السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الثانى عشر: جماعات الرافضة الجديدة

- 1 -

جماعة التكفير والهجرة

قدمت كتابات المودودى وسيد قطب الأساس الفكرى لتلك المجموعات التى أطلقنا عليها "الرافضة الجديدة".

وحدث هذا فى معتقلات عبد الناصر ورفع رايتها "شكرى مصطفى".

وتحدث أحد رفاقه فى السجن عن تطوره الفكرى خلال فترة الاعتقال فقال :

"فهذا الشاب الطالب بكلية الزراعة جامعة أسيوط قد جاء صدفة إلى السجن الحربى وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وعذب مثل الآخرين، وكنت أراه أيام الحربى لماما ومن بعيد فلم نتجاور فى زنزانة، ولم يشملنا تحقيق واحد، ولكنه كان يلفت انتباهى بكونه واحد من أصغر المعتقلين سنا. لم اقترب منه إلا بعد إعادة التصنيف عقب توعية نوفمبر وفوجئت به فى عنبر الزعماء وهو الغلام الحدث، وفوجئت أنه لا يعرف الكثير أو القليل عن الإسلام اللهم إلا الصلاة، أما الإسلام كبعد عقائدى يجاهد من أجله فلم يكن عند هذا الشاب كذلك حتى يوم التقينا فى عنبر 12، وإن أردت أن أكون أكثر دقة أقول إنه لم يكن يبدو كذلك. وكان يسكن فى العنبر على مقربة منى، وكان هذا أدعى للأحاديث الكثيرة بيننا، كنت فى أغلبها المتحدث الذى يجيب على أسئلته الكثيرة النهمة، فهو يريد أن يعرف قصة الإخوان المسلمين وكيف اعتقلوا؟ ولماذا؟ وما هو الجهاد فى سبيل الله؟ وكيف قامت دولة الإسلام فى سالف عهدها؟ وما معنى دين ودولة؟ ومصحف وسيف؟ كان يسأل ويسأل ولا يفعل أكثر من ذلك وفيما عدا ذاك فهو مهرج مع المهرجين، ضاحك من الضاحكين فى مرح بالغ، ولا يظهر اهتماما كثيراً بشئون السياسة. وكانت ظروفه الأسرية شديدة فقد طلقت أمه، وتزوج أبوه امرأة أخرى، وتزوجت أمه رجلاً آخر، وهو لا يدرى أين يذهب بعد الإفراج عنه، وكان كثيراً ما يتندر بهذه الحالة، ويقول ضاحكاً :

هذا الاعتقال قد حل لى كثيراً من المشكلات.

وكانوا قد سمحوا لنا مرة بعمل ترفيه احتفالاً بذكرى انتصارنا فى السويس عام 1956، وطلبنا أن نمثل مسرحية، ووافقت الإدارة، وكتبت المسرحية وقام بإخراجها الأستاذ محمد حسن ومثل فيها شكرى مصطفى دور التلميذ العبيط المدلل من أبيه المعلم الجاهل، وكان اسم المسرحية أشمونى أفندى وقد أعجب بها محمد قطب كثيراً وبين لنا ما فيها من إسقاط سياسى، وكتبت بتشجيعه مسرحية "البعد الخامس" ولكن هذه قصة أخرى.

كان شكرى مصطفى من غير المهتمين بالسياسة رغم كونه معتقلاً معنا فى قضية سياسية، ولم يكن أيضاً من المهتمين بالإسلام كبعد جهادى رسالى ينبغى التضحية فى سبيله، وكان يسأل ليعرف، ثم انتابته حالة لم تلفت نظر أحد فهى كثيراً ما تحدث، ولا نفسرها إلا بسوء الحالة النفسية، فهو يصمت ويستمر فى الصمت حتى إنه لا يتبادل الحديث مع أحد بالمرة، واقتربت منه أيامها وكنت وأنا الذى أجيب على أسئلته الكثيرة أسأله عن سبب صمته المريب فلا يجيب، ويكتفى بالقعود على بطانيته محدقاً فى لا شىء ويأكل فى موعد الطعام، ويصلى مع المصلين، وإذا خرجنا إلى طابور الفسحة لا يخرج معنا ويكتفى بالجلوس وحيدا فى العنبر متأملاً محدقاً حتى يعود الناس، وتطور الأمر معه فصار يصلى فى الليل، وكان فى العنبر كثير يفعلون هذا، فانضم إليهم وصار واحداً ممن يقومون الليل.

وكففت عن سؤاله عن سبب صمته واكتفيت بملاحظته عن كثب أحاول أن أدرك ما يفكر فيه بلا فائدة حتى جاء اليوم الذى رفض فيه التوقيع على التأييد، وانحلت عقدة لسانه وصار مرحا ثرثاراً كما كان من قبل.

وصرت أنظر إليه ولا أتحدث متأملاً متعجباً أحاول أن أفهم فينغلق علىًّ الفهم، ورآنى واقترب منى وجلس بجانبى.

وكان عنبرنا يسمح بهذا لقلة عدد من فيه – وقال لى بشوشا :

- لعلك تعجب من عدم توقيعى على التأييد.[58]

- فى الحقيقة نعم.

- تريد أن تعرف السبب.

- قلت له ملحاً: لو سمحت.

وتنهد شكرى مصطفى تنهيدة طويلة ملأت عينيه بالحزن وفارقه مرحه وبدا جاداً صارما.

قد رأيت ما حل بنا، وما فعلته حكومتنا معنا، استباحت أبناءها وضربتهم بالسياط، وقتلتهم واغتصبت الفتيات والأطفال، قد رأيت بنفسك هذا هنا فى هذا المكان، فى السجن الحربى كنا سويا، وضعونى مع الزعماء ولست كذلك قد عرفت بنفسك، لقد سمعت منك قصة الإسلام بالتفصيل، لم اسمعها من قبل – وكلما ازددت معرفة ازددت غيظاً. وأظن أنه إن لم تواتنى الفرصة للمعارضة وإعلانها لمت كمدا. أقل ما نفعله لحكومة مثل التى تحكمنا أن نظهر احتقارنا لها. هذا أقل ما ينبغى على فعله. ولو استطعت أكثر من هذا ما ترددت."[59]

وبعد هذا بمدة نرى شكرى مصطفى، وهو لا يقف عند هذه الدرجة. لأن سياسات الحكومة وتصرفات السجانين تدفعه نحو التطرف، ونحو الإصرار.. والمضى إلى آخر المدى.

وقد يصور ذلك هذا المشهد الذى رواه مؤلف "البوابة السوداء".

".. وجاء حسن طلعت ببذلته "الموهير" اللامعة وساعته الذهبية وقميصه الحريرى، وبحذاء "ساكسون" وجورب لعله اشتراه من المريخ فقد كان يجلس على كرسيه أنيقا جميلاً بهى الطلعة، كأنه مصنوع فى مصنع، وبدأ حديثا سقيما سخيفا، تحدث فيه عن عظمة الإله – إلهه هو – الزعيم الذى لا يقهر، وكيف نجاه الله من المهالك، وكيف تغلب عليها وما زال يحكم ويأمر وينهى ويقتل ويحيى ويميت ويفعل بالعباد ما يشاء.

كنا جلوساً أمامه على الأرض بملابس الاعتقال المصنوعة من "الخيش" والكل مستغرق فى أفكاره وقال :

تآمرتم عليه بتحريض من الاستعمار عام 1954 فلم تفلحوا فجاء غزو سنة 1956 لإنجاح ما فشلتم فيه ونجاه الله وتآمرتم عليه فى 1965 ولم تفلحوا فجاء غزو يونيو 1967 لإنجاح ما فشلتم فيه، ونجاه الله. ألا يعطيكم هذا العظة والعبرة بأنه خالد باق لا يموت ؟

وتمتم الشيخ محمد عبد الفتاح عارف.

- سبحان الحى الذى لا يموت.

وقال حسن طلعت الذى سمع تمتمته :

- ماذا تقول ؟

وانفجر الشيخ عارف :

- ألا تستحى أيها الرجل من هذا الكلام الفارغ الذى تقوله ؟

واستعد الحرس الذين يحيطون بنا إحاطة السوار بالمعصم بالفتك بمن يتمرد، وصوبت الرشاشات، وكل من الجالسين أعزل لا يحمل سلاحا إلا "شبشب" قديم متهرئ يضعه فى رجليه، ويصعب استخدامه فى الضرب، وأشار حسن طلعت إلى الحرس فى شجاعة أن كفوا، فكفوا واستأنف الشيخ عارف كلامه :

- ظلمتم الإخوان عام 1954 فعاقبكم الله عام 1956، وظلمتموهم فى عام 1965 فمسح الله بكم الأرض عام 1967، وجعلكم سخرية العالم، ولو كان عند الرئيس كرامة لاستقال ولضرب نفسه بالرصاص. ولو كان عندكم إحساس ما قلتم هذا الكلام.

وقال أبو بكر الصديق وهو شاب من المعتقلين كلاما شبيها من هذا، كل هذا وجمهور المعتقلين ساكنين قد تربعوا الأرض تحت تلك الشجرة الضخمة بين مبنى المستشفى ومبنى الملاحظة كشيوخ أثينا الحكماء، يرقبون ما يدور ولا تخلو نفوسهم من راحة لما يسمعون.

ثم قام إليه شكرى مصطفى ووجه كلاما سريعا حاسما قاسيا كطلقات نارية من مدفع أتوماتيكى حديث الصنع.

أنت كافر. ورئيس جمهوريتك كافر. ولئن أحيانى الله وخرجت من المعتقل لأقاتلنكم قتالاً شديداً، ولئن مت فسوف يأتى من بعدنا من يقضى عليكم ويدين دولتكم. ولئن هربتم من عقابنا فى الدنيا فلن ينجُ أحد منكم يوم القيامة."

قضى الأمر. ومن هذه اللحظة لم يعد هناك رأفة أو مهادنة، واستقر رأى شكرى مصطفى وأصبح الشىء الوحيد الذى يكرره.

"والله لئن كتب الله لى الخروج من هذا الجب لأقاتلنهم قتالاً ضروساً بما أستطيع حتى أغيرهم أو أموت شهيداً.."[60]

وقد كان ...

فعندما خرج شكرى مصطفى. أسس الهيئة الرائدة فكرياً وعملياً من هيئات الرافضة الجديدة.

إذا كانت هذه هى المرحلة الأولى فى تطور شكرى مصطفى، فلابد أنه بعد أن خرج من الاعتقال عكف على المطالعة والتفكير بحيث أضاف إلى مبادئ المودودى وسيد قطب مبدأ "التكفير"، و"مجاهدة الجاهلية" أو "الهجرة" كما تعلق بفكرة "الخلافة" وكتب كتاباً عنها. وفى النهاية أسس الجماعة التى أطلقت عليها جريدة أخبار اليوم "جماعة التكفير والهجرة" ومع أن "أخبار اليوم" قلما تصدق وإنما تبغى الإثارة دائما، إلا أنها فى هذه التسمية رزقت الصدق وكيفت الهيئة تكييفا حقيقيا ..

ولما لم يكن لهذه الهيئة، ولا لأى هيئة من هيئات الرافضة قواعد جماهيرية، أو فكر أصولى حقيقى فنحن لا نتابع التطور أو نتقصى التاريخ، وإنما نلم بأبرز القسمات والتطورات فى كل هيئة.

ومن أبرز ما اتسمت به "جماعة المسلمين" كما أطلق عليهـا شكرى مصطفى من واقـع أقواله[61] أمام هيئة محكمة أمن الدولة العسكرية العليا (القضية رقم 6 لسنة 1977) والتى نشرت فى الصحف يوم 21/10/1979.

- إن كل المجتمعات القائمة مجتمعات جاهلية وكافرة قطعا.

- إننا نرفض ما يأخذون من أقوال الأئمة والإجماع وسائر ما تسميه الأصنام الأخرى كالقياس.

- إن الالتزام بجماعة المسلمين ركن أساس كى يكون المسلم مسلما، ونرفض ما ابتدعوه من تقاليد، وما رخصوا لأنفسهم فيه، وقد أسلموا أمرهم إلى الطاغوت وهو: الحكم بغير ما أنزل الله، واعتبروا كل من ينطق بالشهادتين مسلما.

- إن الإسلام ليس بالتلفظ بالشهادتين، ولكنه إقرار وعمل، ومن هنا كان المسلم الذى يفارق جماعة المسلمين كافراً.

- الإسلام الحق هو الذى تتبناه "جماعة المسلمين" وهو ما كان عليه الرسول r وصحابته وعهد الخلافة الراشدة فقط – وبعد هذا لم يكن ثمة إسلام صحيح على وجه الأرض حتى الآن.

وبطلان بعض هذه المبادئ ظاهر لا يحتاج إلى دفاع فلا يدعى فرد لم يضم سوى عشرين أو ثلاثين شابا أن جماعته هذه هى وحدها – دون كل الجماعات الإسلامية، والمسلمين عامة – هى التى تمثل الإسلام حقا، وأن كل ما عداها ضال بما فى ذلك جماعة "الإخوان المسلمين" التى تعلم فيها أول ما تعلم، و "الجماعة الإسلامية" فى الهند التى يتفق هو نفسه معها فى كثير مما ادعاه، وجماعة "الفنية العسكرية" التى سبقتهم على الطريق.

نقول لا يدعى هذا إلا إذا وصل به الغرور درجه أعمته عن كل أثاره من الاتزان والموضوعية.

وقد كان لشكرى مصطفى شخصية قوية ونفوذ مؤثر على أتباعه.. وكان يهيمن عليه هو نفسه مزاج عصبى جعل معاييره ذاتية خالصة.

من ناحية أخرى فإن فكرة رفض أقوال الأئمة (أئمة المذاهب) ورفض الإجماع والقياس هى أفكار واردة وقابلة للدراسة، ولم ينفرد بها شكرى مصطفى.

- إن كل الظاهرية (داوود وابن حزم) يرفضان القياس ..

ومن أئمة المسلمين من قال إن أول من قاس هو إبليس !..

ومن أئمة المسلمين من رفض الإجماع ..

أما أفكار التكفير، وإقامة الخلافة... فكلها أطياف من الهوس والهذيان ..

وقد فهمت سلطات الأمن نفسية شكرى مصطفى ونقط الضعف فيه والعوامل المؤثرة عليه، وتبينت أن المبدأيه المزعومة والتى هى طابع دعوته إنما هى دلالة على السطحية ووسيلة ليحكم بها السيطرة على أتباعه.

ولكنه فى الحقيقة على نقيض شدته وتعصبه وشنآن عداوته مساوم لا يرفض أى صفقة إذا تصور أنها تحقق مصلحة.

وقد توصلت سلطات الأمن إلى هذا إما عن دراسة لنفسيته أو نقلاً عن بعض أعوانها الذين غرستهم فى صحابته.

وجاءت أول إشارة إلى هذه الطبيعة عندما سأل شكرى مصطفى أحد صحابته: هل لو وجد اليهود [الذين يسيطرون على العالم فى رأيه] مصلحة لهم فى إقامة الخلافة فهل يقيموها.. فرد عليه: إنهم إذا وجدوا الرجل الذى يحقق لهم أغراضهم عن طريق الخلافة فإنهم يقيموها.

ومن هذه الفكرة نبتت فكرة: "العمل من خلال خطة العدو".. وتضخمت حتى وصلت إلى مستوى "الحسابات الدقيقة للمصالح المشتركة بين الجماعة المسلمة وبين الجاهلية"، وأنه إذا كانت هناك عملية يمكن أن تقوم بها الجماعة بالاشتراك مع العدو بحيث تكسب الجماعة 54 % فيها ويكسب العدو 46 % منها فيجب أن تؤدى! ..

وعندما حاول أحد الأعضاء الاعتراض وإيضاح أن هذه لن تكون سوى صفقة خاسرة، فضلاً عن مخالفتها لأسس الجماعة التى ترفض التعاون مع الجاهلية، وأنهم فى النهاية سيستثمرون قال أحدهم: "قبلنا أن نستثمر.. قبلنا أن نستثمر!"[62]

وكان الطُعم الذى قدمته السلطات ادعاءها أنها فى حاجة لمثل هذه الهيئة التى تدعو إلى الهجرة وتصرف الشباب عن المناهج الانقلابية، وأنها مستعدة لدفع تعويض عما نال أعضاءها فى الماضى وطلبت إليهم رفع قضية للحصول على التعويض المناسب، وفى مقابل ذلك يقوم شكرى مصطفى وصحابته بالقضاء على بقية "الفنية العسكرية" خاصة بعد أن أوقعت بينهما فتنة.

وبهذه الطريقة شنت الجماعة حملة على عناصر معينة فى المعصرة والإسكندرية.. وقبض إثر هذه الغارة على سبعة عشر من أعضائها البارزين؛ ولكن هذا لم يثن الجماعة عن أن تمضى فى خطتها لتقع فى الطعم الأكبر ..

هذا الطعم هو اختطاف الدكتور محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف الأسبق والشيخ العالم الجليل، ومطالبة السادات بمبلغ مائتى ألف جنية والإفراج عن المسجونين.

وكان الشيخ الذهبى على وجه التعيين هو آخر من يجوز لهذه الجماعة المساس به لأنه كان أحد العاملين على إصلاح جهاز الدعوة والدعاة والمنتقدين للوسائل التى تقوم عليها ..

ولكن كان هناك عامل غلب على أى عامل آخر لدى شكرى مصطفى ذلك هو رغبته المحرقة فى "البلاغ".

أى توصيل دعوته وفكرها إلى الجماهير بأى ثمن ..

ويمكن لعملية الاختطاف أن تحقق له هذا ..

وبالفعل فإن كل أجهزة الإعلام من صحافة وإذاعة وتليفزيون؛ لا فى مصر وحدها بل فى العالم كله أذاعت النبأ، وتحدثت بالفعل عن هذه الجماعة.

ولكنها تحدثت عنها كعصابة مهووسة.. مجنونة..!! خاصة بعد أن قتلوا الشيخ وعذبوه فيما قيل ..

وقد أكد هذه الفكرة (فكرة أن اختطاف الشيخ الذهبى كان لكى يتم البلاغ!!) أحد صحابة شكرى مصطفى المقربين.[63]

فهل هناك سفاهة أكثر من هذه السفاهة ؟!

إن شكرى مصطفى فى فعلته تلك أسوأ من مجنون الشهرة الذى أحرق المعبد لكى يشتهر، فقتل إنسان.. أسوأ من إحراق معبد.

الغريب والذى يصور مدى انفصام شخصية شكرى مصطفى وغلبة الهوس على عقله أنه كلف أحد أتباعه بكتابة بحث عن الإخوان جاء فيه إن حسن البنا ماسونى! ..

وقدم شكرى مصطفى هذا البحث بكلمة اتهم فيها "بالخيانة العظمى"! قادة الإخوان المسلمين الذين قادوا رجالهم إلى التهلكة وفرطوا فى أعناقهم وأسلموهم لجلاديهم والمشانق والسجون.

فهل تذكر ذلك عندما أودى بنفسه وبخاصة رجاله إلى المشنقة يوم التاسع والعشرين من مارس عام 1978م.

وطويت صفحة "جماعة تكفير المسلمين" التى رأت أنها دون بقية الهيئات هى التى تمثل "الإسلام"، ويغلب أن تكون كل هذه الهيئات أقرب منها إلى الإسلام ولم يبق منها إلا فلول.

- 2 -

حزب التحرير

لا يعرف الجيل المعاصر شيئاً كثيراً عن حزب التحرير، وربما ترامى إلى سمعه ما قد تتناقله الصحف بين حين وآخر، من إشارات عنه. معظمها، كما هو العهد فيما يختص بالإسلام – مشوهة، والحقيقة أن حزب التحرير كان محاولة جادة لوضع صيغة إسلامية شمولية، للنهضة بالأمة. وقد أراد أن يتعلم من الدعوات الإسلامية السابقة عليه وأن يتفادى أخطاءها، ويبدأ حيث انتهت.. ولكن الإطار السلفى التقليدى الذى ألزم نفسه به كان أقوى من الملكات الإبداعية لمؤسسيه، كما لم يكن من السهل تجاوز الظروف السياسية – زمانا ومكانا – التى أحاطت به إحاطة السوار بالمعصم وكانت جزءاً رئيسيا من استراتيجية وضعت للمنطقة، وحمتها نظم حاكمة ومصالح مكتسبة عاتية. وعندما أراد الحزب الفتىّ أن يشق طريقه. وجد هذه الأوضاع كالصخرة فى مواجهته، فحاول أن ينطحها – وانطبق عليه البيت المشهور (كناطح صخرة يوما الخ...) وكان أسوأ مصيراً من الهيئات الإسلامية التى انتقدها وأراد أن لا يقع فيما وقعت فيه.

وإنما اكتسب حزب التحرير صفاته الخاصة نتيجة لملابسات ظهوره وشخصيات قادته. فقد ظهر بعد نكبه 1948 التى عاشها مؤسسوه الفلسطينيون واصطلوا بنارها ودفعوا ثمنها غاليا فتركوا أرضهم وبيوتهم وشردوا فى البلاد. وكانت هذه الملابسة الدامية هى الدافع المباشر لتكوين الحزب، ومن ناحية أخرى فإن المؤسسين الثلاثة الذين أشرفوا على تكوينه ووضعوا فكرته، تميزوا بإحكام للفقه الإسلامى ومن ثم فإن أثر الفقه كان بارزاً فى فلسفة وتنظير الحزب. وفى الوقت نفسه فإن متابعاتهم للحركات الإسلامية، وغيرها التى شاهدتها المنطقة وقتئذ جعلتهم يجددون، فعلى سبيل المثال، لعله كان الهيئة الإسلامية الأولى التى تحمل اسم حزب وتعلن أن عمله هو النشاط السياسى، وأنه ليس تكتلاً خيرياً أو ثقافياً الخ ...

التكوين والسنوات الأولى :

_______________

قام الحزب بفضل جهود مشتركة من ثلاث شخصيات فلسطينية نابهة جمعتها وحدة الثقافة والميول. والابتلاء. هم الشيخ تقى الدين النبهانى والشيخ داود حمدان والأستاذ نمر المصرى.

وقد عايش هؤلاء الثلاثة الأحداث الجسام التى تعرضت لها المنطقة وقوى التغيير التى تحكمت فيها، فلمسوا آثار الإخوان المسلمين التى كانت بارزة فى فلسطين خلال هذه الفترة وألموا بنقط القوة والضعف فيها. وشاهدوا تعثر الحزب القومى الذى أسسه فى الثلاثينات أنطون سعادة للعمل على تحقيق "الدولة العربية" فى إطار البيئة الجغرافية (سوريا الكبرى) ومحاولته التلفيقية فى إيجاد مكان "للمحمدية" – كما أطلق على الإسلام – فى دولته القومية – ثم شاهدوا ميشيل عفلق وإخوانه – الذين لم يكونوا أفضل من أنطون سعادة إلا قليلاً – وهم يكونون على أنقاض الحزب القومى ومن أشلائه حزب البعث، من أمشاج عربية واشتراكية وإسلامية لتحقيق الوحدة العربية واكتشف الثلاثة ما فى هذه التكوينات من ضعف أو تلفيق.

وفى دمشق تلاقى الثلاثة وأخذوا يتدارسون أسباب النكبة ووضع وقتئذ الشيخ تقى الدين أصول كتاب "إنقاذ فلسطين" الذى ذهب إلى أن النكبة كانت نتيجة قرن من التخطيط الإسرائيلى.. والتدهور العربى. وكان لابد لمجابهة ذلك من إقامة أمة ذات مبدأ يبلور الغاية الواحدة.

وقد وجد الثلاثة أن مبدأ الأمة الواحدة هو "الإسلام" فالمجتمع العربى هو "أمة إسلامية حياة ودستوراً حتى لغير المسلمين من العرب" وبهذا أصبح المطلوب هو توظيف الإسلام للقيام بهذه المهمة التاريخية، بل وتجاوزها إلى دور عالمى مؤثر فى حياة العالم بأسره ..

وفى عام 53 أرسل مؤسسو الحزب إخطاراً إلى الحكومة الأردنية "بتأسيسهم حزباً سياسياً" وبين اسمه ومركز إدارته وعنوانه ومقاصده والمفوضين بالتوقيع عنه، وأرفقه بالنظام الأساسى.

وفى 22/3/1953 ردت الحكومة بأن الحزب غير قانونى ومنعت القائمين عليه من أى عمل وبررت ذلك بأن الحزب "يحصر الروابط بين أفراد المملكة برابطة الدين مما يدعو للتفريق بين أبناء الوطن الواحد ويخالف حكم قانون الجمعيات، ويلحق بالوطن أفدح الأضرار..."

وفى 1/6/1953 رد الحزب بأنه يعتبر نفسه شخصية معنوية، قامت بالفعل ولا تزال قائمة قانوناً، بغض النظر عن عدم إقرار الحكومة لمشروعية الحزب.

وتعرض الحزب لمضايقات الحكومة. وسجن أعضاؤه البارزون أكثر من مرة. ولكنهم اثبتوا شجاعة وتصميماً. واكتسبوا تأييد قطاعات عديدة. واستطاعوا أن يكسبوا لأحد أعضائهم كرسى النيابة عن منطقة طولكرم فى الضفة الغربية ..

ولكن هذه البداية المشرقة، الواعدة بنجاح وإنجاز لم تستمر طويلاً، ومع الستينات بدأ الحزب يتقلص. وتضافرت العوامل الخارجية، والعوامل الداخلية (أى من داخل الحزب) على أن يفقد الحزب جماهيره ويتقوقع فى مجموعات ..

من الناحية الخارجية، فإن كل نظم الحكم فى المنطقة أعلنت عليه حرباً شعواء، وهو نبته صغيرة، وقبل أن يمد جذوره عميقاً فى أرض المنطقة. وكان الحزب يعلن عن هويته الإسلامية بكل قوة، وعن الحل الإسلامى كالحل الوحيد. وعن الطابع السياسى له.. وكان هذا كله يهدد النظم القائمة، وينذر بزعزعتها إذا سمح له البقاء، فتضافرت كل القوى عليه، وألصقت به الاتهامات المزيفة، وزج بقادته إلى السجون.

على أن حزب التحرير وجد فى الدول الأوربية مجالاً خصباً لبذر دعوته فى مختلف الدول الأوربية مستفيدين من الأوضاع الخاصة بهذه الدول التى تمنحه حرية اللجوء والعمل.

دعوة حزب التحرير :

____________

كانت الفكرة التى فى ذهن المؤسسين للحزب هى كيف يمكن إنهاض الأمة لكى تجابه التحديات – والتحدى الإسرائيلى أحدها – وتنتصر عليها. وقد انتهى المؤسسون إلى أن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بروح جديدة ترفع الأمة فوق حاضرها التعس ومشاكلها وأوضاعها، وتفجر فيها قوة الإيمان. وبدون ذلك لن تستطيع الانتصار على أعداء أشد قوة وأكثر عدداً، أو اختزال سنوات التخلف أو مجاوزة العقبات والعراقيل.

واستبعد المؤسسون كل أفكار الإصلاح الجزئية (إصلاح الاقتصاد – إصلاح التعليم الخ...) لأن المجتمع كل واحد ولن يمكن النهضة بجانب منه على حدة.

وانتهى المؤسسون أيضاً إلى أن هذه الروح لن تكون سوى – الإسلام فهو "مبدأ الأمة".

ولا تخلو هذه المقدمات والنتائج من سلامة موضوعية، وقد يفضل تشخيص الحزب فيها تشخيص هيئات إسلامية أخرى.

ولكن هذا يتطلب توظيف الإسلام كروح انتهاضية، روح تغيير وتطوير، روح اكتساح، كتلك التى تملكت المسلمين أيام الخلافة الراشدة وجعلتهم يكتسحون العالم القديم.

كان المفروض أن يجهد المؤسسون أنفسهم ليقدموا الإسلام ثورياً، انتهاضياً، ولكنهم قدموا الإسلام فقهياً سلفياً. فالثقافة الفقهية المتغلغلة فى نفوسهم والروح السلفية التى هيمنت عليهم بحكم دراساتهم فى الأزهر، جعلت إرادتهم الثورية تبعاً للفهم السلفى. وبالتالى حُبست فى قفص الفقه، ووجد المؤسسون أنفسهم مختارين أو بحكم الأمر الواقع يتخبطون فيه ..

وعندما كانت تحدث فرجه فى هذا القفص أو عندما كانوا يسمحون لأنفسهم بالتحرر من الفهم السلفى، كانوا يأتون بتجديدات تشذ عن السياق، ولكنها كانت الاستثناء ..

وما من حالة تظهر فيها مأساة الفهم السلفى، وكيف يمكن أن يجهض أى محاولة انتهاضية، إذا تطرق إليها كحالة حزب التحرير. فالرغبة المحرقة فى الانتهاض والتصدى لقوى القهر والطغيان تقولبت فى القالب الفقهى، وفقدت كل ضرامها وحرارتها وأصبحت ترجيحات واجتهادات مذهبية ..

وأصدر الحزب العديد من الكتب، والنشرات والكتيبات شرح فيها فكرة الحزب وعرض أسباب تأخر المسلمين كما يراها وأبرزهاً عوامل التغشية على فكرة الإسلام مثل :

1. نقل الفلسفات الهندية و"الفارسية" ومحاولة التوفيق بينهما والإسلام. مع وجود تناقض.

2. دس الحاقدين على الإسلام أفكاراً وأحكاماً ليست منه لتشويهه.

3. إهمال اللغة العربية التى لا يُفْهَم الإسلام إلا بها.

4. الغزو التبشيرى والثقافى والسياسى من الدول القومية الكافرة ..

ويشير الحزب إلى المحاولات والحركات التى أريد بها إنهاض المسلمين وإخفاقها، ويعيد سبب الإخفاق إلى :

1) عدم فهم الفكرة الإسلامية من قبل القائمين على إنهاض المسلمين فهما دقيقاً لتأثرهم بعوامل التغشية، وأنهم يدعون إلى الإسلام بشكل عام مفتوح، دون تحديد للأفكار والأحكام التى يريدون إنهاض المسلمين، ومعالجة مشاكلهم بها، وتطبيقا، لعدم وضوح هذه الأفكار والأحكام فى أذهانهم، جعلوا الواقع مصدراً لتفكيرهم، يستمدون منه تفكيرهم، وحاولوا أن يؤولوا الإسلام ويفسروه بما لا تحتمله نصوصه حتى يتفق مع الواقع القائم، مع أنه مناقض للإسلام، ولم يجعلوا الواقع موضع تفكيرهم، ليغيروه حسب الإسلام وأحكامه.

لذلك نادوا بالحريات والديمقراطيات، وبالنظام الرأسمالى والاشتراكى، واعتبروه من الإسلام، مع أنها تتناقض مع الإسلام تناقضاً كلياً.

2) عدم وضوح طريقة الإسلام لديهم فى تنفيذ فكرة الإسلام وأحكامه وضوحاً تاماً، فحملوا الفكرة الإسلامية بوسائل مرتجلة، وبشكل يكتنفه الغموض وصاروا يرون أن دعوة الإسلام تكون ببناء المساجد وإصدار المؤلفات، أو بإقامة الجمعيات الخيرية والتعاونية، أو بالتربية الخلقية وإصلاح الأفراد، غافلين عن فساد المجتمع، وسيطرة أفكار الكفر وأحكامه وأنظمته عليه، ظانين أن إصلاح المجتمع يكون بإصلاح أفراده، مع أن إصلاح المجتمع إنما يكون بإصلاح أفكاره ومشاعره وأنظمته وإصلاحها سيؤدى إلى إصلاح أفراده، فالمجتمع ليس أفراداً فقط، وإنما هو أفراد وعلاقات، أى أفراد وأفكار ومشاعر وأنظمة، كما عمل رسول الله r لتغيير المجتمع الجاهلى إلى مجتمع إسلامى، إذ أخذ يعمل على تغيير العقائد الموجودة بأفكار العقيدة الإسلامية، وعلى تغيير الأفكار والمفاهيم والعادات الجاهلية بأفكار الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، ومن ثم تغيير مشاعر الناس من الارتباط بعقائد الجاهلية وأفكارها وعاداتها، إلى الارتباط بالعقيدة الإسلامية، وأفكار الإسلام وأحكامه.

وواسطة العقد فى أهداف الحزب هى الخلافة وإعادة الخلافة هى الهم الأعظم وهو يرى أنه ما أن تعود الخلافة حتى يصلح كل شىء.

وفيما يلى أراءه عن بعض القضايا العامة :

الديمقراطية الرأسمالية :

______________

هى مبدأ الدول الغربية وأمريكا وهى مبدأ فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن الحياة، "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وبناء على ذلك فإن الإنسان هو الذى يضع نظامه فى الحياة.

هى مبدأ الدول الغربية وأمريكا وهى مبدأ فصل الدين عن الدولة، وفصل الدين عن الحياة، "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وبناء على ذلك فإن الإنسان هو الذى يضع نظامه فى الحياة.

وهو وحده الذى وضع النظام للبشر، وجعل الدولة جزءاً من أحكام الإسلام، وأوجب أن تعالج جميع شؤون الحيـاة بالأحكام الشرعية التى أنزلها. لذلك يحرم على المسلمين أن يعتنقوا المبدأ الرأسمالى أو أن يأخذوا أفكاره أو أنظمته، لأنه مبدأ كفر، وأفكاره كفر، وأنظمته أنظمة كفر تتناقض مع الإسلام.

رأى الإسلام فى الحريات :

_______________

ومن أبرز أفكار المبدأ الرأسمالى وجوب المحافظة على الحريات للإنسان، وهذه الحريات هى حرية العقيدة، وحرية الرأى، وحرية الملكية، والحرية الشخصية. وقد نتج عن حرية التملك النظام الاقتصادى الرأسمالى المبنى على النفعية، التى أدت إلى الاحتكارات الضخمة، والتى دفعت الدول الغربية الكافرة إلى استعمار الشعوب ونهب ثرواتها.

وهذه الحريات الأربع العامة تتناقض مع أحكام الإسلام، فالمسلم ليس حرا فى عقيدته فإنه إذا ارتد يستتاب فإن لم يرجع يقتل، قال r "من بدل دينه فاقتلوه"، والمسلم ليس حرَاً فى رأيه، فما يراه الإسلام يجب أن يراه، ولا يجوز أن يكون للمسلم رأى غير رأى الإسلام.

والمسلم ليس حراً فى الملك، ولا يصح له أن يتملك إلا ضمن أسباب التملك الشرعية، فليس حراً أن يملك ما شاء بما شاء بل هو مقيد بأسباب التملك فلا يجوز أن يتملك بسواها مطلقاً فلا يصح أن يتملك بالربا، أو بالاحتكار أو ببيع الخمر أو الخنزير، أو ما شاكل ذلك من طرق التملك الممنوعة شرعا. فإنه لا يجوز أن يملك بأى طريق منها.

والحرية الشخصية لا وجود لها فى الإسلام، فالمسلم ليس حراً حرية شخصية، بل هو مقيد بما يراه الشرع، فإذا لم يقم بأداء الصلاة أو الصيام مثلا يعاقب وإذا سكر يعاقب وإذا زنا يعاقب، لذلك فالحريات الموجودة فى النظام الرأسمالى الغربى لا وجود لها فى الإسلام، وهى تتناقض مع أحكام الإسلام تناقضاً كليا".

وإذا كان هذا هو حظ الديمقراطية بحرياتها، فلا ريب أن النظام الشيوعى أسوأ فهو "مبدأ كفر وأفكاره كفر، ونظامه نظام كفر، وهو يتناقض مع الإسلام تناقضاً كليا وجذريا فى كلياته وجزئياته" والنظام الملكى فى الحكم ليس نظاماً إسلاميا وكذلك النظام الجمهورى سواء كان رئاسيا كالولايات المتحدة. أو نظاماً برلمانيا كما هو حاصل فى ألمانيا الغربية. والنظام الإسلامى الوحيد هو "الخلافة".

ولا يخالجنا شك أن هذه ليست أحكام الإسلام، ولكنها أحكام الغباء وضيق الأفق وسوء الفهم، وهى تسىء إلى الإسلام أكثر مما يسىء إليه أشد أعدائه.

وكقاعدة عامة. فإن الحزب إما أن يتبع – اتباعاً أعمى ودون ملاحظة للملابسات – أى نص يثبت لديه، سواء كان حديثاً، أو حكما فقهياً أو أن يجتهد فيما وراء ذلك واجتهاده يميل للتعسف، والتضييق، باستثناء فلتات سنشير إلى بعضها فيما سيلى، وقد وضع عام 63 شرحاً لمواد الدستور الذى يراه بعنوان "مقدمة الدستور – أو الأسباب الموجبة له" فى 457 صفحة (المواد 182 مادة) نجد فيه لكل مادة سنداً من حديث أو سابقة من أحكام الخلفاء الراشدين، دون أى نظر إلى متغيرات – ودون أى احتفال بإظهار المبرر الموضوعى وما فيه من دواع تقتضيه الخ ...

ومن الفلتات التى تشذ عن هذا الحكم مناقشة طويلة لتحريم الاكتناز المادة 130 ولو أديت زكاته، وكذلك تحريم مُآجرة الأرض المادة 123، وفتح باب التعليم للجميع "ويفتح مجال التعليم العالى مجانا للجميع بأقصى ما تيسر من إمكانيات (مادة 165). وقد اعترف الدستور بالقرآن والسُنة وإجماع الصحابة واستبعد القياس من أن يكون مصدراً للأحكام ورفض إجماع المسلمين، وجلب المصالح ودرء المفاسد ورفض العقل لأن الكلام هو عن الحكم الشرعى أى ما غلب على الظن أنه حكم الله، وهو لا يكون إلا مما جاء به الوحى والعقل لم يأت به الوحى ولذلك لا يوجد دليل لا ظنى، ولا منطقى على أن العقل من الأدلة الشرعية فلا يعتبر من الأدلة الشرعية مطلقاً. ص57 مقدمة الدستور وكذلك رفض الاستحسان والمصالح المرسلة.. وقد أثبت هذا كله بحرارة وقوة وبطريقة توحى أن ما ذهب إليه هو الصواب الذى لا مراء فيه !!

ورأى كتاب "الفكر الإسلامى" وهو من تأليف أستاذ مصرى فى الجامعة المصرية، ولكنه من كتب الحزب. أن الرأى الذى يستنبطه المجتهد حكم شرعى على أساس أن الحكم الشرعى هو الرأى الذى يؤخذ من النص، وهو الذى يعتبر خطاب الشارع ومن هنا كان رأى المجتهد خطاباً شرعيا ما دام يستند فيه إلى الكتاب والسُنة، أو إلى ما دل عليه الكتاب والسُنة من الأدلة الشرعية. وندد الكتاب بالذين يدعون أن الحكم الشرعى هو نص القرآن أو الحديث فقط. ورأى أن ذلك سيوجد مسائل كثيرة لا يوجد لها حكم شرعى وأشفق أن "يتحكم فيها العقل فيضع الحل الذى يراه والحكم الذى يوافق هواه! ويحذر "من أن يترك للعقل أن يقرر ما هى المصلحة، بل يجب أن يقرر ذلك الشرع وحده لأنه هو الذى يقرر المصلحة الحقيقية والمفسدة الحقيقية" ورأى الكتاب أنه "لا يجوز فى حق الرسول أن يكون مجتهداً" ورفض كل ما أورده الفقهاء أو المفسرون من اجتهاد للرسول يخطئ فيه فيصحح الوحى له ذلك.

f

إن مأساة حزب التحرير أن هذا الحزب الذى خرج من أحشاء النكبة، وتعرض لمخاض عسير، وحمل صفة "التحرير"، ولم ينقص دعاته الحماسة والإخلاص، أصبح قفصاً محكماً تسجن فيه الجماهير، والأفكار، والإرادات وكل ما يمت بصلة إلى "التحرير" لأن دعاته لم يعملوا عقولهم، ولكن استخدموا نقولهم. ولم يعمدوا إلى روح الإسلام الحرة الطليقة، العادلة السمحة "العقلانية" فى كل شىء، باستثناء ذات الله – وإنما لجؤوا إلى فهم فقهى عقيم كان هو نفسه وراء استخذاء الجماهير.. وضلال القادة ..

ومع أن الحزب كان من الذكاء بحيث يستبعد فكرة العمل "الإرهابى" أو "الجهادى" من وسائله، قياساً على أنه يعمل فى "عهد مكى" فإن هذا لم يشفع له فى البقاء. فحله كان محتوماً، وكان خيراً أيضاً، فإن حزباً يستبعد العقل من تفكيره الشرعى، عدمه خير من وجوده.

ولكن يظل مع هذا أن المشكلات التى أثارها لا تزال هى مشكلات الساحة والساعة وأن الحلول التى عرضها تراود البعض لأنها، على خطأ معظمها. لم تعالج المعالجة الموضوعية من الآخرين. فقد انتقد كتيب[64] ما ذهب إليه حزب التحرير عندما أباح تقبيل المرأة الأجنبية ومصافحتها.. فبدلاً من أن يظهر الخطأ الموضوعى فى ذلك، فإنه أورد للرد عليه كلمة ابن تيميه. "من استحل النظر فقد كفر بالإجماع!!" فعرض صورة أخرى من صور الشطط، ووجهاً ثانياً للعملة نفسها.. فقد يكون اجتهاد حزب التحرير خطأ. ولكن اجتهاد ابن تيميه أسوأ ويفتح باباً للشرور أشنع مما يمكن أن يفتحه خطأ حزب التحرير.. فما أسوأ أن نفتح أبواب محكمة التكفير، على مصراعيها لكل صغيرة وكبيرة !

- 3 -

جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية

اشتهرت جماعة الجهاد عندما نجح خالد الاسلامبولى وزملاؤه فى اغتيال السادات رحمه الله وسط حرسه وفى إحدى مناسبات الاحتفال واستعراض القوة.

وبقدر ما رزق هذا الحدث من إذاعة ونشر لما اتسم به من جرأة وشجاعة و"دراماتيكية"، ولما انتهى إليه من مصرع "آخر فراعنة مصر" وصاحب "الصدمات والتحولات" الخ... بقدر ما ذاع وانتشر الحديث عن جماعة الجهاد.

وسالت أنهار الصحف أحاديث بعد أحاديث عن هذه الجماعة وشيخها الكفيف عمر عبد الرحمن وكتابها الغامض: "الفريضة الغائبة" الذى اعتبر وثيقة إعدام السادات ووضعه المهندس محمد عبد السلام فرج.

ولم يرزق كتاب "الفريضة الغائبة" انتشارا أو ذيوعاً لأن الجماعة نفسها أحرقت نسخ الكتاب، ولم يبق منه إلا نسخ معدودة، ضمت إحداها إلى أوراق التحقيق فى قضية اغتيال السادات ..

وتمكن بذلك المحامون من الإطلاع عليه.

كتاب "الفريضة الغائبة"

_____________

قدمت إلينا إحدى دور النشر صورة كتاب "الفريضة الغائبة" المأخوذة من أوراق التحقيق. وطلبت أن نعلق عليه ونشرته فى كتاب باسم "الفريضة الغائبة جهاد السيف أم جهاد العقل".

وتعرض تعليقنا عندما طبع لمضايقات، أدت إلى حذف الكثير منه، وظهرت أثار ذلك فى عدم انتظام السياق، وما تخلل الصفحات من بياض ..

وقلنا فى مقدمة الكتاب :

"غفر الله لصاحب "الفريضة الغائبة" لقد أحاطت به وتحكمت فيه فتنة يضل فيها العليم، ويضيق بها الحليم، وتنبهم فيها المعالم، وتنمحى المراسم.. فلا عجب إذا زلت الأقلام وطاشت الأحلام.

ومن قبل قتل لفيف من المسلمين "عثمان" وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وكفروا عليا، وهو من هو، وتقربوا إلى الله بدمه ! ..

وقد كان العهد قريباً بالنبى r والقرآن غضا طريا والألفة والمحبة أقرب إليهم وأمثل بهم ..

ومن أجل هذا فإننا كرجال فكر نتصفح التاريخ، ونستعرض الأحداث فى القديم والحديث لا نرى فيما رآه صاحب الفريضة الغائبة، وما انتهى إليه إلا فصلاً من مأساة التعقيد الاجتماعى عندما تتراكم الأخطاء، وتتشابك التصرفات من حل سقيم أو إرجاء عقيم.

ولا يعد هناك إلا القطع ..

ونحن نعذره، ونلتمس له المغفرة، ولا نرى فيما ذهب إليه فكره – على خطئه – شراً محضاً، ولا فى سبيله – على شططه – سوءا خالصاً.

وإن كنا نختلف معه جملة وتفصيلاً، ونؤمن أنه لو قدر له ولجماعته النصر لاستحلوا دماء كل معارض، ولأخرسوا أصوات كل مخالف ولما رأوا فيه إلا فاجراً كفاراً.

ولكننا نستلهم الإسلام وتوجيهه: "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك".

كما نؤمن بحرية الفكر، وحق كل كاتب فى أن يكتب ما يمليه فكره كائنا ما كان". انتهى ..

وليس فى كتاب الفريضة الغائبة إلا القليل جدا الذى يعد جديداً على فكر جماعات الرفض فهو يضم – تقريباً – مقدمة وثلاثة فصول ..

ففى المقدمة يشير الكتاب إلى أهمية الجهاد وأنه: "السبيل الوحيد لعودة ورفع صرح الإسلام من جديد" وأن: "طواغيت هذه الأرض لن تزول إلا بقوة السيف" وأن الإسلام مقبل، وأنه سيفتح روما كما فتح القسطنطينية".

وتبدأ الفصول وهى باختصار :

الفصل الأول :

________

يعالج الفصل الأول "إقامة الدولة الإسلامية" وهذه الإقامة "فرض أنكره بعض المسلمين وتغافل عنه البعض" والكتاب يثبت وجوب إقامتها بأن الدولة الإسلامية هى أداة الحكم بما أنزل الله وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولا خلاف فى أن الحكم بما أنزل الله واجب ..

ويرى الكاتب أن إعلان الخلافة الإسلامية يعتمد على وجود النواة وهى الدولة الإسلامية. ومن مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.

ويتساءل الكاتب "هل نحن نعيش فى دولة إسلامية" ويرد بفتوى للإمام أبى حنيفة وبعض أصحابه حول دار الإسلام ودار الكفر، ويجزم بأن "الأحكام التى تعلو المسلمين هى أحكام الكفر، وضعها كفار وسيروا عليها المسلمين" وأن حكام المسلمين فى ردة عن الإسلام "لأنهم تربوا على موائد الاستعمار سواء الصليبية أو الشيوعية أو الصهيونية، فهم لا يحملون من الإسلام إلا الأسماء، وإن صلوا وصاموا وادَعّو أنهم مسلمون وقد استقرت السُنة على أن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلى. وأن علماء المسلمين قد اتفقوا على أن الطائفة إن امتنعت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها إذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة وصيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق.."

ويجرى الكاتب مقارنة بين التتار وحكام اليوم يستشهد فيها بكلام لابن تيمية فى هذا الصدد. بل هو يورد مجموعة فتاوى لابن تيمية فى هذا الصدد" تتضمن حكم مساعدتهم، وحكم الجنود المسلمين الذين يرفضون الخدمة فى جيش التتار، وحكم أموالهم، وحكم قتالهم، وأن قتالهم ليس قتال بغى وحكم من والاهم من المسلمين، وحكم من يخرج للقتال فى صفهم مكرهاً الخ ...

الفصل الثاني :

________

يعرض الفصل الثانى "آراء وأهواء" بعض الآراء "لإزالة هؤلاء الحكام وإقامة حكم الله" ويفندها، فهناك من يرى إقامة الجمعيات الخيرية، أو يفضل الانشغال بالطاعة والتربية وكثرة العبادة، أو إنشاء حزب إسلامى، أو الاجتهاد للحصول على المناصب بحيث تملأ المراكز بالطبيب المسلم والمهندس المسلم الخ... ومنهم من يقول إن الطريق لإقامة الدولة هى الدعوة فقط وإقامة قاعدة عريضة، وهناك من يرى الهجرة أو الانشغال بطلب العلم.

والكاتب يفند هذه المذاهب كلها بمختلف التأويلات.

الفصل الثالث :

________

يدلل الفصل الثالث على أن "أمة الإسلام تختلف عن الأمم الأخرى فى أمر القتال" ومفتاح الفصل أن "هذه الأمة تختلف عن الأمم الأخرى فى أمر القتال. ففى الأمم السابقة كان الله سبحانه وتعالى ينزل عذابه على الكفار. وأعداء دينه بالسنن الكونية، كالخسف والغرق والصيحة والريح. وهذا الوضع يختلف مع أمة محمد r. فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم قائلاً لهم )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ( {التوبة 14} أى أنه على المسلم أولاً أن ينفذ الأمر بالقتال بيده، ثم بعد ذلك يتدخل الله سبحانه وتعالى بالسنن الكونية، وبذلك يتحقق النصر على أيدى المؤمنين من عند الله سبحانه وتعالى.

وبصدد تفصيل ذلك. يشير الكتاب إلى "الخروج على الحاكم" وهو يستشهد بما ذهب إليه ابن تيمية "كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين". ثم يناقش الفصل نقطة هامة هى "التفرقة بين العدو القريب والعدو البعيد" – وبعبارة أخرى أيهما أولى بأن توجه إليه الحرب أولاً الاستعمار.. أو الذين يحكمون بغير ما أنزل الله؟ وهو يرى الثانى. ويرد على من يقول "إن الجهاد فى الإسلام للدفاع فقط" وإن الإسلام لم ينتشر بالسيف ويرى أنه "قول باطل" ويستدل على ذلك بخطابات النبى r إلى الملوك وكذلك بآية السيف التى نسخت 114 آية من آيات الموادعة والصفح والسماح.

ويفند الفصل بعض الدعاوى التى تثبط عن القتال كدعوى أننا نعيش فى مجتمع مكى، ويرى أن "القتال الآن فرض على كل مسلم" وأن الجهاد مراتب وليس مراحل. أما خشية الفشل فإن الله تعالى يعدنا بالنصر وإدعاء عدم وجود القيادة يُْسَتدْرَك بأن توكل إلى الأحسن إسلاماً ..

f

من هذا العرض لكتاب "الفريضة الغائبة" يتضح أنه ليس فيه جديد عن مفهوم جماعات الرافضة الجديدة ..

فهو – مثلاً – يهيم بالخلافة ويرى أنها ركن من أركان الإسلام. "فمن مات وليس فى عنقه بيعه مات ميته جاهلية".

والكتاب يكفر المجتمع الحديث كبقية جماعات الرفض ..

ويرفض صور العمل الإسلامى البديلة كإقامة الجمعيات الخيرية، أو التربية الخ...

وهذا ما انتهى إليه قبلهم حزب التحرير، وأشرنا إليه ..

وربما كان الجديد فى الفريضة الغائبة هو تعميق قضية "الخروج" على الحاكم، وأن "الحكام المسلمين أولى بالقتال من المستعمرين".

ولا يتسع المجال لتفنيد هذه الدعاوى، فهذا ما قمنا به فى الكتاب، وحسبنا الإشارة إلى النقطة الرئيسية فى جماعات الجهاد وهى "الجهاد".

فحتى لو قصرنا التعبير على أضيق معانيه وهو "القتال" ..

فهل يتصور استخدام القتال للقضاء على الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله !

هل سيمكن لأى هيئة أن تؤسس جيشا كجيش الدولة فيه دبابات ومدافع وطائرات ؟!

أو هل سيأخذ القتال شكل الاغتيالات ؟ ..

إن أى دارس لتاريخ الحركات السياسية يتبين استحالة تكوين جيش.. ويتبين كذلك عقم أسلوب الاغتيالات ..

"فالقتال" لا يجدى كأسلوب فى اقتلاع الحكام البغاة ..

وإذا أرادوا أن يتجهوا بقتالهم نحو الكفرة، وأن يفتحوا روما ..

فهل سيمكنهم تحقيق الانتصار بالسيف فى عصر الصواريخ والطائرات الخ... إذا أرادوا حقا الانتصار فعليهم أن يدرسوا "التكنولوجيا" الحديثة، وأن يعكفوا عليها ..

وعليهم أن يعلموا أن النصوص وحدها والعكوف عليها دون العمل لن تفيدهم فتيلاً، وإنما تفيدهم علوم واكتشافات الأوربيين والأمريكان الكفرة وأهل الجاهلية.

f

مع إن هذه الكلمات المحدودة تكفى لنسف فكر جماعة الجهاد، فإن الجماعة واصلت البقاء! ..

واكتسب شيخها (الشيخ عمر عبد الرحمن) الذى أفلت من قضية اغتيال السادات شهرة مدوية ..

لأن العملية عملية مناخ يتغذى على الأخطاء ..

ولأن فساد النظم لا يقل عن فساد الأفكار ..

وما ظلت النظم الحاكمة الفاسدة، تتسلح بالإرهاب والديكتاتورية فستظهر أمثال دعوات الرفض على اختلاف صورها ..

رغم ما تتسم به من بطلان لأنها رد فعل للفساد، والفساد لا يولد إلا فساداً ..

f

أدى فرار جزء كبير من قيادات الجهاد إلى الخارج والمحاكمات التى غيبت معظم القادة الذين لم يتيسر لهم الفرار، وما تلى ذلك كله من تطورات إلى أن تستقل مجموعة وتحمل اسم "الجماعة الإسلامية" معظم قيادتها ممن فر إلى الخارج وتعاون فصيل منها مع بن لادن فى مقاومته للغزو السوفيتى لأفغانستان وتحريرها منه كما اشترك فصيل آخر فى البوسنة والهرسك، بينما ظل فريق محدود يعمل "تحت الأرض".

وليس هناك فرق بين جماعة الجهاد التى قامت باغتيال السادات، وبين الجماعة الإسلامية والقاسم الرئيسى بينهما هو فكرة الجهاد ورفض النظم القائمة المستمدة من فكرة سيد قطب عن الجهاد بالدرجة الأولى.

وجاء فى ميثاق العمل الإسلامى الذى وضعته الجماعة الإسلامية :

أن الإسلام جاء ليدخل الخلق كلهم فى دين الله تعالى وشرعه )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ( ..

وجاء أيضاً ليمحو الشرك فى كل صوره من فوق ظهر الأرض "حتى يعبد الله وحده لا شريك له" كما قال صلى الله عليه وسلم.

نعم كان القتال دعوة للتوحيد بنص حديث رسول الله r "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".

كان القتال دعوة للتوحيد لأن الإمبراطوريات والممالك أبت بسلطانها ونفوذها أن تسمح لدعوة التوحيد ودعاته بالنفاذ إلى أرض الله وخلق الله بحجة أن هذه أرضها هى، وهؤلاء رعاياها.. فكان لابد من القتال.

وكان القتال سحقا للشرك بإزالة هذه الطواغيت التى علت تلك المجتمعات حاكمة آمرة ناهية، تشرع للناس وتحمل الناس على التحاكم لشرعتها وتجبرهم لها.. رغبة ورهبة.

كان لابد من القتال لإزالة كل سلطان يعبد من دون الله.. لإزالة كل سلطان يقف فى وجه دعوة الإسلام.. لإزالة كل سلطان يأبى أن يدخل فى دين الله ويستكبر ويرفض أن يذعن ويدفع الجزية، ويصر على أن يعلو ويهيمن.

كان لابد من القتال لإزالة الفتنة.. وسحق الشرك.. وإعلاء شرع الله )وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ( ..

إن أحد لم يخلق من دون الله.. وإن أحداً لم يخلق مع الله.. لذا فإنه ليس من حق أحد أن يشرع من دون الله.. ليس من حق أحد أن يشرع مع الله. قال ابن تيمية "ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله، لا بين المسلمين، ولا الكفار.. إلا بحكم الله ورسوله" ..[65]

"إن الناس لم يخلقوا الأرض التى عليها يحيون وعليها تقوم مجتمعاتهم، لذا فإنه ليس من حقهم أن يهيمنوا أو يهيمن بعضهم ليشرع ويحكم ويأمر وينهى من دون الله ..

إننا كمسلمين – مأمورون أن لا ندع أى طائفة على وجه الأرض تحكم الناس بغير شرع الله ..

فمن أبى ذلك ورفض الإذعان قاتلناه ..

يقولون: هذه وصاية منكم على البشرية!!.. نقول: هذه وصاية شرع الله ودينه على أرض الله وخلقه، نحن مأمورون بتحقيقها لصالح البشرية بوصفنا خير أمة أخرجت للناس.

إن الإسلام ليس مجرد عقيدة فى القلب فقط حتى نقنع بحكايتها باللسان والدفاع عنها بالقلم والبرهان ثم نمضى قائلين: )فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(. لا هذا فهم أعوج مبتور.. إن الإسلام منهج حياة، إنه شرع الله الذى جاء ليسيِّر حياة الخلق.. لذا فنحن لا نكتفى بخطبة أو موعظة نقول فيها "عقيدتنا" وندافع عنها وكفى.. كما أنا لا نقنع بحلقة علم نعُلم فيها أو نتعلم بعض المناسك والشعائر وكفى.. بل لابد وأن ننطلق بهذا الدين دعوة باللسان، وحجة بالبيان، ودعوة بالحسنى، وجهاداً بالسيف.. أما اللسان والبيان والحسنى فللقلوب والعقول، فإن آمنت فيها ونعمت، وإن أبت فالجزية والصغار وعلو أحكام الإسلام على الديار، فإن امتنعت واستكبرت وعاندت ولم تسلم لنا القياد فالسيف السيف.. حتى تنزاح هذه الطواغيت، وبعد ذلك نقول )فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( ..

وركاكة وطفوليه هذا التفكير، وأنه ليس إلا عاطفة جامحة، هو مما لا نجد أنفسنا فى حاجة لتفنيده، لا من الناحية الأصولية ولا من الناحية العملية والمنطقية. ويكفى فحسب أن يقول أنهم عكسوا مقصد الشريعة من الجهاد.[66]

ونتيجة لاستسلامهم لهذا الفهم السقيم، ولأن القضية أصبحت عداوة ما بين السلطة وبينهم، فإنهم تورطوا فى عمليات اغتيال وتدمير لم تثمر إلا فى تشديد القبضة وإصدار الأحكام بالسجن أو الإعدام عليهم وختموا هذه التصرفات الطائشة بمذبحة الأقصر التى قتل فيها أكثر من خمسين سائحاً أوربيا بريئا جاءوا ليشهدوا عظمة المصريين القدماء فقضت عليهم خسة فئة ضالة نسبت نفسها إلى مصر والإسلام وهم منهما براء.

إن الدوى الذى أثارته هذه المذبحة. وحقيقة أن ضحاياها لا علاقة لهم بالإسلام أو الصراع الدائر ما بين الإسلاميين والحكومة، والإساءة الكبرى التى أوجدتها لمصر واقتصادها. جعلت زعماء هذه الحركة الذين كانوا يقضون السنوات التى حكم عليهم بها يعيدون النظر. وهكذا بعد عشرين عاماً من الضلال والتهور انتهوا إلى خطأ اجتهاداتهم وأعلنوا ما أطلق عليه "مبادرة وقف العنف".

ففى الخامس من يوليو سنة 1997 وأثناء نظر القضية العسكرية 235 فوجئ الحاضرون بأحد الإخوة المتهمين فى هذه القضية وهو يقف فى مواجهة رجال الإعلام ليلقى بيانا مذيلا بتوقيع القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية يدعو الإخوة لإيقاف العمليات القتالية وحقن الدماء.

وكانت هذه المبادرة من طرف واحد، وقيل أن الشيخ عمر عبد الرحمن أرسل يؤيدها من محبسه فى أمريكا وقيل إن آخرين عارضوها، كما أحاطت بها بعض الشبهات فى الداخل. وأصدر "القادة التاريخيون" كما أطلق عليهم عدداً من الكتيبات شرحوا فيها وجهة نظرهم الجديدة تحت عنوان سلسلة تصحيح المفاهيم ضمت :

1. مبادرة وقف العنف رؤية واقعية ونظرية وشرعية.

2. النصح والتبين فى تصحيح مفاهيم المحتسبين.

3. تسليط الأضواء على ما وقع فى الجهاد من أخطاء.

4. الغلو فى الدين وتكفير المسلمين.

وألفها أسامة إبراهيم حافظ، وعاصم عبد الماجد، وعلى محمد على الشريف وحمدى عبد الرحمن عبد العظيم وناجح إبراهيم عبد الله. وراجعها وأقرها. كرم محمد زهدى. أسامة إبراهيم حافظ. فؤاد محمود الدواليبى. عاصم عبد الماجد محمد. محمد عصام الدين دربالة.

وكل واحد فى حدود 160 صفحة من القطع المتوسط.

ولا جدال أن هذه خطوة سليمة، فالرجوع إلى الحق فضيلة، ولكن ما لاحظناه أنهم استندوا إلى أقاويل الفقهاء والسلف فى دعم اتجاههم الجديد. وقد كان أفضل شىء تبينهم أن الجهاد ليس وسيلة لأسلمه العالم أو توصيل دعوة الإسلام إليه، كما زعم سيد قطب. ومع هذا فإنهم ما ظلوا يعتمدون على المراجع التراثية التقليدية. ولا يستهدفون العلم والمنطق. فهناك احتمال أن يجدوا فى أقوال السلف والفقهاء وما يمكن أن يضلهم مرة أخرى.

0 التعليقات:

إرسال تعليق