السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الثالث: نهاية الخلافة الراشدة

- 1 -

أول الوهن

كيف تحولت الأمور إلى النهاية التى بلغتها، وكيف وصل برزخ الخلافة الراشدة إلى النقطة الفاصلة التى خلف فيها وراءه رحمة الحكم النبوى ليدخل فى نفق المُلك العضوض ومقدماته ..

لقد قلنا إن دولة المدينة كانت استثناءً من طبائع الأمور. وأنها ما قامت وازدهرت إلا بفضل العوامل الاستثنائية التى أشرنا إليها أكثر من مرة من التأسيس النبوى الذى كان النبى فيه رسولاً و "حكما" بين الناس فيما شجر بينهم سواء كانوا مؤمنين أو مشركين أرادوا استئصال الإسلام وجر المؤمنين إلى القتال الذى كان كرها لهم، ولكن ليس منه مناص، بل إن التملص منه لا يعنى سوى سيادة الاستبداد وانتفاء حرية العقيدة.. ولا خير فى مثل هذه الحياة.

وقاد الرسول هذه المعارك على غير طريقة القادة والملوك، فبعد أن فتحت المدينة بالقرآن – فتحت مكة بأهون الأسباب – ودخلها الرسول ساجداً على قتب بعيره شكراً لله وأعلن أنها أحلت ساعة من نهار وآمن أهلها جميعاً ثم أعلن أنهم طلقاء ..

وهذه "سياسة" ليست من سياسة الملوك فى شئ.. وتتناقض تناقضاً بينا مع موكب النصر الرومانى الذى يحتشد فيه الأسرى مكبلين بالأغلال وغنائم وأعلام المهزومين بينما يعتلى المنتصر مركبته ليرد على تحية الألوف.

ثم جاء أبو بكر وعمر ولم يكن أحدهما رسولاً نبياً يرزق هداية الوحى ولكنهما ساراً فى ظل الرسول واقتفيا أثره.. وكل ما ابتدعه عمر كان من روح الإسلام وما يتفق معه. وكانا نابغين من طينة العظماء الذين يرفضون المديح والثناء ويسقطون عرض الدنيا من متاع أو لباس.. أو ثراء لأنهم سمعوا الرسول وهو يقول "تعس عبد الدينار.. تعس عبد القطيفة" ..

وعندما يشرف على الأمر هؤلاء العباقرة المؤمنون فإن إيمان الناس يصفو وتتملكهم قوة الأسوة فيؤثرون الآخرة على الدنيا ويعفون عن المغانم وتستقيم طبيعتهم ويتغلبون بقوة الإيمان – على الضعف البشرى.. وعلى "الفجور" المغروس فى النفس البشرية.

ولكن إلى متى …

إن محمداً بعد ليس إلا "رسولاً قد خلت من قبله الرسل" فكتب عليه الموت كما كتب على الناس جميعا "إنك ميت وإنهم ميتون" ..

ولحق به أبو بكر كما لحق به عمر …

وكان من الطبيعى أن ينحسر مد الإيمان "وأن تنتهى قوته الدافعة ومناعته الحصينة عند الناس" ...

إن السؤال الهام الذى يفوت الكتاب الإسلاميين الذين يتحدثون عن القوة الخارقة للإيمان هو: إلى أى وقت يستمر هذا الإيمان. وتستمر وقدته ودفعته ؟ ففى التجربة التى نحن بصددها ظل هذا الإيمان ثلاثين عاماً ثم أخذت وقدته ودفعته تفقدان قوتهما شيئاً فشيئاً.

والقضية ليست هى أهمية الإيمان، فلا جدال فى أنه القوة التى تدفع الجماهير لعظائم الأعمال، كما يرفع الوقود الطائرة من الأرض إلى عنان السماء.. ونحن نؤمن بهذا ولكننا – بحكم الخبرة ومعرفة الطبيعة البشرية والسوابق التاريخية – نجزم أن الإيمان العظيم الذى يمثل القوة الدافعة ليس هو الدأب المستمر ولا هو الحال الطبيعى، ولابد أن يأتى وقت – طال أو قصر – تنفد فيه القوة الدافعة وتنطفئ فيه الوقدة المشتعلة..

هذا ما يوجب علينا أن نضع هذا العامل فى حسابنا فنعمل على تجديد الإيمان وتزويده بوقود جديد. وفى الوقت نفسه فلابد أن تكون توقعاتنا – فى المدى البعيد – فى حدود الإطار الطبيعى للنفس الإنسانية ولأصول المجتمع البشرى وما يحفل به من تعدديات وتيارات بحيث نستبعد الصورة الملائكية أو المثالية التى تقترن بالإيمان. إن هذه الصورة وإن كانت حقيقية ويمكن أن تظهر فى فترة ما، فإنها لا تستمر طويلاً، ولابد أن تعود الأمور إلى سياقها الطبيعى ..

f

ومن المحتمل أن لو كان عثمان فى مثل عبقرية عمر لمد فى عمر الخلافة الراشدة سنين عدداً. ولكن الذى حدث وجعل الانحسار حتما مقضيا، هو أن عثمان كان نقيضاً لعمر فى كل شئ تقريبا. ومن ثم فإن سياساته أدت إلى انحسار الإيمان، وانحسار الإيمان أدى إلى اغتياله واغتياله فاقم الأمور وبدأت "الفتنة الكبرى" ..

والحقيقة أن عثمان لم يكن فحسب نقيضاً لعمر. بل إنه كان إيذانا بالانتقال من "الموضوعية" التى كانت طابع الخلافة إلى الذاتية التى هى طابع الملك.. والتى كانت متأصلة فى بنى أمية كما سيلى. لأن عثمان رغم سابقته ومزاياه كان يحمل وراثة تجعل الذاتية فيه تغلب الموضوعية.

لإيضاح هذا نقول إن عامة الناس عندما يتركون لأنفسهم فإنهم يتصرفون تبعاً لما تهوى الأنفس. فيحبون الثراء والرغبة فى الامتلاك إلى درجة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة" ويؤثرون الاستمتاع ليس فحسب بطيبات الحياة الدنيا، بل بكل ما يمكن أن تأتى به الدنيا من فنون وصور الاستمتاع إلى آخر مدى.. كذلك فإن النفس تهوى السيادة. وأن تُأْمر فتطاع وأن يتملقها الناس بالمديح والإطراء وأن تكون لها حرية فى العطاء والمنع والأخذ والرد. وعندما ترد أخيلة المجد على فرد ما فلكى تحمل اسمه أو أن يفتح من البلاد، ويقهر من العباد أكثر مما فعل غيره الخ …

وما تركت النفس البشرية لطبعها فإنها تسلك هذا السبيل لأن الإنسان ضعيف أمام الإغراء خاصة وأن هناك شيطاناً مريداً يسرى من الإنسان مسرى الدم يدفع به إلى منازع الغواية ويزين له الشهوات.. فإذا كان تاجراً اشترى بأرخص الأسعار وباع بأغلاها. وإذا كان صانعاً استغل عرق العمال فأطال فى ساعات العمل وبخس الأجور. وإذا كان حاكماً استبد بالناس ونكل بالمعارضين واستحوز على الثروات، بل إنه كرجل يستغل قوته فى إخضاع زوجته وأولاده، وهو لا يرفض أن يستثمر أمواله فى معاملات مشبوهة أو صناعات أسلحة مدمرة، أو مشروبات مسكرة. أو إشاعة لشهوات الجنس بالأفلام العارية الخ… ولا يمكن أن يغير هذا المسلك وأن يتجاوز ذاته إلا بفضل قوة خارج الذات الإنسانية، وأعظم من الذات الإنسانية وتتبلور فيها القيم والموضوعية وهى ما يقدمه الإيمان بالله تعالى. خالق هذا الكون وأصل القيم والإطلاق والتجريد الخ… ولما كان العقل البشرى أعجز من أن يأخذ عن الألوهية فكرة دقيقة، فإن الله تعالى أرسل رسله ليعرفوا البشر عليه بفضل شعاع يبدد الظلمات، وبذلك يمكن أن يتغير المسلك الذاتى بسوءاته إلى مسلك موضوعى يلحظ القيم ويتجاوز الذات …

وحدث هذا بالنسبة للعرب بفضل الرسالة النبوية التى انتشلتهم من تقاليد الجاهلية الذاتية إلى آفاق الموضوعية الربانية وقيمها وبفضل هذا قامت ثورة الإسلام.. وظهرت دولة المدينة – تجربة فريدة فى التاريخ الإنسانى.

كان أمر قريش قبل بعثة الرسول ردحاً من الدهر يعود إلى قصى بن كلاب الذى هيمن على مكة والبيت وكانت إليه الحجابة "أن تكون مفاتيح البيت عنده، والسقاية (يعنى سقاية زمزم وكانوا يصنعون منها شرابا فى موسم الحج بعسل أو لبن) والرفادة (الطعام الذى يصنع لأهل الموسم) والندوة "دار الشورى" واللواء "أى القيادة فى الحرب" وعندما مات قصى برز من أبنائه عبد مناف. وولد لعبد مناف عبد شمس وهاشم والمطلب ونوفل. فولى السقاية والرفادة هاشم دون أخويه عبد شمس والمطلب وروى أن عبد شمس وهاشم كانا تؤمين ملتصقين فصل بينهما بسلاح فقال العرافون إنه سيكون بينهما دم إلى الأبد! وقامت منافسة ما بين هاشم وعبد شمس رجحت فيها كفة هاشم من كافة الوجوه بحيث خصوا هاشم بالسقاية والرفادة دون عبد شمس.

ويموت هاشم فيرث ابنه عبد المطلب مناصبة دون عبد شمس. ويموت عبد شمس ليخلفه ابنه أمية ..

وقامت منافسة حادة ما بين عبد المطلب وأمية لأن الخلاف فى الطبائع جعل عبد المطلب يمثل "الموضوعية" وأمية يمثل "الذاتية" ..

ومع أن الصورة المثلى للموضوعية هى ما تأتى به الأديان عن الله تعالى فإن طبيعة عبد المطلب كان فيها كل خلائق وصفات "الموضوعية" الدينية ألا وهى قيم الخير والحب والسلام والإيثار والانطلاق من هذه القيم والعمل بها، وكأنما أراد الله تعالى لنبيه أن يرث هذه الطبيعة حتى يكللها الوحى عند محمد – حفيد عبد المطلب بحيث يصادف هذا الوحى الطبيعة المهيئة له.

وعلى نقيض هذه الطبيعة كانت طبيعة أمية – الذاتية تمثل الأثرة وحب النفس والكسب والحرص على الدنيا والحكم على الأمور من هذه المنطلقات. ولهذا فلم يكن غريبا أن يشتغل معظمهم بالتجارة وأن يحصلوا على ثروات طائلة ..

وحاول أمية أن يفعل مثلما كان يفعل هاشم من إطعام بكرم وسخاء، وطيبة نفس، وكان هاشم يقدم الخبز واللحم والسمن والسويق والتمر.. وعجز أمية عن أن يماثل هاشم فى ضيافته لأنه كان يتكلفها وقامت "منافرة" بينهما أيهما أفضل يكون على الخاسر فيها أن يدفع خمسين ناقة سود الحدق لتنحر، وأن يجلو عن مكة عشر سنين وكان الحكم بينهما فى هذه المتنافرة هو الكاهن الخزاعى بعسفان فحكم لهاشم على أمية. فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها وخرج أمية إلى الشام ..

هل كان خروج أمية إلى الشام حدثا عارضاً. أو كان إيماء لما سيحدث لحفيده "معاوية" فيما بعد؟ أقام أمية بالشام عشر سنوات يغلب أنها دعمت طبيعته الذاتية وخلائقه المادية، والتجارية. وكانت الشام وقتئذ تحت حكم البيزنطيين.

وتكررت القصة مرة أخرى. فقد نافر حرب بين أمية عبد المطلب بن هاشم من أجل يهودى كان فى جوار عبد المطلب فما زال أمية يغرى به حتى قتل وأخذ ماله ..

وظهر جليا أن هذين الفرعين من عبد مناف يختلفان اختلافا جذريا فأمية يمثل الاتجاه الذاتى وهاشم يمثل الاتجاه الموضوعى.

فلما أعلن الرسول بعثته اشتدت عداوة أمية لبنى هاشم لأنهم جاءوا بما لا يمكن أن يأتوا به وأغلق الطريق أمام أى احتمال لكى يلحق بنو أمية ببنى هاشم فأحجج هذا العداوة القديمة، وقد كان من أبرز الأمويين المعادين للرسول أبو أحيحة سعيد بن العاص الذى هلك على شركه فى السنة الأولى للهجرة وعقبة بن أبى معيط الذى قتل فى بدر ومنهم الحكم بن أبى العاص بن أمية الذى أسلم تقية – وسيكون له دور مشئوم فى أزمة عثمان وما تلاها – وطرده الرسول من المدينة فأطلق عليه "طريد رسول الله" ومنهم عتبة بن ربيعه بن عبد شمس الذى قتل ببدر وعتبة هذا هو أبو هند التى تزوجت أبا سفيان بن حرب. والتى مثلت بجسد حمزة فى أحد. إذ كان هو الذى قتل أباها فى بدر، وقد أمر الرسول بقتلها ولكنها أسلمت وبايعت الرسول متنكرة. ومنهم الوليد بن عتبة بن ربيعه الذى قتل فى بدر قتله على بن أبى طالب وهو خال معاوية، ومنهم شيبة بن ربيعة بن عبد شمس عم هند وقتل ببدر، ومنهم أم جميل بنت حرب بن أمية التى أطلق عليها القرآن الكريم "حمالة الحطب" التى كانت تنشد الشعر فى ذم الرسول ومنهم معاوية بن المغيرة بن أبى العاص بن أمية وهو الذى جدع أنف حمزة ثم لاذ بعثمان ليحميه من رسول الله فوهبه لعثمان على أن يغادر المدينة بعد ثلاث. ولكنه لم يخرج منها إلا رابع يوم فأدركه أسامة بن حارثه وعمار بن ياسر فقتلاه، ومنهم أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية قائد الأحزاب وأحد. ولم يزل يجادل الرسول ويحاربه حتى أخذ الرسول يستعد لفتح مكة فجاء أبو سفيان ليتعرف الأخبار وكاد المسلمون أن يوقعوا به لولا أن حماه العباس لأنه كان صديقه وزميله فى الجاهلية. وعندما شاهد أبو سفيان الجيش الإسلامى وهو يسير إلى مكة قال للعباس لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً فقال له العباس. إنها النبوة… ولكن أبا سفيان كان يعود فيتحدث عن مُلك ابن أخيه". وعرض عليه أن يسلم فشهد أن لا إله إلا الله.. ولما طلب منه أن يتم "محمداً رسول الله" قال أما هذه ففى النفس منها شئ فقيل له آمن ويلك قبل أن تقتل.. فآمن ..

من هنا يتضح أن عداوة بنى أمية لبنى هاشم عريقة وأنها امتدت إلى عداوة الإسلام بحيث أصبح بنو هاشم يمثلون الإسلام وما فيه من موضوعية وبنو أمية يمثلون الدنيا وما فيها من ذاتية وأن هذا كان فى أصل العداوة التى عبر عنها الشاعر :

عبد شمس قـد أضرمت لبنـى

هاشم ناراً يشيب منها الوليد

فابن حرب للمصطفى، وابن هند[13]

لعلى، وللحسين يزيـــد

f

من هذه الشجرة الدنيوية، الذاتية نشأ عثمان بن عفان لأنه بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس ولكنه كان الاستثناء فى حدود ما يمكن للاستثناء أن يسمح به فقد أسلم عن صدق وحب، وإن لم ينزع هذا الإيمان من نفسه حب الدنيا والاستمتاع بالحياة، واقتصرت مساهمته فى نصر الإسلام على التبرع بالمال دون الجهاد، أو المشاركة فى بناء الدعوة، والجهاد بالمال قد لا يقل عن الجهاد بالنفس وقد كانت الدعوة الناشئة فى حاجة ماسة إلى الدعم المادى، وقد يلحظ أن القرآن الكريم كثيراً ما يقدم "الذين يجاهدون بأموالهم" على الذين "يجاهدون بأنفسهم". ومن ثم فإن الدعم المادى من عثمان كان له أثره وكان الرسول يعز عثمان معزة خاصة. وقد زوجه ابنته رقية فلما ماتت زوجه أختها أم كلثوم ومن ثم فقد يطلق عليه ذو النورين، وكان عثمان وديعاً، حييا، ولعله ورث بعض خلائقه الأريحية والكرم من جدته – أم أمه وهى أروى البيضاء بنت عبد المطلب.

لهذا كله كان عثمان شخصية محببة بين الصحابة …

f

عندما طعن عمر بن الخطاب وهو يتهيأ لصلاة الفجر، كان أول ما حرص عليه المسلمون هو أن تقام الصلاة. فأقيمت الصلاة وأديت بأقصر آيتين فى القرآن بينما كان الخليفة المطعون ينزف دما وكان الشىء الثانى عندما استبان للجميع أن عمر سيترك هذه الحياة الدنيا هى الاستخلاف. فقالوا له استخلف ونصحته عائشة عندما أرسل إليها ليستأذنها فى أن يدفن بجوار صاحبيه فى حجرتها فأذنت له وقالت لرسوله، قل له أن يستخلف ولا يدع أمة محمد ضياعاً ولما أكثر الناس قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى أى أبو بكر الصديق وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو أفضل منى (أى الرسول) ورأى أن يخرج من هذه المسئولية الضخمة وحتى لا تتكرر محنة سقيفة بنى ساعدة التى عاشها وقال عنها إنها كانت فلته. ارتأى وهو يجود بنفسه أن يدع الأمر بين يدى ستة من الصحابة تركهم الرسول وهو راض عنهم هم على وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص وطلحة والزبير..

قد لا يكون هذا الرأى أفضل الآراء. ولكن علينا أن نلحظ أن عمر أتخذه بعد أن طعن ودمه ينزف ولم يكن هناك وقت لاتخاذ إجراء آخر. ولعله فى ظرفه هذا كان أفضل ما يتصور، وقد وضع تعليماته فى هذا الوقت الحرج كأفضل ما تكون.. فأمرهم بالتشاور ثلاثة أيام. وأمر أبا طلحة أن يجلس مع خمسين من الأنصار لمراقبة العملية وقال إذا ارتضى الخمسة شخصاً ورفضه السادس فاقتلوه.. فإذا تقاسمت الآراء ما بين ثلاثة وثلاثة فيؤخذ رأى عبد الله بن عمر وليس له من الأمر غير ذلك ..

واتضح أن كل واحد من الخمسة (لم يكن طلحة موجوداً وقتئذ) كان حريصاً على أن تكون له الولاية. وعجب أبو طلحة الذى أمره عمر بحراسة المجموعة لأنه كان يتصور أنهم سيتدافعونها – أى سيدفع كل واحد منهم بالولاية إلى الآخر ورعاً وإيثاراً.. فإذا بهم يتدافعون عليها أى يريدها كل واحد لنفسه. ودرءاً لهذا الخلاف أعلن عبد الرحمن بن عوف أنه يعزل نفسه عنها إذا ترك له الباقون القيام بالمهمة. فقبلوا فقال لهم عبد الرحمن اجعلوا أمركم إلى ثلاث منكم فجعل الزبير أمره إلى على وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن بن عوف. قال المسور بن مخرمة فقال لهم عبد الرحمن كونوا مكانكم حتى آتيكم وخرج يتلقى الناس فى أنقاب المدينة متلثما لا يعرفه أحد فما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار وغيرهم من ضعفاء الناس ورعاتهم إلا سألهم واستشارهم أما أهل الرأى فأتاهم مستشيراً وتلقى غيرهم سائلاً يقول: من ترى الخليفة بعد عمر؟ فلم يبق أحدا يستشيره ولا يسأله إلا ويقول عثمان فلما رأى اتفاق الناس واجتماعهم على عثمان قال المسور جاءنى عثمان رضى الله عنه عشاء فوجدنى نائماً فخرجت إليه فقال: لا أراك نائما فوالله ما اكتحلت عينى بنوم منذ هذه الثلاثة ادع لى فلانا وفلانا (نفراً من المهاجرين) فدعوتهم فناجاهم فى المسجد طويلاً ثم قاموا من عنده فخرجوا ثم دعا عليا فناجاه طويلاً ثم قام من عنده على طمع ثم قال ادع لى عثمان فدعوته فناجاه طويلا حتى فرق بينهما أن أتت صلاة الصبح فلما صلوا جميعهم فأخذ على كل واحد منهم العهد والميثاق لئن بايعتك لتقيمن كتاب الله وسُنة رسوله وسُنة صاحبيك من قبلك فأعطاه كل واحد منهم العهد والميثاق على ذلك وأيضاً لئن بايعت غيرك لترضين ولتسلمن وليكونن سيفك معى على من أبى فأعطوه ذلك من عهودهم ومواثيقهم فلما تم ذلك أخذ بيد عثمان فقال له عليك عهد الله وميثاقه لئن بايعتك لتقيمن لنا كتاب الله وسُنة رسوله وسُنة صاحبيك وشرط عمر أن لا تجعل أحداً من بنى أمية على رقاب الناس فقال عثمان نعم ثم أخذ بيد على فقال له: أبايعك على شرط عمر أن لا تحمل أحداً من بنى هاشم على رقاب الناس. فقال على عند ذلك مالك ولهذا إذا جعلتها فى عنقى فإن الاجتهاد لأمة محمد حيث علمت القوة والأمانة استعنت بها كان فى بنى هاشم أو غيرهم. قال عبد الرحمن: لا والله حتى تعطينى هذا الشرط قال على والله لا أعطيكه أبداً فتركه فقاموا من عنده فخرج عبد الرحمن إلى المسجد فجمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنى نظرت فى أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعل يا على سبيلاً إلى نفسك فإنه السيف لا غير. ثم أخذ بيد عثمان فبايعه وبايع الناس جميعا.

وتورد بعض المصادر – كالبداية والنهاية – القصة فتقول :

ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه يستشير الناس فيهما (أى فى على وعثمان) ويجمع رأى المسلمين برأى رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين سراً وجهراً حتى خلص إلى النساء المخدرات فى حجابهن، وحتى سأل الولدان فى المكاتب وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، فى مدة ثلاثة أيام بلياليها فلم يجد اثنين يختلفان فى تقدم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشاراً بعلى بن أبى طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره، فسعى فى ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير من نوم إلا صلاة ودعاءاً واستخارة، وسؤالاً من ذوى الرأى عنهم، فلم يجد أحداً يعدل بعثمان بن عفان رضى الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور؟ والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث، اذهب فادع لى علياً وعثمان قال المسور: فقلت بأيهما أبدأ ؟ فقال بأيهما شئت، قال فذهبت إلى على فقلت أجب خالى فقال أمرك أن تدعو معى أحداً ؟ قلت: نعم! قال: من ؟ قلت: عثمان بن عفان، قال: بأينا بدأ ؟ قلت لم يأمرنى بذلك، بل قال أدعو لى أيهما شئت أولا، فجئت إليك قال فخرج معى فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس على حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لى كما قال لى على سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالى وهو قائم يصلى، فلما انصرف أقبل على علىَّ وعثمان فقال إنى قد سألت الناس عنكما فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن ولئن ولى عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التى عممه رسول الله r وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودى فى الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا فى أخريات الناس – وكان رجلاً حيياً رضى الله عنه – ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله r فوقف وقوفاً طويلاً، ودعا دعاء طويلاً، لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس إنى سألتكم سراً وجهراً بأمانيكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما على وإما عثمان فقم إلى يا على، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسُنة نبيه r وفعل أبى بكر وعمر؟ قال: اللهم لا ولكن على جهدى من ذلك وطاقتى، قال فأرسل يده وقال: قم إلى يا عثمان فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعى على كتاب الله وسُنة نبيه r وفعل أبى بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم! قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده فى يد عثمان فقال اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم أنى قد خلعت ما فى رقبتى من ذلك فى رقبة عثمان. قال وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال فقعد عبد الرحمن مقعد النبى r وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه على بن أبى طالب أولاً" انتهى.

هل كان هذا الإطناب فى إظهار الإجماع على عثمان إبرازاً لحقيقة أن قريش كانت قد ملت صرامة عمر وتاقت لسماحة عثمان.. أو أريد به إخفاء حقيقة أن الأنصار كانوا فى مجموعهم يؤثرون عليا وهل تملكت عبد الرحمن بن عوف نزعة نفسية كامنة لم يتبينها دفعته لأن يبايع عثمان. وهل كان الاشتراط بعمل الشيخين تحوطاً أدى إلى عكسه.. فالذى تعهد به ولم يعمل به والذى رفضه طبقه عندما وسد الأمر إليه، لا يمكن أن نقحم أنفسنا فى السرائر، ولكننا نرى أن الفرسان الثلاثة الذين آل إليهم الأمد فى هذا المنعطف الخطير من تطور الأحداث قد اخطأوا.

أخطأ عبد الرحمن بن عوف لأنه وهو التاجر المرهف الحس الذى يتعرف على أعماق شخصيات الناس بحاسته التجارية عندما قبل من عثمان التعهد بالحكم بسيرة الشيخين. كان لابد أن ينتهى إلى أنه إذا كانت القضية – كما عرضها الحكم بسيرة الشيخين – فإن عثمان لا يستطيع الحكم وكان يجب أن يُستبعد.

وأخطأ عثمان حين قبل وتعهد بالعمل بسيرة الشيخين وهو يعلم من نفسه أنه لا يطيق سيرة عمر وكان يجب أن يكون أمينا مع الحقيقة.

وأخطأ على حين جعل هذه النقطة مناطاً للقبول أو الرفض لأنه يعلم أنه سيسير بسيرة عمر، وربما يفوقه، وكان عليه أن يقبل لأنه الأحق ...

ولكن ليقضى الله أمراً كان مفعولاً.

تلك كانت "فلته" أخرى بعد "فلته" السقيفة. ولم يخلص منها المسلمون بالتوفيق كما خلصوا من الأولى لأن الإمام على كان بكل المقاييس أصلح من عثمان. وقد تعللوا عندما جاوزه أبو بكر أن أبا بكر يمثل مشيخة قريش، أما هو فشاب "وإن يطل بك عمر فلن تفوتك" وقد طال به العمر واكتسب خبرة وحنكة وكان نعم المستشار للشيخين فكان بها جديراً وهو ما اعترف به عمر نفسه وقال "لو ولوا الأجلح لسار بهم على الجادة" وعندما سئل وما يمنعك من استخلافه قال كرهت أن أحمل هذا الأمر …

كان خطأً تاريخيا، وإليه تعود كل الخلافات والانشقاقات والحروب.. وهو مثال نادر يوضح لنا كيف أن الخطأ فى قرار يمكن أن يغير مصاير أمة.

f

كانت السنوات الست الأولى من خلافة عثمان كما يقول ابن قتيبه فى الإمامة والخلافة من أسعد السنوات التى عرفها المسلمون الذين أخذهم عمر بالشدة حتى ملوه وملهم فجاء عثمان ليبدأ عهد "الاسترخاء" والراحة …

روى بن قتيبه عن الحسن البصرى قال شهدت عثمان وهو يخطب وأنا يومئذ قد راهقت الحلم فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أصبح وجها ولا أحسن نضرة منه فسمعته يقول أيها الناس اغدوا على أعطياتكم فيأخذونها وافية، أيها الناس اغدوا على كسوتكم فيغدون فيجاء بالحلل فتقسم بينهم حتى والله سمعت أذناى يا معشر المسلمين اغدوا على السمن والعسل فيغدون فيقسم بينهم السمن والعسل ثم يقول يا معشر المسلمين اغدوا على الطيب فيغدون فيقسم بينهم الطيب من المسك والعنبر وغيره والعدوان والله منفى والأعطيات دارة والخير كثير وما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا من لقى فى أى البلدان فهو أخوه وأليفه وناصره ومؤدبه فلم يزل المال متوافراً حتى لقد بيعت الجارية بوزنها ورقا وبيع الفرس بعشرة آلاف دينار وبيع البعير بألف والنخلة الواحدة بألف ثم أنكر الناس على عثمان أشياء شراً وبطراً. قال ابن عمر لقد عيبت عليه أشياء لو فعلها عمر ما عيبت عليه.

الحقيقة أن عثمان رحمه الله غّير وبدل، وسلك مسلكاً يختلف عن مسلك الشيخين، وقد كان الخوف الذى يملك عمر إزاء تولية عثمان أو على أن يحمل أحدهما الناس على رقاب شيعته. بمعنى أن يخص عثمان المناصب ببنى أمية، وأن يخص بها على بنى هاشم. وهذا ما وقع بالفعل من عثمان، بل ومن على أيضا فى إحدى فترات حكمه.

وكان عثمان بطبيعته وديعاً سمحاً سهلاً وعندما ولى الخلافة كان قد بلغ من العمر عتيا وعجز عن أن يقوم بنفسه بمسئوليات هذه الخلافة المتشعبة فاستعان بلفيف من آله مثلوا "الحاشية" وكانوا جميعاً من بنى أمية، ومن أسوأ عناصرها. وكان أبرزهم مروان بن الحكم وأفسد مروان على عثمان أمره واستبد بالأمر دونه.[14]

ولكن أهم من هذا أن دفعة الإيمان كانت قد انحسرت وعادت النفوس إلى طبائعها دون أن تجد تلك القوة التى تكبح التطلعات. وكانت الجماهير فى عهد أبى بكر وعمر حديثة عهد بالرسول وكانت الأسوة به تدرأ عنهم كثيراً من الشرور، وكان أبو بكر وعمر نابغين.. فلما أتى عثمان وقد بعُد العهد عن الرسول ولم يكن فيه شئ من نبوغ الشيخين كان لابد أن تبدأ غمرات الدنيا. وفاقم فى تطور الأمور واقعة تثير الذهول فالدولة التى كانت جيوشها تحارب فى فارس وأفريقيا وتكتسب انتصارات مدوية، لم يكن لها جيش فى المدينة – العاصمة – يشبه الحرس الجمهورى، أو الحرس الملكى فى مختلف الدول أو الحرس البريتورى فى روما، ولو كان هذا الحرس موجوداً لما جرؤت فلول من الناس على مقام الخلافة وقد رفض عثمان ما عرضه عليه معاوية من أن يرسل له أربعة آلاف من جند الشام لحمايته قائلاً "أرزق أربعة آلاف من بيت مال المسلمين لحرز دمى". وهذه الواقعة لفتة تبرز أن دولة المدينة لم تكن نمطاً فريداً أيام الرسول فحسب، بل إنها احتفظت ببعض خصوصياتها طوال الخلفاء الأربعة.

إن افتقاد التنهيج الذى أغفل أن يكون لعاصمة الدولة حرسها أغفل أيضا وضع أية صورة من صور الشورى المنظمة ولو وجدت لما أخذت أزمة عثمان شكلها العشوائى ولما تطورت إلى ما انتهت إليه، وهو نقص لا يمكن أن يُفهم من شخصية إدارية مثل عمر بن الخطاب إلا بغلبة وهيمنة فكرة دولة الدعوة على فكرة دولة السياسة، وكان كافيا فى دولة الدعوة أسلوب الشورى الذى اتبعه أبو بكر وعمر. لأن التركيز لم يكن على الدولة ككيان خاص له وجوده المستقل، وما يتطلبه هذا الوجود المستقل من آليات وضوابط وأجهزة الخ… قدر ما كان على قيام الدولة بالدعوة سواء فى الخارج أو الداخل، ويحتمل وجود عزوف لا شعورى فى نفس عمر بن الخطاب عن إقامة دولة "كسروية" أو "قيصرية" تكتسب قوتها على حساب تلقائية الشعب، وهو النمط الذى كانت الجيوش الإسلامية تحاربه وتسقطه. وليس هذا تبريراً لأنه يعد من وجوه النقص التى فاتت على عباقرة الدولة الإسلامية، ولكنه تصوير للحالة النفسية لهؤلاء العباقرة. وكيف أنها جعلتهم رسلاً لدعوة وليسوا بناة لإمبراطورية.. ولو وضع عمر مجلساً استشارياً يلحظ فيه المهاجرين والأنصار وبقية العرب لتغير الحال بالطبع.

ومما يثير الدهشة هو تشرذم كبار الصحابة إزاء هذه التطورات الخطيرة التى جعلت مجموعات الثوار تحاصر بيت عثمان وتمنع عنه الماء وكان يمكن لو انتظموا أن يقهروا المتآمرين.. وأن يلزموا عثمان تصحيح أخطاءه بصورة حاسمة، خاصة وأنه إنما اكتسب البيعة على أساس العمل بسُنة الشيخين. ولو دعاهم عبد الرحمن بن عوف لما تخاذلوا. ولكن يبدو أن وهن الإيمان الذى تطرق إلى نفوس هؤلاء القادة عجز عن صهر الطبيعة الفردية كما حدث أيام الرسول، فعادت مرة أخرى.

- 2 -

الفتنة الكبرى

نتيجة لهذه العوامل كلها، أعنى.. أخطاء عثمان الفادحة وضعفه واستسلامه لحاشية السوء. وتشرذم كبار الصحابة ومشيختهم وانتشار الفتن والدسائس بين الدهماء والغوغاء.. كل هذا سمح بحصار عثمان، ومنع الماء عنه، ثم التسور على المنزل وقتل عثمان وهو جالس يقرأ فى مصحفه تحوط به نساؤه وتدفع عنه زوجته نائلة بنت الفرافصة حتى قطعت أصابعها.. ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تمنع الصلاة عليه ودفنه فى البقيع، حتى حمله بعضهم على لوح خشبى وساروا فى ظلمات الليل، ومعهم ابنته عائشة تحمل مصباحاً فى حق حتى أتوا به جسر كوكب حفروا له حفره فدفنوه ولم يلحدوا وحفوا عليه التراب وكان بعض الخوارج يريدون رجمه ودفنه فى مقابر اليهود بدير سلع.

هذا المشهد المروع الذى ما كان يخطر بالبال كشف عن هشاشه بناء دولة المدينة قدر ما كشف عن استشراء الفوضى، وانطلاق الأهواء وفساد النفوس وبدء الفتن التى وصفها حديث نبوى "كقطع الليل المظلم مشتبهات لا تعرف أيا من أى".

فلم يسبق أن ساقتهم الأحداث إلى هذه النهاية، ولا يقاس بها ما تعرضت له وحدة المسلمين فى سجال سقيفة بنى ساعدة، ولم يقتل عمر مسلم يمكن أن يحاجه أمام الله بكلمة لا إله إلا الله أو بصلوات أداها، كما كان عمر يقول، فقد قتله مجوسى من الموالى. أما قتل عثمان فشىء شنيع، فظيع إنها الفتنة التى تفتح باب الفتن لا تعرف أيا من أين. إنها الفتنة الكبرى.. أو هى الباب الذى انفتح لهذه الفتنة.

وجد الجميع أنفسهم فى خضم هذه الفتن لا يعلمون كيف يخلصون وبوجه خاص الذين أرادوا الخلاص من ورطتهم بقتل عثمان إلا مبايعة الإمام على. فهو الوحيد الذى يتمتع بثقة الجميع، ولكن الإمام على لم يكن بالغفلة التى يقبل فيها بيعة هؤلاء وقال لهم إن الأمر ليس لهم ولكنه للمهاجرين والأنصار. ولابد أن يتم فى المسجد وبعد إجماع الناس.

وتمت بيعة على فى هذا الجو المضطرب. وقد تغيب بعض الصحابة كما لم تصل بعد بيعة الأمصار. الكوفة والبصرة ومصر والشام الخ …

هل كان من الممكن أن يتنحى الإمام على ويرفض البيعة كما نصحه بذلك فى بعض الروايات ابنه الحسن؟ إنه ما كان يستطيع، لأن هذا وإن كان سينقذه فإنه سيشيع الفوضى. فلم يكن مناص من أن يتقدم حتى ولو اعتبروه كبش الفداء ..

وما إن تقبل البيعة حتى ظهرت القضية الشاغلة قضية دم عثمان والاقتصاص من قتلته. وكيف يمكن الاقتصاص من القتله وهم يحكمون المدينة. وقد ظلت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقى بن حرب وهو من الذين اشتركوا فى قتل عثمان.. لم يكن من الممكن ولا المعقول إثارة هذه القضية. وكانت إثارتها لا تعنى سوى إثارة فتنة أعظم.

ولكن الشيطان كان قد استحوز على الناس ونسوا الله فأنساهم أنفسهم. وذهبت بشاشة الإيمان وحل محلها لدد الخصومة ..

وتطورت الأمور، فقد رفض معاوية البيعة لعلى وحانت له أخيراً الفرصة التى طال ترقبه لها بعد أن خدع عمر بن الخطاب "خدعة أريب" وترك عثمان يلقى مصيره ثم انبرى يطالب بدمه والقصاص من قتلته. ووضع قميص عثمان المخضب بالدم وأنامل نائلة زوجته التى قطعت وهى تدافع عنه" على منبر دمشق فعزم على بن أبى طالب أن يقاتل بمن أطاعوه من عصوه، وأولهم معاوية وجهز الجيش واستعد للخروج إلى الشام وعندما علم بخروج طلحة والزبير ومعهم أم المؤمنين عائشة إلى البصرة، غيرّ اتجاهه وفى الوقت نفسه فإن عامل على على البصرة عثمان بن حنيف اتخذ أهبته لمقاومة عائشة ومن معها حتى يأتيه أمر على، وقد استنكر كثيرون خروج عائشة، ولكن عائشة "أم المؤمنين" وعثمان وعلى أبناء لها وقد رأت أن من حقها أن لا يضيع دم أحد أبنائها هدراً وإن كنا نتصور أنها أرادت الإصلاح بين الفريقين وأنها وهى من أكبر رواه الحديث لابد أن سمعت الرسول وهو يتحدث عن "إصلاح ذات البين وأنه أفضل من الصلاة والزكاة لأن فساد ذات البين هى الحالقة. ويروى لنا بن كثير فى البداية والنهاية أن الحسن تقدم إلى أبيه بنصيحة رفضها، كما كان قد تقدم إليه من قبل فرفضها أيضاً فقد نصحه عندما حوصر عثمان أن يترك المدينة حتى لا يقتل وهو بها. وأن لا يبايع بعد قتله حتى يبعث إليه أهل كل مصر ببيعهم، وأن يجلس فى بيته عندما خرجت عائشة وطلحة والزبير حتى يصطلحوا ورد عليه أبوه "أما قولك أن أخرج قبل مقتل عثمان فقد أحيط بنا كما أحيط به. وأما مبايعتى قبل مجىء بيعة الأمصار فكرهت أن يضيع هذا الأمر وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه فتريد منى أن أكون كالضبع التى يحاط بها ويقال ليست ها هنا حتى يشق من عرقوبها فتخرج فإذا لم أنظر فيما يلزمنى فى هذا الأمر ويعنينى فمن ينظر منه. فكف عنى يا بنى" ولم يكن من السهل أن تتلاقى سيوف المسلمين ويضرب بعضهم رقاب بعض فكثرت الرسل وأرسل على القعقاع بن عمرو فى سفارة ناجحة اتفق فيها مع طلحة والزبير وعائشة على تسكين الأمر والمصالحة فاطمأنت النفوس واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين وبات الناس بخير ليلة وبات قتلة عثمان بشر ليلة يتشاورون وأجمعوا أن يثيروا الحرب من الغلس. فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفى رجل فهجموا على جيش على فقام الناس من منامهم إلى السلاح كل يظن الآخر قد غدر به وقامت الحرب على قدم وساق وكان مع على قرابة عشرين ألفا. ومع طلحة والزبير وعائشة قرابة ثلاثة ألفا (البداية والنهاية ص 239 ج7) وجاء كعب بن ثور قاضى البصرة فقال "يا أم المؤمنين أدركى الناس لعل الله أن يصلح بك بين الناس. فجلست فى هودجها وناولته مصحفاً وقالت ادعهم إليه فلما تقدم به استقبله قتلة عثمان فى جيش الكوفة بالنبال فقتلوه واحتدم القتال حول هودج عائشة.. وما أكثر الأيدى التى قطعت وهى تمسك بذمامه أو تدفع عنه.. وعندما أخذ بزمامه عبد الله بن الزبير، وهو ابن أخت عائشة قالت عائشة "واثكل أسماء! حتى ارتفعت الصيحة "اعقروا الجمل" فعقروه فخر وسمع له عجيج "ما سمع أشد وأنفذ منه".

هذه موقعة الجمل لم تفارق ذكراها الحزينة الممضة عائشة فكانت تبكى حتى يبتل خمارها وضمت الأتقياء البررة مثل محمد بن طلحة المعروف بالسجاد الذى انخرط فى الجيش دفاعاً عن أم المؤمنين وكان يتقدم الصفوف وهو يقرأ "حم لا ينصرون" فطعنه بعضهم بحربة فأرداه.. وقال :

وأشعث قــوام بآيـات ربـه

قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

هتكت له بالرمح جيـب قميصه

فخـر صريعاً لليديـن وللفـم

يذكرنى حم والرمـح شاجــر

فهـلا تـلا حـم قبـل التقـدم

على غير شئ غير أن ليس تابعاً

علياً ومن لا يتْبـع الحـق يندم

كما ضمت قرما الفروسية والسلطة.. عبد الله بن الزبير ومالك الأشتر اللذين تبارزا كفحلين – وتبادلاً الطعنات ثم اعتنقا وسقطا على الأرض فصاح عبد الله بن الزبير.

اقتلونـــى ومالكـــاً

واقتــلوا مالكـا معى …

وفى ساحة المعركة كان طلحة – طلحة الطلحات – معفراً فى التراب.. وغير بعيد عنه الزبير بن العوام مسجى على الثرى ..

ضمت معركة الجمل الأباء والأبناء كما فى طلحة وابنه والزبير وابنه كما ضمت أم المؤمنين، وابن عم الرسول على بن أبى طالب… الجميع يقاتل بعضهم بعضاً ..

وضمت عمار بن ياسر بن أول شهيد وشهيدة فى الإسلام وهو وقتئذ فى التسعين من عمره يخز الزبير بن العوام بالرمح والزبير لا يفعل شيئاً له فقد كان من المعروف أن الرسول قال لعمار "تقتلك الفئة الباغية" وما كان الزبير يقبل أن يكون من الفئة الباغية. وأجِل قتل عمار إلى صفين وعندما قتل وارتاع عمرو بن العاص نفسه وهو يسوق النبأ إلى معاوية قال هذا بهدوء "أنحن قتلناه.. إنما قتله من أخرجه !!" ..

هذا هو منطق السياسة وتحريفها للأمور …

ومع كل ما حفلت به معركة الجمل من هول، وما أدت إليه من مقتل مشيخة المهاجرين، فإنها لم تكن إلا "بروفة" أو مناورة إذا قيست بمعركة صفين الرهيبة عندما نهد الجيشان العظيمان اللذان هما كل جند الإسلام كأنهما بحرين متلاطمين اصطبغت مياههما بحمرة الدماء.

وكادت الهزيمة تلحق بمعاوية ولكن عمرو بن العاص أنقذه بمشورته البارعة أن يرفع المصاحف على الرماح ويصيحون "تعالوا إلى كتاب الله" "بيننا وبينكم كتاب الله".

كانت خدعة بارعة. وكان أول من فطن لها على بن أبى طالب لأنه عرف أمية أطفالاً ورجالاً فكانوا شر أطفال وكانوا شر رجال وما كانوا بالذين يريدون النزول على ما أمر الله وإنما أن يضيعوا عليه النصر الوشيك.

ومع هذا.. فإن نجاح مكيدة رفع المصاحف على الرماح فى إيقاف المعركة وإنقاذها ولو جنديا واحداً من معسكر معاوية أو معسكر على أفلا يكون ذلك أفضل من مواصلة القتال ؟

f

كان التحكيم هو بداية النهاية لعهد على بن أبى طالب.

فقد آمن على بأن الحل الحاسم هو القضاء على الفتنة ولو أدى إلى القتل.. وكان له شاهد من القرآن الكريم "والفتنة أشد من القتل" ..

ولكن أى قتل يا ربى؟ قتل أهل بدر الذين قال فيهم الرسول "إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم" و "وما أدراك لعل الله أطلع على أفئدة أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم" قتل فرسان المسلمين وذخيرة المجتمع الإسلامى فى مواجهة أعداء الإسلام.

كان بين حق على.. وباطل معاوية نهر من الدماء.. فهل كان عليه أن يدفع هذا الثمن الباهظ ..

هل الوصول إلى الحق بقتل الآخر هو الطريقة الأمثل لتحقيق الحـق.. ؟

هل كان الحسن بن على أدق فهما وأبعد نظراً من أبيه عندما رفض مواصلة حرب معاوية، رغم استفزاز اتباعه له إلى حد طعنه، وأنه كان لديه جيشاً جراراً على رأسهم القائد الصلب قيس بن سعد بن عبادة، ورغم تعيير أصحابه له "قائلاً العار خير من النار، لست بمذل المؤمنين، ولكنى كرهت أن أقتلكم على الملك.[15]

لقد رأى الحسن القتل لقاء الملك فعزف عنه ولكن أباه رأى الشهادة فى سبيل الخلافة فخاض فيها.

تلك قضية تفاوتت فيها الاجتهادات والتأويلات ...

f

واجتمع الحكمان.. كما اجتمع المسلمون وكفار قريش فى الحديبية ..

وواصل عمرو بن العاص خداعه.. فادعى الاتفاق مع أبى موسى الأشعرى وقدم أبا موسى ليعلن خلع على ومعاوية، وعندما جاء الدور على عمرو قال إنه يخلع عليا ويثبت معاوية ..

قال أبو موسى لعمرو.. مالك عليك لعنة الله ما أنت إلا كمثل الكلب تلهث فرد عمرو بن العاص ولكنك مثل الحمار يحمل أسفاراً (الإمامة والسياسة لابن قتيبة) ..

هذان صاحبا رسول الله وقد اضطرهما الخلاف إلى مثل هذا الموقف.

لقد وصف الموقف شاعرنا العظيم شوقى الذى ابتدع تعبير "الفتنة الكبرى" قبل طه حسين بوقت طويل …

أسمعت بالحكمين فى الإسلام يوم الجندل؟

فى الفتنة الكبـرى ولولا حكمة لم تشعل

رضى الصحابة يوم ذلك بالكتاب المنزل

وهم المصابيح الرواة عن النبى المرسل

قالـوا الكتـاب وقام كل مفسر ومؤول

حتى إذا وسعت معاوية.. وضاق بها على

رجعوا لظلم كالطبائع فى النفوس مؤصل

نزلوا على حكم القوى وعند رأى الأحيل

كانت النهاية تقترب بسرعة …

من ناحية كان على بن أبى طالب يؤمن بضرورة حسم فتنة معاوية وفتنة الخوارج ولو بالسيف..

ولم يكن سعيداً بهذا الحل. وقد تملكه الأسى وهو يشهد طلحة معفراً بالتراب وقال "رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علىَّ أن أراك مجندلاً تحت نجوم السماء إلى الله أشكو عجرى وبجرى والله لوددت أنى كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين عاما" وتملكه الحزن الممض لما يسيل من الدماء ولكنه مع هذا كله لم يجد مناصاً من مقاتلتهم للعودة إلى الجماعة… كان يقاتلهم.. ثم يصلى على القتلى ويدعو لهم !

كان يريد – بجدع الأنف – إعادة الخلافة الراشدة وظل مصراً على هذا متمسكا به.

وأمضى الجزء الآخر من حياته معذباً، فلا أصحابه يستجيبون له ولا هو يقبل الدنية..وتمنى الموت.. وما أكثر ما كان يقول "ما يحبس أشقاها" فقد تنبأ الرسول بأن سينبعث أشقاها فيخضب لحيته بدماء رأسه..

من ناحية ثانية كان التطور قد قال كلمته.. لقد فسد الناس ونفدت دفعة الإيمان.. ووهنت قوته بحيث انتصرت عليه الأطماع والأهواء والذاتية فى أسوأ صورها ..

كان لابد من حل.. لابد من أن يوجد من يضع النهاية ويسدل الستار ويثبت استحالة عودة الخلافة الراشدة …

وكان الرجل الذى ادّخره القدر لهذه المهمة الحزينة هو عبد الرحمن بن ملجم ..

فقد اجتمع ثلاثة من الخوارج وتواعدوا على قتل الثلاثة الذين رأوا أنهم سبب كل هذه الكوارث. فتعهد عبد الرحمن بن ملجم بقتل على. وتعهد البرك بقتل معاوية وتعهد عمرو بن بكر بقتل عمرو بن العاص واتعدوا فجر يوم السابع عشر من رمضان من عام 39 هجرية.

لم تكن مصادفة أن لم يقتل من هؤلاء الثلاثة إلا على بن أبى طالب.

فقد جرح معاوية جرحاً طفيفاً ولم يصب عمرو بسوء لأنه لم يخرج للصلاة هذا اليوم وأناب عنه خارجه فقتل. وذهبت أدراج الرياح أمنية الشاعر.

فليتها إذ فدت عمراً بخارجة

فدت علياً بمن شاءت من البشر

إن هذا لم يكن ممكنا …

كان لابد من أن يموت على ابن أبى طالب حتى تنتهى محاولة استعادة نمط من الحكم لا يطيقه التطور …

لقد انتهت الخلافة الراشدة مع مقتل عمر بن الخطاب ودفنت مع مقتل على وإنفسح المجال للمُلك العضوض …

ولكن هذا لا يعنى أن الخلافة الراشدة لم تخلف أثراً.

إنها – والحكم النبوى قبلها – وضعت الأسس الجوهرية فى كل حكم رشيد: انتخاب الحاكم من قبل الشعب. أن يكون الحكم بالقرآن أن يكون للشعب حق مراقبة الحاكم ومساءلته وإقالته ..

إن دولة تحقق هذا، تطبق الأصول الإسلامية فى الحكم ...

وليس من المفارقة أن لا تحمل هذه الدولة مع هذا اللافتة الإسلامية، أو تدعى أنها تطبق حكم الله ..

إنها – ببساطة تطبق أمراً نبوياً أوصى به الرسول حد ولاته. إذا حاصروا حصنا وأرادوه أن يعطيهم ذمة الله وذمة رسوله أن لا يفعل. وإنما يعطيهم ذمته وذمة أصحابه لأن من المحتمل أن يخطئ فيحمل ذمة الله ورسوله ما ليس فيها ...

- 3 -

نهاية الخلافة الراشدة

لم تقتل طعنات هذا الأسير المجوسي أبو لؤلؤة شخص عمر بن الخطاب فحسب، ولكنها فى الحقيقة أنهت حقبة باهرة من أكثر حقب التاريخ الاجتماعى والسياسى إشراقاً وقرباً إلى الكمال. وما كان أحق مصرع عمر بن الخطاب بأبيات الشاعر :

وما كان قيس هلكه هلك واحد ..

ولكنه بنيـان قــوم تهدما

وفى المرويات التى تنسب إلى الرسول أو إلى الصحابة أحاديث تصور هذا المعنى، أو تتحدث عن الخلافة الراشدة ونهايتها ونحن نتقبل هذه المرويات لا باعتبارها أحاديث قالها الرسول بالفعل حتى لو كان سندها قويا ويصعد بها إلى درجة الصحيح، لأننا نعلم أنه ليس هناك أهون من "فبركة" سند يدق على دهاقين "الجرح والتعديل" لأن قواعدهم نفسها تكاد تجيزه أو تسمح به، ولأن نزعة التسامح خاصة فى الرقائق أو المعجزات الخ… جعلتهم يتقبلون الكثير مما جاء فى هذا الصدد دون تدقيق لأنه – فيما رأوا – يرهف القلب ويهيئ الحواس.. وإنما نتقبل هذه المرويات باعتبارها ممثلة لحاجة ما فى المجتمع، أو لسد نقص منه أو لتحقيق غاية سياسية أو دينية، أو "حسبة" كما قال الذين ادّعو أنهم يكذبون لحساب الرسول وليس على حساب الرسول أو كيداً فى الإسلام من فريق لم يستطع أن يجابهه، وهو فى عنفوانه فلجأ إلى دس مفتريات تسىء إلى العقيدة وتهيئ العقل لقبول الخرافة.. من هنا فنحن نحتفل بكل ما تتضمنه موسوعات الحديث من روايات ونرى أن وراء كل حديث موضوع سبب ما قد يكون من الخير التعرف عليه ..

فى هذا الصدد نجد مرويات عن الفتن والخلافة، منها ما جاء فى مسند الإمام أحمد بن حنبل مرويا عن حذيفة بن اليمان الذى قال عن نفسه إن الناس كانوا يسألون الرسول عن الخير وكنت أساله عن الشر‍ ! يروى عنه أنه كان مع عمر بن الخطاب عندما قال أيكم يحفظ قول رسول الله r فى الفتنة ؟ قلت أنا كما قاله، قال إنك لجزئ عليها أو عليه، قلت فتنة الرجل فى أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، قال ليس هذا أريد ولكن الفتنة التى تموج كموج البحر، قلت ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً، قال أيكسر أو يفتح ؟ قلت بل يكسر، قال إذا لا يغلق أبداً، قلنا أكان عمر يعلم من الباب ؟ قال نعم كما يعلم أن دون غد ليلهُُ، قال وكيع فى حديثه قال فقال مسروق لحذيفة يا أبا عبد الله كان عمر يعلم ما حدثته به قلنا أكان عمر يعلم من الباب قال نعم كما يعلم أن دون غدِ ليلهُُ، إنى حدثته حديثاً ليس بالأغاليظ فهبنا حذيفة أن نسأله من الباب فأمرنا مسروقاً فسأله فقال الباب عمر."

نعم كان عمر هذا الباب. وكان واقفا وراء هذا الباب يمنع قريش من الانسياب إلى الأمصار والانزلاق والافتتان فتنة الناس بهم وفتنتهم بالناس. وكان وراءه وهو يحاسب نفسه وآله أكثر مما يحاسب الناس، وكان وراءه وهو يرسل رسله لمتابعة الولاة أولاً بأول، ثم مقاسمتهم أموالهم… وكان يرى أن المسلمين أصبحوا كالجمل "البازل" أى الذى بلغ الذروة من السن التى لا يكون وراءها إلا التدهور.. فجاءت طعنات هذا المجوسى فأزالت الباب …

وتوالت الفتن التى وصفها حديث "كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً تأتيكم متشابهة كوجوه البقر لا تدرون أيا من أى" …

حقا لقد وجدت أحاديث تحدد الخلافة الراشدة بحيث تستغرق مدة الخلفاء الأربعة.. وهى مشهورة فى كتب الحديث "وبعضها مروى عن حذيفة أيضاً مثل هذا الحديث "عن النعمان بن بشير قال كنا قعوداً فى المسجد مع رسول الله r وكان بشير رجلاً يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشنى فقال: يا بشير بن سعد: أتحفظ حديث رسول الله r فى الأمراء، فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة قال رسول الله r: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت ..

قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير فى صحابته فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره أباه فقلت له: إنى أرجو أن يكون أمير المؤمنين يعنى عمر (بن عبد العزيز) بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابى على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه …

وهذا الحديث عن سفينة "قال سمعت رسول الله  يقول: الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك الملك. قال سفينة: أمسك، خلافة أبى بكر رضى الله تعالى عنه سنتين، وخلافة عمر رضى الله عنه عشر سنين، وخلافة عثمان رضى الله عنه اثنى عشر سنة، وخلافة على رضى الله عنه ست سنين. رضى الله عنهما ..

وقد حرر بعضهم هذه المدة فوجد مدة خلافة أبى بكر سنتان وثلاثة شهور وعشرة أيام ومدة عمر عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام ومدة عثمان أحد عشر سنة وأحد عشر شهراً وستة أيام وخلافة على أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام. وقال إن من ذكر الثلاثين أضاف خلافة الحسن وأغفل الشهور والأيام ..

ولكننا نرى أن الحديث الذى يجعل الخلافة الراشدة ثلاثين، عاماً إنما أريد به التصديق على الخلفاء الأربعة، والحسن أيضاً ..

وهذا على كل حال أمر مقبول ما دمنا أخذنا هذه المرويات مأخذاً عاماً. ونرى أن فى الحديث الذى سبقه شبهاً قويا بما حدث بالفعل ..

ويلحظ بالطبع أننا عندما جعلنا الخلافة الراشدة تنتهى مع نهاية عمر خالفنا الأمر المقرر والشائع الذى يجعل الخلفاء أربعة.. ويمد الخلافة الراشدة لقرابة ثلاثين عاماً، ونعتقد أن كثيراً من القراء سيذهبون إلى ما ذهبنا إليه عندما يقاربون ما بين "دولة المدينة" التى أسسها الرسول ووصلها أبو بكر وعمر بالفترة اللاحقة التى شهدت الفتن وسالت فيها الدماء وخولف ما وضعته دولة المدينة من مبادئ وأصول. ولم تكن محاولات الإمام على لإصلاح الحال والعودة بها إلى عهد الشيخين إلا محاولات متعثرة، أوقعته هو نفسه فيما لم يحب، ثم انتهت بمقتله، وأثبتت أنه لا يمكن إعادة الخلافة الراشدة مرة أخرى كما كانت عهد الشيخين ..

لقد رزقت دولة المدينة التى وضع الرسول قواعدها عوامل استثنائية خاصة هى التى مكنتها أن تقوم وأن تتصف بالروعة والجمال والقرب من الكمال.. أولها أن صاحبها وواضع أساسها كان رسولاً نبياً يهتدى بوحى سماوى يهديه سبل الرشاد ويجنبه مكامن الزلل، كما كان بالطبع عبقرياً موهوبا. وإلا لما اصطنعه الله تعالى لرسالته وليكون خاتم الرسل …

أمره الله تعالى أن يخفض جناحه للمؤمنين، وأن يشاورهم فى الأمر، وعاتبه لأنه انصرف عن ضرير من عامة الناس وهو فى غمرة اهتمامه باكتساب لفيف من الكبراء للإيمان، وأمره بالعدل بينهم وأن يحكم بينهم بما أنزل الله لا يزيد عليه ولا ينقص منه، فكان حكمه حكم القانون – حكم القرآن الكريم – وكان شخصه شخص الداعية.. الذى يبدأ بنفسه ليكون أسوة.. فلم يستهوه الثراء والمتاع والمأكل والمشرب.. ولم يتأثل مالاً ووضع مبدءً أن الأنبياء لا تورث، وآل إلى بيت المال كل ما آل إليه من مال خديجة أو ما أهدى إليه أو غير ذلك وتحرر كل مواليه ..

كان الرسول عبقريا فى شخصه.. ومهديا فى رسالته ولهذا نجحت تجربة دولة المدينة تحت قيادته. واكتسبت مناعة من أن تفسدها السلطة …

وكان من يمن طالع المسلمين أن خلفه فى قيادته أبو بكر الذى كان "متبعاً لا مبتدعاً" ..

وبفضل الاتباع الأمين هُدى أبو بكر فى قيادته.

إنه بطل سجال السقيفة الذى كاد لولاه أن يمزق وحدة المسلمين …

وهو الذى وضع فى خطابه الافتتاحى الأصول الرئيسية والدستورية للدولة الإسلامية. ألا وهى إقرار العدل وأن تتم التولية ببيعة، وأن يكون الحكم بالقرآن وأن يكون من حق الناس متابعة الحاكم وتقويمه فإن أحسن أطاعوه وأن أساء فليس لهم عليه طاعة.. وهى المبادئ التى سبق بها الرسول ثم جاء عمر، فكرر عمل الرسول السابق وعمل أبى بكر اللاحق ..

ثم ظهر أن هذا الرجل الوديع البكَّاء والمشفق الرحيم يضم بين جنبيه أسداً هصوراً فما أن قبض الرسول حتى اشتعلت جزيرة العرب ناراً.

قال الطبرى "كادت مكة أن ترتد وتوارى عاملها عتاب بن أسيد وارتجت مكة وكاد أهلها يرتدون فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بهم فاجتمعوا إليه فقال يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأول من أرتد. فأمتنع الناس عن الردة، وهذا الرجل سهيل بن عمرو هو الذى قال للرسول عندما أرسلته قريش ليفاوض الرسول فى صلح الحديبية، وأمر الرسول بكتابة الصلح هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال لو كنا نؤمن أنك رسول الله ما حاربناك. ولكن أكتب إسمك واسم أبيك، وكان قد حارب الرسول فى بدر وأسر وهمّ به عمر بن الخطاب فقال له دعه يا عمر فسيقوم مقاماً تحمده عليه. فكان هذا المقام ..

وقال عبد الله بن عمر "لما قبض النبى r اشرأب النفاق فى المدينة وارتد العرب والعجم وأبرقت وتواعدوا نهاوند وقالوا لقد مات الرجل الذى كانت تنتصر به العرب.. وقالت عائشة "لما توفى رسول الله r اشرأب النفاق فى المدينة وارتدت العرب قاطبة وانحازت الأنصار وصار المسلمون كالغنم السائبة فى الليلة المطيرة وأخذ المرتدون يستعدون للهجوم على المدينة فجهز أبو بكر الجيوش ووضع الحراس على الأنقاب.

وعندما قرر محاربة المرتدين بعد أن أنفذ جيش أسامة تحقيقاً لأمر الرسول.. وقف المسلمون جميعاً ضد هذا الرأى عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وجلة الصحابة والمهاجرون كما وقف الأنصار الموقف نفسه فقام أبو بكر وقال: "أما بعد. فإن الله بعث محمداً r والحق قل شريد. والإسلام غريب طريد. قد رث حبله. وقل أهله. فجمعهم الله بمحمد r وجعلهم الأمة الباقية الوسطى. والله لا أبرح أقوم بأمر الله وأجاهد فى سبيل الله حتى ينجز الله لنا ويفى لنا عهده. فيقتل من قتل منا شهيدا فى الجنة. ويبقى من بقى منا خليفة الله فى أرضه ووارث عباده الحق. فإن الله تعالى قال: - وليس لقوله خلف – "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" والله: لو منعونى عقالاً مما كانوا يعطون رسول الله r ثم أقبل معهم الشجر والمدر والجن والأنس لجاهدتهم حتى تلحق روحى بالله. إن الله لم يفرق بين الصلاة والزكاة.

فكبر عمر وقال: والله لقد علمت. والله حين عزم الله لأبى بكر على قتالهم أنه الحق.

مع هذه الوقفة البطولية التى تحدى بها أبو بكر العرب جميعاً وخالف فيها المسلمين جميعاً فإنه احتفظ بوداعته وتواضعه وكان قبل الخلافة يحلب للحى أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحى: الآن لا ُتحلب لنا منائح دارنا فسمعها أبو بكر فقال: أبو بكر فقال: بل لعمرى لأحلبنها لكم، وإنى لأرجو أن لا يغيرنى ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه.

فكان يحلب لهم. فربما قال للجارية من الحى يا جارية، أتحبين أن أرغى لك أو أصرح؟ فربما قالت: أرغ. وربما قالت: صرح. فأى ذلك قالت فعل" ..

بل أنظر إلى تواضعه، وهو يودع جيش أسامة راجلاً وأسامة راكب وعندما قال أسامة يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا تنزل. والله لا أركب وما علىّ أن أغبر قدمى ساعة فى سبيل الله. فإن للغازى بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له. وسبعمائة درجة ترفع له. وتمحى عنه سبعمائة خطيئة. حتى إذا انتهى قال له: إن رأيت أن تعيننى بعمر بن الخطاب فأفعل. فأذن له.

وخصص المسلمون لأبى بكر رزقاً كرجل من المسلمين ليس بأفقرهم ولا أغناهم وكان من قبل يتكسب بالتجارة، فلم يكن يكفيه ما خصصوه له، ومع هذا فقبل أن يموت أوصى عائشة "إذا أنا مت فردى إليهم صحفتهم ولقحتهم وعبدهم ورحاهم ووثارة (أشبه ببطانية) اتقيت بها أذى البرد ووثارة اتقيت بها أذى الأرض كان حشوهما من ليف.

وزاره عبد الرحمن بن عوف فى مرضه الذى توفى فيه. فأصابه مفيقا "فقال أصبحت بحمد الله بارئا. قال أبو بكر أتراه ؟ قال نعم قال أما أنى على ذلك لشديد الوجع. ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد على من وجعى أنى وليت أمركم خيركم فى نفسى. فكلكم ورم من ذلك أنفه. يريد أن يكون له الأمر. ورأيتم الدنيا مقبلة ولما تقبل وهى مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج. وتألمون الاضطجاع على الصوف الأذربى كما يألم أحدكم الاضطجاع على شوك السعدان. والله لأن يقدم أحدكم فيضرب عنقه فى غير حد خير له من أن يخوض فى غمرة الدنيا. ألا وإنكم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالاً يا هادى الطريق جرت إنما هو الفجر أو البجر.

فى هذه الجلسة اعترف أبو بكر لعبد الرحمن بن عوف إنى لا آسى على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن. وددت أنى تركتهن وثلاث تركتهن وددت أنى فعلتهن. وثلاث وددت أنى سألت رسول الله r عنهن :

أما الثلاث التى فعلتهن ووددت أنى تركتهن: فوددت أنى لم أكشف بيت فاطمة عن شئ. وإن كانوا أغلقوه على الحرب. ووددت أنى لم أكن حرقت الفجاءة السلمى وأنى قتلته سريحا أو خليته بخيحا. ووددت أنى يوم سقيفة بنى ساعدة قذفت الأمر فى عنق أحد الرجلين. فكان أحدهما أميراً وكنت له وزيراً (يعنى بالرجلين عمر بن الخطاب، وأبا عبيدة بن الجراح).

وأما الثلاث التى تركتهن ووددت أنى فعلتهن: فوددت أنى يوم أوتيت بالأشعث بن قيس أسيراً ضربت عنقه. فإنه يخيل إلى أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه. ووددت أنى يوم سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذى القصة. فإن ظفر المسلمون ظفروا. وإن انهزموا كنت بصدد لقاء أو مدد. ووددت أنى كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فأكون قد بسطت يدى كليهما فى سبيل الله.

وأما الثلاث التى وددت أنى سألت رسول الله r عنهن: فإنى وددت أنى سألته: لمن هذا الأمر من بعده ؟ فلا ينازعه أحد. وأنى سألته هل للأنصار فى هذا الأمر نصيب ؟ فلا يظلموا نصيبهم منه. ووددت أنى سألته عن ميراث بنت الأخ والعمة فإن فى نفسى منهما شيئاً.

هذه هو أبو بكر الجرأة والشجاعة المتناهية والحزم الذى لا يتثنى، ومع هذا فهناك رقة لا حد لها، وتواضع لا تصنع فيه ..

هذا هو أبو بكر الذى بدء حياته بدرء فتنة، وختمها بدرء فتنة أخرى كان يمكن لكل واحدة أن تمزق المسلمين، وفيما بينهما قضى على فتنة الردة التى كادت تستأصل الدين، وخلف لهم أفضل ما يمكن أن يخلفه رجل دولة من أصول دستورية لممارسة السلطة أو سلوك عفيف فى خاصة نفسه.

فهل ثمة مثيل له ؟

بلى.. لقد جاء بعده، وبتوصية منه عمر بن الخطاب لم يقصر عنه، ومد الله له فى الأجل، وكما وقف أبو بكر فى وجه العرب المرتدة، وقف عمر فى وجه قريش الثربة التى تريد أن تتضخم ثرواتها وتهيمن بفضل نسبها وحسبها وقربها من الرسول. ودعم فى خطبته الأوامر الدستورية التى أرساها أبو بكر فى أن الحاكم إنما يحكم بالقرآن وأن ليس له من طاعة إذا خالفها. كما سار على هديه فى التقشف وربما فاق.. وأوصى – كما فعل أبو بكر – للمسلمين بكل ما ناله خلال ولايته وكان فى تواضعه مثل أبى بكر. فهو يتفقد النساء اللائى ذهب رجالهن فى الغزو ويأخذ خطاباتهن إلى أزواجهن، أو ليكتب لهن. ويأخذ غلمانهن معه إلى السوق ليشاركهم الشراء حتى لا يخدعوا، ويمشى فى الليل ليتفقد أحوال الناس على الطبيعة. وخذ مثلاً هذه الواقعة، فقد وجد إياس بن سلمة فى عرض الطريق، فخفقه بالدرة وأمره بأن يفسح الطريق. وبعد مدة طويلة رآه فقال له أنويت الحج فى عامك هذا فقال نعم فأخذ بيده حتى أدخله داره ثم خرج وفى يده كيس فيه ستمائة درهم وقال له "استعن بها على حاجتك، واعلم أنها بتلك الخفقة" فقال له الرجل والله ما ذكرتها حتى ذكرتنيها فقال عمر ولكنى ما نسيتها.. فذهب عمر ومرقعته ودرته مثلاً فى التاريخ وسجل له هذه المآثر شاعر من أعظم شعراء العربية هو حافظ إبراهيم فيما أطلق عليه "عمرية حافظ" التى أثبت فيها معظم مواقفه.. ومن قبله قال الشاعر :

جزى الله خيراً من إمام وباركت

يـد الله فى ذاك الأديـم الممزق

فمن يجرِ أو يركب جناحىَّ نعامة

ليدرك ما أدركت بالأمس، يسبق

هذه هى حال دولة المدينة عهد الرسول، ثم عهد المتبع الأمين ثم المبتدع العظيم هل نجدها على هذا الحال بعد عمر؟ هل نجد فى عثمان ما نجده – أو بعض ما نجده – فى عمر وأبى بكر من حزم وعزم وذكاء وإقدام على عظائم الأمور وإسقاط لصغائرها؟ وعزوف عن طيبات الحياة؟ إننا لا نجد شيئاً، بل نجد ما يخالفها.. ثم نجد بعد عثمان عليا وهو يحاول أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يحمل الناس على ما كان عليه الشيخان، ولكن هيهات. لقد اتسع الخرق على الراتق.. وتوالت الفتن حتى سالت الدماء. فقتل عثمان قتلة منكرة. ثم تلاقت سيوف المسلمين يقتل بعضهم بعضاً. وهل هناك ما هو أكثر مأساوية من مشهد أم المؤمنين عائشة يحارب دونها الألوف.. وتقطع الأيدى بالمئات دون هودجها حتى يعقر الجمل فيسقط بها، ويتلو ذلك صفين، وما أدراك ما صفين ثم تختم المأساة بمقتل الإمام على وهو يؤذن لصلاة الفجر فى رمضان …

هل يمكن أن يقال إن هذه خلافة راشدة ؟

كلاً… إن الخلافة الراشدة وقفت عند مقتل عمر بيد مجوسى فارسى.. وكل ما حدث بعده لم يكن استمراراً لها، ولكن دليلاً على أنها لا يمكن أن تعود ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق