبار به.
■ ومنها ١ على أحمد بن يوسف السلمى عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق مدلس ولم يصرح بسماعه وقد اختلط بآخره، ولا يدرى أسمع السلمى منه قبل اختلاطه أم بعده ؟ فالإسناد مظلم، فباطل، فلا اعتبار به.
■ ومنها ١ على إسحاقَ بن إبراهيمََ الدبرى، عن عبد الرزاق، وعبد الرزاق مدلس ولم يصرح بسماعه، وقد اختلط بآخره، ومات وعمْر الدبرى ستٌّ أو سبعُ سنوات فاستصغر فيه، فالإسناد مظلم فباطل فلا اعتبار به.
■ هذا فضلاً عن عورات أخـرى بالأسانيد تحيل اعتبار بعضها ببعض وتقوية بعضها بعضًا.
هذا ولا اعتبار بين المجرحين فى عدالتهم، ولا بين الضعفاء فى حفظهم ضعفاً شديدًا، كما أنه لا اعتبار فى جهالة، لأن الجهالة مظنة جرح، ولا فى تدليس لأن التدليس مظنة جهالة، إنما يكون الاعتبار بين الضعفاء حين لا يكون ضعفهم شديدًا.
أما مدخل دراسة الباحث لهذا الحديث ومنطلقاته الأصولية ومنهجه فى التحقق من صحة الأخبار ومنهجه فى فهم القرآن، فهو مما يستحق النظر ويدعو إلى الإعجاب، ولكنه آثر ألا يعلن عن كل ما لديه ــ ولديه الكثير ــ بعد أن مر بتجربة مريرة من جراء محاولة إعلانها فى وقت سابق، ونرجو أن تتهيأ له ظروف تشجعه على إنجاز ما يريد والإعلان عن نتائج بحوثه ودراساته فى وقت قريب إن شاء الله.
إن الكاتب يتمنى أن تتوفر له موسوعتان هما:
(١) موســـوعة رواة تميز من وثقهم معاصروهم توثيقا حقيقيًا بالشهادة، عمن وثقهم غير معاصريهم توثيقا مجازيا بالسبر.
(٢) وموسوعة آثار بشواهد المتون ومتابعات الأسانيد، وبترتيب يسهل كشف الطرق والسماعات والشواهد والمتابعات.
إن كل موسوعة آثار صنفت لا تروى غلة ولا تشفى علة، لا تحفة أشراف المزى ولا إتحاف مهرة ابن حجر، ولا جامع مسانيد ابن كثير، ولا جامع أصول ابن الأثير، ولا كنز عمال الهندى ولا أصله، ولا غيرها، فهى إما متابعات فقط وبلا شواهد، أو شواهد فقط وبلا متابعات، والمتقن منها ضيق، والواسع منها غير جامع ولا متقن.

تجريد البخـارى ومسـلم من الأحاديث التى لا تـُـلزِم بقلم جمال البنا

كانت تنقيــة التراث أملاً عزيزاً عبر عنه الكثيرون، وكتب الدكتـور عبد المنعم النمر وزير الأوقاف الأسبق، فى مجله العربى (العدد ٣ـ١ أكتوبر ١٩٦٩) مقالاً طويلاً عنه استشهدنا به فى كتابنا «الأصلان العظيمان: الكتاب والسُـنة» سنة ١٩٨٢، ولكن لم يقم أحد بهذه المهمة، وفى كتابنا «السُـنة»، وهو الجزء الثانى من كتاب «نحو فقه جديد»، دعونا إلى تنقية كتب التفسير والسُـنة على أساس وضع ضوابط من القرآن الكريم، حددناها بالفعل.
وفى الفترة الراهنة قدم محام هو الأستاذ محمود رياض دعوى ضد كل من الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر ــ والدكتور محمود حمدى زقزوق ــ وزير الأوقاف ــ يطالب فيها بالطعن على القرار السلبى بامتناع الأزهر عن تنقية كتب الصحاح الستة ومن بينها صحيح مسلم والبخارى من الأحاديث الدخيلة غير الصحيحة والإسرائيليات والتى تسيء إلى السُـنة النبوية الشريفة.
وجاء فى جريدة الدستور (٢٧/٤/٢٠٠٨) تحت عنوان : «محامى الأزهر يتهم من يطالبون بتنقية كتب الأحاديث بأنهم [ أعداء السُـنة]، ورئيس المحكمة المستشار أحمد الحسينى يرد عليه: [أعداء السُـنة هم الذين يمتنعون عن البحث عن الحقيقة]، وشدد الحسينى على الأزهر أن يدرس كتب الأحاديث النبوية دراسة دقيقة ويستبعد الأحاديث غير المسندة لراوٍ موثوق فيه، مضيفاً أن الأزهر قد أنشئ من أجل ذلك،
وشدد الحسينى على ــ محامى الأزهر ــ بضرورة إحضار ما يوضح الجهود المبذولة من قبل الأزهر فى مجال تنقية كتب الصحاح الستة من الأحاديث الدخيلة، إلا أن محامى الأزهر لم يتقدم بأى دفاع أو مستندات، الأمر الذى جعل المحكمة تؤجل الحكم فى الدعوى ٣ مرات متتالية، وتغريم الأزهر ١٠٠ جنيه للامتناع عن الرد وحجز الدعوى للحكم فى جلسة ٢٩ الجارى القادم دون انتظار لرد الأزهر، حيث اعتبرت المحكمة أن عدم تقديم الأزهر لأى مستندات فى موضوع الدعوى هو بمثابة تسليم منه بتقصيره فى مجال تنقية كتب الأحاديث النبوية».
وعندما أجرت جريدة «اليوم السابع» استفتاء حول هذا الموضوع قال أحدهم: «لا تقربوا لصحيحى البخارى ومسلم».
إننا عندما وضعنا اثنى عشر معيارًا قرآنيًا يمكن ضبط السُـنة بها اعتقدنا أننا سهلنا السبيل أمام كل من يريد القيام بعملية تنقية السُـنة على أساس قرآنى لا يمكن الطعن فيه، بعد أن لاحظنا أن الذين انتقدوا البخارى إنما كان ذلك لأنه اعتمد على عدد محدود من الرواة فيهم كلام، وأن الأحاديث التى انتقدت هى بضعة أحاديث.
وهذا بالطبع يعود إلى أنهم لم يسلكوا مسلكاً منهجيًا بأن يضعوا معيارًا من القرآن يعرض عليه كل ما جاء فى البخارى من أحاديث ويستبعد منها ما يخالف هذا المعيار.
إن العجز أو الخوف أو هما معا حالا دون ذلك، وتعين علينا بأن نقوم به.
وقد استخدمنا تعبير «لا يلزم» حتى نخلص من معمعة الجرح والتعديل فى الرواة، ولأننا نؤمن أن السند ليس هو أفضل المعايير لسلامة الحديث، كما يمكن أن يفهم من «لا يلزم» أنه لا يُعد تشريعًا، ومعروف أن المحدثين أنفسهم اعتبروا أن هناك منطقة من الحديث لا تعد تشريعًا، فلعلنا بعد كل هذا الجهد لم نأت بجديد تمامًا، فقد كان هناك سابقة لعدم اعتبار كل الأحاديث تشريعًا ملزمًا.
والكتاب يبدأ بإهداء: «إليك يا سيدى يا رسول الله»، كنوع من الاعتذار عما جناه الأسلاف عندما تقبلوا أحاديث تمس مقام الرسول وتنال من ذات الله، وتسىء إلى العقيدة، والقرآن، والمجتمع.
يتلو هذا الإهداء كلمة بعنوان «قبل أن تبدأ القراءة.. لكى لا يُساء الفهم»، أكدنا فيها أننا لا نتعرض للسُـنة، لأن السُـنة هى المنهج والدأب والطريقة، أى أنها عملية، وليست قولية، بل إن الكتاب لا يتعرض أيضًا للأحاديث لو ثبتت نسبتها إلى الرسول بدليل أنه أبقى على أى حديث ينبض بعبق النبوة ويتفق مع القرآن، ولكن هذا لم يكن شأن الألوف من الأحاديث التى ظهرت لاعتبارات دينية وسياسية واجتماعية عديدة.
يتلو هذا التنبيه مقدمات أربع، الأولى عن «إجماع علماء السُـنة على عدم صحة كل ما فى البخاري»، والثانية عن أن «رواية الحديث فى عهد الرسول والخلفاء الراشدين كانت تحريم التدوين والإقلال من الرواية»، والمقدمة الثالثة عن «تجربة حديثة لباحث إسلامى متخصص فى مجال علوم الحديث تؤكد قصور قواعد المحدثين فى التحقيق من صحة الأخبار»،
وجاء فى نهاية بحثه تحقيق حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إله الله» باستخدام موسوعة خاصة على حاسوب به ٢٦٥٠٠٠ طريقة، ثم استخلاص ٢٣٤ طريقاً لهذا الحديث لا يسلم واحد منها من أن يكون فيه كلام، والمقدمة الرابعة عن «زواج النبى من عائشة وهى بنت تسع سنين.. كذبة كبيرة فى كتب الحديث»، وهذه المقدمات الأربع استغرقت ثمانين صفحة وكانت ضرورية، فما كان ممكناً أن ينتقل القارئ من عالم البخارى المقدس كأصدق كتاب بعد كتاب الله إلى تجريده من مئات الأحاديث إلا بعد تهيئته بهذا المقدمات الأربع.
يبدأ الكتاب بعرض المعايير القرآنية التى يُعد الاختلاف معها مبررًا لعدم الأخذ بحديث، وقدمنا كل معيار بكلمة موجزة عنه.
وأول المعايير هو «الغيب» وبينا فى المقدمة أن الغيب مما يدخل الإيمان به فى الأديان، ولكن القرآن وحده هو الذى يتكلم عن الغيب، لأن الله تعالى وحده هو الذى يعلم الغيب، وقد أكد الرسول مرارًا أنه لا يعلم الغيب، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ظهرت ألوف الأحاديث تتحدث بتفصيل عما سيحدث للإنسان بمجرد أن يموت ويدخل عالم الغيب، بدءًا من عذاب القبر حتى ما فى الجنة من نعيم وما فى النار من جحيم.
وفسرنا سر الاهتمام بالغيب حتى يكون هو الذى بُدئ به بأن تكثيف الحديث عن الغيب الذى لم يرد فى القرآن ومواصلته تكوَّن مع الزمن عقلية غيبية تؤمن بالخرافة بعد أن مهد لها ذكر هذه الغيبيات الطريق، وعندما يحدث هذا فإن معناه أن يفقد المسلمون عقولهم، فلا ينتفعوا بشىء فى عصر يقوم على العقل، يزيد فى خطورة الأمر أن هذا الموضوع (الغيب) استأثر بأغلبية الأحاديث فى موضوع واحد فبلغت ٢٢٧ حديثاً وهو أكبر رقم ناله موضوع واحد مما يعنى تركيزاً لابد أن يعمق أثره على العقل.
وعرض الكتاب ٣٧ حديثاً عن الإسرائيليات أقل ما يقال فيها أنها لا تلزم، كما عرض ستة أحاديث تمس ذات الله تعالى وما يجب له من منزلة.
ولما كنا نرى أن الأحاديث لا يمكن لها تفسـير القرآن أو تحديد أسباب نزول أو ادعاء النسخ لأن القرآن قطعى الثبوت ولا يمكن لأحاديث ـ حتى لو كانت صحيحة ـ أن تدعى أن هذه الآية منسوخة، أو أن سبب نزولها هو كيت وكيت، فهذا مرفوض شكلاً وموضوعًا، شكلاً لأن الحديث أقل فى درجة ثبوته من القرآن، وموضوعًا لأن درجة منزلته أقل من القرآن، ولهذا فلا يمكن للأحاديث أن تعالج تفسير القرآن ناهيك أن يدعى نسخ العشرات من آيات السماح بآية يسمونها آية السيف، وبلغت الأحاديث التى تحفظ عليها الكتاب ٢٤ فى تفسير القرآن، و ١١ تدعى النسخ، و١٨ تقدم أحكامًا مخالفة لأحكام القرآن ( أى المجموع بالنسبة للقرآن هو ٥٣ حديثاً).
كما رأى الكتاب أن مما يدخل فى إطار ما لا يلزم من الأحاديث ١٨ حديثاً قدسيًا، لأنه لا يؤمن إلا بوحى قرآنى، أما السُـنة فما جاء فيها بوحى فبوحى أقل شأناً من الوحى القرآنى والمفروض أن يفرق بينهما.
وتحفظ الكتاب على الأحاديث الواردة عن كرامات للرسول، وقد قال القرآن «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (العنكبوت: ٥١)، كما رفض الرسول فى سورة الإسراء كل مطالب المشركين من أن يكون له «وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا.. الخ» (الإسراء: ٩١،٩٠).
فلا داعى للتطفل والافتئات على القرآن، وعلينا أن نقف حيث يقفنا القرآن.
وهناك ٢٦ حديثًا تخل بعصمة الرسول اعتبرناها مما لا يلزم، و٤ أحاديث تتناقض مع الآيات العديدة عن حرية الاعتقاد بما فيها حديث «من بدل دينه فاقتلوه» الذى استبعده مسلم وأورده البخارى، و٤٦ حديثاً تسرف فى الترغيب والترهيب، مما يؤدى إلى خلل فى التقدير، كما أن هناك ٣٩ حديثاً تفرض دونية على المرأة.
وأخيرًا فهناك ٨٩ حديثاً فى متن كل منها مشكلة، لا يتسع المجال بالطبع للإشارة إلى كل منها، ولكن نمثل لها بحديث يدّعى استسقاء عمر بن الخطاب بالعباس باعتباره عم الرسول، ومثل هذا أمر لا يقبل فما كان عمر يقر استسقاء إلا من الرسول، فضلاً عن أن العباس لم يُعرف عنه سابقة فى الإيمان، ناهيك أنه كان تاجرًا ومرابيًا، فإذا كان عم الرسول، فإن أبا لهب عم الرسول أيضًا.
وتبلغ الأحاديث التى رأى الكتاب أنها «لا تلزم» ٦٣٥ حديثاً، وثلث هذه الأحاديث مكرر، وقد يصل تكرار الحديث الواحد خمس أو سبع أو ثمانى مرات، ولو احتسبنا التكرار فيها لبلغت ألفاً.
إن هذا الكتاب هو أول خطوة منظمة وممنهجة لضبط السُـنة بضوابط القرآن، وهو الذى يمكننا من التخلص من الأحاديث الموضوعة التى كانت من أكبر أسباب تخلف المسلمين، وبالطبع فإن هذا لا يُعد مساسًا بالسُـنة الحقيقية ـ لأنه لا يمكن أن يكون فى السُـنة حديث يخالف القرآن، وإذا وجد فيجب استبعاده بلا تردد، والتصرف غير ذلك يعنى الإيمان بشرع يخالف القرآن.
وأعتقد أننا وقد «اقتحمنا العقبة» فإننا فتحنا السبيل لمراجعة كتب السُـنة الأخرى، وكل حديث تحفظنا عليه فى البخارى سيستتبع التحفظ على عشرة أحاديث فى المراجع الأخرى التى هى دون الصحيحين، وهذه فيما نرى خطوة منهجية حاسمة للتخلص مما كان يقف فى طريق النهضة بالإسلام فى العصر الحديث.

إسرائيليات في البخاري بقلم جمال البنا

قيل لي إن المقال الذي نشر بهذه الصحيفة تحت عنوان «أحاديث تناقض القرآن.. إذن تستبعد»، أثار انتقادات عديدة وتعليقات لاذعة، وكان يجب علي الذين انتقدوني أن يشكروني، لأني أطهر السُنة مما دس عليها وما يجعلها تناقض القرآن، في حين أنها إنما جاءت لتأكيد القرآن.
أما آن لهؤلاء أن يعلموا أن الدفاع الحقيقي عن السُنة إنما يكون بتطهيرها مما أقحم فيها، سواء للكيد في الإسلام، أو اللغو في القرآن، الذي أراده أعداء الإسلام فلم يستطيعوا، لأنه محفوظ في الصدور، فعمدوا إلي السُنة وابتدعوا أحاديث تسيء إلي القرآن وتزعم وجود آيات أو سور ناقصة وتبدع أسباباً لنزول الآيات تهوي بالقرآن من سماوات سموه إلي درك أغراضهم الدنيئة.
واليوم، نتناول كتاباً يقولون عنه «أصدق كتاب بعد كتاب الله»، ووصل من الشهرة أن يحلف الناس به، وهو «صحيح» البخاري، والإمام البخاري له العديد من المزايا والفضل العميم علي السُنة، ولكنه ليس نبياً معصوماً، ولا ملكاً مقرباً، ولكنه بشر، ولا يعيبه في شيء أن يخطئ، فهذه هي طبيعة البشر، فكل بني آدم خطاءون.
الأحاديث التي سنعرضها تتسم بالإسرائيليات، وهي أكثر صور الوضع وضوحاً حتي تكاد تقول «خذوني»، ومع هذا فقد صدقها أجيال المسلمين ودافع عنها جل الفقهاء، وقد اخترتها بالذات لأنه لما كشف عوارها بعض الناقدين تصدي عدد كبير من الفقهاء للدفاع عنها، فقد قرأت في العدد ١٤٣٨ - ٢٠ القعدة (١٣/٢/١٩٥٢) من مجلة المجتمع التي تصدر في الكويت دفاعاً عن حديثين، الأول:
* حديث رواه ابن حبان عن أبي هريرة أن النبي «صلي الله عليه وسلم» قال: «جاء ملك الموت إلي موسي ليقبض روحه، قال له: أجب ربك، فلطم موسي عين ملك الموت ففقأ عينه، فرجع إلي ربه فقال: أرسلتني إلي عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له يضع يده علي متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، قال: فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر» (رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة).
ودافعت المجلة دفاعاً مستميتاً وأكدت أن عند الأئمة الجهابذة الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الحديث الحل، وروت ما قاله ابن حبان من محاولات ركيكة لرفع خسيسته، ظانة أننا يمكن أن نؤخذ به.
وفي العدد نفسه (ص ٥٩) دافعت المجلة عن حديث لا يقل نكراً عن الحديث الأول يقول «لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثي زوجها!!»، ويخنز بفتح الياء والنون مصدر خنز، والخنوز هو إذا تغير وأنتن، وحاولت المجلة أيضاً أن تدافع عنه.
بعد هذا قرأت في الأهرام (٢٥/٨/٢٠٠١) (ص ٣) تحقيقاً مسهباً للأستاذ عزت السعدني تحت عنوان «وكان الإنسان ظلوماً جهولاً» جاء فيه:
* في صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله «صلي الله عليه وسلم» بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلي الليل».
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «صلي الله عليه وسلم»: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «صلي الله عليه وسلم»: «خلق الله عز وجل آدم علي صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له اذهب فسلم علي أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، واستمع ما يجبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه رحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة علي صورة آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتي الآن».
وهناك حديثان حظيا بدفاع كاتب إسلامي كبير هو الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله، عميد كلية الشريعة بدمشق، والرئيس البارز للإخوان المسلمين الذي اصطلي بنار طاغية سوريا، حافظ الأسد، فما ضعف ولا استكان.
هذا الزعيم الإسلامي قدم في كتابه الممتاز عن السُنة دفاعاً حاراً عن حديثين نقدهما الشيخ أبورية في كتابه المشهور «أضواء علي السُنة المحمدية» وهما:
* «أخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم» أن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة».
والحديث الآخر ما رواه البخاري ومسلم:
* «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تعالي للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتي يضع الله رجله، فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلي بعض».
وقال الشيخ السباعي في دفاعه إن الكون هو من الاتساع بحيث تعجز معاييرنا عن الإلمام به، فليس من المستحيل أن توجد به مثل هذه الشجرة، وأشار إلي أن هناك فرقاً بين ما يستغرب وما يستحيل، وأن العقل لا يرفض الأول ولكن يرفض الثاني. ومن الناحية النظرية فقد لا يكون عليه غبار، أما من الناحية العملية فإنه عندما يتكرر ورود ما يستغرب كما هي الحال في مئات الأحاديث التي تتكلم عن الجنة والنار، فإن ما يستغرب لا يعد مستغرباً، وهذا ما يوجد خللاً في المقاييس وما يؤثر علي موضوعية الحكم العقلي، لأن الاستثناء والشاذ يصبح هو القاعدة والعادة، ولا يعود هناك فرق بين ما يستغرب وما هو مستحيل.
وبالنسبة للحديث الثاني أشار إلي الآيات الخاصة بيد الله وعينه وحديثه إلي الملائكة وإلي السماوات والأرض مما جاء في القرآن، وأن هذه المحاجة بين النار والجنة من هذا القبيل، ولكن شتان ما بين تعبيرات القرآن الملهمة المجازية وهذا التعبير العامي الفج، وكان الشيخ رحمه الله في غني عن هذا الدفاع لو رأي هذه الأحاديث موضوعة أو مما لاتلزم، ولكن كيف وقد جاءت في البخاري ومسلم؟
إن «إسرائيلية» هذه الأحاديث هي مما لا تخفي، وبعدها عن الإسلام واضح وضوح الشمس، ثم هي لا تقدم حكماً مفيداً ولا تعرض قيمة معنوية ثمينة، وإنما تقحم المسلم في عالم الغيب الذي استأثر الله تعالي بعلمه. ثم إن تصديق ما جاءت به يفتات علي عقولنا ويسيء إليها حتي يمكن فيما بعد أن تتقبل الخرافة، وأن ينطلي عليها الباطل لأن الملكة الناقدة في العقل قد وهنت، أو أن أصحابها آثروا ألا يستخدموها، وفي جميع الحالات يتعطل العقل.
لا جدال أن هذه الأحاديث إنما جاءت من كعب الأحبار، وهو اليهودي الذي أسلم في عهد أبي بكر، أو عمر، وكان شديد الدهاء بحيث جعل مجتمع الصحابة الفقهي يتقبله ويوثقه وجعل المحدثين يدافعون عنه رغم أن عمر بن الخطاب اكتشفه بنظره الثاقب، وضربه بالدرة، ونهاه عن الحديث، وتوعده إن لم يفعل ليلحقنه بأرض القردة، وقال «دعنا من يهوديتك».
ولكن المجال انفسح له بعد مقتل عمر حتي دافع المحدثون عن مؤتفكاته بمثل ما يصوره كلام الشيخ محمد محمد أبوزهو في كتابه «الحديث والمحدثون» (ص ١٨٧) إذ قال:
«كما لا ينبغي أن يتخذ من رواية هذه الإسرائيليات وسيلة للطعن في رواتها من أمثال كعب ووهب ممن أثني عليهم الصحابة وزكاهم أهل البصر بالتعديل والتجريح، وذلك لأنهم حكوها عن الكتب غير مصدقين لها علي الإطلاق، بل كانت عقيدتهم فيها كعقيدة الصحابة، ما جاء وفق شرعنا صدقوه، وما خالفه كذبوه، وما لم يوافقه أو يخالف شرعنا ردوا فيه العلم إلي الله عز وجل، وما مثلهم فيما ينقلون ويحكون إلا مثل رجل أمين أراد أن يطلعك علي كتاب مؤلف بغير لسانك فترجمه إلي لغة تفهمها لتعرف ما فيه، إن صدقاً أو كذباً، والصدق أو الكذب حينئذ يضاف إلي الكتاب لا إلي الناقل، وليس أمثال ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وابن عمرو بالقاصرين عن تمييز الخبيث من الطيب حتي يقال إن نقلها إليهم يشوش علي أفكارهم وعقائدهم».
فهل هناك تهافت أكثر من هذا؟
وهل نحن في حاجة لأن نعلم ما في كتبهم؟
وهل نقبل إيراد كل شيء.. إلخ؟
لقد خفي علي معظم الفقهاء والمحدثين العلاقة الوثيقة التي استطاع كعب الأحبار أن يقيمها مع أبي هريرة بفضل استشفافه رغبة أبي هريرة في المزيد من الأحاديث التي يضعها في جعبته ويسرد منها بصورة كانت تثير السيدة عائشة وتضايقها لأنها تخالف ما ألفه الرسول في الحديث من أناة، وتكرار، ووضوح، بل إنه استطاع أيضاً أن يخدع العبادلة الثلاثة عبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود.
وقال الأستاذ عبدالجواد ياسين في كتابه «السلطة في الإسلام»، عن أبي هريرة إنه كان «تلميذاً» لكعب الأحبار، وإن أبا هريرة روي عنه الكثير لأن رواية «الأصاغر عن الأكابر جائزة»، كما قال المحدثون، وذكر ما قاله بشر بن سعيد: «اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم»، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعضاً ممن كان معنا يجعل حديث رسول الله «صلي الله عليه وسلم» عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم».
وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم»، وما قاله رسول الله «صلي الله عليه وسلم» عن كعب.
إن الأحاديث الخمسة أو الستة التي أوردناها ليست إلا أمثلة عارضة، ونحن لا نعدم الكثير منها في البخاري عندما نعمد إلي التقصي والتحري، وقد كنا فكرنا في إصدار كتاب بعنوان «تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم»، فإذا كانت الفرص قد لا تسمح بذلك، فإننا في كتابنا عن السُنة (الجزء الثاني) من كتاب «نحو فقه جديد» وضعنا المعايير لذلك بحيث يسهل علي من بعدنا القيام بذلك.

إلي الذين يدَّعون أنهم أهل الذكر: أهل الذكر هم اليهود! بقلم جمال البنا

«إلي الشيخ الذي أخذ يصول ويجول ويبدئ ويعيد ويستعرض عضلاته أمام المذيعة الحسناء في (دريم)».
صدَّع الأزهريون آذاننا بتكرار دعوتهم أنهم أهل الذكر، فلا يفتأون في كل ندوة، وفي كل مناسبة يقولون إنهم أهل الذكر، وعلي الناس أن يتوجهوا إليهم بالسؤال، لأنهم الذين يعلمون الجواب،
وأنه لا يجوز لأحد آخر غيرهم أن يتحدث عن الإسلام، ويضربون المثل بأنه ما من محام يتدخل في الطب، وما من طبيب يتدخل في الهندسة.. إلخ،
 كأن الإسلام حرفة ومهنة، وهم أصحابها، فلا يجوز لأحد أن يفتات عليهم أو يشاركهم «السبوبة».
أقول إنكم أيها السادة أوشكتم أن تلحقوا بالذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو بـ «الذين يفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيحِبُّونَ أَنْ يحْمَدُوا بِمَا لَمْ يفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (آل عمران: ١٨٨).
الجملة التي تتبجحون بها «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» هي جزء من آية انتزع من سياقها حتي لا تعرف دلالتها فيفوت ما أرادوه.
والآية كاملة هي «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (الأنبياء: ٧)، وهي آية من سورة تتحدث عن الأنبياء وتحمل اسم الأنبياء.
تذكر الآية أن كفار قريش أنكروا أن يكون سيدنا محمد رسولاً، لأنهم تصوروا أن الله لا يرسل رسوله رجلاً من الرجال ومن عامة البشر، وهو أمر أشار إليه القرآن أكثر من مرة:
* «ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَينَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَي اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِي حَمِيدٌ» (التغابن: ٦).
* «وَمَا مَنَـــعَ النَّاسَ أَنْ يؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَي إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً» (الإسراء : ٩٤ـ٩٥).
رفض الكفار فكرة أن الله تعالي يرسل سيدنا محمد، وهو بشر منهم فجاءت الآية تؤكد أن الله تعالي لم يرسل إلا رجالاً، ثم وجهت القول لهم «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (الأنبياء: ٧).
من هم أهل الذكر الذي طلب الله من قريش أن يسألونهم.
ليس إلا اليهـود ـ أهل الكتاب ـ الذين اصطفي الله رجالاً منهم جعلهم أنبياء مثل إسحق، ويعقوب، وموسي، وعيسي، فهؤلاء أنبياؤهم، وهم رجال، فلا عجب إذا أرسل ألله رجلاً هو سيدنا محمد، ليبشر بدين الإسلام.
أهل الذكر هنا هم اليهود والموضوع يتعلق بإثبات نبوة الرسول، فهل فات هذا علي علمائنا الأجلاء وفقهائنا الأذكياء.
ليس لكم أن تتحججوا بهذه الآية، التي لا تدل أبدًا علي ما توهمون الناس به.
وإنما طلب القرآن أن يسألوا اليهود علي وجه التحديد، لأنهم أهل الكتاب الذين كان رسلهم رجالاً، وليس هناك غيرهم كان يمكن أن يسأل، لأن المسيحية تعطي للمسيح صفة إلهية.
إن من غير المعقول أن يكون المقصود بأهل الذكر علماء وفقهاء الإسلام، لأن القصة كلها تدور حول إنكار نبوة الرسول، نفسه.
ولا ينطبق علي هذه الآية ما يقال إن «العبرة بعموم النص وليس بخصوص السبب»، لأن النص نفسه مخصوص، فلا يمكن أن يعمم وإذا عمم فعلي أنبياء، وليس علي شيوخ الأزهر.
صحيح أن القرآن قد استخدم كلمة الذكر بمعني القرآن، ولكن في آية سورة الأنبياء لا يمكن أن يكون المراد بها القرآن، لأن الكفار يرفضون نبوة النبي، فكيف يسألون أهل القرآن.
نرجوكم ألا تغالطوا أو توهموا الناس عندما تقولون نحن «أَهْلَ الذِّكْرِ» الذين أشار إليهم القرآن، لأن هذا استغلال للقرآن وتحويله عما يعنيه.
***
في حالات أخري يستشهد الشيوخ بالآية «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِينفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِينذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِمْ لَعَلَّهُمْ يحْذَرُونَ» (التوبة : ١٢٢).
ولكن هل «نفرتم؟» إن نـَفـَرَ يعني تطوع، أي نذر نفسه وإذا تسامحنا فيمكن أن تخصص كل فرقة طائفة منهم لكي يتدارسوا في الدين.
فهل نفرتم بوحي الإيمان والتطوع؟ أو هل اختارتكم أي فرقة من فرق المسلمين لتتفقهوا في الدين؟
لو حدث هذا لكان من الممكن أن تقولوا نحن من هذه «الطائفة».
ولكن الحقيقة أن الدولة عينتكم في مناصب ودفعت لكم رواتب سخية، وجعلتكم الذين تتحدثون عن الإسلام، وأسبغت علي الأزهر لقب الشريف وعلي شيخه «شيخ الإسلام»، كما عينت وزارة العدل «المفتي»، وهذه كلها مناصب حكومية، فضلاً عن أنها من محدثات الأمور التي لم تعرف علي عهد الرسول، أو صحابته.
***
في أواخر عهد المماليك (مراد، وإبراهيم، والبرديسي) وفي مواجهة سياساتهم الغاشمة، وفرضهم ضرائب عشوائية، اختار الشعب شيوخ الأزهر قادة له، فعندما كانت تحدث مظلمة لهم كانوا يستغيثون بهم، فيأمرون بإغلاق الأبواب، والمسير معهم إلي هؤلاء البكوات الذين عندما يرون الشعب وراء شيوخه لا يملكون إلا الخضوع، وترفع الضرائب وتكتب وثيقة عند القاضي.
ووصلوا من القوة درجة خلعوا فيها والي السلطان (خورشيد) واختاروا محمد علي وألبسوه خلعة الولاية بعد أن تعهد أن يحكم بالعدل وإلا أقالوه وحاربوا الوالي وجيشه حتي هزموه.
كان الأزهر يفتح أبوابه للجميع، وكان هو الملاذ للعميان والمعوقين، ولم يكن يأخذ مصروفات، بل كان يدفع «جراية»، وكان الشيوخ يقومون بدراساتهم بطرق حرة تفضل أحدث الوسائل التعليمية وكانوا يتقاضون من أوقاف الأزهر قروشاً.
ولكنهم كانوا ملء العين.. وملء القلب.
وما كانوا في حاجة لأن يقولوا «نحن أهل الذكر»، لأنهم كانوا قادة الشعب وحماته.
فأين هم من هؤلاء، موظفون لدي الدولة، ما كانوا ليقولوا كلمة واحدة عن الإسلام لولا الوظيفة، والماهية، ولأنهم موظفون عند الدولة فلا يملكون نقدها أو تقويمها، أو أن يصدعوا عند كلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أعظم المنكرات التي يتولاها عهد يقوم علي الاستبداد، ويحمي الفساد، ويتحكم فيه حفنة من رجال الأعمال والمحتكرين.
* هل فعلوا مع باشوات العصر ما فعله أسلافهم مع باكوات المماليك؟
* هل يمكن أن يجابهوا المحتكرين الذين جعلوا حياة الشعب كربًا وعذابًا؟
<هل ىمكن أن ىنددوا بالتعذىب الذى ىنتهك الكرامات فى أقسام البولىس؟>* هل يمكن أن ينقدوا الانتخابات المزورة والحريات المهدرة وقوانين الإرهاب.
هل لهم أن يقولوا للحكومة أنتم تشغلون مليون فرد في الأمن المركزي، ولو حكمتم بالعدل لما كنتم في حاجة إلي واحد منهم، ولاستطاع الرئيس حسني مبارك أن ينام في المسجد آمناً مطمئناً كما كان عمر بن الخطاب ينام مطمئناً، وكانت مصر بأسرها جزءًا من إمبراطوريته.
* أين أنتم من الجياع العراة في هذا البرد القارص في مصر وفي غزة؟
* أين أنتم من المرضي الذين لا يجدون مستشفي يعالجهم؟
* أين أنتم من جيش العاطلين نتيجة لسياسة الاستثمار وتكثيف رأس المال.. وطرد العمال؟
لقد قال الرسول: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، فكيف تكونون أهل الذكر ثم تهملون أمر المسلمين؟ وهل تظنون أن رسالتكم هي قضايا النكاح والحيض والنفاس وإصدار الفتاوي التي تثير التقزز، وتنفر الناس من الإسلام.
***
عندما بدأت دعوة الإحياء الإسلامي مع بداية القرن الواحد والعشرين لم أتعرض للأزهر وإن كنت قد نقدت منهج التقليد وفهم السلف.
ولكن الأزهر لم يتصور أن يظهر كاتب من غير زمرته، ويكتب عن الإسلام كأنهم قد ملكوا رحمة الله، وكان قوام صيحتهم أنه «غير مختص»، مع أن غير المختص هذا كتب عن الإسلام من سنة ١٩٤٦، أي عندما كانوا أطفالاً رضع (إذا كانوا قد ولدوا).
يا ليت الأزهر يعلم كيف استقبل السيد رشيد رضا صاحب المنار كتابًا أصدره محمد فريد وجدي في عشرينات عمره، فقال عنه «هذا الشاب الذي فاقت حكمته حكمة الشيوخ»، ووضع كتابه بعد «رسالة التوحيد» للشيخ محمد عبده التي كان يمنحها الأولوية المطلقة في الكتابات الإسلامية.
فعل السيد رشيد رضا هذا لأنه ليس موظفاً، ولا يعتمد علي راتب حكومة، ولكن كان مؤمناً بفكر إسلامي جديد، وكان يحمل رسالة تجديد الشيخ محمد عبده، فلم يجد الحرص والأنانية مكاناً، ولم يقل كيف يمكن لشاب في العشرين من عمره أن يكتب ويؤلف عن الإسلام، بل رأي فيه مكسبًا للدعوة الإسلامية.
إن القرآن لم يمدح أبدًا الحريصين، الذاتيين، الأنانيين، ولكن امتدح الذين يؤثرون علي أنفسهم ولوكان بهم خصاصة.
فمتي يتعلم شيوخ الأزهر؟
***
ليس بيني وبين الأزهر خصومة علي مركز أو وظيفة، كل ما بيننا اختلاف في المناهج يجعل تلاقينا صعباً، فهم يؤمنون بإسلام الفقهاء، ويرون أنه ما من أحد يمكن أن يصل إلي نصف أو ربع ما وصل إليه مالك، وهم يأخذون بفقه الأسلاف كما يأخذون تصنيف الحديث بما وضعه أحمد بن حنبل، وما من واحــد يشك في أمانته وإخلاصه وورعه، ولكن ما من واحد يمكن أن يدعي أنه فوق البشر، وأنه معصوم، وأنه لا يمكن أن يخطئ،
وبالمثل فإنهم يقبلون، بل ويطبقون أحكام المفسرين من ابن عباس حتي الطبري والقرطبي وابن كثير، ويتقبلون ما يسمونه «علوم القرآن» من ناسخ ومنسوخ، ومن أسباب نزول، هذا هو منهجهم.
أما منهجنا نحن الذين نؤمن بدعوة الإحياء، فإنه ينحي كل هذا التراث الضخم الكبير الذي وضع من ألف عام وكان عندما كتب سابقاً ورائدًا، أما الآن فهو عقبة في سبيل التقدم.
إن التراث أشبه بعرق ذهب في جبل أشم لابد لكي تصل إليه أن تخترق الجبل وأن تبذل أموالاً وجهودًا وأوقاتاً.
ولكن لماذا نبذل كل هذا الجهد، لماذا نعتمد علي الأسلاف؟ لماذا لا نعمل عقولنا حتي لو كان ما تركه الأسلاف ممتازاً ورائعًا؟ فهذا لا يعدل إهمالنا لعقلنا، لأن هذا معناه أن يصدأ هذا العقل، وعندئذ لا ننتفع بحياتنا.
ونحن نؤمن أننا مثل السلف، ومن الناحية العلمية فنحن أقدر منهم بمراحل علي فهم المضامين واستخراج الأحكام، لأن عندنا علمهم، وعندنا ما يفضل علمهم مرارًا وتكرارًا.
فنحن ندعو للعودة إلي القرآن رأسًا، وإطراح كل التفاسير، وضبط السُـنة بمعايير من القرآن وإعلاء جوهر الإسلام وروحه علي شكلياته وقوالبه واستلهام الحكمة التي أنزلها الله تعالي وقرنها بالكتاب، وقد كتبنا في كل ناحية كتابًا أو أكثر نتحدي شيوخ الأزهر أن يكتبوا مثله.
ومثل هذا المنهج يحول دون أي تلاق بمنهج السلف والتقليد ويجعل اللغة التي نتكلم بها تختلف عن اللغة التي يتكلمون بها، ومن ثم فلا تفاهم ولا فائدة من أي حوار.

رسالة إلي أهل الذكر بقلم جمال البنا

اضطرنا الدكتور عبدالمعطي بيومي عندما كتب كلمة - رسالة - إلي قبيلة المثقفين «المصري اليوم» ٣٠/١١/٢٠٠٦ لأن نعيد الحديث في موضوع كنا نريد أن نخلص منه إلي ما هو أهم، لأنه عرضه باعتباره «نصاً» قرآنيا، فلم يعد أمامنا خيار.
وأنا أعذر الدكتور بيومي وأفهم موقفه هذا لأمرين:
الأول: لأنه كما قال دخل الأزهر منذ سنة ٥٠، ومعني هذا أنه لم يشاهد القاهرة في الأربعينيات، عندما كانت معظم النساء يسرن في الشوارع مكشوفات الشعر، وكانت مصر أكثر إسلاماً، وكان الإخوان المسلمين في الأوج، ولم يروا مما يحكم به الدين أن يقاوموا ذلك أو علي الأقل أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن الحركة الوحيدة التي حدثت في مصر وقتئذ كانت تلك التي قادها الشيخ محمود أبوالعيون احتجاجاً علي لباس البحر «المايوه» في المصايف المختلطة، ولو قدر له أن يشاهد هذا لخفف من غلوائه، ولعرف أن الأمر الذي يتحدث عنه ليس كما صوره، وأن شيوخه لم يستنكروه.
والأمر الثاني: الذي أعذره بشأنه أنه دخل الأزهر من ٥٠ سنة، أي أنه دخله صبياً في المعاهد الأزهرية فتلقي ما قاله له شيوخه من تفسير ابن عباس، وما ذهب إليه المحدثون من أن السنة هي ما جاء عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، وأخذ هذا كما يأخذ التلميذ من أستاذه، ودارت الأيام فأصبح هو يعلمه لتلاميذه الذين يأخذون عنه.. وهكذا تأتي أجيال لم يقدر لها أن تنظر فيما قدم إليها من عهد التلمذة حتي أصبحوا أساتذة يعلمونه، وتم هذا كله دون تفكير أو تدبر وإنما هو تلقين عن تلقين.
نحن يا سيدي - أعني من قلت عنهم «الهواة» - نظرنا كباراً فيما أخذتموه أنتم مآخذ التسليم كتلاميذ، ثم كان عليكم أن تعلموه، لأن هذا هو «المقرر والمنهج»، نحن درسنا كل كتب السنة، ولكن في سن ناضجة، وبثقافة منفتحة وبعقل نعطيه الحق المطلق في معرفة الخطأ من الصواب لأن هذا مجاله، ومهمته التي خلقه الله لها، أما الدين فإن مجاله أن يوضح لنا الخير من الشر، وأن يسير مع العقل فيما انتهي إليه من معرفة الخطأ والصواب، وهو منهج يخالف منهجكم الذي استكثر علي العقل «التحسين والتقبيح».
رأينا المحدثين يقررون أموراً نرفضها، يقولون الصحابة جميعاً عدول، والصحابة لديهم هم كل من رأي الرسول ولو للحظة واحدة، بل يدخلون فيهم الجن المسلم وأطفال المسلمين، وكان منهم ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبوسعيد الخدري، وهم أكابر الحديث.
ونحن نرفض هذا لأن الصحابي حقا الذي يعد عدلاً بحكم هذه الصحبة هو أمثال أبي بكر وعمر وعلي وأبي عبيدة، وليس الذين قال فيهم الله: «وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين» «الجمعة ١١»، وقد كان هؤلاء ممن يقولون عنهم الصحابة.
ورأينا المحدثين يتحدثون عن «الإقرار» وهو ما شهده الرسول من أحد فلم ينكره، علي أساس أنه لو كان حراماً لنهي عنه الرسول ولما سكت عليه، وتنازل الدكتور عبدالمعطي وقدم إلينا قطعة من الفقه المضنون به علي غير أهله، فقال: «ومما أقره القرآن وزاد عليه الخمار «غطاء الرأس»، فأمر سبحانه وتعالي بأن يشمل غطاء الرأس فتحة الصدر أيضاً بحيث تضرب المرأة غطاء رأسها علي فتحة صدرها فتغطيه بخمارها، والذين عرفوا قواعد المنهج في التشريع الإسلامي يعرفون أنه إذا أقر الله أو رسوله أمراً صار واجباً لأنه بإقراره دل علي وجوبه. وكذلك سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ما أقره الرسول صلي الله عليه وسلم بقول أو فعل أو تقرير، فما بالنا إذا كان النص القرآني أقر بغطاء الرأس «الخمار» وأمر بلام التأكيد، بألا يكتفي بغطاء الرأس فقط بل ليشمل الخمار، ولا يسمي خماراً إلا إذا غطي الرأس، تغطية الجيب الذي هو فتحة العنق والصدر.
فالهواة الذين يهوون الخوض في الدراسات الإسلامية ولا يعلمون منهج التشريع الإسلامي في أن الإقرار - حتي بالصمت - يجعله أمراً تشريعياً فإذا سكت الرسول عن أمر حدث أمامه صار سكوته تشريعاً».
أجل قال هذا المحدثون وبعض المفسرين، ولكن هل علينا أن نأخذ ما قاله هؤلاء مأخذ التسليم؟ وإذا كان الله تعالي قد أمرنا أن نتدبر القرآن، أفلا يكون علينا أن نتدبر ما قاله المحدثون والفقهاء، وإذا كان القرآن يقول: «والذين إذا ذكّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا» «الفرقان ٧٣»، فهل نخر ونسلم «بالعشرة» للفقهاء والمحدثين؟
ولا يجوز للمحدثين أن يغيروا من معاني الكلام ليعدوا الإقرار مثل الأمر الصريح، وهذا لا يجوز، فكيف يكون السكوت مثل الأمر الصريح في مجال التشريع، كما لا يجوز الحكم علي الحق بأقوال الرجال - كائنا من كانوا - فإنما يكون الحكم علي الرجال بالحق.
ومن ناحية ثانية، نجد الرسول يقول «الحلال ما أحله القرآن والحرام ما حرمه القرآن وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته»، ويقول «لا يأخذ علي أحد بشيء فإني لا أحرم إلا ما حرم القرآن ولا أحل إلا ما أحل القرآن» فكيف يعتبر المفسرون أن سكوته يعد إقراراً وحكماً؟
إن ما يمليه العقل وما يأخذ به الشرع أيضاً هو أنه لا تحريم أو تحليل إلا بنص صريح من القرآن لا يقبل تأويلاً، لأنه إن قبل التأويل جاء الاحتمال، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، فهكذا يكون الحرص في هذا المجال المهم، مجال التحريم والتحليل، أما أن يسكت الرسول عن أمر فيصبح مشروعاً وواجباً، فهذا ما يخالف طبائع الأشياء، وقصاري ما يقبل هو أن يصبح الأمر لهذا الشخص بالذات دون غيره.
وجد القرآن المرأة الجاهلية تضع خماراً فأمرها أن تحجب بهذا الخمار فتحة الصدر، الأمر هنا هو تغطية الصدر، وليس الإبقاء علي الخمار، وفتحة الصدر يمكن أن تغطي أصلاً دون خمار، ولا يمكن أن تعد إشارة القرآن إلي الخمار هنا إقراراً، ولا أن يعد الإقرار تشريعاً، وكيف يعقل أن يأمر القرآن المرأة المسلمة في كل العصور، ومن كل الجنسيات أن تضع علي رأسها بالتعيين خماراً؟ ولماذا لا تضع طاقية مثلاً أو قبعة؟
الخلاف هنا هو خلاف في تحقيق طبيعة الإقرار والفرق بينها وبين الوجوب الشرعي الذي يسري علي الجميع.
والقواعد السليمة للتشريع تفترض التثبت، وتشترط شروطاً دقيقة لما يفرض، وهذا هو ما يأخذ به القرآن، لأنه يري أن التحريم أمر صعب ولا يجوز التوسع فيه، وقد حصره في النص الصريح من القرآن، وإذا كان ثمة اجتهاد فيفترض ألا يميل لإعنات الناس، لما أشرنا إليه ولأن التيسير أفضل من التعسير.

القرآنيون (٢ - ٢) بقلم جمال البنا

في العدد الماضي نشرنا صفحة عن عالم جديد للقرآنيين كشف عنه أحدهم عبر أحد المواقع الإلكترونية، ومع أنه صرح بالكثير فإن ما كتمه أكثر بكثير مما صرح به، وهو ما يوضح أن إسلام هؤلاء القرآنيين يختلف تماماً عن الإسلام المعروف لدينا ولا نعلم الأساس الذي بنوا عليه مزاعمهم، وقد قلنا إن مفهوم هؤلاء شيء آخر بعيد تماماً عن مفهوم القرآنيين في مصر.
واليوم نعرض صفحة جديدة للقرآنيين، ولكنها هذه المرة من مسلم سوداني لا يتكتم اسمه، بل ينشره وينشر موقعه الإلكتروني، وجاء تحت عنوان «من يغلق كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالمدينة المنورة وغيرها وله من الله أجر عظيم»، وتحت هذا العنوان كتب:
اطلعت علي كتيب من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بعنوان «منزلة السُنة في التشريع الإسلامي» لمؤلفه عميد كلية الحديث محمد أمان علي، راجعه وصححه أحمد فهمي أحمد وكيل جماعة أنصار السُنة المحمدية بالقاهرة».
ولقد جاء فيه:
١- يدعو القرآن الناس إلي الإيمان بالسُنة والعمل بها وأنها والقرآن هما الأساس لهذا الدين.
٢- كل من يدعي الإيمان بالله ورسوله ويتجرأ وينكر سُنته فلا عمل له.
٣- أن السُنة هي من الوحي الإلهي.
٤- قال صلواتنا وسلامنا عليه «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه»، ولا يكاد القرآن يفهم دونها.
٥- ذكر الله الحكمة في عديد من آيات القرآن والحكمة هي السُنة النبوية غير الكتاب.
٦- أن رسول الله سن سُنة ليس فيها شيء من الكتاب.
٧- قال صلواتنا وسلامنا عليه «لا ألفين أحدكم متكئاً علي أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، يقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثلما حرم الله».
٨- أن السُنة النبوية تتمتع عند المسلمين بما يتمتع به القرآن قديماً وحديثاً.
٩- أن للسُنة دوراً مهما لا يستهان به وهي البيان للقرآن، تقيد المطلق وتخصص العام وتبين الناسخ والمنسوخ.
١٠- أن القرآن لم يفصل العبادات ولا أحكام المعاملات إنما فصلتها السُنة.
١١- أن السُنة صنو القرآن وهي الحكمة المذكورة في القرآن وأنها من الله.. والدين الإسلامي لا يؤخذ من القرآن وحده، بل من القرآن والسُنة معاً.
ونكتفي بهذه الادعاءات الباطلة والزائفة التي تحارب كتاب الله ورسوله بافترائها فنقول رداً علي هذه المفتريات التي لا تقود معتقدها إلا إلي النار يوم الحساب:
أولاً: السُنة المزعومة هذه والمفتراة علي رسولنا الكريم زوراً وبهتاناً ليست هي مصدر من مصادر التشريع الإسلامي وأن التشريع الإسلامي له مصدر واحد لا شريك له في التشريع وهو الله سبحانه وتعالي ورسوله هو المبلغ لما شرع، ومن زعم أن لرسول الله صلواتنا وسلامنا عليه حق التشريع فقد أشرك به وكذب عليه، فالوحي الإلهي والتشريع الإلهي له مصدر واحد هو هذا القرآن الذي لم يفرط فيه منزله من شيء أراد أن يأمر به عباده أو ينهاهم عنه، وقد أنزله تعالي مفصلاً ونوراً هادياً، قال تعالي «وَلقدْ جئنَاهُمْ بكِتَاب فصَّلْنَاهُ عَلي عِلمٍ هُدًي وَرَحْمَةً لِقوْمٍ يؤْمِنُونَ» (الأعراف: ٥٢)، وقال تعالي «كِتَابٌ فُصِّلتْ آياتهُ قُرْآناً عَرَبياً لِقوْمٍ يعْلمُونَ (*) بَشيراً وَنَذِيراً فأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يسْمَعُونَ» (فصلت : ٣-٤).
ويأبي علماء المذاهب التي سموها بالإسلامية إلا أن يأتوا بما يحارب هذا القرآن ويجعلوه مثناة كمثناة أهل الكتاب محاربة للكتاب ليفرقوا به وحدة الأمة ويبعدوها عن كتاب ربها وقد أفلحوا في ذلك، فقسموا الأمة إلي طرق وطوائف ومذاهب وملل ونحل مخالفين قول الله تعالي مخاطباً عباده المؤمنين «يا أيهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأنتُمْ مُسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا واذكُرُوا نَعْمة اللهِ عَليكُمْ إذ كُنْتُمْ أعْدَاءً فألفَ بَينَ قُلوبكُمْ فأصْبَحْتُمْ بنِعْمَتِهِ إخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلِي شَفَا حُفْرةٍ مِنْ النَّارِ فأنْقذكُم مِنْهَا كَذلِكَ يبَينُ اللهُ لكم آياتِهِ لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (آل عمران ١٠٢-١٠٣).
ثانياً: زعم أن كل من يتجرأ وينكر سُنة رسول الله فلا عمل له يقبل:
ونقول إن سُنة رسول الله هي القرآن وليست الأكاذيب والمفتريات التي نسبوها له صلواتنا وسلامنا عليه، وهو منها براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ومن ينكر كتاب ربه فلا عمل له يقبل منه يوم الحساب لأن الله تعالي لا يأتي يوم الحساب بهذه الكتب التي نسبوها إلي رسوله، بل يأتي بكتاب واحد وهو القرآن الذي نبذوه وراء ظهورهم مثل من سبقوهم.
ثالثاً: زعم أن السُنة هي من الوحي الإلهي:
ولقد كذب علي الله ورسوله إذ إن الوحي الإلهي ما هو إلا قرآن فقط، قال تعالي «قُلْ أي شَيءٍ أكْبَرُ شَهَادَةً قُل اللَّهُ شَهيدٌ بَينِي وَبَينَكُمْ وَأوُحِي إلي هَذا القُرْآنُ لأنذِرَكم بهِ وَمَنْ بَلغَ أئِنَّكُمْ لتَشْهَدُونَ أنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَة أُخْري قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلهٌ وَاحِدٌ وَإنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * الذِينَ آتَينَاهُمْ الكِتَابَ يعْرِفُونَهُ كَمَا يعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ الذِينَ خَسِرُوا أنفُسَهُمْ فهُمْ لا يؤْمِنُونَ * وَمَنْ أظْلمَ مِمَّنْ افتَرَي عَلي اللَّهِ كَذِباً. أوْ كَذّبَ بآياتِهِ إنَّهُ لا يفْلِحُ الظَّالِمُونَ» (الأنعام: ١٩ - ٢٠-٢١).
رابعاً: زعم فضيلته أن رسول الله صلواتنا وسلامنا عليه قال «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ولا يكاد القرآن يفهم دون السُنة:
وتلك فرية علي الله ورسوله وعلي عباده فالقرآن يفهم بلغته التي كانوا يعلمونها ورسول الله لم يؤت من الله بغير القرآن الذي نزل كاملاً بلسانه، قال تعالي «فإنَّمَا يسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بهِ المُتَقِينَ وَتُنذِرَ بهِ قوْماً لُدّاً» (مريم: ٩٧)، ولا يستطيع رسول الله ولا أحد من الخلق أن يأتي أو يؤتي بمثل القرآن لأنه ليس له مثل لأنه من الخالق إلي الخلق وليس من الخلق إلي الخالق والتحدي به قائم إلي قيام الساعة، قال تعالي «قُلْ لئِنْ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلي أنْ يأتُوا بمِثلِ هَذا القُرْآن لا يأتُونَ بمِثلِه وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهيراً * وَلقدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاس فِي هَذا القُرْآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأبَي أكْثرُ النَّاس إلاَّ كُفُوراًً» (الإسراء: ٨٨-٨٩).
خامساً: زعم فضيلته أن الحكمة التي ورد ذكرها في القرآن هي السُنة غير الكتاب:
وهذا جهل بالكتاب والتشريع، فالحكمة التي ورد ذكرها في القرآن هي من الله سبحانه وتعالي وليست زائدة علي القرآن، إنما هي الأحكام التي ما كانوا يعرفونها بعد أن ذكر عدة أحكام منها في سورة الإسراء منها من الآية ٢١ إلي الآية ٣٨ و٣٩ قوله «ذلِكَ مِمَّا أوْحَي إليكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ فتُلْقي فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً» (الإسراء: ٣٩)، فذكر الله تعالي تلك الأحكام بالحكمة، وقال تعالي عن رسوله عيسي صلواتنا وسلامنا عليه «وَيعَلّمُهُ الكِتَابَ وَالحِكْمَة وَالتَوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ» (آل عمران: ٤٨)، فالحكمة هي القرآن وأحكام وردت فيه وليست زائدة عليه أو مختلفة عنه.
سادسًا: زعم فضيلته أن لرسول الله أن يسن سُنة ليست من القرآن في شيء:
وهذا زعم فاسد وباطل وافتراء علي الله ورسوله الذي لا يسن سُنة إلا إذا جاء بها القرآن المنزل ولا يتقوّل علي الله في شيء لم يرد به نصًا منه تعالي.
سابعًا: جاء بحديث باطل مفتري وهو حديث الأريكة زاعمًا فيه أن رسول الله يحرم مثل ما يحرم الله!
وهذا جهل يؤدي بصاحبه إلي جهنم فليس لرسول الله صلواتنا وسلامنا عليه الحق في أن يحرم مثلما يحرم الله، بل يحرم ما يحرمه الله ويحل ما يحله الله، وما كان من الممترين، قال تعالي: «قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آلله أذن لكم أم علي الله تفترون* وما ظن الذين يفترون علي الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل علي الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون» (يونس: ٥٩-٦٠).
ثامنًا: زعم فضيلته أن السُنة تتمتع عند المسلمين بما يتمتع به القرآن قديمًا وحديثًا:
وهذا إفك مفتري حيث إن القرآن يتمتع بمكانة واحدة عند المسلمين لا يشاركه فيها أو ينازعه فيها أي كتاب آخر، ومن يجعل من القرآن كتابًا آخر فقد أشرك بالله وبرسوله بما لم ينزله عليه، فالمكانة للقرآن مكانة لا ينازعه فيها أحد من المخلوقات حديثًا أو قديمًا، ولا أظن أن أحد العقلاء يقول بغير ذلك.
تاسعًا: زعم فضيلته أن السنة هي البيان للقرآن تقيد المطلق وتخصص العام وتبين الناسخ والمنسوخ:
وهذا جهل مريع بالقرآن فالقرآن هو البيان الذي لا غموض فيه ولا إبهام، قال تعالي: «هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتقين» (آل عمران: ١٣٨)، فكيف يكون البيان غامضا أو يحتاج إلي من يبينه، اللهم إن هذا منكر لا يرضيك فأنكرناه، فالقرآن لا يقيده أحد، فمقيد القرآن يقيد مطلقه وهو الذي يخصص العام ويبين الناسخ والمنسوخ لا يبينه سواه قال تعالي: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله علي كل شيء قدير» (البقرة: ١٠٦)، فالناسخ والمنسوخ هو في القرآن واضح إلا علي الذين عميت أبصارهم وقلوبهم عن ذكر الله فهؤلاء مرضي شفاهم الله.
عاشرًا: زعم فضيلته أن القرآن لم يفصل العبادات ولا الأحكام ولا المعاملات إنما فصلتها السُنة:
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا أظن عاقلاً في الأرض مسلما يعلم حدود ما أنزل الله علي رسوله أو يعلم القليل من كتاب الله أن يزعم مثل هذا الزعم الفاسد، فالقرآن الكريم جاء مفصلاً للعبادات كلها التي أمر الله أن يتعبد بها المسلم ولم يفرط فيها في شيء، وأحكام القرآن ومعاملاته واضحة جلية لكل ذي بصيرة من غير المسلمين، ناهيك عن المسلمين الذين يعلمون كتاب الله وأنه جاء مفصلاً وكاملاً ليس ناقصًا قال تعالي: «ولقد جئناهم بكتاب فصلناه علي علم هدي ورحمة لقوم يؤمنون» (الأعراف: ٥٢)، فكيف يقول فضيلته إنه غير مفصل، حسبي الله ونعم الوكيل.
حادي عشر: زعم فضيلته أن السنة صنو القرآن وأنها وحي من الله تعالي وهي مصدر من مصادر التشريع، والدين الإسلامي لا يؤخذ من القرآن وحده بل من القرآن والسُنة معًا:
ونقول ردًا علي هذا الافتراء إنه ليس للقرآن صنو كما أنه ليس لله صنو وأن هذه السنة المزعومة والمفتراة علي رسولنا الكريم ليست من الله إنما من أعداء هذا الدين ليحرفوا بها الدين ويبعدوا بها المسلمين عن دينهم وقد فلحوا في ذلك فوضعوا علي رسول الله المئات والألوف من الأحاديث المفتراة والكتب وكان هناك علماء يضعون علي رسول الله الكذب سموهم الوضاعين الصالحين زعموا أنهم إذا أعجبهم حديثً وضعوا له سندًا وصححوا هذه الأحاديث بفرية حيث زعموا أن الحديث إذا صح سنده صح متنه وهذا جهل مريع إذ العبرة ليست بالسند وإنما بالمتن فكان الأجدر أن يقولوا إن الحديث إذا صح متنه مع القرآن صح سنده، دون التجريح الذي تخصص فيه قوم سموهم رجال الجرح.
السُنة المفتراة هي تلمود وضعه علماء المذاهب الإسلامية:
هذه السُنة المفتراة علي رسولنا صلواتنا وسلامنا عليه ما كتبت في عهده ولا عهد صحابته الأطهار، وما كتبت هذه الأحاديث في عهدهم ولقد كفي الله تعالي عباده بالقرآن وحده قال تعالي: «أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلي عليهم إن في ذلك لرحمة وذكري لقوم يؤمنون» (العنكبوت: ٥١)، وهذا الكتاب هو خير الحديث وأحسن الحديث من الله تعالي حيث يقول: «الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلي ذكر الله ذلك هدي الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد» (الزمر: ٢٣)، وأمر عباده باتباعه وحده، قال تعالي: «واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون» (الزمر: ٥٥).
لقد كتب علماء المذاهب هذه السُنة ونسبوها إلي رسولنا الكريم ليبعدوا بها الأمة الإسلامية عن منهج الله سبحانه وتعالي إلي منهج سموه السنة النبوية الشريفة ووضعوا لها المجلدات وفتحوا لها الجامعات محاربة لله ورسوله وأمته، وبعد أن هضم المسلم هذه السنة المفتراة علي رسوله أخذوا في الافتراء علي الله سبحانه وتعالي وآياته فوضعوا ما سموه الأحاديث القدسية التي زعموا أن رسول الله صلواتنا وسلامنا عليه تلقاها من الله مباشرة ليس لأمين الوحي جبريل عليه السلام صلة بها ولا يعلم عنها شيئًا وهذه فرية علي الله، إذ إنها لو كانت من الله كما يزعمون جهلاً لكتبها رسول الله صلواتنا وسلامنا عليه مع القرآن، وإلا يكون قد ضيع نصف الدين ولم يتركه موثقًا كالقرآن وما شاء له ذلك وبذلك أبعدوا عباد الله عن القرآن، فما عادوا يعلمون عنه شيئًا وبذلك تغلب عليهم أعداؤهم من الملل الأخري وأخذوا يخشونهم أكثر من خشيتهم الله ويحكمونهم فيما شجر بينهم كما هو حاصل اليوم فتغلبوا عليهم ورفع الله عنهم نصره الذي وعدهم.
والله نسأل أن لا يجعلنا من الذين قال عنهم: «سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين* والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون» (الأعراف: ١٤٦-١٤٧)، ولا من الذين قال عنهم الله تعالي: «فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا علي الذين ظلموا رجزًا من السماء بما ماكانوا يفسقون» (البقرة: ٥٩)، فإذا كان هذا جهل مدير جامعة الحديث بالمدينة المنورة، فما بالك بالذين يتخرجون علي يديه.
هذا ما أردت إيضاحه للذين يريدون وجه الله ولا يشركون به شيئًا، ولكل ذي بصيرة، والله الهادي لمن اهتدي.

القرآنيون (١ ــ ٢) بقلم جمال البنا

قبضت السلطات أخيرًا علي مجموعة أطلقت عليهم «القرآنيين» تمهيدًا لمحاكمتهم بتهمة ازدراء الأديان.
وقد ظهر «القرآنيون» في مصر في العقد السابع من القرن الماضي وكان صاحب الفكرة هو الدكتور أحمد صبحي منصور، وهو مفكر، وأزهري متمكن، يؤمن أن القرآن الكريم يكفينا، وانتهي به اجتهاده إلي أن ما يطلق عليه السُـنة ليس هو السُـنة، وإنما الأحاديث، أما السُـنة فهي عمل الرسول، لأن كلمة سُـنة تؤدي هذا المعني، ولا يمكن أن تكون بمعني الأحاديث، وأن السُـنة العملية، أي الطريقة التي كان الرسول يصلي بالمسلمين بها،
 أو الطريقة.. إلخ، هذا كله مسلم به معروف ومجمع عليه ولا خلاف فيه، ولكن الخلاف هو الأحاديث التي اصطنعها أعداء الإسلام وأصحاب المصالح، ودق علي الأسلاف رغم جهودهم البطولية الإلمام بها، وكانت بعض هذه الأحاديث الموضوعة سببًا في تخلف المسلمين، ولما أعلن الدكتور صبحي منصور عن فكرته تعرض لمضايقات عديدة، خاصة بعد أزمة مركز بن خلدون، فهاجر إلي أمريكا، واستقر بها.
وقد ظن بعض الناس أني ــ من كثرة دعوتي لتنقيح السُـنة وتطهيرها مما ألحق بها من موضوعات من «القرآنيين» الذين ينكرون السُـنة، ولما كان هناك فرق، فقد كتبت في مجلة «ابن خلدون» وكان يؤوي بعض منكري السُـنة مقالاً بعنوان «قرآنيون.. ومحمديون أيضاً» بينت لهم أن تجاهل السُـنة (القولية) كلية لا يمكن أن يستقيم، وأن المهم هو ضبطها بمعايير من القرآن.
بعد كتابة هذا المقال فوجئت بأن نشر موقع إلكتروني «شفاف» أو «إيلاف» مقالاً كبيرًا تحت عنوان «قرآنيون فقط مع كل الاحترام للأستاذ جمال البنا» باسم مستعار «الزياني القرآني» جاء فيه:
«القرآنيون أو أهل القرآن لم يظهروا علي مسرح الأحداث فجأة أو في العصر الحديث، كما قد يفهم من قولكم «ظهور القرآنيين»، بل كان وجودنا متواصلاً في المجتمع الإسلامي منذ اليوم الأول للإسلام، فيجب التفريق بين من يدعو اليوم للأخذ بالقرآن فقط نتيجة قرار شخصي توصل إليه بناء عن قناعة شخصية، وبين أهل القرآن الذين تلقوا المذهب عن مشايخ نقلوه عمن سبقهم من مشايخ وعلماء لأهل القرآن جيلاً بعد جيل،
وأنا من تلك الفئة الأخيرة، فقد تلقيت علم المذهب القرآني علي يد مشايخ أجلاء من أهل القرآن، توارثوا المذهب جيلاً بعد جيل من العلماء والمشايخ، وقد درست علي أيدي أولئك المشايخ الأجلاء، في لقاء أسبوعي يدوم من ثلاث إلي أربع ساعات متواصلة لمدة ٥٢ أسبوعاً في العام، دون عطلة ولمدة أربعة أعوام بالإضافة إلي وجوب المتابعة والنظر في النصوص خلال باقي أيام الأسبوع،
 وقد أُجِزتُ، بضم الهمزة، من قبلهم في المشورة والاجتهاد، واليوم بجانب عملي في حقل تخصصي التقني، فإنني أيضا أتولي تعليم المذهب القرآني لمجموعة صغيرة تزيد علي المائة بقليل من رجال ونساء، فضلا عن مشاركتي في التباحث وتبادل الآراء مع بعض علماء أهل القرآن، وتقوم زوجي أي زوجتي بلغة اليوم، بجانب عملها التقني في مجال تخصصها، بتعليم العديد من الفتيات والسيدات، أحكام المذهب القرآني، مما يسمح لي بالتعليق علي مقالكم القيم.
إننا كقرآنيين، نرفض رفضاً تاماً الحديث النبوي، أي حديث، لأسباب لا مجال لذكرها هنا قد تسبب إحراجا للبعض وتوترا لا ضرورة له بيننا وبين أهل الحديث من السُـنة والوهابية والشيعة والإباضية والصوفية وأهل الظاهر وغيرهم، ونحن لا نريد توترًا، خاصة أن بعض أهل الحديث يعدون العنف مع من خالفهم أمراً مشروعًا، وقد تلقيت شخصيا تهديدات بالقتل علي بريدي الإلكتروني، وما حدث مع الأسرة المصرية المسيحية في الولايات المتحدة ليس ببعيد، والتي ذبح جميع أفرادها بوحشية تقشعر لها الأبدان،
فقط لأن الوالد كان يدخل في نقاشات ساخنة مع بعض أهل الحديث في «البالتوك»، وقد علمنا مشايخنا الأجلاء أن نخفي مذهبنا اتقاء للقمع الذي كان فيما مضي قمع السلطات الحاكمة، أما اليوم فإنه قمع مزدوج من السلطات التي تهادن الجماعات الأهلية المتطرفة، ومن المتطرفين، فـ«التقية» حلال بنص القرآن، وأنا شخصيا أعلمها لتلامذتي من النشء القرآني، حتي يحفظوا علي أنفسهم حياتهم .
كما لا أريد أن أحرج أحداً من القائمين علي أمر هذا الموقع الرائع، لأن الحديث عن الحديث النبوي وأسباب رفضنا لـه علي الإطلاق، أمر يدخل في صلب إسلام أهل الحديث، ورفضُهُ يهدم الجزء الأكبر من مذاهبهم .
علي أن هذا لا يمنعني من أن أعلق علي بعض النقاط في المقال، فقد ذكرتم في المقال رأي المعتزلة، ومع تقديرنا للمعتزلة فإننا لا نتفق معهم، ولسنا منهم وليسوا منا، كما أن الخوارج أو الشراة، ليسوا بأهل القرآن، بل إنهم من أهل الحديث أيضا، وإن انبثقوا عن أهل القرآن وخرجوا منا، إلا إنهم انحرفوا عن جادة الصواب والحق ولزموا طريق الحديث وتبنوا العنف الذي يرفضه أهل القرآن تماما إلا أن يكون دفاعا عن حياة المرء فقط، ونقول فقط، فلا حروب مقدسة عندنا، فنحن أهلُ سلمٍ بناءً علي نص القرآن، سواء كنا في حالة ظهور أو حالة تقية الأمر سيان لدينا، السلم السلم، وقد عشنا أكثر من ألف وأربعمائة عام دون أن نؤذي أحداً أو نسفك دماء مسلمٍ مخالف أو غير مسلم، لذا فإن الخوارج ليسوا حجة لدينا.
إننا نرفض الحديث والسيرة والتفاسير، بل وعلم النحو والصرف السيباوي ونأخذ فقط بظاهر النص القرآني دون اجتهاد أو تفسير باطني، ولا نتفق مع سيادتكم في الأخذ ببعض الحديث ورفض البعض الآخر، لأن قبول حديث واحد، هو كقبول الباقي، لأن المعيار مطاط، فما قد تراه سيادتكم مرفوضاً مرذولاً، قد يراه غيركم حسناً مقبولاً، إن قبول حديث واحد في رأي مذهبنا، هو كحصان طروادة، الذي سيجرنا إلي أن نصبح من أهل الحديث، وهو أمر لا نقبله مع احترامنا لهم، وهو الأمر ذاته الذي حدث مع الخوارج أو «الشراة» عندما بدأوا في تبني أحاديث قليلة ثم توسعوا في الأمر حتي عُدّوا عندنا من أهل الحديث وخرجوا عن صراط الحق.
كذلك فإننا نختلف معكم في قولكم، فلا يمكن استبعاد السُنة تماماً كما يتصور القرآنيون، نقول بل يمكن، وقد عشنا أكثر من ألف وأربعمائة عام دونها، والقرآن في معتقدنا وافٍ وكامل بنص القرآن، والمجال لا يتسع لذكر النصوص الدالة علي ذلك.
إننا نختلف عنكم يا أهل الحديث في كثير من الأمور، وسأذكر أمثلة: نحن نرفض الحجاب للمرأة، والمرأة مطالبة فقط بستر عضوها التناسلي، بشرط ألا تستخدم تلك الرخصة لإثارة الغرائز، ولنا في كيفية الحكم علي إثارة الغرائز رأي لا مجال لذكره، ولا عورة للرجل علي الإطلاق.
ونحن نرفض قطع يد السارق بنص القرآن، ولا يوجد زني علي الإطلاق، ولسنا كالبعض الذين يرون أن الجــلد هو العقاب القرآني للزني، بل لا يوجد زني في القرآن، ويحرم البعض من أهل القرآن الزواج بأكثر من زوجة، ويحلُّ جميع أهل القرآن زواج المتعة، ونحل الوهب، وملكية اليمين التي استفاض في شرحها أهل القرآن كوجهٍ من وجوه المعاشرة بين الرجل والمرأة، وليس كنوع من العبودية، ولنا آراء في موضوع العدة، ورأي البعض من أهل القرآن أنه لا تحريم للحم الخنزير والخمر،
ورأي الجميع أنه لا عقوبة علي الجنس بين الذكور، ولا تحريم للتخنث ولا تحريم للمثلية الجنسية بين الإناث، وغير ذلك من الأمور التي تشغل الرأي العام هذه الأيام سواء في الشرق الأوسط أو أوروبا والولايات المتحدة، ويساوي بعض أهل القرآن بين المرآة والرجل في الميراث، ولا نرفض ولاية المرأة، ولا عقوبة لَتارِكِ الإسلام، ونرفض القول بأن غير المسلم ذِمّي، بل هو مواطن كامل له نفس حقوق المسلم دون انتقاص، كما عليه نفس واجباته في المجتمع المدني .
أما الصلاة فإن شرحها يطول، وهناك أمور كثيرة لا مجال لشرحها هنا سواء لأن الموقع ليس موقعاً دينياً، بل موقع تبادل للآراء المستنيرة، وأيضًا حتي لا نتعرض للهجوم أو القتل، لأن الكثير مما قلناه ومما لم نقله يخالف تمامًا أهل الحديث من سائر المذاهب.
مع العلم أن قرآننا هو قرآن أهل السُــنة من أهل الحديث وليس قرآناً مختلفاً، بل إن مصاحفنا التي نستخدمها في التعليم مطبوعة في المملكة السعودية.
إننا كقرآنيين ننظر للمستقبل بتفاؤل كبير، ونري أن المستقبل في الإسلام هو للمذهب القرآني، فبزيادة التعليم والاستنارة بين الأجيال الجديدة، يصبح المستقبل للقرآن، مثلما يحدث اليوم للبروتستانتية في أمريكا اللاتينية والتي يزداد اعتناقها مع انتشار الحرية والتعليم والتحسن الاقتصادي، وكان خطا المنحني بين الليبرالية والبروتستانتية متلازمين، والمذهب القرآني مشابه للبروتستانتية في تمسكه بالنص المقدس فقط دون تقاليد متوارثة أو قوانين شفوية، ولكن هو الأقدم، فالمستقبل لنا، وكما صمدنا أكثر من ألف وأربعمائة عام في طي الكتمان، فسوف نستمر إلي النهاية، ولكن في العلن، فالحرية بدأت تطرق أبواب الشرق الأوسط» انتهي.
أثار هذا الرد دهشتي وكتبت ردًا علي «الزياني القرآني» أستوضحه بعض النقاط، ولكنه لم يرد .
القرآنيون بهذا المعني لا يوجدون فيما أعلم ــ في مصر ــ والرجل يتكلم عن مجموعة لا تـُعرف مقارها، كما أنه من الصعب التسـليم بكل ما جاء في كلامه، أما الذين أطلق عليهم «القرآنيون» في مصر فإنهم يسلمون بالسُـنة الفعلية عن الرسول ونكرانهم للسُـنة يتركز حول الأحاديث التي تخالف القرآن أو العقل أو المروية عن كعب الأحبار أو المنقولة عن الإسرائيليات، وهم لا يتجاوزون أصابع اليدين وفكرتهم رغم شذوذها ليس فيها شيء من ازدراء الأديان، وهناك فتوي معروفة أصدرها الشيخ عبد الله المشد رئيس الفتوي في الأزهر «بأن من أنكر حجية السُـنة فإنه لا يكون كافرًا لأنه أنكر أمرًا مختلفاً فيه»، لأن السُـنة ظنية الورود، وبالتالي فلا يمكن القطع بها، وقد أوردنا في بعض كتبنا نص هذه الفتوي .
علي أنه لو كان لمنكري السُـنة في مصر آراء أخري ــ وهو ما أنفيه ــ لما كان هذا يسوغ القبض عليهم وحبسهم وتقديمهم للمحاكمة، فالفكر حر، ولا يرد علي الفكر بالسجن والعقوبات، ولكن بالحجة والبرهان، ونحن نحاول من ثلاثين عامًا منذ أن ظهر أول مشروع قانون للردة تفنيد دعوي حد الردة، وكل صور الإكراه في مجال الفكر دون جدوي، فلا إعمال للعقل ولا تفكير، ولكن التسليم المطلق لما ألفينا عليه آباءنا .

أحاديث تناقض القرآن.. إذن تستبعد بقلم جمال البنا

كانت السنة، أو بالتعبير الأدق الحديث الذي ينسب للرسول، هي الباب المفتوح الذي دخلت منه فرق وفئات من الناس ليثبتوا دعاواهم بحديث يضعونه علي لسان الرسول ويجعلون له سندا عاليا.
 لقد أراد أعداء الإسلام، منذ أن بدأ أن يكيدوا له كما عرفتنا الآية «وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» «فصلت: ٢٦»، ولكنهم عجزوا عن اللغو في القرآن لأنه محفوظ في الصدور، مثبت علي كل وسائل الكتابة، ولذلك التفوا حوله بأن وضعوا أحاديث تحلل الحرام وتحرم الحلال وتسيء إلي الإسلام، وإلي القرآن نفسه.
ولم يكن هؤلاء إلا فريقا واحدا من فرق عديدة، منهم الفرق السياسية ما بين أمويين، وعباسيين، وشيعة، وسنة، ومنهم المذهبيون من معتزلة ومرجئة وقدرية بل وجد فيهم «الوضاع الصالحون» الذين وضعوا أحاديث «حسبة» لإرهاف الحاسة الدينية ولتعميق أثرها في النفوس عن طريق أحاديث تقضي بالنعيم لمن يكرر أدعية أو يصلي نوافل، وتنذر بالجحيم لكل من يغني أو يلهو أو يغفل عن صلاة، ولما رأي بعضهم انصراف الناس عن القرآن وضعوا أحاديث في فضائل كل سورة.
هذا ما تفيض به كتب الأحاديث نفسها والتي تصور ذلك بأن الحديث الصحيح كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ولما بدأ رجال الحديث في تدوين كتبهم وجدوا مئات الألوف من الأحاديث المتداولة، فقد قيل إن أحمد بن حنبل كان يعرف ألف ألف حديث «مليون»، وإن مالكاً كان يعرف ٦٠ ألفا، وإن البخاري كان يلم بخمسين ألف حديث،
وبذل رجال الحديث جهدا بطوليا في استنقاذ الحديث النبوي من وهدة الموضوعات، فنزلوا بها من مئات الألوف إلي عشرات الألوف ومن عشرات الألوف إلي ما دون العشرة آلاف حتي انتهوا إلي خمسة آلاف أو أقل هي ما جاء في الصحيحين «البخاري ومسلم».
ولكن هذا لم ينقذ الحديث لأن عوامل عديدة أخري كانت تدفع عملية الوضع مثل سوء النظام السياسي واعتماده علي التعصبات المذهبية، ومن انغلاق المجتمع وسيادة الجهالة التي تجعل الجماهير تتقبل الخرافة أكثر مما تتطلب الحقيقة،
وقد قرأت أحاديث عما دار بين النبي وزوجاته، في حين أن الرسول نفسه نهي المسلمين جميعاً عن أن يفضي أحدهم بما كان بينه وبين زوجته، فلا يعقل أن يكون الرسول قد قاله، كما لا يعقل أن تكون إحدي زوجاته قد أشارت إليه، ومع هذا فإن المحدثين الذين تحكمت منهم شهوة «الجمع» أثبتوها في كتبهم.
ووضع البعض مقاييس متشددة للأخذ بالحديث، فواصل بن عطاء لا يؤمن بأحدايث الآحاد، ويتبعه معظم المعتزلة، ووضع أبوحنيفة ثمانية ضوابط للأخذ بالحديث، ولكن الشغف بـ «التحديث» والرغبة فيه قضت علي كل هذه المعايير، ووصلت حد الفتنة عند بعضهم.
قال ابن مهدي: «فتنة الحديث أشد من فتنة المال وفتنة الولد، لا تشبه فتنته فتنة، كم من رجل يظن به الخير قد حملته فتنة الحديث علي الكذب»، يقول ابن رجب: «يشير إلي أن من حدث من الصالحين من غير إتقان وحفظ فإنماحمله علي ذلك حب الحديث، والتشبه بالحفاظ، فوقع في الكذب علي النبي وهو لا يعلم، ولو تورع واتقي الله لكف عن ذلك فسلم».
وآية هذا أننا نري أحاديث عديدة تخالف روح الإسلام، والأصول العامة له، بل تخالف العقل والمنطق مما لا يتسع المجال لشرحه، وقد عرضناه في كتابنا «السنة» وهو الجزء الثاني من كتاب «نحو فقه جديد».
ولكن ما يهمنا الآن ما يخالف صريح القرآن.
ويستعظم البعض ذلك ويقولون، مستحيل، وها نحن نضع بين أيديهم أمثلة لذلك.
فقد أورد البخاري حديث عكرمة مولي بن عباس «من بدل دينه فاقتلوه»، وقد رفض الإمام مسلم كل أحاديث عكرمة لشبهات حامت حوله منها اتصاله بالسلاطين، ولكن البخاري أدرجه وأصبح هذا الحديث هو الأساس والسند في فرض حد الردة، فكيف لا، وقد جاء نص صريح به في البخاري؟!
نقول كيف يستقيم هذا الحديث مع خمسين آية علي الأقل من آيات القرآن تقرر حرية العقيدة؟ إن قبولنا له معناه أننا ـ معاذ الله ـ ننبذ هذه الآيات وراء صدورنا ونضحي بالقرآن في سبيل البخاري.
كيف يستقيم هذا الحديث مع الآيات المؤكدة «لا إكراه في الدين» (البقرة: ٢٥٦)؟
كيف يمكن أن يتفق الحديث مع «أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين» (يونس: ٩٩)؟
بل كيف يمكن أن نتفق مع ذكر القرآن الردة مراراً وتكرارا دون أن يرتب عليها عقوبة دنيوية؟
بل إن الحديث يناقض عمل الرسول، فقد ارتد في حياته أعداد من المسلمين ـ منهم أحد كتبة الوحي ـ فما تعقبه بعقوبة، بل رفض المساس بهم وقال لمن طلب إليه ذلك «لا إكراه في الدين».
نعلم بالطبع كل ما يقولونه في تبرير هذه المخالفة أو المناقضة، من دعاوي واضحة التكلف، لا يمكن أن تستقيم، لأن الحق أبلج.
هناك حديث رزق شيوعا، حتي لقد جاءت قرابة مائتي رواية عنه بألفاظ واحدة أو متقاربة هو «أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهمإلا بحقها وحسابهم علي الله».
هذا الحديث الذي يبدأ «أمرت» يخالف عشرات الآيات التي تأمر الرسول بأن لا يتعدي إطار التبليغ وتحدد صلاحياته في البلاغ أو البيان فحسب، فإذا آمن من بلغهم كان بها، وإذا رفضوا فليس له أي سلطان عليهم، إنه ليس جباراً، ولا مسيطراً، ولا حفيظاً، بل ولا حتي وكيلا، فأين هذا من أن يقاتلهم، إن الآيات تقول:
- «فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد» (آل عمران: ٢٠).
- «وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون» (يونس: ٤١).
- «فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين» (الحجر: ٩٤).
- «فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين» (النحل: ٨٢).
- «فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر» (الغاشية: ٢١ ـ ٢٢).
- «ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون» (آل عمران: ١٢٨).
«فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم» (التوبة: ١٢٩).
- «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما علي رسولنا البلاغ المبين» (المائدة: ٩٢).
- «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما علي رسولنا البلاغ المبين» (التغابن: ١٢).
- «قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما علي الرسول إلا البلاغ المبين» (النور: ٥٤).
فهذه الآيات الصادقة توضح أن صلاحيات الرسول تقتصر علي البلاغ أو البيان، وأنه ليس من مهامه أن يتعسف الوسائل ليحملهم علي الإيمان به، دع عنك أن يحاربهم ليكونوا مؤمنين، فكيف تتفق هذه الآيات مع حديث يبدأ بـ «أمرت.. أن أقاتل الناس»؟
ومن الناحية العملية، فإن الرسول لم يحارب ليحمل الناس علي الإسلام، لقد حارب دفاعا عن الإسلام ودرءاً للمشركين الذين حاولوا استئصال الإسلام، ولما فتح مكة، بعد أن نقضت عهد الحديبية، فإنه سامح أئمة الكفر وعفا عنهم.
أما حرب أبي بكر فما كانت ردة عقيدة، فقد كان منهم من يؤمن بالله والرسول ويصلي ويصوم، ولكنهم رفضوا الزكاة ورفضوا الحكومة المركزية وخلافة أبي بكر وأرادوا أن يعودوا إلي الأحكام القبلية.
أريد أن أقول لأساتذة الحديث بكليات الأزهر وغيرها إن تحت يدي تحقيقاً لمائتي رواية لهذا الحديث لم تنج واحدة منها من مأخذ، بحيث لم توجد رواية واحدة صحيحة، وما ينبغي أن توجد، لأنها تخالف القرآن، والرسول مبلغ ومبين، وليس له أن يزيد علي ذلك لأن الهداية والضلالة إنما هي من الله، يعني أن لها أسباباً موضوعية، وليس منها القتال، وقد قال للرسول صراحة «إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء».
قد يسأل سائل: إذن ماذا نفعل بهذه الأحاديث؟ وكيف نبرر صدورها؟
إن الرد يمكن أن يأخذ صورتين:
الأولي أن هذا أمر لا يعنينا، ولا نتوقف عنده، ولا نبحث عنه فمادام القرآن قد حكم، فإن الأمر قد حسم ولا شك في أننا نأخذ بما حكم به القرآن.
والصورة الثانية: هي أن الأمر مادام أمر قضية تغطي الملايين، ومادامت المدة ما بين هجرة الرسول وتدوين السنة مائة وخمسين عاماً، ومادام الأمر يمكن أن يحقق مآرب لحكام وسلاطين وفقهاء وعلماء وأعداء للإسلام يكيدون له بوضع أحاديث.. إلخ،
 فهذا تحريف الأحاديث، وقد تكون قيلت بغير هذه الصورة، أو أنها قيلت في ملابسة معينة لا نعرفها، أو أنها نالها تشويه وتحريف أو حذف أو إضافة، وعلي كل حال فنحن لسنا مكلفين بتعليل أمر لم نضعه ولسنا مسؤولين عنه ولا يجوز أن يعلق بنفسنا، أو يتسلل لضميرنا أي إثارة من عاطفة، فالأمر بقدر ما لا يسمح بالتردد، بقدر ما إن احتمالات أخري عديدة توجد.
ختام الكلام:
كيف يمكن أن يحال، في الأهرام، دون نشر مقال لكاتب من أبرز كتابها هو الأستاذ صلاح الدين حافظ، لأن موضوعه «محاربة الفقر تبدأ بسياسة ديمقراطية» إذا كان هذا الكاتب الذي يشغل منصبا رفيعا في الأهرام، وعرف بأستاذيته في عرض موضوعه يقدم مشروعاً لإنقاذ الدولة فيرفض نشره؟
هل وصلت الأهرام العريقة من التدهور درجة تحدث فيها هذه المهانة؟