الجمعة، ٢٨ أغسطس ٢٠٠٩

حكاية المادة الثانية من الدستور بقلم جمال البنا

تضمنت دساتير مصر، من دستور ٢٣ حتي الآن، نصاً يقول «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، وقد شذ عن هذا الحكم دستور سنة ١٩٣٠ الذي وضعه صدقي باشا لتقييد دستور ١٩٢٣، ورفضه الشعب وألغي بعد أربع سنوات وعاد مرة أخري دستور ١٩٢٣، كما شذ الدستور المؤقت الذي وضع لمناسبة انضمام سوريا وتكوين الجمهورية العربية المتحدة، وهو دستور سنة
١٩٥٨، وقد ألغي بدستور ١٩٦٤، ويلحظ أن الدستورين اللذين خليا من هذه المادة أعدا بصفة عاجلة، ولغرض معين يحتمل أن يكون هو سبب عدم ذكر المادة، وعلي كل حال فقد تضمن دستور ١٩٥٨ نصاً «المادة ٦٨» يقول: «كل ما قررته التشريعات المعمول بها في كل من إقليمي مصر وسوريا عند العمل بهذا الدستور تبقي سارية المفعول في النطاق الإقليمي المقرر لها، ولما كان الدستور السابق، دستور ١٩٥٦، تضمن مادة ٣٥ التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، ولم يقرر إلغاءها فيفترض طبقاً لنص المادة ٦٨ من دستور سنة ١٩٥٨ أن تعد قائمة».

معني هذا أن النص علي المادة كان وارداً في كل الدساتير، بما في ذلك الدستور الموءود دستور اتحاد الجمهوريات العربية في أول سبتمبر ١٩٧١ عندما نشأت فكرة انضمام مصر وسوريا وليبيا، إذ نصت المادة ٥ علي: «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، كما نصت المادة ٦ علي: «تؤكد دولة الاتحاد علي القيم الروحية وتتخذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع».

وكان ذلك بداية تطور المادة في عهد الرئيس السادات، إذ نصت المادة الثانية من دستور ١٩٧١ «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع»، وفي سنة ١٩٨٢ عدل الجزء الأخير من المادة فأصبح «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع».

وقبل هذه الإضافة، لم تكن مادة «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها» محل الاعتراض، ففي الجلسة التأسيسية للجنة دستور ١٩٢٣ وافق ممثلو الإسلام، والمسيحية، واليهودية، علي هذا النص، وقبله الأقباط باعتباره نصاً يقرر واقعاً، ورأي الأستاذ مريت غالي في تقريره الذي كتبه علي غلافه «تقرير مرفوع للمسؤولين في الدولة، وأحبائي من المسلمين لتعميق أواصر المحبة والتعاون والوحدة الوطنية علي أساس من الواقع العلمي»، أن النص علي أن الإسلام دين الدولة نص مقبول، بل واجب لكي يؤكد أن المجتمع المصري يقتدي بالقيم الروحية والمبادئ الدينية، وأنه يصبو إلي السمو الأخلاقي الذي هو في آن واحد بذرة الرقي وثمرته، ولأن دين الدولة بطبيعة الحال هو دين الأكثرية في مصر.

لست أرفض كلمة مكرم عبيد «إني مسيحي ديناً ومسلم وطناً»، كما لا أرفض كلمة سلامة موسي: «إن الإسلام دين بلدي وواجبي الدفاع عنه»، بل أجد في عقلي من السعة وفي قلبي من السماحة ما يهيئني لقبول هذا المعني وأنا مطمئن الضمير، فأقول «إنه علي أن أدافع عن الإسلام لأن المسلمين أخوتي في الكتاب وفي المثل العليا، وأنتظر بدوري أن يدافع أخي المسلم عن المسيحية، لأن المسيحيين إخوته في الكتاب وفي المثل العليا».

هذه كلمات مضيئة صادقة تعبر عن نفسية سوية لم يتطرق إليها تعصب، ولم تقربها عقد نقص، وياليت إخواننا الأقباط يقرأونها ويعرفون كيف كان عظيم الأقباط في مصر يكتب، بل يا ليتهم يقرأون الصفحات الأولي للتقرير التي مهد بها لموضوعه، وهي كلها تصور العلاقة الوثيقة التي كانت بين المسلمين والأقباط قبل أن يتلبد الجو بظهور عوامل طارئة أشرت إليها في كتابي «إخواني الأقباط».

نعود إلي السياق، إن إضافة «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع» أثارت معظم الأقباط، خاصة بعد تلبد الجو، وحملتهم علي تحركات لم يفعلوها منذ أن عقدوا بدفع من مكايد الإنجليز «المؤتمر القبطي» سنة ١٩١١، وقد قرأت أخيراً في مجلة «الأهالي - ٧/٢/٢٠٠٧، ص٥»، موضوعاً تسجيلياً استغرق الصفحة كلها بقلم الأستاذ كمال سعد، ينقد نقداً لاذعاً هذه الإضافة ويقترح لعلاجها نصوصاً لا تزيد الطين إلا بلة، وسأعود إليها بعد أن أوضح رأيي الخاص.

لا أكتم القراء أني كنت - ومازلت - غير متحمس للمادة التي تنص علي أن دين الدولة الإسلام، لأن استقصائي التاريخي لتطور الدولة «الإسلامية» أكد لي أن السياسة لابد - ولا مناص - من أن تلوث الدين، أو تستغله، فقد عوجلت دولة الخلفاء باحتدام الخلاف بين مجموعات من المسلمين أدت إلي مقتل الخليفة عثمان وهو يقرأ في مصحفه وزوجته تدافع عنه باليدين حتي أطارت السيوف أناملها، ثم تحارب المسلمون حول هودج عائشة وهي بحكم أنها زوجة الرسول تعد أمهم جميعاً، وصوبت كل السهام لهودجها وتصدت كل الأيدي للدفاع عنها، وأخيراً قاتل نصف المسلمين النصف الآخر في صفين.

حدث هذا، وذكري الرسول ماثلة، وكل الذين تورطوا في هذه المواقف من كبار الصحابة، ثم جاء ما هو أنكي في سنة ٤٠ هجرية عندما حول معاوية بن أبي سفيان الخلافة إلي ملك عضوض يكون الحاكم فيه أشبه بكلب مسعور يعض علي عظمة ولا يدعها تفلت منه.

انتفت سماحة الإسلام من كل هذا الملك العضوض الذي بدأه الأمويون، ثم تلاهم العباسيون، وكانوا أسوأ من الأمويين، ظلمات بعضها فوق بعض، صور من الوحشية والإرهاب والاستبداد بالحكم وإثقال الشعوب بالضرائب والمظالم إلي آخره، وظل ذلك حتي ألغي مصطفي كمال الخلافة التي لم يكن فيها شيء من حقيقة الخلافة.

لا شيء أكثر مأساوية، وأكثر خطورة من هذا، واكتشفت أن الأمر لا يقتصر علي الإسلام، إن المسيحية وهي ديانة الصفح والسلم والحب، ديانة «من ضربك علي خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر»، عندما تحولت إلي دولة أصبحت محكمة تفتيش وكأنها أصبحت في قبضة شيطان يدبر لها أشنع صور التعذيب والإحراق.

بل الأعجب من هذا أن وجدت الاشتراكية التي أرادت تخليص العمال من الاستغلال الرأسمالي وتحقيق العدالة لهم عندما أصبحت دولة برئاسة لينين أصبحت نقمة علي العمال وجعلت النقابات التي كونها العمال لحمايتهم تعقد المحاكمات للعمال وتقضي عليهم بعقوبات قاسية إذا تأخروا... إلخ.

وفي النهاية توصلت إلي أن القضية قضية مبدأ ينطبق علي كل الأديان إذا أقامت دولة، هذا المبدأ هو أن السلطة تفسد الأيديولوجيا أو القيم، لأن السلطة هي مجمع الإغراءات، كما أنها أيضاً مصدر الإرهاب المقنن، مما جعل الدولة «أداة قهر»، وأنها بهذه الصفة لابد أن تفسد القيم، وماذا بالله يمكن أن تقدمه الدولة للدين؟
 هل تستطيع أن تجعل الناس أكثر صدقاً وكرماً وتضحية وإخلاصاً.. إلخ، إنها لا تستطيع لأنها لا تملك إلا «سيف المعز وذهبه»، فهي تملك الإرغام والقهر بالبوليس والسجون، كما تملك الاصطناع والإرشاء بالمال والمناصب، وكلها تفسد ولا تصلح.

إن إصلاح الجماهير إنما يكون بهداية الأديان، أما أن تبني الدولة مساجد وتطبع ملايين النسخ من كتب دينية، بل إن ترسل جيوشاً لفتح بلاد باسم الدين، فهذا كله لا يفيد في حقيقة الحال.

ودفعني هذا كله لإصدار كتاب «الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة»، الذي شرحت فيه قضية الإسلام والحكم في ٤٠٠ صفحة، وأنه يستحيل إقامة دولة دينية، وأن التركيز يجب أن يكون علي الأمة وليس علي الدولة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق