الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الخامس التعدّدية فى مجتمع إسلامي

تعود الإشارات الكثيرة التى أوردناها عن التعدّدية فى القرآن الكريم إلى وجود أصل رئيسى لها هو التصور الخاص للإسلام لما يكون عليه المجتمع البشرى الذي أشرنا إليه إشارة موجزة فى مقدّمة هذه الرسالة، ولما كان المجتمع الإسلامى جزءاً من المجتمع البشري – حتى وإن كان له خصائصه المميزة – فإن ما يقال على المجتمع البشري يصدق بدرجات متفاوتة على المجتمع الإسلامي.

ولما كان المجتمع يضم ملايين الأفراد وآلاف الهيئات فلابد من وجود التعدّدية بحكم الأمر الواقع من ناحية، ولأنه من ناحية أخرى لا يمكن لأي هيئة أن تستوعب الحقيقة. فالحقيقة أكبر أتساعا، وأكثر عمقاً وأشد تعقيداً وتعميقاً من مدارك فرد واحد أو هيئة واحدة. فالقصور البشري يحول دون ذلك، وغلبة الذاتية على الفرد الواحد أو النظرة الواحدة تجعلها لا ترى إلا بعداً واحداً من أبعاد الحقيقة وتؤثر على أحكامها، وتجعلها بعيدة عن الموضوعية. ويمكن بالطبع لفرد أو لهيئة أن تمسك بشعبة من الحقيقة، أما أنه، أو أنها تستطيع الإحاطة بالحقيقة فهذا ما لا يمكن. وما يعني أن لم يعد للآخرين فكر أو رأي أو مجال، وهو اختزال لمجتمع يناقض الطبائع الاجتماعية ولا يعني – فى النهاية – إلا فرض ديكتاتورية غشوية تقوم على الظلم وتنتهي بالفشل.

ومن الطبيعي أن تستتبع هذه التعددية وجود الاختلاف وقبوله لا على أساس أنه ضرورة سيئة ولكن على أساس أنه جزء لا يتجزّأ من بينة وكيان المجتمع، لا يمكن أن يقوم بدونه. ولما كانت تلك النقطة قد تبدو جديدة على الكثيرين ممن تثقفوا ثقافة إسلامية تقليدية واحدية، فقد رأينا أن نبسط القول فيها فى النبذة التالية.

قضية الاختلاف والائتلاف فى المجتمع الإسلامي :

الائتلاف والاختلاف هما قوام كل مجتمع، بما فى ذلك المجتمع الإسلامي.. فالمجتمع كالنسيج الذي يكتسب تماسكه وقوته من تلاقي اللحمة بالسدى. ومن تقابل الخطوط العرضية بالخطوط الطولية. والحقيقة أن الائتلاف والاختلاف لا يقتصر على المجتمع، فهما موجودان فى الكون كما أنهما موجودان فى الفرد، وداخل كل واحد منا تدور معارك وتحدث حروب لا يراها أحد ولا يحس بها صاحبها ما بين كرات الدم البيضاء والميكروب الذى يغزو الجسم ويصيبه بالأمراض، وهناك عمليات تتم فى جزء من ثانية غاية فى الدقة والتعقيد الكيميائى والكهربائى لتحويل الهواء إلى دماء وفرز الطعام وهضم ما يريده الجسم وطرد الزائد عنه الخ.. فالفرد الإنسانى كائن معقد، متعدد وأن كان هذا يتم فى إطار الكيان الفردى للفرد ولو عددت الخلايا التى تعمل داخله كما لو كانت جنوداً لأشبهت جيشاً جراراً يضم الملايين.

فإذا كان هو شأن الفرد، فإن هذا الفرد ما أن ينشئ أسرة حتى تتضخم المسئوليات، وتتعدد الائتلافات والاختلافات ما بين شخصه، وشخص زوجته، فإذا جاء الأبناء أضيف عامل جديد... وهذا كله بالنسبة لأصغر دائرة من دوائر المجتمع وهى الأسرة.. ولنا أن نتصور حجم الائتلافات والاختلافات فى الوطن الذى يضم ملايين العائلات والأسر ..

من هنا فإن التسليم بالائتلاف والاختلاف فى المجتمع، والالتزام بآدابه هو الضمان لأن لا يتحول الاختلاف الذي هو جوهر التعددية إلى خلاف هو جوهر الأحادية.. فالاختلاف يحتمل الرأى الآخر.. ولكن الخلاف يضيق بالرأى الآخر، وبالتالى يسد المنافذ والطرق أمام التعددية لينتهى إلى سيادة الرأى الواحد.. ونعتقد أن هذا من أكبر المخاطر التى تتعرض لها التعددية فى المجتمعات الإسلامية لأنها عادة حديثة عهد بالحرية. والكثير منها يؤمن بالإسلام "قولاً واحداً" وأن الحق هو ما يراه هو، والآخر نوع من الضلال. فإذا لم يلتزم الجميع بآداب الاختلاف ويؤمنوا أن الاختلاف فى الفكر لا يثير حفيظة ولا يقتضى عداوة بل إنه أمر مطلوب لأن الحقيقة أعظم من أن يستوعبها رأي واحد. وإن كان كل واحد يمكن أن يمسك بشعبة منها، وأن هذا لا يثير عداوة، ولا يبعث على التنديد بالآخرين، وأن الفكر والمجتمع هو غير الحساب والرياضة لا يعني الاختلاف فيه الخطأ والصواب بالمعنى الرياضي، وإنما هو النظر إلى بعد من أبعاد الحقيقة لم ينظر إليه الطرف الآخر أو التركيز على جانب لم يعطه الفريق الأخر حقه، وهذا لا يعنى أن يتضارب فريق مع الآخر أو يتناقض معه ولكنه يكمله.

إن الذين يرون كالمودودي أن المجتمع الإسلامي الأمثل هو المجتمع الذى لا يوجد فيه إلا إمام واحد وفكر واحد وحزب واحد يقودون اتباعهم إلى نفق مظلم، ويؤخذون بفكر نظري يناقض طبيعة الأشياء ولو قدر لهم الانتصار لجنوا على بلادهم أعظم الجنايات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

وهؤلاء لا يختلفون فى شيء عن جماعة أخرى تقيم مجتمعاً أحاديا لأن حديثا الله أعلم به يقطع بأن فرقة واحدة هي الناجية من الفرق السبعين التى ستختلف عليها الأمة...

وما على هذا تبنى النظم وتستخلص الأحكام ..

f

ويعطي ما جاء فى القرآن الكريم تحت مادة "اختلف" دلالات ثمينة تناقض الانطباع السائد، لأنها ترى أن الاختلاف ظاهرة طبيعية يقوم عليها الكون والمجتمع والفرد. فليس مر السنين إلا نتيجة لاختلاف الليل عن النهار ورأى القرآن فى هذا الاختلاف آية تثير الفكر ]إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [. وهو معنى مكرر فى عديد من الآيـات كمـا تتمـايز العناصر والشعوب ]وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ[. ورأى فى اختلاف الألوان جمالاً فى الطبيعة، والثمرات والجبال، وجعل الناس ]شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[.

ورأى القرآن الكريم أن الاختلاف فى المجتمع هو أمر لا مناص عنه، وأن الاتفاق أمر مستبعد، أن لم يكن مستحيلاً، وأن محاولة فرض رأى معين على الآخرين يثير العناد ويدفع للتمسك بالرأى الآخر ويصبب العلاقة بسم العداوة.. ولهذا فأنه أحال البت فى هذا الاختلاف إلى الله تعالى يفصل فيه يوم القيامة. وهو ما يغنى الفرقاء عن الصراع والكفاح والعمل بكل وسيلة لحمل الآخرين على التسليم لهم.

وكان هذا هو الحل الأمثل فما دام الاختلاف قائماً وما دام المطلوب هو أن لا يثير هذا الاختلاف العداوة والبغضاء والنزاع والخصام، فلا مفر من إيكال الأمر إلى الله تعالى يفصل فيه يوم القيامة.

ومراجعة مادة "اختلفوا" في القرآن توضح ذلك كما يلي ..

  • ]ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[ {55 آل عمران}

  • ]إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[ {48 المائدة}

  • ]ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[ {164 الأنعام}

  • ]اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[ {69 الحج}

  • ]قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ[ {63 الزخرف}

  • ]فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[ {113 البقرة}

  • ]وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[ {19 يونس}

  • ]إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[ {93 يونس}

  • ]لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ[ {39 النحل}

  • ]وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[ {124 النحل}

  • ]وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[ {10 الشورى}

  • ]إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[ {25 السجدة}

  • ]إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[ {3 الزمر}

  • ]أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[ {46 الزمر}

وثمة لفته هامة أشار إليها القرآن أكثر من مرة بالنسبة للاختلاف، تلك هى أن هيمنة البغى هي التي تجعل الاختلاف أمراً سيئاً ..

  • ]وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ[ {213 البقرة}

  • ]وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ[ {19 آل عمران}

وأقرب المعانى إلى ما أراده القرآن الكريم بتعبير "بغيا بينهم" هو السلطة التى هى بطبيعتها مفسدة ويغلب دائما أن تغرس بذرة البغى، وبدون هذا لا يحتدم الاختلاف أو يتحول إلى عداوة، والتاريخ السياسى فى المجتمع الإسلامى شاهد على هذا. فأفضلية الإمام على كرم الله وجهه على أبى بكر أو عمر كان يمكن أن تكون اجتهاداً نظرياً صائبا، أو خاطئاً. ولكن عندما أصبح له مضمون سياسى وسلطوى تسبب فى انشقاق الأمة. كما أن فكرة خلق القرآن كان يمكن أن تعد حذلقة فلسفية أو ترف فكرى. ولكن عندما آمن بها الحاكم واتخذها مذهباً مقرراً فى الدولة أنتهى باضطهاد المخالفين وجلد الإمام الجليل أحمد بن حنبل.

فإذا كان القرآن قد أقر الاختلاف، ووكل الفصل فيه إلى الله تعالى يوم القيامة، فإن السُنة أيضاً أقرت الاختلاف عندما ارتأى الرسول أن للمجتهد المصيب حسنتين (أو أجرين)، وللمخطأ حسنة (أو أجر) فأثاب المجتهد الذى يخطئه التوفيق، فإذا كانت حسنة التوفيق قد اخطأته، فإن حسنة الاجتهاد لم تفته. وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه الاعتراف بالتعددية وبحرية الفكر لأنه يجاوز إطار الإقرار إلى درجة التشجيع. كما أن الرسول أقر الاختلاف فى جانب هام له قداسته الخاصة وهو قراءات القرآن. فقد صعب على بعض قبائل العرب النطق بلغة قريش فى بعض الآيات ونطقوها بطريقة مختلفة فأجاز الرسول لهم ذلك ما دام التغيير مقصوراً على طريقة النطق بالكلمة دون مساس بمعناها، وأن التطور سيقضى على هذه الاختلافات الآنية، وكان هذا هو الأصل فى تعدد القراءات القرآنية.

ومعلوم جيداً أن الصحابة كانوا يختلفون فى فتاويهم، وأن هذا لم يؤثر أبداً على مشاعر المودة والتقدير المتبادلة. وورث التابعون هذه الصفة عن الصحابة، كما ورثها تابعوا التابعين.. ولم يثر الاختلاف عداوة إلا عندما أرتبط فيما بعد بالسلطة.

ولم يجد الصحابة والتابعون حرجاً فى اختلافهم، وكانت وشائج التقدير والحب تربط بين الذين جمعهم وقت واحد مثل مالك والشافعى والليث ومحمد بن الحسن الخ.. وكان بعضهم يأخذ فى بعض المناسبات ببعض ما ذهب إليه الآخرون وكانوا جميعاً ينهون الناس عن أن يقلدوهم ويأمرونهم بأنعام النظر والتدبّر.

وقال القاسم بن محمد أحد أئمة المدينة السبعة " لقد نفع الله باختلاف أصحاب محمد r فى أعمالهم لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه فى سعة" وقال عمر بن عبد العزيز "ما يسرنى أن أصحاب محمد r لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فمخالفهم ضال، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان فى الأمر سعة."

وقد حفظ لنا التاريخ أمثلة للاختلافات ما بين الأئمة، ونماذج ردودهم مثل :

1- الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم.

2- الرد على أبي حنيفة لأبى بكر بن أبى شيبة ضمن كتابه المصنف.

3- الرد على محمد بن الحسن الشيبانى للإمام الشافعي.

4- بيان خطأ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري فى تاريخه لأبى محمد بن أبي حاتم الرازي.

5- كشف الأوهام التي فى كتاب "المدخل إلى الصحيح" الذي صنفه الحاكم النيسابوري لعبد الغني الأزدي.

6- بيان الوهم والإبهام الواقعين فى كتاب الأحكام لعبد الحق الاشبيلى لإبن القطان.

7- إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث لأبن قتيبة الدينوري.

8- ما دار بين الليث بن سعد إلى مالك بن أنس من مكاتبات تكشف عن الأدب الجم والتقدير المتبادل.

وهذا قليل من كثير ..

ومعروف أن الإمام مالك بن أنس رفض أن يكون كتاب "الموطأ" هو المرجع الوحيد فى الأحكام عندما أراد ذلك الخليفة أبو جعفر المنصور. كما أنه (أى الخليفة المنصور) رفض ما اقترحه ابن المقفع فى رسالة الصحابة تقنين الفقه أو الأخذ بإحدى وجهات النظر الفقهية. وقد حاول عمر بن عبد العزيز شيئاً من هذا من قبل، وكان ذلك فى أصل فكرته عن تدوين السنن، ولكن الطبيعة التعددية المتفتحة للمجتمع الإسلامى حقبة النهضة والفتوة والثقة فى النفس كانت أقوى من أن تستسلم للقيود أو الضوابط، وظل الاجتهاد سارياً حتى أدى إلى نوع من البلبلة فى الأحكام فى البلد الواحد. فى الوقت الواحد. وكان المفروض أن يوجد نوع من التنظيم وإطار من الضوابط لأن الضوابط مما لا مناص عنها فى أى عمل اجتماعى ولكن فتوه المجتمع الإسلامى وقتئذ استعصت على ذلك، وكان الحل المؤسف فيما بعد هو إغلاق باب الاجتهاد والاقتصار على المذاهب التى أثبتت رسوخها، ويلحظ أنه حتى فى هذه الحالة فإن التحديد لم يأخذ شكل الواحدية ولكن بالإضافة إلى المذاهب الأربعة، فإنه ضم المذاهب الأخرى كالأثنى عشريا فى إيران والزيدية فى اليمن والاباضية التى يؤمن بها البعض فى عمان. كما أن مذهب الطبرى وداود الظاهرى (ومعه ابن حزم) أى الظاهرية.

f

بالإضافة إلى هذه الضرورية الأصولية للاختلاف فى المجتمع، فقد كان هناك عاملان أديا إلى التعددية فى مجتمع إسلامي هما هداية الأنبياء، وغواية الشياطين ..

أ - هداية الأنبياء

إنه لمن الطبيعى فى مجتمع يؤمن بدين ما، أن يكون الدين هو أكبر عامل فيه. فهداية الأنبياء هى محور هذا المجتمع. وهذه الهداية لا تأخذ شكل الواحدية فى المجتمع، ولكن التعددية، كما أثبتنا ذلك فى الفصول السابقة عن إشارات القرآن إلى التعددية وعن قبوله لتعددية الأديان، وأن داخل إطار المجتمع الإسلامى تتعدد الاجتهادات وتتباين الآراء وتظهر المذاهب، وإن كانت هذه التعددية تأوى فى النهاية إلى إطار فسيح وإلى أصل مكين هو الإسلام ونحن فى غنى عن أن نكرره هنا، لأن المقصود هو الإشارة إليه، كعامل بارز من عوامل التعددية أما شرحه وتبيانه والبرهنة عليه فهذا ما تضمنته الفصول السابقة.

ب - غواية الشياطين

العامل الثانى الذى يؤدى إلى تعددية تختلف عن التعددية السابقة فى إنها قد تشط حتى تجاوز إطار السمت الإسلامى هو غواية الشيطان.

فقد خلق الله تعالى الإنسان من "طين" ليتلاءم مع تربة الأرض التى سيعيش عليها وضروراتها الملزمة ونفث فيه من روحه ليمكنه – إذا أراد – من السمو إلى سماوات القيم ووهبه عقلاً يميز به ما بين الخطأ والصواب وقلبا يهديه إلى الخير دون الشر. ولكن الله تعالى العليم بالإنسان وما توسوس به نفسه – رأى أن هذا كله لا يعصم الإنسان من الانحرافات أو إيثار اللهو واللذة والمتعة على العمل والقصد والاعتدال. دعم الإنسان بهداية الأنبياء الذين عرفوه المعرفة الحقة – على الله تعالى، وعلى ما يحدث للإنسان بعد الموت وهو ما يعجز العقل عن الوصول إليه ..

واقتضت إرادة الله وحكمته البالغة أن يكون هناك محك للإيمان، ولمدى عمقه أو سطحيته فى نفوس الناس، فمن أسهل الأشياء الإدعاء أو التظاهر. ولذلك جعل الله تعالى "العمل" مصداقاً للإيمان فالإيمان دون عمل يظل ادعاءً حتى يثبته – أو ينفيه – العمل..

ولكن هذا العمل يحتاج بدوره إلى محك يكفل دوامه ويثبت صموده أمام الشهوات وما تهوى الأنفس.

إن الملائكة لا تتعرض للإغواء، وإيمان هؤلاء الملائكة لاشك فيه. كما أن عملهم هو التسبيح والتهليل وكان يمكن أن يكونوا أفضل من البشر، ولكن الله تعالى أراد للمجتمع البشرى أن يكون شيئا آخر غير مجتمع الملائكة، أراد له أن يتعرض للإغواء – كأقوى ما يكون الإغواء – ثم ينتصر على هذا الإغواء بفضل الإيمان وبهذا الانتصار فضل البشر على الملائكة الذين لا يتعرضون لأى إغواء ..

وقد أشار القرآن إلى هذه القوة الفعالة فى المجتمع البشرى "بما فيه المجتمع الإسلامى" فى عديد من الآيات بصورة صريحة، وجازمة ووصلت إلى الدرجة التى يمكن أن يقال فيها إن الله تعالى أعطى الشيطان "كارت بلانش" كما يقولون أو حتى أمره بها، وزاد له من السلطة ليقوم بدوره فى غواية الإنسان وأن هذه السلطة التى تضم المجالات العديدة التى ذكرها القرآن ستبقى وستستمر إلى يوم الساعة، وكأن القرآن يريد أن يقول إنها عنصر دائم وباق، ولا يمكن للمجتمع البشرى أن يتحرر منه إلى يوم الساعة.

واقرأ مثلاً ..

  • ]وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ[ {11 الأعراف}

  • ]قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[ {12 الأعراف}

  • ]قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ[ {13 الأعراف}

  • ]قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[ {14 الأعراف}

  • ]قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ[ {15 الأعراف}

  • ]قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ[ {16 الأعراف}

  • ]ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[ {17 الأعراف}

  • ]قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ[ {18 الأعراف}

  • وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا[ {61 الإسراء}

  • ]قَـالََ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا[ {62 الإسراء}

  • ]قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا[ {63 الإسراء}

  • ]وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا[ {64 الإسراء}

  • ]إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا[ {65 الإسراء}

لقد كانت قضية "الشر" ووجوده فى المجتمع من المسائل التى شغلت الفكر الدينى من أقدم العصور حتى لقد قامت أديان على أساس وجود إلهين إله للخير، وإله للشر أو إله للنور، وآخر للظلام، وهذا أكبر دليل على قصور الفهم البشرى عندما يتصدى لقضية الألوهية فهو يجعلها نوعاً من السجال بين قوتين لن يسفر بالطبع إلا عن صراع. فى حين أن الفرض الذى قدمه الإسلام هو الحل الأمثل فقد أبرز الشيطان ما بين الحقيقة المادية والمجاز النظرى كرمز للشر الذى يتأتى بالدرجة الأولى من الاستعلاء والأثرة والأنانية وغلبة الذات عندما رفض السجود لآدم بحجة أنه خير منه ]خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ[ وأن هذه الطبيعة فيه قد دفعته لإغواء آدم، ومن ثم فإن الله تعالى ترك له هذه المهمة التى خلق لها أو التى اختارها، ولم يخش على المؤمنين لأن هداية الأنبياء تحصنهم من هذه الغواية، وفى الوقت نفسه فإن هذه الغواية، وما ستأخذه من صور وممارسات تثير فى نفوس الصادقين قوة المقاومة فيزدادوا إيمانا، أما من هم دونهم فأمامهم درجات عديدة من السلوك التى يخلطون فيها عملاً حسناً بعمل سيئ ، وقد لا تفوتهم التوبة بعد الندم، فإذا استسلموا تماماً أو حتى تمادوا فإنهم يكونون مثلاً مروعاً يردع المؤمنين من أن يتردوا فيه. ولم يكن هناك مناص من هذا كله. لأن الشر على سوئه كان لازما لكى تبرز خصيصة الخير، فبضدها تتبين الأشياء كما فطن إلى ذلك الشاعر، ومن هنا كان لابد من وجود الشيطان، ولابد من أن يقوم بدوره الرجيم، ما دام الله تعالى قد أراد للحياة الإنسانية أن تكون دار ابتلاء واختبار وأن يقوم المجتمع على أساس الحرية والاختيار، ولهذا يكون أقل نقاء من مجتمع الملائكة. الأمر الذى جعل الملائكة تعجز عن فهم حكمة استخلاف الله لهذا المخلوق، ولكن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون.

وأوضحت آيات عديدة أن لا أحد يفلت من غواية الشيطان حتى الأنبياء أنفسهم، بل لقد بدأت الحياة الدنيا نتيجة لغواية الشيطان الأولى لآدم ثم تواصلت هذه الغواية مع ظهور الأنبياء فقال: ]وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[ {52 الحج} ..

وتحدث القرآن عن أخطاء للأنبياء فى غير ما كلفوا بتبليغه فقال عن آدم ]فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا[ وعن سليمان وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ وقال عن يوسف ]وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[ وروى عن موسى ]وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا[ وقال عن ذي النون ]وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ[ وقال عن محمّد r ]وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ[ ]وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا[ {73 74 الإسراء}[11]

ولم ينف الأنبياء أنفسهم ذلك فكلهم مثل يوسف ]وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ[ فالأنبياء جميعاً محفوفون برعاية الله وهذه الرعاية تجعلهم ينتصرون على الشياطين، ولكنهم بدونها يصبحون كبقية البشر. وقد قال النبى إن الشيطان يسرى من الإنسان مسرى الدم، وقال إن لكل واحد شيطان فلما سألوه "حتى أنت يا رسول الله" أجاب بالإيجاب ولكن الله تعالى نصره عليه – فلا يتصور، والأمر هكذا أن يخلو مجتمع بشري – إسلامى أو غير إسلامي من غواية الشيطان لأنه فى النهاية مجتمع بشري وليس مجتمع ملائكة.[12]

بل لو أخذنا بالقياس فإن أعظم ما يفترض أن يقوم به الشياطين يكون فى مجتمع إسلامى، لأن مهمة الشياطين هى فتنه المؤمنين.

وأبرزت الآيات المجالات التى يمكن للشيطان أن يؤتى الإنسان منها وهى المال، والنساء، بالإضافة إلى السلطة التى تعود بذرتها إلى الأنانية والكبرياء، والاستعلاء، والزهو، وحب السيطرة الذى يتجلى عادة فى مجال الحكم، ويفسده.

وطبقاً لهذا لا يكون مستغربا أن تظهر صور عديدة لممارسات خضعت للشيطان فى مختلف الحالات. فيظهر الاستبداد فى السياسة، والتفارق فى الثروات ما بين الذين يتضورون جوعاً والذين ينتفخون ثراء، ويلوث النفاق والكذب الأقوال والأفعال وتظهر "الكاسيات العاريات" ليس فحسب على الشواطئ، ولكن فى شوارع المدينة، وتنتشر دور السينما، والمسارح، والملاهى، وتروج الصحافة الصفراء، وروايات الجنس والغرام الخ ..

ولا يتصور مجتمع بشري لم يمارس فيه الشيطان مهمته فى هذه المجالات، ونرى شواهد لها فى كل المجتمعات، والفرق بين المجتمع الإسلامي وبقية المجتمعات البشرية أن المجتمع الإسلامى لديه من القوى الإيمانية والخّيرة ما يحد من مدى فجور وانتشار هذه الموبقات وأن يصمد بدرجات متفاوتة أمام هذه المهالك والمغريات.

وكان من ذكاء الشيطان أن أخفى عن المسلمين القدامى والمحدثين أهمية ومنزلة الحكم، والآثار المدوية لإفساده بحيث لم تكن محل ملاحظة وتعقب المصلحين، قدر ما ضخم من أهمية آثار الاقتنان بالمرأة، وضرورة العمل بكل الطرق للحيلولة ما بين المجتمع الإسلامى وهذا البلاء المستطير.

وكان هذا الموقف هو الذى سمح لمعاوية بأن يحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، مع حرص المجتمع على الوقوف من المرأة موقفاً ظن أنه الموقف الإسلامى وكان هذا دليلاً لا يدحض على غفلة المجتمع الإسلامى وتخلف تقديره، واختلال الموازين فى وقت مبكر جداً، ولأسباب عديدة لا يتسع المجال لتفصيلها، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وتحقق نبوءة الرسول عن تحلل عرى الإسلام عروة عروة "فأولها الحكم وآخرها الصلاة".

ونحن لا ندين الأسلاف فقد كان هناك أسباب عديدة أدت إلى هذا الموقف ولكن ما نرى أنه يستحق اللوم هو موقف الفقهاء المعاصرين الذين كان عليهم أن يروا ما دق على أسلافهم، أو أن يتحرروا من قوى الرواسب التى تحكمت فى الأسلاف.

فما قيمة الضرر الذى تحدثه امرأة ترقص وهى ترتدى زيا يكشف أكثر مما يحجب أمام قرارات حاكم مطلق يذل ويتحكم فى معارضيه. على الأقل إن إساءة المرأة لن تلحق إلا بأفراد جاءوا بمحض إرادتهم، بل دفعوا أجراً للدخول لكى يشاهدوا هذه المنكرات ..

وما قيمة مسرح أو مرقص يصخب رواده ويرقصون أو يشاهدون أفلاماً جنسية إزاء وضع يقضى باستغلال العمال وتشغيلهم ساعات طويلة تنهك صحتهم لقاء أجور هزيلة لا تفى بحاجة الأفواه الجائعة، أو يستخدم وسائل الاحتكار والغش لمضاعفة أرباحه.

إن مجرد وجود المشاهد التى تثير الأغراء يختلف عن الوجوب الذى يتضمنه أى قرار سياسى فوجود مشاهد الفتنة والأغراء لا يقوى وحده على جذب المشاهد، لأن عدداً كبيراً من العوامل قد يحول دون ذلك من صلابة، أو مشغولية، أو خوف الخ.. ولكن قراراً سياسياً يصدره الحاكم يطبق فوراً وعلى جميع من ينطبق عليهم هذا القرار، حتى لو كانوا كل المواطنين، وقد يجعل الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقراً وقد يشل الحريات ويفرض الخوف والرعب والإرهاب على الناس ويمتهن الكرامات ويقهر النفوس، كما يحدث فى معظم نظم الحكم فى الدول الإسلامية قديماً وحديثاً.

إن الرسول عندما رأى أعرابا فى أسمال "إحمرّ" وجهه "كأنما فقئ فى وجهه حب الرمان" لأن مشاهدة هذه الأسمال يثير الخجل، ولم يستعد الرضا إلا بعد أن خطب وانهالت عليهم الملابس من كل حدب وصوب ولكن الإسلاميين المحدثين لا يستشعرون خجلاً أمام مظاهر الفاقة المدقعة.. وإنما يحسونه أمام امرأة عارية ..

وهكذا فإن غواية الشياطين لابد وأن توجد فى المجتمع الإسلامى صوراً من التعدديات والممارسات المخالفة والنابية عن أدب الإسلام سواء كان فى شهوات الجنس أو دعوات الثراء والاستزادة من المال. أو النظم التى تسخر الجماهير لخدمة الحاكم وتفرض حكم القوة.. ويفترض أن يكون لدى المسلم الكياسة والفطنة للتمييز بينها على أساس خطورتها على المجتمع وأثارها الوبيلة وأن يمنح الأولوية لكل ما يمس الحكم، ويتلوه ذلك ممارسات الإثراء والتكاثر وأخيراً فتنة المرأة والجنس، وله بالطبع حق مقاومتها جميعاً بكل الطرق، أو التحصن من الوقوع فى شراكها وقد يجد فيها ما يستثير فيه التمسك بدعوته والحرص عليها.. وعليه فى الحالات التى يعجز فيها عن ضبط نفسه ويتغلب عليه الضعف. أن يستدرك هذا بالتوبة والاستغفار والقيـام بالأعمال الصالحة التى تجب السيئات.

وهذا الأسلوب يختلف جذريا عن أسلوب الفقهاء فى سد باب الذريعة ومحاولة حماية الفرد المسلم فى "صوبا" تبعده عن المغريات، وقد عالجنا تلك النقطة فى كتابات عديدة وأوضحنا أفضلية الأسلوب القرآنى وحيويته وفعالية على أسلوب سد الذريعة ..

f

وقد يقول قائل ما هى الحكمة التى أرادها الله تعالى من هذه "التمثيلية" فنقول هل هناك أروع وأعظم من إيجاد هذا المجتمع الإنسانى العظيم الذى يضم المليارات كل واحد له شخصيته المنفردة، وله اهتماماته الخاصة، وكل هذه الصور الرائعة، المتوهجة، من نشاط الناس فى أربعة أركان الأرض وأنشطتهم من صناعة وزراعة وفنون وآداب واكتشافات واختراعات ؟ أن المصور الذى يرسم أو النحات الذى ينحت مائة شخص مثلا كل واحد مختلف عن الآخر يعد عبقرياً فما بالك بالذى يخلق بالفعل الملايين بل البلايين ويعطيها القوة والحياة والعقل والذكاء والعواطف والشهوات، والشخصية الخاصة. هل هناك أروع مما وصل إليه المجتمع أو أعظم من صور الجمال الذى توصلت إليه الفنون أو أدق وأعجب من أسرار الصناعة والإدارة والتنظيم التى تسير عجلة هذا المجتمع فى نعومة ويسر.

لقد أسلم الله تعالى هذه الأرض للإنسان فأضاف إلى جمالها البرى الطبيعى جمالاً حضارياً أضاء كل جنباتها بالنور وغرس فى تربتها الزهور وأقام على أرضها ناطحات السحاب والمصانع التى تصنع الطائرات والسيارات وأجهزة التلفاز والصواريخ التى تنطلق محررة لأول مرة من إسار الجاذبية الأرضية وتصل لأول مرة إلى كواكب أخرى غير الأرض. وأقام الجامعات ومعاهد الأبحاث والمستشفيات ودور الفنون على اختلافها من موسيقى أو تمثيل أو سينما.. وهناك الملايين والملايين من البيوت فى كل منها أسرة تستمتع بالدفء والحب والسعادة، وإذا كان هذا ليس حظ كل البشرية، وإنما هو مقصور على الدول المتقدمة، فليس هناك ما يقف أمام بقية الدول للوصول إلى هذه الدرجة كما قد يكون لدى هذه الدول من دين أو فكر أو قيم ما تفتقده الدول المتقدمة ..

وعندما يجاوز التطور البشرى حده، ويبلغ غايته بحيث يظن الإنسان أنه أصبح سيد الكون عندئذ يؤذن الله تعالى بنهايته لأنه جاوز طوره وقدره، ومن رحمة الله أن هذه النهاية لا تعنى الفناء والعدم وإنما هى مقدمه لعالم آخر يختلف اختلافاً تاماً عن عالم الحياة الدنيا عالم تتجلى فيه قدرة الله التى لا يحدها حد ولا يشوبها نقص.

فكيف لا يكون فى هذا كله من بدأ الخلق حتى أعادته حكمة وغائية وروعة تأخذ بالألباب.

0 التعليقات:

إرسال تعليق