الأربعاء، ٢٦ أغسطس ٢٠٠٩

مفـردات الحرّيـة [تابع]

رابعاً : حرّية التنظيم النقابي

بدأنا هذه الرسالة بحرية الفكر، ثم بحرية التعبير باعتبارها حريات فردية من حق كل واحد رجلاً أو امرأة. أن يتمتع بهما، ولأنهما جزء لا يتجزأ من كرامة الإنسان فى العصر الحديث وضمان تفاعله مع مجتمعه.

ثم تحدثنا عن حرية الصحافة لأنها تقف ما بين الحرية الفردية والحرية الجماعية، بمعنى إن من حق كل فرد أن يصدر صحيفة أو يكتب فيها. ولأنها من ناحية أخرى لسان حال الهيئات والجماعات. وأخيراً فلأن الأهمية العظيمة لحرية الصحافة التى حكمنا بأنها قد تفوق أهمية المجلس التشريعى المنتخب تجعلها تستحق هذه المنزلة.

ونتحدث الآن عن حرية تعالج جانبا من النشاط العام وهو "العمل"، وما يعنيه العمل من بناء المجتمع، وشغل مجالات الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات.. وكل ما يوفر للناس أكلهم وشربهم وسكنهم ولبسهم ووسائل انتقالهم ومعنى هذا كله بالنسبة للمجتمع، وبالنسبة للذين يقومون به سواء كمورد عيش. أو كمجال لإشباع القابليات وصقل الشخصيات وتقديم الإضافات واثبات الذات.

وقد ظلمت الحرية النقابية فى المجتمعات العربية والإسلامية للجهل الأصولى بها وعجز القيادات العمالية عن تعريف المجتمع بها لأن قادة العمال ليسوا كتاباً.. والكتاب ليسوا عمالاً فى حين أن الحركة النقابية من أكبر الحركات الإنسانية فى العصر الحديث. وقد رأينا فى رسالتنا "الحركة النقابية حركة إنسانية" أنها تأتى بعد الأديان مباشرة وقبل الديمقراطية والاشتراكية فى النهضة بالجماهير، لأنه إذا كانت الديمقراطية قد مكنت الشعوب من أن يكون لها نصيب فى إدارة سياساتها، فإن الحركة النقابية حققت بصفة مباشرة الديمقراطية على مستوى مكان العمل، وبالنسبة لكل يوم، فى حين أن الديمقراطية السياسية لا تمارس إلا بطريقة غير مباشرة (عن طريق نواب ينوبون عن الشعب) وأن آلياتها لا تعمل كل يوم ولا تعنى بكل شئ. ومن هنا فإن الديمقراطية الصناعية كانت أبعد أثراً فى تكوين المواطن الديمقراطى من الديمقراطية السياسية، لأنها جعلت للعامل صوتا فى إدارة الصناعة وتحديد شروط وظروف العمل. يمارسه كل يوم وبصورة مباشرة. وإذا كانت الاشتراكية قد استهدفت العدالة، فإن الحركة النقابية حققت العدالة للجماهير بوسائلها الخاصة أكثر مما توصلت إليه النظم الاشتراكية. فالنظم الاشتراكية لأنها تأخذ شكل حكومات تتورط فى مشكلات الدولة وتخصص مواردها للجيش والبوليس وقد تتورط فى تعزيز الحركات الاشتراكية فى مختلف دول العالم فترهن لها مبالغ ضخمة وأخيراً فما دام التطبيق الاشتراكى يتم عن طريق حكومات فإن هذه الحكومات لابد وأن تصاب بسوءات السلطة. خاصة وأنها تقوم على حزب واحد يحتكر السلطة. ولهذا فشلت الدول الاشتراكية فى تحقيق هدفها الأسمى وهو العدالة، إلا إذا كانت قد جعلت الجميع فقراء ..

ويذكر للحركة النقابية أنها أبدعت وسائل جديدة تماماً لمعالجة أعصى المشكلات الاجتماعية- مشكلة الأجور- وأن هذه الوسائل أخذت شكلا حضارياً فريداً يختلف عن وسائل الحرب أو صور القسر والإجبار أو أسلوب البيروقراطية المعرقلة قدر ما يحقق التفاوض والتشارك والتعاون والشورى. وأبرز هذه الوسائل هى "المفاوضة الجماعية" التى هى الوسيلة النقابية للتوصل إلى القرار فى كل ما يتعلق بظروف وعلاقات العمل. وفيها يجلس العمال وأصحاب الأعمال على مائدة المفاوضات للتفاوض فى الوصول إلى الحل الذى يقبله الفريقان فى ضوء العوامل العديدة التى تتحكم فيه.

صحيح أن الإضراب لا يخلو من سوءات. وقد يؤدي إلى متاعب كبيرة لفئات عديدة من المواطنين الأبرياء الذين لا علاقة لهم بقضية العمال وأصحاب الأعمال. فضلاً عن أن أول المتضررين منه هم العمال أنفسهم الذين يخسرون أجرهم وهو مورد معيشتهم الوحيد، ولكن ليس من سبيل آخر أمام التعقيد الاجتماعى وأمام حرص الرأسماليين على أرباحهم.. والإضراب بعد لا يريق دما ولا يدمر بناء ولا يعيث فساداً كما تفعل الحروب. فهى حرب "مدنية" تستخدم الضغط السلبي.

وخلال تاريخ الكفاح النقابى، أبدعت الحركة النقابية الوسائل التى تحافظ بها للعمال على حقوقهم المشروعة مثل النص فى الاتفاقية الجماعية على رفع الأجور تلقائيا بنفس نسبة زيادة أثمان السلع الأساسية، والتأمينات الاجتماعية والصحة المهنية الخ...

وقد تبين العمال فى الدولة الصناعية المتقدمة. كما سلمت بذلك مواثيق الأمم المتحدة أن حق العمال فى التنظيم النقابى الحر هو الضمانة الوحيدة التى تحول دون أن يكونوا فريسة سهلة أمام الاستغلال الرأسمالى. لأن من البدائه أن العامل كفرد لا يستطيع أن يقف أمام الإدارة . فالإدارة لديها أجهزة ومستشارون. ومع أنها فى حاجة لعمل العامل، فإن حاجة العامل إلى الوظيفة التى تقدمها الإدارة- أشد إلحاحاً- وأخيراً فلأن قانون العرض والطلب يغلب أن لا يكون فى مصلحة العامل. بحيث يتنافس عدد من العمال على وظيفة واحدة فيؤدى هذا إلى سقوط الأجور ويمكن لو سمح لقانون العرض والطلب أن يسير قدما أن يتحقق قانون الأجور الحديدى "أى أن تصبح الأجور فى مستوى الكفاف الذى يحول ما بين العامل والموت جوعاً"، وعندئذ فحسب يتوقف القانون لأنه لو مضى لأكثر من ذلك لمات عدد من العمال جوعاً، ولو حدث لقل عددهم ولتحسن قانون العرض والطلب فى مصلحتهم بحيث ترتفع الأجور ...

إن الدارسين للتاريخ الاقتصادى وسياسات الإدارات الرأسمالية وكفاح الحركة النقابية يلمون بهذا كله لأنه جزء لا يتجزأ من تاريخ التطور الاقتصادى الحديث. ولهذا فإن المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان اعتبرت حق العامل فى حرية التنظيم النقابى هو أحد الحقوق الأساسية للإنسان. وجاء ذلك فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر فى ديسمبر سنة 48 من الجمعية العامة للأمم أو الاتفاقية الاجتماعية والاقتصادية التى أصدرتها الأمم المتحدة فى الستينات فضلاً عن الاتفاقيات التى أصدرتها منظمة العمل الدولية وأبرزها الاتفاقية 87 لسنه 48 الخاصة بالحرية النقابية والاتفاقية 98 لسنة 49 الخاصة بالاتفاقيات الجماعية.

z z z

كما ذكرنا، فإن الحرية النقابية كانت من أقل الحريات حظاً فى المجتمع المصرى ولم تعترف الدولة- مجرد اعتراف- إلا فى سنة 48 عندما كانت المرحلة الليبرالية تبدأ فى الغروب.. وكان القانون الذى أصدرته (القانون 82 لسنه 48) بسلب الحرية النقابية مقابل الاعتراف بها. ثم جاء الانقلاب العسكرى فى 23 يوليو واستهل تاريخه بشنق قائدين نقابيين وإقامة محكمة دنشواى عمالية وبدأت عملية عسكرة النقابات واستلحاقها للتنظيم السياسى الوحيد- الاتحاد الاشتراكى- بعد أن عجزت عن القضاء عليها وإحلال "الروابط القومية محلها" واعتبرت العضوية فى الاتحاد الاشتراكى شرطا يجب أن يتوفر فيمن يرشح نفسه لكل مستويات القيادة النقابية. فإذا غضبت الحكومة على أحدهم فصلته من الاتحاد الاشتراكى فيفقد بالتبعية صفته فى القيادة النقابية. ومع الزمن تعمقت التبعية حتى فقدت الحركة النقابية آية استقلالية. ثم جاءت القوانين النقابية المتتالية تسلب التنظيمات القاعدية (على مستوى المصنع أو موقع العمل) كل سلطة وتركزها فى النقابة العامة، أو الاتحاد العام التى ترتبط قيادتها بالعضوية فى الحزب الحاكم. ففقدت الحركة النقابية المصرية الحرية والديمقراطية معاً. وأصبحت تدار إدارة مركزية يهيمن عليها الحزب الحاكم ..

وكان موقف المجموعتين اللتين يفترض فيها التعاطف مع الحركة النقابية وهما المجموعة الإسلامية والمجموعة الاشتراكية- من أسوأ المواقف- فقد اعتبرتها بعض الجماعات الإسلامية [رجسا من عمل الشيطان!!] وأنها تخالف روح الإسلام ومبادئه وغير ذلك من الدعاوى التى تتم من الجهالة وضيق الأفق. أما المجموعة الاشتراكية فإنها رغم تعاطفها الظاهرى لا تفسح مجالاً فى التنظير الماركسى لها، بل هى تضيق بها لأنها تلطف من العداوة ما بين العمال وأصحاب الأعمال وتسوى المشكلات بالاتفاقيات الجماعية. وهى- أى هذه الجماعات الاشتراكية- تؤمن بالتناقض الطبقى وأن العمل المجزى هو إسقاط الرأسمالية، لا التعامل معها.. وأنها بتمشيها مع الرأسمالية تعطل قيام الثورة البرويتارية التى تستأصل الرأسمالية.

وهكذا فقدت الحركة النقابية المصرية تأييد الإسلاميين والاشتراكيين معا. وتركت لتلقى مصيرها دون وعى أو إيمان أو ثقافة. ولم يصعب على النظام الحاكم أن يستقطب قيادات النقابات العامة، وأن يجعل منهم نواباً فى مجلس الأمة وأعضاء فى الحزب وبهذا شلت فعالية العمل النقابى تماماً. وأصبحت الحركة النقابية عقيمة. وعندما استشرت حركة الخصخصة التى شردت عشرات الألوف من العمال ومورست فى كثير من الحالات بطرق بعيدة عن الدقة والفطنة والحرص على المال العام والمصلحة الوطنية لم يستطع العمال أن يعبروا عن سخطهم أو يحافظوا على حقوقهم لأن قياداتهم سارت بلا حياء، ودون أى خجل فى أذيال الحزب الحاكم.

وهناك فصيل نقابى هام- وإن لم يكن عماليا يضم النقابات المهنية- أى نقابات الأطباء والمهندسين والمحامين والمعلمين الخ... وقد استؤنست هذه النقابات بمختلف طرق الاستئناس بحيث لم تعد تمثل قلقاً للنظام. ولكن فى الثمانينات زحف المد الإسلامى على عدد من النقابات المهنية وبوجه خاص نقابة الأطباء والمهندسين بحيث أصبحت معظم قيادة هذه النقابات تمت بصله فى الإخوان المسلمين. وعندما امتدت الموجه فغطت نقابة المحامين وأصبح الأستاذ سيف الإسلام حسن البنا الأمين العام كان هذا أكثر مما تطيقه الحكومة فوضعت النظم وسن قانون هو القانون 100 لسنة 93 الذى فرض قيوداً ثقيلة على الانتخابات ثم عين حراسات عليها بحيث شل العمل النقابى فعلاً فى هذه النقابات رغم المحاولات المتكررة أمام مطاولات وتأجيلات وتحيلات المسئولين، وقد فشلت كل الجهود البطولية التى بذلها المحامون لاستنقاذ نقابتهم رغم إنهم أعلنوا الإضراب عن العمل. وعن النظام وقاموا بمسيرات.

ولنا أن نتصور جريمة تجميد أكبر حركة جماهيرية فى البلاد (تضم نقاباتها العمالية ثلاثة ملايين وتضم النقابات المهنية ثلاثة ملايين أخرى) والفراغ الذى توجده سلبية هؤلاء العاملين سواء بالنسبة لقضاياهم الخاصة أو بالنسبة للقضايا القومية ..

فإذا أريد تحقيق الحرية النقابية، التى هى فى أصل تقدم الجماهير والقوى العاملة فيجب إلغاء كل القوانين النقابية وترك قضايا التنظيم والتكوين وما إلى ذلك للعمال والمهنيين أنفسهم- أصحاب النقابة- وهو المبدأ الذى نصت عليه اتفاقية الحرية النقابية لمنظمة العمل الدولية (الاتفاق 87 لسنه 48) وتنص أولى موادها "للعمال وأصحاب الأعمال تكوين النقابات بمحض اختيارهم دون أخطار سابق" وتوجب المواد التى تلى ذلك عدم تدخل السلطات أو أصحاب الأعمال فى تفاصيل التكوين والتنظيم النقابى، كما تحرم الحل الإدارى للنقابات وتعطيها حق الانضمام إلى الاتحادات- دوليه أو غير دوليه- التى تراها ..

ومصر مصدّقة على هذه الاتفاقية كما أنها مصدقة على اتفاقية 98 لسنه 49 الخاصة بالمفاوضة الجماعية.

أما فكرة ترقيع القوانين الحالية عن التنظيم النقابى فلا فائدة مطلقاً. لأن قوانين النقابات بدءً من القانون 62 لسنه 64 تبلور فلسفة نظام شمولى يحكم فيه الحزب الواحد وتكون النقابات هيئات مساعدة، أو بالتشبيه اللينينى "السير ناقل القوى" من الحزب- الذى هو الدينامو والمحرك وصاحب القرار إلى الجماهير فى الورش والمصانع الخ... ولما كان الحزب لا يتسع وقته للتعامل مع عدد كبير من النقابات فإنه أخذ بمبدأ النقابة العامة العملاقة التى تتولى بنفسها وبفضل خبرتها تسوية شئونها مع القواعد العمالية دون أن تثقل على الحزب بذلك. وفى الوقت نفسه فإن وجود عدد قليل من النقابات العامة سيجعل عدد القيادات محدوداً مما يسهل على الحزب اصطناعهم.

وفى هذا التنظيم النقابى الذى وضع فكرته الجوهرية لينين- رغم معارضة عاصفة من النقابين الذين كانوا أعضاء فى الحزب الشيوعى- تتركز السلطة فى النقابة العامة وتجرد الهيئات القاعدية من أى سلطة .مع أن هذه الهيئات هى التى تمثل العمال بالفعل، وقياداتهم هى القيادات الملتحمة بالجماهير. وهى منبع العمل النقابى ولكن لما كانت الفكرة وراء كل هذا هى السيطرة على الجماهير فقد ركزت السلطات فى الهيئات الأعلى وجردت منها القواعد وأطلق لينين على هذا النظام "المركزية الديمقراطية" وهى مركزية بنسبة تسعين بالماءة (وربما أكثر)، وديمقراطية بالباقى.

وقد أخذت مصر بهذا النظام عندما أخذت بنظام "الاتحاد الاشتراكى" الذى كان هو الحزب الوحيد الحاكم وأصبحت العضوية فى الاتحاد شرطاً لإمكان الترشيح للقيادة النقابية. وبهذا تم الربط التنظيمى بين الجهاز السياسى وبين التنظيم النقابى.

ومن العجيب أن لا يزال التنظيم النقابى اليوم على ما كان عليه أيام الاتحاد الاشتراكى بعد أن مات ودفن الاتحاد الاشتراكى. ولكن يبدو أن شبحه لا يزال يحلق على الحركة النقابية. ويجد المناصرة له من القيادات العلياً التى ظلت تحكم الحركة النقابية حكم لوردات الإقطاع أو باشوات الترك.. دون حسيب أو رقيب لقرابة أربعين عاماً.

وفى كتابنا "نحو تعددية نقابية دون تفتت أو احتكار" أوضحنا مضار هذا الوضع الذى شل الحركة النقابية وحال دون أن تقوم بدورها بالنسبة للعمال أو بالنسبة للبلاد ككل. كما عرضنا صوراً للحلول. كتكوين نقابتين بدلاً من نقابة واحدة لكل صناعة كسراً للاحتكار أو جعل عمال المصنع وحدة التنظيم وانضمامهم إلى أمثالهم على مستوى المحافظة لتكوين نقابة عامة على مستوى المحافظة وتتلاقى مع بعض لتكوين اتحاد للصناعة أو الحرفة على مستوى القطر ينضم بدورة إلى الاتحاد العام أو ضم الوحدات النقابية على اختلافها فى مستوى جغرافى أو إدارى واحد لتكون وحده نقابية تتلاقى مع مثيلاتها فى بقية المستويات الجغرافية أو الإدارية لتكوين الاتحاد الخ... [4]

وقد كان المبرر الوحيد لإصدار قانون عن النقابات هو نيلها الشخصية الاعتبارية التى تمكنها من رفع القضايا باسم العمال. ولكن هذا الحق- أعنى اكتساب النقابات الشخصية الاعتبارية- اصبح من المبادئ المسلم بها والمنصوص عليها فى الاتفاقيات الدولية المصدق عليها من مصر.. ولهذا فحتى القانون ذى المادة الوحيدة أصبح لا داعى له... فإذا كانت البيروقراطية المصرية لا يمكن أن تتحمل أو تطيق هذا، فليكن القانون من مادة واحدة تعطى المنظمة النقابية الشخصية الاعتبارية بمجرد تكوينها وتحيل إلى مواد اتفاقية الحرية النقابية لمنظمة العمل الدولية (87 لسنه 48) وهى من أشد الاتفاقيات تركيزاً، واختصاراً، واستيعاب المواد الجوهرية فيها لا يتطلب أكثر من عشرة سطور.. وبهذا يفسح المجال لكل ما ذكرناه من اقتراحات.

z

خامساً : حرّية تكوين الأحزاب

خضعت البشرية أغلب تاريخها لأحكام القادة العسكريين والأسر المالكة التى كانت تحكم بإرادتها، وتستمد شرعيتها من القوة أو من الحق الإلهى المزعوم.. وكان على الشعوب والجماهير أن تدخل فى صراع مرير مع حكامها ليكون لها صوت فى إدارة الأمور.. وصور ذلك كفاح الرومان للتوصل إلى "التربيون" وكانت عامة الناس فى أوربا بأسرها تخضع لسادتها طوال القرون الوسطى. واعتبر الفلاحون "أقنانا" بالنسبة للنبيل- مالك الأرض- فلا يستطيعون ترك أرضهم، وعليهم أن يعملوا فى خدمة النبيل أياما عديدة الخ... وبالمثل كانت علاقة النبلاء بالملك تفرض عدداً من الالتزامات عليهم نحوه.. وما كان يخطر فى بال أحد أن يشارك الملك الحكم إلا فى أحوال استثنائيا تغرى بذلك .

وعندما أراد أحد ملوك إنجلترا فرض ضرائب على النبلاء أنتهز هؤلاء الفرصة، فابتهلوا للملك أن يتم ذلك بموافقة مندوبين منهم أخذوا- مع الزمن- "شكل مجلس" وبدأ هذا المجلس يزحف ببطأ شديد نحو مشاركة الملك فى الحكم ..

وسار التطور خطوة أخرى عندما جمعت المصالح والمستويات الطبقية هؤلاء الأعضاء إلى تكتلات كانت هى الأحزاب التى أخذت تنظم عملها شيئاً فشيئاً وتكسب لنفسها مره بعد أخرى سلطه من سلطات الملك ...

وبهذا ظهرت الأحزاب ليمثل كل حزب مجموعة من السكان بصورة طبيعية وان دخلت فى تأليفها عناصر الدين أو الجنس أو التقسيم الجغرافى أو المصلحة قبل أن تأخذ فى النهاية الصفة القومية.. التى تجعلها تحكم باسم الشعب أو على الأقل باسم مجموعات تمثلها.. وفقد الملوك سلطاتهم المطلقة التى كانت قد وصلت إلى الحد الذى يقول فيه الملك لويس الرابع عشر "الدولة أنا !" .

وأطلق على هذا النظام- الذى يحكم فيه الشعب نفسه- عن طريق نوابه وأحزابه- الديمقراطية..

إن نقل السلطة من أيدى الملوك إلى الشعوب لم يقتصر على تغيير فى وسيلة الحكم، بل أيضاً انقلاب الحكم فقبلاً كان الحكم يعنى السيادة ولكنه أصبح يعنى الرعاية.

ولا جدال فى أن للديمقراطية، ولنظام الأحزاب مآخذ، ولكنها فى النهاية الأفضل حتى يظهر بديل أقرب إلى الكمال، لأن البديل الموجود هو الحكم الديكتاتورى الذى يقوم على الإرادة الفردية للحاكم، سواء كان ملكا أو قائداً عسكرياً أسوأ. فحتى لو افترضنا العبقرية فى هذا الحاكم فإن الانفراد بالسلطة لابد وأن يفسده بحيث يصبح فى النهاية طاغية وهذا هو درس التاريخ الذى لا استثناء فيه. فكل الطغاة بدأو ملائكة وانتهوا شياطين وحققوا فى أوائل عهدهم انتصارات وختموها بهزيمة ساحقة تذهب بكل انتصاراتهم الماضية.

من أجل هذا فإن حرية تكوين وعمل الأحزاب هى إحدى الحريات الضرورية، والتى لا غناء عنها لمشاركة الشعوب وما يعنيه هذا من نجاح وتحقيق إرادة الجماهير وفى الوقت نفسه فإنه يحول دون وقوعها فى قبضة الطغاة وما يعنيه هذا من استبداد، وإذلال، وتحكم، وفى النهاية الفشل الذريع.

فتاريخ الأحزاب هو إلى حد ما تاريخ الحرية السياسية وشعبية الحكم للأمة ...

وحرية هذه الأحزاب. فى العمل هو الظرف الوحيد الذى يسمح لها بأن تؤتى أكلها وتحقق ثمارها، وأى تقييد لها يحول بالطبع دون الوصول إلى هذه النتيجة، ويعد انتهاكا للحرية... لأن الأحزاب هى كبقية هيئات المجتمع تقوم على مبادءة الأفراد لتحقيق أهداف سياسية بالوسائل المشروعة- ومن ثم فليس هناك حاجه أصولية لأى نوع من أنواع التقييد- مهما حمل من أسماء أو تلبس بضرورات مدعاة. وقد كوُنت شخصياً حزباً باسم (حزب العمل الوطنى الاجتماعي) "عام 1946" ووزع منشورات فى ذكرى ضرب الأسطول البريطانى للإسكندرية. وقبض على بعض أعضائه، كما اصدر الحزب بعض الكتيبات باسمه، ولم يتعرض له أحد.

ونتيجة للاستبداد وحكم الفرد الذى تعرضت مصر له ابتداء من سنه 52، نشأ جيل فى "جب الناصرية" لا يعرف شيئاً عن مناخ الحرية التى كانت تتمتع به مصر بمقتضى دستور سنه 1923، خاصة وأن الناصرية اصطنعت لتبرير استبدادها الرطانة الاشتراكية وفكرة الحزب الواحد التى أبدعها لينين، وبهذا فقدت الحرية أنصارها. ومع أن مصر دفعت غالباً ثمن الاستبداد، ولا تزال حتى الآن تعانى من ثماره المرة، فإن بقايا الناصرية وذيولها لا تزال تحول دون تحقيق حرية الأحزاب حتى يفلتوا من المحاسبة الجماهيرية لها، وكان قصارى ما وصلت إليه جهود الأحرار هو صدور قوانين تعطى لجنة حكومية حق التصريح بتكوين حزب ومن الطبيعى أن الوظيفة الحقيقية للجنة الأحزاب ليست هى التصريح بتكوين الأحزاب ولكن الحيلولة دون تكوين الأحزاب إلا لمن تطمئن إليه، أو يعمل بشروطها.

وقد ظهر للنظم الاستبدادية أن مما يحسن صورتها ويسدل قناعاً على طبيعتها أن تسمح أو حتى تسعى إلى تكوين أحزاب بشروط مقيدة، وتبقيها أقزاما ثم تدعى أن هناك حرية و "تعددية" حزبية وتلوم الأحزاب لأنها لم تكسب الشارع وكيف يمكن أن تنطلق وهى مكبلة اليدين والقدمين بالأغلال ..

z

سادساً : حرّية تكوين المنظمات المدنيّة

نعني بالمنظمات المدنية كل الهيئات والمؤسسات التى يكونها أفراد من الناس مدفوعين بإيمانهم، فى المجالات المختلفة التى تنتظم المجتمع مثل الجمعيات الخيرية والجمعيات الأدبية والفنية، والمنظمات الصحية والطبية. وهيئات الإصلاح الاجتماعى والجمعيات الثقافية والتعليمية، كما يدخل فيها النقابات والصحف واتحادات الطلاب والجمعيات التعاونية، والنوادى الرياضية والجمعيات النسائية والشبابية والطرق الصوفية وهيئات الأوقاف والأحزاب السياسية والبنوك والشركات التجارية ..

ومجموع هذه الهيئات يكون "المجتمع" أى الشكل المنهجى والنظامى الذى يكونه الأفراد الذين يكونون فى مجموعهم الأمة عبر الهيئات التى تبلور رغبات الأمة- على اختلاف أفرادها- فى ممارسة نشاطها بطرق نظامية ومنهجية تغطى كافة المجالات.

ولكي نتعرف على منزلة وأهمية المنظمات المدنية يمكن أن نتصور بناء هرميا ضخما تكون قاعدته العريضة الأمة أى ملايين الأفراد الذين يكونونها وفوق هذه القاعدة قاعـدة أصغر منها نطلق عليها "المجتمع" وهى تـضم كل الهيئات التى يكونها أفراد الأمة ليمارسوا دورهم بصفة جماعية، وفوق هـذه القاعدة الثانية قاعدة ثالثة أصغر هى التى نقول عنها الدولة وهى عاده تمثل الموقع الجغرافى الذى تسكنه الأمة وتاريخها وحضارتها ولغتها ودينها الخ.. وأخيراً تمثل القمة المدببة الحكومة وهى الجهاز التشريعى، والتنفيذى والقضائى للدولة.

الحكومة

(الجهاز الحاكم)

الدولة

(التاريخ-الحضارة-اللغة-الموقع-الخ..)

المجتمع

المنظمات المدنية- جمعيات- نقابات-أحزاب- صحف

هـيـئــات- طرق صوفية- شـركات-أوقــاف- فـنــون وآداب

الأمّــــــــــة

أفــــــــــراد الشــــــــعــب ( 60 مـلــيـــــــــون)

فى هذا الرسم نجد أن الهيئات والمنظمات المدنية هى التى تبلور- بصورة مباشرة- نشاط أفراد الأمة فى مختلف المحاولات وهى التى تقف ما بين "الأمة" كأفراد، والدولة التى تمثل الرمز، أو الحضارة، أو التاريخ، أو الدين دون أن تكون فيها هيئات أو أجهزة.. فإذا انتفى وجود القاعدة الثانية التى تكون المجتمع، أو وهنت، فستنتفى أو تهن العلاقة ما بين الأمة- كأفراد مشتتين دون تنظيم، والحكومة التى هى الجهاز الإدارى والتنفيذى والتشريعى والقضائى- ولن تستطيع الحكومة- لو أرادت- أن تتعامل مع الأمة بطريقة جماعية، منهجية، منظمة، ويغرى هذا الحكومة (حتى لو لم يكن هذا الأغراء كامنا فيها) بالاستبداد بالأمر.

وليس من المبالغة فى شئ القول إن تقدم الأمم إنما يكون بقدر تقدم المنظمات المدنية فى عملها، لأن التاريخ يدلنا على أن التقدم إنما رفعت راياته الهيئات التى كونها المجتمع للإصلاح فى كل مجال. فدعت هيئات الإصلاح الاجتماعى لإصلاح السجون ودور الرعاية الاجتماعية والدعوة للتأمينات الاجتماعية وأصلحت حركة التمريض المدنية نظم التمريض. وعلى أساس منظمات الوقف والجمعيات الخيرية بنيت المساجد والمدارس والمستشفيات، وكان من المستحيل أن تُمحى أمية الشعوب لولا الدعاة الذين آمنوا بضرورة ذلك ودعوا إلى التعليم الإلزامى، كما قامت النقابات بحماية العمال ورفع المستوى المادى والفكرى فى الوقت الذى قامت الجمعيات العلمية لدعم البحوث والدراسات التى تنهض بالصناعة والزراعة. أما فى الفنون والآداب من شعر أو موسيقى، أو تمثيل فما كان يمكن أن ترتقى لولا المعاهد والجمعيات والفرق التى قامت لذلك وتعهدته وصقلت موهبة الموهوبين بالثقافة والمعرفة ..

إن الشركة التجارية/ الصناعية، والنقابة العمالية/ المهنية، والحزب السياسى، والطرق الصوفية والفرق التمثيلية تدخل كلها فى إطار المنظمات المدنية لأنها جميعاً تتكون من أفراد أو متطوعين للعمل بحكم إيمانهم أو نشاطاتهم، وتستهدف النهضة بالمجالات التى قامت من أجلها والتى تصب فى النهاية فى بحيرة المجتمع، فهى تنبع من الأمة، ولكنها تصب فى المجتمع.

من هنا نعلم أنه بقدر نشاط وفعالية هذه المنظمات بقدر ما يكون تقدم، وحيوية، وفعالية المجتمع. وبقدر ما تضعف أو تتلاشى بقدر ما تنعدم هذه الحيوية، وبقدر ما يتفسح الحال لاستبداد الحكومة والتحكم بالأمة. كأفراد مشتتين.

z z z

وفى الفترة المعاصرة اكتسبت هيئات ومنظمات المجتمع المدنى أهمية خاصة، لأن التطورات التى تعرض لها العالم أخيراً، وأبرزها ثورة الاتصالات وربط كل دول العالم بعضها ببعض بالقنوات الفضائية وما تبثه أجهزة التلفزيون فى كل دولة، والطابع المجرد لعالم "الكمبيوتر" أدت إلى لظهور موجة عاتية هى العولمة. وكان أبرز ما أدت إليه هذه الموجه انحسار سلطة الدولة المركزية نتيجة تعاظم دور الشركات العملاقة- عابرة القارات- وبفعل الاتفاقيات الدولية التى تحرم على الدولة فرض الضرائب أمام الواردات أو فرض قيود على الاستثمار الخ ...

نتيجة لهذا زاد دور المنظمات المدنية وأصبح عليها أن تقوم بما كانت تقوم به بعض أجهزة الدولة وأن تستوعب الاتجاهات التى تأتى بها العولمة، ومعظمها غريب عن أوضاعها ومفاهيمها، وفى الوقت نفسه يكون عليها أن تحمى خصوصية الأمة ومقوماتها الرئيسية التى تمثل شخصيتها وذاتيتها. وبدون ذلك تكون العولمة طوفانا كطوفان نوح لا يمكن أن يقف أمامه شئ بما فى ذلك سيادة الدولة، وهو المبدأ العتيد الذى قامت عليه كل السياسات، الخارجية حتى الآن.

وحرية المنظمات المدنية تقتضى أن لا تكون هناك قيود على تكوينها أو أدارتها أو نشاطها، وأن لا يكون لأى جهاز حكومى كوزارة الشئون الاجتماعية أو الأوقاف أو غيرهما حق فى التدخل أو حتى المراقبة المالية. فكل هذا يجب أن يترك للذين يؤسسونها والذين هم أصحابها الشرعيون وما تدخل الوزارة إلا صورة من الافتيات على حرية الناس فيما يملكون وما ينشئون. وكما ذكرنا فى مكان سابق من هذا البحث، فإن المبرر القديم لتدخل الحكومة كان هو أن الهيئة لا تحصل على الشخصية الاعتبارية إلا عندما يضفى عليها القانون ذلك، ومن ثم يجوز لهذا القانون التدخل ولكن القانون الدولى الذى يعلو القوانين القومية، والذى يمثل الحقوق الأساسية للإنسان، يعطى كل هذه الهيئات الشخصية الاعتبارية ويحررها من كل صور التدخلات والقيود التى تريد الأجهزة الحكومية أن تفرضها بحجة التنظيم والحماية الخ.. فحتى الرقابة المالية التى يقال إنها تستهدف حماية أموال المنظمة حتى لا يستغلها أفراد من مجلس الإدارة فى غير ما خصصت له، حتى هذا الحق يمكن أن يكون تعله لتدخل الحكومة لا لحماية الأموال، ولكن لضيقها بهذه الهيئة، والصورة الطبيعية أنه ما دام مجلس الإدارة والجمعية العمومية لكل هيئة وهما مستوى التكوين ومستوى الإدارة قابلاً وراضيا بسير الجمعية فلا مجال لتدخل حكومى كائنا ما كان لأن أصحاب الهيئات راضون. فإذا كان ثمة خطأ فإن أى عضو من أعضاء الجمعية العمومية أو مجلس الإدارة يمكن أن يعمل لتصحيح الوضع بالطريقة التى يطبقها النظام الأساسى فإذا لم يصلح هذا، فما من قوة تمنعه -باعتباره عضواً فى الهيئة- من أن يرفع الأمر للقضاء ويطلب بالتصحيح ...

وأبرز مثال على سوءات التدخل بزعم الحماية هو تدخل الدولة فى شركات توظيف الأموال. فقد كانت- رغم كل ما نسب إليها من سوءات- تسير وتمضى قدماً وتوزع عوائد والجميع راضون. وعندما تدخلت الحكومة نهبت عمليا كل أموالها واحتفظت بها لنفسها ولم تعط المودعين "الغلابة" الذين أصبحوا فى قبضة الحكومة وروتينها إلا 10% وبعد عشرة أعوام 10% مرة أخرى فى حين أن أصول هذه الهيئات تضاعفت أضعافاً خلال الأعوام العشرة.

فأين الإصلاح فى هذا ؟ ولمن يلتجأ المودعون وقد أصبحت الحكومة خصماً وحكماً.

ويمكننا القول دون تحفظ أنه إذا كان التدخل الحكومى حسناً فى حالة، فإنه سيئ فى ألف حالة. وقد عانينا وعشنا بأنفسنا هذه التجربة عندما أسسنا سنه 53 "الجمعية المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم" ونجحت بفضل ظروف استثنائية فى تحقيق ثورة إصلاح السجون بما فى ذلك وضع الأسرة، وتخفيف القيود وإباحة السجائر وعدم إعمال السابقة الأولى الخ... وعندما تغيرت الظروف الاستثنائية التى سمحت للجمعية بهذا، وفى الوقت نفسه عندما أرادت الحكومة أن تضم كل الهيئات والجمعيات إليها- حيكت مؤامرة قذرة للجمعية، واستطاعت وزارة الشئون استبعاد مجلس الإدارة بأسره وإحلال مجلس إدارة من ضباط وموظفى السجون. وبهذا أصبحت هذه الجمعية التى بدأت ثورة إصلاحية وتولى قيادتها مفكرون ومصلحون وسيدات من المجتمع- جمعية مدجنة يكون دعاة الإصلاح فيها هم زبانية السجون أنفسهم. [5]

z

سابعاً : تحرير المرأة

لئن كنا قد غطينا بالحديث "مفردات الحرية" فهناك أمر آخر لا يقل أهمية عما قدمنا. ومن غير المعقول أن نتحدث عن مفردات الحرية، سواء كانت فى الفكر والتعبير والصحافة الخ... ونتجاهل أن نصف الأمة أو يزيد لا يتمتع بحرية ممارسة هذه المفردات، أو حتى بحرية تصرفاته الشخصية.

إن المرأة ليست فحسب نصف الأمة، ولكنها النصف الهام الذى يربى الجيل المقبل أى الأمة كلها.. رجالاً ونساءً وتطبعه بطابعها. فإذا غرست فيه الصدق والشجاعة والأمانة.. شب عليها.. وهى حقيقة لا تماثلها أى حقيقة أخرى، لأن ما تغرسه الأم فى الجيل سنوات طفولته الأولى يبقى فى نفسه أبد الدهر ..

وقد لا توجد قوانين تحرم المرأة من الحقوق والحريات الأساسية. فلها أن تتم الدراسات، وأن تمارس الأعمال والوظائف وأن تأخذ مثل أجر ومرتب زميلها دون تفرقه، وهو أمر قلماً تظفر به المرأة فى الخارج.. ولها أن تؤسس وتشترك فى الجمعيات والنقابات والأحزاب الخ ...

ولكن الأمر ليس أمر قوانين فحسب.. إن المناخ الذى يحيط بالمرأة أهم من القوانين لأنه يصل إلى ما تعجز القوانين عن الوصول إليه تحليلاً أو تحريماً، وقد يبيح القانون، ولكن المناخ لا يسمح، لأنه حصيلة العادات والتقاليد والأعراف والأوهام وما يتطرق إلى النفوس من مفاهيم مغلوطة، أو حساسيات مرهفة ...

فالمرأة العربية والإسلامية حتى فى دولة مثل تونس التى كانت الأولى التى حققت المساواة القانونية- تعجز عن أن تمارس مفردات الحرية بالصورة التى يؤديها الرجل .

وهناك عرف عميق متغلغل يوجد حساسية بالنسبة لكل شئ يتعلق بالمرأة ويجعل له وزنا خاصا ومعالجه مستقلة ويحسب على المرأة خطواتها ويعد عليها أنفاسها ويتحكم فى زيها، ومشيها، وخروجها ويمكن أن يوءول كل ما يصدر عنها تبعاً له ...

وإذا كان الأخ الأصغر فى الأسرة ينظر لنفسه حاميا لأخته الأكبر سنا، والأعلى تأهيلا. وصيا عليها وإذا كان الأب يتمنى أن يعهد بابنته إلى زوج تكون "فى عصمته" ويكون مسئولا عنها، فلا عجب إذا كانت المرأة فى المجتمع الكبير، كما هى فى الأسرة الصغيرة. تبيعه لا مستقلة ..

ومما يدخل فى باب التضليل الاكتفاء بالقول إن الإسلام انصف المرأة ومنحها حقوقاً لم تبلغها المرأة الأوربية إلا حديثاً، لأنه ليس له أى مردود عملى على الإطلاق. فقد عطل الفقهاء نصوص القرآن وممارسات الرسول وأحلوا محلها أحكاما تقرر القهر وتضع المرأة فى عقر دارها.. لا تخرج منه إلا لضرورة قاهرة ..

وكيف يمكن أن يكون هناك مساواة، ومصافحة المرأة تعد مشكلة مستعصية على الفقهاء حتى المتفتحين منهم- والزى والاختلاط- وهما أمس الحقوق الشخصية للإنسان وأكثرها خصوصية، محل كر وفر، تحليل وتحريم والذين يطالبون بالنقاب الذى يخفى وجهها. ويطمس شخصيتها لا يقلون عن الذين يكتفون بحجب الشعر وإبداء الوجه والكفين وإذا كانت قوى التطور القاهرة قد زجت بالمرأة فى مجالات العمل وأصبح حتما عليها أن تخالط الرجال (باستثناء السعودية التى تجعل للمرأة العاملة أمكنة خاصة لا يدخلها الرجال) فإن الأزواج والأباء فرضوا نوعاً من الرقابة الدقيقة على المرأة العاملة لحصر اختلاطها بالزملاء، كما حرم الاختلاط خارج إطار العمل والدراسة. ولا تملك المرأة أن تفتح الباب أو ترد على السائلين. وحتى لو كانت صحفية، فإنها تكتب وترسل ما تكتبه من "وراء ثقب الباب" على حد تعبير إحدى الصحفيات الكويتيات- قبل أن يسمح بتشغيل عدد من الصحفيات بالمجلة. والمرأة محرومة حتى من أن تشترك فى تحرير عقد زواجها الذى سيربطها بزوجها طول الحياة، وينوب عنها وكيل قد يكون أبوها أو أخوها ..

إن تأصل هذه الممارسات توضح أن المساواة ما بين النساء والرجال، أو حرية المرأة، قضية مستبعدة من الفكر المسيطر على المسلمين. وأن التفاسير المغرضة والأحاديث الموضوعة قد إنغرست عميقا فى جذور المجتمع الإسلامى والفكر الإسلامى وحالت دون أى تقدم فى هذه المسألة.

إن أى شائعة تشيع عن امرأة بعلاقة ما، تستتبع ذبح المرأة حتى يطهر "شرف العائلة" الذى لا يطهر إلا بعد أن يراق على جوانبه الدم ! ويغلب دائما أن تكون الشائعة كاذبة ..

وأين هذا الفهم الجاهلى الأصم ممن قال للرسول إنه رأى بعينه، وسمع بأذنه، فقال له شاهداك أو يجلد ظهرك، ومما قرره القرآن إذا ادعى زوج على زوجته بالزنا ولم يكن له شاهد آخر. أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من المكذبين. ويبرأ ساحتها [أى زوجته] العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وأن لعنة الله عليها إن كان من الصادقين ...

فأنظر إلى هذا الحل الحضارى الذى لا يقوم على الانتقام ولا يؤدى إلى إراقة دماء، بل ولا يثير جلبة، ثم يتفرقان ويتولى الله كل منهما بعدله ورحمته..

عجز المجتمع الإسلامى عن أن يسيغ هذا، وأن يسمو فوق غرائزه وأنانيته، وآثر أن يعود إلى العرف الجاهلى. وآزرته فى هذا القوانين الوضعية التى تخفف العقوبة فى "جرائم الشرف" المزعومة..

نحن نحتاج إلى جهود معمقه ومكثفة ومتوالية لا حصر لها حتى يمكن أن يستسيغ الرجل العربى والمسلم جوهر حرية الإنسان، رجلا أو امرأة وأن هذا إذا أنصب على حقوقه السياسية والعامة، فإنه أحرى أن ينصب أولا على التصرفات الشخصية كالزى، والاختلاط والخروج والدخول للمرأة كما للرجل وأن الحقوق والواجبات ما بين الزوجين يجب أن تقوم على رضاء وقبول وحب وعاطفة ليتحقق ما أراده الله بين الزوجين من مودة ورحمة وحب وسكينة.

متى يفهم المسلمون أن الأصل فى الأشياء والأفعال الحل والإباحة. وأن التحرر أفضل من التقيد، وأن العدل أفضل من الظلم وأن الإيثار أسمى من الأثرة.. وأن الجوهر أعلى من المظهر. وأن الشعب الذى يقيد نصفه لا يمكن أن يتقدم.. لأن نصفه المقيد يثقل على نصفه المحرر فلا يستطيع أن يسير وبهذا يُشل الشعب بأسره.

متى يتفهم ما قاله الرسول عن العنصرية إنها منتنة، وأنها تشبه الخرء الذى يدهده الجعُل بأنفه.. هل هناك تصوير أبشع من هذا لما كانت تظنه الجاهلية فخراً، ومجداً ؟ فلا فضل لقرشى على عربى ولا لعربى على أعجمى، ولا لرجل على امرأة ولا لغنى على فقير، إنها ليست الأحساب أو الأنساب، الذكورة أو الأنوثة التى ترفع وتضع .. ولكنها الأعمال والتقوى ..

لابد للمسلمين أن يتخلصوا من الحساسية التى تصل إلى حد المرض إزاء المرأة وأن يؤمنوا لا بالفعل والجوارح فحسب ولكن بالقلب والعاطفة أيضاً بما قاله الرسول "النساء شقائق الرجال" .

أن المرأة المتعددة الأبعاد، التى تكون حيناً أنثى، وحينا أماً هى أولاً إنسان شأنها فى هذا شأن الرجل تماماً، ويفترض أن تنال كافة الحقوق الإنسانية، ولا يجوز الافتئات على هذه الحقوق بأى دعوى، وإذا كانت صفتها الخاصة كأنثى وأم تحملها مسئوليات لا يحملها الرجل وترتب عليها واجبات لا يتقيد بها الرجل. فإن هذا الوضع أحرى أن يجعل المجتمع ينظر إليها بعين التقدير والإكبار والاحترام، وأن يقدم إليها التسهيلات التى تمكنها من القيام بمهامها المتعدّدة...[6]

0 التعليقات:

إرسال تعليق