السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

عندما تهلّ الشريعة متوشـّحة بالحـرّية، ومستهدفة العدل والمصــلحة

و فرضنا أن جهود الأجيال التالية التي أشرنا إليها في نهاية الفصل السابق قد نجحت في اكتساب الرأي العام، فهل نأمل استعادة تلك المرحلة الباهرة التي كان في أصلها وجود الرسول بشخصه، أو التي تلاها، وكانت آثار هذا الوجود لا تزال ماثلة في أذهان صحابته الذين عايشوه، وظلّ بعضهم حيّاً حتى المائة الأولى للهجرة.. وهو الوقت الذي ظهر فيه "التابعون" والذين هم أقصى امتداد لمجتمع المدينة وإن لم يكن مجتمعهم خالصاً صافياً كمجتمع المدينة؟

كلا، فهذه فلتة لا تعود أبداً ولا تتكرّر أبداً. فقد أوى الرسول إلى ربّه، ولن يكون بعده رسول ولن يتكرّر مجتمع يبلغ فيه احترام الشريعة أن يصرّ الجاني على تطهيره بالعقوبة ويبلغ فيها حرص القاضي على الإنسان أن يلقّنه الإنكار.

ونحن لا تخالجنا الأوهام في أن الدعوة التي نقدّمها اليوم وسبقت إليها الإشارة في الفصل السابق لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي، لن تجد قبولاً فوريّاً إلا من القلّة، وأنها ستتعرّض لشتّى الاتهامات والتخرّصات والادّعاءات.. وأنه لا بد أن يمضي وقت طويل، خمسين سنة أو أكثر، قبل أن يصبح هذا الفكر "رأي عام" قد لا تستوعبه الأغلبية ولكن تتقبّله الأقليّة.. ونحن لا نعمل لحساب الحاضر الماثل، ولا نعتمد على الجيل المعاصر. ولكننا نخطو الخطوة الأولى على مسيرة ألف ميل، لأننا إن لم نخطوها فقد لا يفعلها الآخرون، كما أننا نقدّم الجزء النظري والأصولي وندع للأجيال الآتية مهمّة التطبيق.

إن قصارى ما نطمع فيه هو أن هذا التجديد لمنظومة المعرفة الإسلامية، إذا قُدِّرَ له النجاح فإنه سيحقق للشريعة -فيما نحن بصدده، أي تطبيقها- أمرين:

الأول : أنه سيضفى على الشريعة مسحة من القداسة الإسلامية المستمدّة من القرآن الكريم، ومما ثبت عن الرسول، وما تقضي به الحكمة -وهي مسحة تختلف تماماً عن المسحة التي أضفاها الفقه المذهبي أو فرضتها الطبيعة الإمبراطورية للدولة الإسلامية على الشريعة كما أنها تفوق المسحة التي أضفاها احترام القانون في المجتمع الأوروبي على قوانينه الوضعية.

الثاني : أن شكل الشريعة سيختلف ولن يلتزم بالصورة التي يقدّمها الفقه القديم. بل وقد يصل الاختلاف إلى تأويل بعض النصوص إذا قضى التطوّر على المبرّر الذي من أجله أُنْزِلَت، سواء كان هذا النصّ من القرآن نفسه أو من السُنّة.

والأساس الأصولي لهذا هو أن أي نصّ جاء به الإسلام سواء في القرآن أو السُنّة، لم يوضع عبثاً إنما جاء لحكمة [6]، وقد كانت هذه الحكمة قائمة عندما نزل النصّ، ولكن يحدث أن تَجِدَّ أوضاع جديدة تنتفي منها الحكمة، وعندئذٍ ينتفي النصّ لأن الحكمة تصاحب الحكم إيجاباً وسلباً. وقد تنبّه عمر بن الخطاب إلى هذه النقطة فى وقت مبكر جداً، وعندما لم تكن الأوضاع قد تطوّرت التطوّرات الجسيمة التي وصلت إليها بعده، فقد لاحظ أن النصّ القرآنى عن مصارف الزكاة يتضمن )الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ[ وكانت "الحكمة" فيه عندما نزل القرآن، كَسْب تأييد بعض القيادات القبلية للإسلام، أو على الأقلّ كف عداءهم. ولكن الإسلام أصبح عزيزاً قوياً في عهد عمر بن الخطاب ولم يعد بحاجة إلى مناصرتهم، ولم يعد يخشى معارضتهم وبهذا انتفت الحكمة منه، ولم يعد مبرّر لإعماله، فأوقفه لا تعطيلاً له، ولكن لانتفاء العلّة، وإذا وُجِدَت العلّة مرّة ثانية.. يعاد تطبيقه.

وتضمّن القرآن الكريم نصوصاً عديدة عن )مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ[ لأن الإسلام عندما نزل من ألف وأربعمائة عام كان الرِقّ موجوداً ويُعَدُّ ظاهرةٌ لا يمكن تجاهلها، وقد سُلِكَ إزاءها مَسْلَكَيْن، الأوّل تفريغ الرِقّ من أسوأ ما يتضمنه وهو الإذلال والقسوة وسوء المعاملة، فحذّرت وشدّدت أحاديث نبوية عديدة من سوء المعاملة وضرورة أن يأكل العبد مما يأكل سيده ويلبس مما يلبس سيده ولا يُكَلَّف ما لا يطيقه. ونفّذ هذا التوجيه بعض الصحابة حتى لا يميز الناظر بين السيد وعبده لأنهما معاً يلبسان زياً واحداً، كما حُصِرَ الرِقّ فى أسرى قتال مع غير مسلمين وجعل مصير هؤلاء الأسرى -بنصّ القرآن- ]فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً[. وطبّق الرسول هذا النصّ في حالتي أسرى غزوة بدر وأسرى غزوة هوازن كما جعل "عتق رقبة" تكفيراً عن الكثير من الآثام. ولكن هذه التوجيهات النبوية والقرآنية لم تتابع، أولاً لغلبة الطبيعة البشرية على التوجيهات الدينية في معظم الحالات وثانياً لأن الرِقّ كان جزءً لا يتجزّأ من نظام الانتاج وقتئذٍ، ولم يكن ممكنا الاستغناء عنه كلّيةً. وقد فشلت كل الأديان في القضاء عليه وفشل دعاة الإنسانية في القضاء عليه. ولم يكن الذي قضى عليه هو "ويلبرفورس" وزملاؤه في بريطانيا، أو لنكولن في الولايات المتحدة، ولكن الذي قضى عليه كان ظهور الآلات البخارية ووقوع الانقلاب الصناعي. فالآلة جعلت عمل العبد عبئاً بعد أن كان كسباً، فوجب التخلص منه وكان هذا التخلص يعني تحريره.

والذي يقرأ كل ما جاء في القرآن عن الإنسان، وأن التفاضل يكون بالتقوى، وأن الناس جميعاً سواء، "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" الخ... يلمس تماماً ضيق القرآن بهذه الظاهرة وأنه أراد وضع نهاية لها عندما قال ]فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً[. ولكن المبادئ التي وضعها الله لتطوّر المجتمع أرجأت ذلك.

والآن وقد تحرّرت البشرية من هذه الوصمة، فإن كل الأحكام التي جاءت عن عبيد أو أرقّاء، أو ملك اليمين، سواء جاءت في القرآن الكريم، أو السُنّة أو الأحكام الفقهية، كلها تُعَدُّ منتفية لأن "جسم القضية" ومبرّرها وهو الاسترقاق لم يعد قائماً، ومن ثم فلا مبرّر مطلقاً للإشارة إليه في الكتب الحديثة عن الفقه، ويصبح مما يثير السخرية أن نعلّمه فيما يتعلم طلبة الفقه.

ويماثل هذا النصوص عن "الغنيمة" و"الفيء" وفرض الجزية، فهذه كلها إنما سُنَّت لأن الجيش "المحترف" لم يكن معروفاً عند نزول أحكامها، وإنما كان المتقاتلون يعوّضون بسلب القتلى أو أسر الأسرى. وانتهت هذه النظم مع ظهور الجيش المحترف وتغيّر أساليب القتال، ولأن أساس المواطنة لم يعد الدين، ولكن الأرض وهو أصلاً المبدأ الذي أرساه الرسول في "صحيفة المدينة" وسبقت إليه الإشارة.

وحرص القرآن على "الزكاة" حرصه على الصلاة، وكانت تأدية الزكاة هي العلامة الاجتماعية على إسلام مجتمع كما كانت الصلاة هي العلامة العبادية على ذلك. وعندما رفضت قبائل من العرب أداء هذه الزكاة بحجة أنهم كانوا يؤدّونها للرسول لكي "يصلّي عليهم" جاهلين المضمون الاجتماعي لها، حاربهم أبو بكر واعتبرهم مرتدّين، وكانوا يستحقون هذا الوصف مع أنهم كانوا يؤمنون بالله والرسول ويقيمون الصلاة، لأن رفض الزكاة كان ردّة اجتماعية عن الإسلام.

وكانت الزكاة تحقق التكافل الاقتصادي للمجتمع الإسلامي فترة الرسول والعُمَرَيْن بفضل تحصيل أموالها وإنفاقها في مصارفها. ولكننا لا نسمع شيئاً عن الزكاة بمجرد ظهور المُلك العضوض الذي لم يجد أن الزكاة تدعمه، وإنما تدعم الشعب، وهو يريد ما يدعمه هو – ولهذا لجأ إلى الضرائب التي لم يعرفها المجتمع الإسلامي، بل إنه أغرق الشعب وكبّلَه بسلسلة متوالية من الضرائب حالت دون تقدّم المجتمع، وأُنْسِيَت الزكاة أو كادت.

أعطى الإسلام المرأة حقوقاً كانت شجى في حلق العرب. وعندما قرّر لها نصيباً في الميراث، أخذ العرب يراجعون الرسول "كيف يورثوها وهي لم تتقلد رمحاً ولم تكسب غنيمة؟" وبسماحة الإسلام، وما منحه للمرأة من حقوق ظهرت المرأة في المجتمع، وكانت تصلّي مع الرسول وكانت تحضر الغزوات لعلاج الجرحى، بل ودافع بعضهنّ في "أُحُد" أمام الرسول بالسيف عندما فرّ الرجال. وقادت عائشة جيشاً إسلامياً أراد الصلح بين علي ومعاوية، وكانت هي التي زوّدت كتب الحديث بأكثر الأحاديث صحة.

إن الآية التي يرون أنها قد قرّرت تعدّد الزوجات كانت في الحقيقة هبوطاً بالتعدّد الذي كان فاحشاً في العرب إلى أربعة ثم عدم الترخيص به إلا في ظرف معيّن، ومع اشتراط العدل. ولكن الفقهاء أغفلوا كل هذا ولم يحفظوا إلا ]فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ[. وجاءت هذه الآية فى مستهلّ سورة "النساء" التي أنزلت لحماية المرأة من أفتيات الرجل. إن نصّ الآية ]وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَـى أَلا تَعُولُوا[. فتجاهل الفقهاء صـدر الآيـة الذي بُنِي عليه السماح بالتعدّد وهو ]وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى[. كما تجاهلوا عجزها وهو ]فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا[. والأمر في الطلاق كذلك. فمع أن هناك نصاً صريحاً على إشهاد ذوي عدل على الطلاق، ونصّ صريح على "الخلع" وهو حقّ المرأة في طلب الطلاق إلا أن هذا أُهْمِلَ بحيث أصبح الهمّ الأعظم لدعاة تحرير المرأة.

في هذه الحالة، فإننا نجد الصورة التي تأخذ شكلاً مناقضاً لما أخذته الأشكال السابقة التي كانت تحرص على تطبيق أوضاع انتفت الحكمة منها، إذ نرى هنا إهمال أحكام تمسّ الحكمة إليها.

وعندما ظهر الإسلام لم يكن للمرأة وجود في المجتمع الجاههلي الذي كان يقوم على الحرب، والشرب، والميسر، فضلاً عن أنها كان يمكن أن تصمّ القبيلة بالعار إذا سبيت وكان هذا من الأسباب التي جعلت بعض العرب يئدون البنات. وصوّر القرآن حالة العربي عندما يُبَلَّغ بولادة أنثى ]وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58) يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُون[. {النحل 59}.. وليس هناك ما هو أبلغ في تصوير فكرة العرب عن المرأة من هذه الكلمات.

وجعل القرآن شهادة المرأة فى الدَّيْن نصف شهادة الرجل. كما جعل ميراث الأخت نصف ميراث الأخ. وكان الإسلام في هذا يلحظ اعتبارات سليمة، منها أن المرأة -وقد كان حالها على ما أشرنا إليه من الإغفال والإهمال- ما كان يمكن لها في هذه الفترة أن يكون لها ما كان للرجال من معرفة بما يلابس قضية الحقوق المؤجّلةلدَيْن) من ملابسات ومع ذلك فإنه لم يستبعدها ولكن اشترط وجود "أخرى" ]فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى[ {البقرة 282}.. وبالمثل، فإنه عندما جعل نصيب الأخت نصف نصيب الأخ فأنه كان يلحظ أن التوريث جزء من نظام اقتصادي كان يوجب على الرجل إعالة المرأة، سواء كان الرجل أباً أو أخاً أو زوجاً، كما أن المرأة عند الزواج لا تطالَب بشيء بينما يكون على الرجل أن يدفع مهراً تأخذه المرأة حقاً خالصاً لها. فنظام التوريث جزء من نظام أعمّ منه، وجاء هذا الجزء ليتفق مع بقية أجزاء هذا النظام العام ولم يقصد منه الحَيْف على حقّ المرأة، بدليل أنه يعطيها في حالات عديدة من الميراث أكثر مما يعطي الرجل.

ولكن الإسلام ما كان يستطيع أن ينهض بالمرأة بحيث يحقق لها ما يريده دعاة الإصلاح الاجتماعي اليوم، أي بعد مضي ألف وأربعمائة سنة من التطوّر.. لم يكن هذا طبيعياً، كان وضع المرأة كما الذي قرّره الإسلام عندما أنزل أفضل من وَضْعِها في العالم كله بل كان أفضل مما كانت المرأة في أوروبا حتى القرن الرابع عشر الميلادى الذي كان من الممكن فيه بيع المرأة في إنجلترا. ولكن هذا الوضع قد يكون في بعض جوانبه أقلّ مما بلغته المرأة اليوم في بعض دول العالم. وتريد المرأة اليوم -ومن حقها هذا- أن تنال ما نالته أخواتها في مجتمعات أخرى وما كفلتها لها المواثيق الدولية.

ولم يكن الإسلام إذن ليستطيع أن يمنح المرأة أكثر ما منحها في العهد الذي نزل، بل إن هذه الحقوق قد تآكلت بمضي الزمن مما يدلّ على أنها كانت أكثر تقدّمية مما تسمح به الأوضاع، ولكن الإسلام وإن وقف عند تحريره المرأة عند حدّ معيّن فإنه أعطى مفاتيح منحها المزيد في كثير من آياته. ذلك أن القرآن يصدر آياته على مستويين: الأوّل هو الواقع وهو في هذه الحالة يصلح قدر ما تسمح به الأوضاع لأنه يعلم أن تغيير وتطوير الأوضاع له مبادئ وأصول، والمستوى الثاني هو الواجب وهنا يعطي القرآن إشارات تحتمل المعاني المطلوبة، ويضع المبادئ التي يمكن عليها إقامة الإصلاح المطلوب. فكل الآيات التي تقرّر المساواة بين البشر وأن الأفضلية هي للتقوى وليست للنسب أو الجاه أو الجنس يمكن أن تكون أساساً لتحريك النصوص وتحرير الرقيق وإعطاء المرأة وضع المساواة مع الرجـل، فضلاً عن آيـات مثل ]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ {التـوبة 71}.. يمكن أن تكون قاعدة لمساهمة المرأة في كل النشاط العام أي "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وفي ضوء ذلك يُفْهَم موقف القرآن وأنه ما كان يمكن أن يصدع فى وقت نزوله بما يمكن أن تنتهي إليه الأوضاع من تقدم وانفتاح.

فإذا رأى دعاة تحرير المرأة أن الأوضاع الآن اختلفت فالمرأة الحديثة خرجت للحياة العامة وأصبحت ممارِسَة للأعمال بحيث يستبعد ما كان قائماً عندما نزل القرآن من النُكر والإغفال. كما أن فكرة إعالة المرأة لم تعد كما كانت في النظام القديم، بل لقد وجدت حالات عديدة تعيل المرأة الأسرة دون الرجل أو أنها تستكمل هذه الإعالة من مرتبها.. فإذا وجد أن الإبقاء على أن تكون شهادتها نصف شهادة الرجل، وأن يكون نصيب الأخت نصف نصيب الأخ فيه حيف عليها فليس هناك مشكلة ويمكن معالجة ذلك في ضوء التكييف الذي سنعرضه.

إن هذا الفهم لطريقة القرآن في سوق توجيهاته وما تتصف به من "ديناميكية" ومرونة وإيحاء للمستقبل جعل بعض الفقهاء القدامى ينظرون إلى "مقاصد الشريعة" وراء النصوص كما في الشاطبي. ونرى هذا الفهم يزداد وضوحاً وتحديداً في كلام العز بن عبد السلام الذي قرّر: "ما أمر الله تعالى بشيء إلا وفيه مصلحة، عاجلة أو آجله أو كلاهما، وما نهى عن شيء إلا وفيه مفسدة عاجلة أو آجله أو كلاهما".

كما يلاحظ: "ولا تُعْرَف مصالح الآخرة ومفاسدها إلا بالشرع وتُعْرَف مصالح الدنيا ومفاسدها بالتجارب والعادات".

إن إلحاح العز بن عبد السلام على جلب المصالح ودرء المفاسد، دفع بالقضية إلى الأمام بحيث تحدّد غرض الشريعة ومحتواها على يدي نجم الدين الطوفي وابن القيّم.

أما الطوفي وهو نجم الدين الطوفي، الفقيه الحنبلي، فقد جاء بمبدأ صارم قضى على الأسلوب المراوغ الذي عالج به الفقه السلفي المصلحة وكان يفتات عليها ويضيق بها كأن يقول إن الشرع يأخذ بالمصلحة ثم يعود ليقول إن المصلحة الحقيقية هي في الشرع!

فتح الطوفي هذا الباب الموارب على مصراعيه وأعلنها مدوية صريحة "أن المصلحة هي المقصد الأسمى للشارع ويجب الأخذ بها إذا حدث تعارض ما بين المصلحة والنصّ. لا من باب الافتيات على النصّ، ولكن من باب تأويله ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم فلتؤخذ من أدلّته لأننا قرّرنا أن رعاية المصلحة من خصائص الشرع وهي أقواها وأخصّها فنقدّمها في تحصيل المصالح"..

في الطوفي نجد المعالجة الصريحة الجذرية لقضية المصلحة ونجد الإقامة الأصولية لها على أسس شرعية لأنه انتهى إلى مبدئه عن طريق تفسيره لحديث "لا ضرر ولا ضرار"، ولكن هذا أثار ثائرة الفقهاء منذ أن قالها حتى ألف عام بعدها تقريباً..

عندما أبدع الفقيه البريطانى بنثام (Bentham) فكرة المنفعة (utility) وجعل الهدف "أكبر منفعة لأكثر عدد" وجد أنصاراً يدعمون مذهبه أما الطوفي فعندما نادى بالمصلحة فإن المهاجمين له لم يكونوا من أبناء عصره فحسب، ولكن كل الفقهاء في العصر الحديث بلا استثناء.

أما الإمام بن القيم الجوزية فإنه يقرّر أن الشريعة هي العدل، وأكّد ذلك في مناسبتين. وفي المناسبة الأولى قال أن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحقّ وقامت أدلّة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كانت فُثم شرع الدين ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وإماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه. وأدلّ وأظهر بل بيّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحقّ والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخْرِج بها الحقّ ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها وبمقتضاها.

والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذاتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبّه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحقّ إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها.[7]

وفي المناسبة الثانية، قال تحت عنوان "بناء الشريعة على مصالح العباد فى المعاش والمعاد".. "فإن الشريعة بناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدّها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أُدْخِلَت فيها بالتأويل."[8]

إن ابن القيم بعد أن يقيم الشريعة على العدل فإنه يخرج منها ما دخل فيها بطريقة التأويل إذا كان مخالفاً للعدل، كما يدخل فيها ما لم تذكره الشريعة على وجه التحديد إذا كان يؤدّي إلى العدل لأن "الطرق" لا تراد لذاتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد. ومقصد المقاصد هو العدل.

هذا مبدأ أصيل وقد وصل مع ابن القيم إلى أعمق أعماق الشريعة حيث جوهرها.. فأظهره ونبّه عليه..

ومما يستحق التنويه أن هذه النبذة السابقة جاءت تحت عنوان "فصل فى تغيير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد"، وهذا مبدأ يمثّل المرونة والتكيّف مع الأوضاع مما يدخل في صميم التجديد.

هؤلاء ثلاثة من كبار الفقهاء انتبهوا وسط تلال الكتابات والنقول الفقهية المذهبية التي أخذت بالتفاصيل وانساقت إلى الأعراف والتقاليد واستخذت أمام نظم الحكم التي كانت تقنّن الظلم والاستبداد. وكما لاحظنا في كتابنا "تجديد الإسلام" فإن لفتاتهم تلك ضاعت وسط التنبج والأعراف والتيار السائد، ولكنها كشفت عن هذا الجانب الأصولي الهام – ألا وهو أن الشريعة تدور بين أمرين -لا تجاوزهما- هما العدل والمصلحة.

ولدينا ما هو أعظم منزلة مما ذهب إليه هؤلاء الفقهاء الثلاثة، وما يمكن أن يكون قد استأنسوا به فيما ذهبوا إليه. ذلك هو النصّ القرآني المتكرّر عن أن "الدين هو الحقّ" أو أن مضمون القرآن هو الحقّ، وأن مضمون ]مَا أَنزَلَ اللَّهُ[ هو الحقّ..

وتكرّر هذا المعنى في آيات عديدة نشير إلى بعضها : ]إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ[. {البقرة 119}.. ]كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[. {البقرة 213}.. ]إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا[. {النساء 105}.. ]هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[. {التوبة 33}.. ]قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ[. {يونس 108}.. ]إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ[. {الزمر 41}.. ]اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ[. {الشورى 7}..

ويزيد المعنى وضوحاً عندما يتحدّث عن أن الحكم بين الناس إنما يكون بـ الكتاب أو ]بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ[ وقد يزيد الوضوح عندما يقرن بـ الكتاب، أو الحقّ بالميزان، أو عندمـا يذكر العدل صراحـة باعتباره وسيلة الحكـم ]وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ[ . {النساء 58}.. وهي الآية التي تزين قاعات المحاكم في مصر ]وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ[. {الحديد 25}..

إن استقراء هذه الآيات توضّح لنا أن القرآن الكريم إنما يمثل الحقّ – وبالطبع فهذا يسري على ]مَا أَنزَلَ اللَّهُ[، كما وضّحت الآيات أن هذا الحقّ هو الذي يحكم بين الناس، وعندما يراد تطبيق الحقّ وجعله أداة للفصل بين الناس فإنه يتحوّل إلى "العدل" لأن العدل هو إعطاء كل ذي حقّ حقّه، ويؤكد القرآن هذا المعنى وينصّ عليه صراحة عندما يذكر "العدل" -وهو ما يحكم به بين الناس- أو أن يذكر "الميزان" -رمز العدل جنباً إلى جنب الكتاب.

ولكن هناك جانباً جديداً يلزم تجليته، لأن هذا الجانب يمثل شرطاً ضرورياً لإمكان تحقيق العدل. وبدونه فإن العدل يُهْدَر تماماً، ولا يجد سبيله للتطبيق. ومثل هذا ينطبق عليه أن ما لا يتحقق الواجب إلا به، فإنه يُعَدّ من الواجب نفسه.

هذا الجانب هو الحرّية...

vvv

وفي كتابنا "نظرية العدل في الفكر الإسلامي وفي الفكر الأوروبي" لاحظنا أن العدل لم يكن من القِيَم الحاكمة في الحضارة الأوروبية التي قامت على قيمتيّ الحرية والقوّة.. كما لاحظنا أن العدل يكاد يكون القيمة الأعظم بين قِيَم الإسلام بحيث يكاد يكون العدل هو الطابع الرئيسي، ولو كان للأديان "بصمة" لكان العدل هو بصمة الإسلام.

وتضافرت قيمتا الحرّية والقوّة لدفع المجتمع الأوروبي لأن يحقق القوّة في كل شيء وسمح له مناخ الحرّية بأن يحقق ذلك، فاستهدف القوّة في الجسم وفي سبيل ذلك تقبّل، بل نظّم المصارعة الحرة والملاكمة الطليقة والعدو والسباحة وحمل الأثقال الخ... وحقق القوّة السياسية فكان هدف الدولة من أثينا حتى روما حتى المرحلة الاستعمارية هو قتال الدول الأخرى والاستحواز على أرضها وخيراتها، وحقق قوّة العقل وبفضله استطاع أن يستغلّ قوى الطبيعة، وأن يفتح له العلم أسرار "الطاقة" وبهذا وصل إلى الصناعة الآلية التي كانت انقلاباً في تاريخ طرق الإنتاج ثم تطرّق حتى وصل إلى الذرّة، كما سمح مناخ الحرّية بأن يتوصّل المجتمع إلى إشباع أهواء النفوس وما تشتهيه من صور عديدة للاستمتاع، كما مكّنت الحرية أصحاب العقول من التفكير المطلق الخ...

باختصار حقّقت أوروبا إنجازاتها العظيمة التي تميّزها عن كل الحضارات الأخرى وتجعلها تفوقها بفضل الحرّية.

ولكن لما لم يكن العدل من القِيَم الحاكمة، فإن الحرّية الطليقة ورغبة القوّة مكّنتا الأقوياء من سحق الضعفاء، والأغنياء من استغلال الفقراء، وظلت هذه السوءة مما اتصفت الحضارة الأوروبية حقبة من حياتها.

ولكن الحرّية في الوقت الذي سمحت للأقوياء بأن يتوصّلوا إلى الوسائل التي تحقق لهم "القوّة" فأنها سمحت للضعفاء بأن يتوصّلوا إلى الوسائل التي تحقق لهم القوّة أيضاً. ووصلوا إلى ذلك بالفعل بعد تضحيات عديدة وتجارب فاشلة. وبعد أن استهلك الاستغلال ثلاثة أو أربعة أجيال من العمال، استطاع العمال أن يكوّنوا النقابات التي توصّلت -بشقّ الأنفس وبفضل الإبداع- أن يكبح العمال جماح الرأسمالية المستقلة، وأن يجلسوا إلى جانب الرأسماليين على مائدة "المفاوضة الجماعية" ليضعوا شروط العمل وساعاته وأجوره والأمن الصناعي الخ...

بل حقّقت لهم الحرّية أن يكوّنوا حزب العمال، فاستطاع هذا الحزب بعد نصف قرن من الكفاح أن يُسْقِت تشرشل المنتصر، ويتولّى هذا الحكم سنة 1945 وأن يكون أول حكومة للرعاية.

هنا نجد أن الحرّية، وإن سمحت حيناً من الدهر للأقوياء باستغلال الضعفاء، فإنها أتاحت الفرصة للضعفاء بأن يتحدّوا وأن يعوّضوا ضعفهم كأفراد بقوّتهم كجماعة وأن ينالوا الإنتصاف.

وفعل النساء كما فعل العمال، فقد جرّدتهم حكومة الرجال من حقّ التصويت، فألّفن الجمعيات التي تطالب بذلك ولما أصمّت الحكومة آذانها لجأن إلى صور من العنف حتى نِلْنَ أخيراً حقّهن.

بل لقد وصف الكتّاب وصفاً مسهباً كيف أن بحّارة الأسطول البريطاني الذين كانوا محرومين من كل الحقوق وكانت مرتّباتهم الضئيلة تتأخّر شهوراً. وكانت العقوبات هي الجلد بسوط ذي ثمان شُعب ولم يكن لهم أمام ضباطهم إلا التسليم. كيف "أضْرَبَ" بحّارة الأسطول، وكيف تحدّوا الإمبريالية الرهيبة التي كانت دول العالم تخشاها، وكيف استطاعوا في النهاية أن يظفروا بمطالبهم.

إن الحرّية التي مكّنت الأقوياء من الاستغلال، مكّنت الضعفاء من التكتّل والتنظيم وأن يكتسبوا القوّة وأن يظفروا بالإنتصاف.

لم يكن العدل من قِيَم الحضارة الأوروبية، ولكن الحرّية مكّنت الذين يريدونه من أن يصلوا إليه، وأن يأخذوه غصباً ويفرضوه فرضاً.

ولننظر الآن في حال المجتمع الإسلامي. فمع أن العدل هو القيمة الحاكمة في الإسلام، فالمفارقة المحزنة أن العدل لم يتحقق في المجتمع الإسلامي باستثناء فترة النبوّة وعهد العُمَرَيْن..

كيف حدث هذا ؟

حدث لأن المجتمع الإسلامي لم يظفر بالحرّية، وبالذات حرّية الفكر والاعتقاد. وبدأ هذا من سنة 40 هجرية حتى آخر الخلافة.

إن هذا الاستشهاد من كتاب "نظرية العدل في الفكر الإسلامي والأوروبي" لا يُعَدُّ استطراداً. إنه في صميم الموضوع، بل إنه يكشف عن سرّ المفارقة المأساوية ألا وهي عدم تحقيق العدل في مجتمع جعل قرآنه العدل هو أوجب الواجبات.

من هنا، فإن أي حديث عن العدل -الذي هو روح الشريعة- لا يكون له معنى ما لم يُصْطَحَب بالحرية، فعدم وجود الحرية لن يجعل العدل حقيقة، ولكن يظل نصّاً.

من هنا تُعَدُّ الحرّية شرطاً رئيسياً ولا مناص عنه، ولا بديل له لإمكان تحقيق الشريعة. وبدون هذه الحرّية فإن كل حديث عن العدل، أو الشريعة، هو مجرّد عبث وكلام أجْوَف.

إن الفقهاء عندما ابتدعوا حدّ الردّة، وعندما صاغوا مقولتهم الشهيرة الشنيعة "من جحد معلوماً من الدين بالضرورة" فقد أرتدّ، إنما شلّوا حرّية الفكر بمختلف التعلات وهي القوّة الوحيدة التي كان يمكن أن تحقق العدل وبهذا حققوا للحكم الإمبراطوري، المتسمّى باسم الخلافة، حلمه في البقاء والاستمرار. وأوقفوا حركة التقدّم. وكان حدّ الردّة، ومقولة الفقهاء "كل من جحد معلوما من الدين الخ..." هي أكبر جريمة اقْتُرِفَت في حقّ الإسلام، وجاءت من يد فقهائه أنفسهم وهم يحسبون أنهم يدافعون عن الإسلام في حين أنهم قاموا بما لا يمكن لأشدّ أعدائه القيام به.

إن الدعوة للحرّية في القرآن وفي عمل الرسول لا تقلّ قداسة عن الدعوة للعدل، فإذا قيل وما سندك على لزوم الحرّية فى الإسلام قلت أن القرآن الكريم قرّر أعلى مرتبة للحرية، وهي حرّية الاعتقاد في آيات تكاد تنطق الحجر وتفهم البقر ]فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا[. {النساء 78}.. وأن الرسول طبّق في حياته هذا المبدأ المقدّس فلم يتابع عدداً كبيراً أرتدّ عن الإسلام بأي عقوبة بل رفض محاولة أحد الأنصار ثني أبنائه عن اعتناق النصرانية قائلاً "يا رسول الله أدع ولداى يدخلون النار". فلم يقل له الرسول إلا الآية ]لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ[ [9].

إن الحقّ والعدل تكرّر مراراً في القرآن، وهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة.. لأن العدل لا يمكن أن يتحقق ويصان ويُدافَع عنه إلا عندما تتوافر الحرّية، وهذه الحرّية لا تخصّ المفكرين وحدهم لأنها أمر الشعب كله، أمر حاضره ومستقبله، وهي تخصّ أيضاً الشريعة وتُعَدُّ شرطاً لا غناء عنه ولا بديل له لتحقيق الشريعة..

vvv

إن الصورة التي ستظهر بها الشريعة، بعد التأسيس الجديد لمنظومة المعرفة الإسلامية ستكون مختلفة تماماً عن الصورة التي تبرزها المراجع المذهبية المقرّرة لأنها:

أولاً : ستعتبر أن تقرير الحرّية، وبوجه خاص حرّية الفكر والتعبير بما فيه من تأسيس للأحزاب والنقابات والهيئات والجمعيات والصحافة، جزءً لا يتجزّأ من الشريعة، أو أن ذلك هو الآلية التي يمكن أن نطهّر بها الشريعة.

وثانيا : لأن الشريعة لن تأخذ التفسير الحرفي للنصوص، ولكنها ستفهمها في ضوء مقصدين هما العدل والمصلحة، وهو ما قرّره النابهون من الفقهاء وما تقضي به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

وهذا التأسيس الجديد يقوم أساس صلب من آيات القرآن وأحاديث الرسول وأقوال أبي بكر وعمر بن الخطاب حتى لا يمكن لأحد أن يطعن في "أصوليّة" هذا التكييف..

وعندما ستظهر الشريعة متوشِِّحَة بالحرّية، ومستهدفةً العدل والمصلحة فلن تكون هناك مشكلة وسيمكن تطبيق الشريعة وستظفر بالحُسْنَيَيْن: قداسة الدين ومصلحة الدنيا..

0 التعليقات:

إرسال تعليق