الخميس، ٢٠ أغسطس ٢٠٠٩

أثر الحجاب على المجتمع

لا يتكون المجتمع من رجال دون نساء، أو نساء دون رجال، ولكنه يتكون من رجال ونساء معاً وبقدر ما تتوثق الأواصر بين الرجال والنساء. بقدر ما يكتسب نسيج المجتمع قوة وصلابة، فإذا انعزل النساء فى بيوتهن وحيل بينهن وبين الرجال، وحرم على الرجال الاتصال بالنساء. فإن هذا يؤدى إلى قيام مجتمعين: مجتمع نسائى ومجتمع رجالى. كل مجتمع له أوضاعه ومشاكله وفى كثير من الحالات تتضارب المصالح وبدلاً من أن يسير المجتمع الواحد إلى الإمام فإن المجتمع المنقسم يشتبك بعضه مع البعض الآخر.

وعندما يتعامل المجتمع، رجالاً ونساءً. بعضهم مع بعض تنشأ لهم قضايا عامة، ويتطلب ذلك اتخاذ حلول معينة. وهذا الجانب الذى هو حصيلة تفاعل إرادت الرجال والنساء. مع الأوضاع: أوضاع بلادهم، وأوضاع العالم المؤثر على بلادهم، ومقتضيات الزمان الذى جاء بقضايا ومشاكل لم يكن للبشرية بها عهد من قبل.. كل هذا يجعل المجتمع أكثر من مجموع رجال ونساء، إنه يجعله بوتقة تصاغ فيها القيم وتتخذ بها القرارات، وتنصهر فيها الإرادات.

وقد تحدثنا فى الفصل الأول عن أثر الحجاب على المرأة باعتبارها إنساناً بالدرجة الأولى عندما أدى الحجاب إلى تغييبها عن المجتمع وقصر دورها داخل البيت وجنى عليها كإنسان له شخصيته الخاصة، وإرادته، وحريته، وسنشير الآن إلى انعكاس آثار حجاب المرأة على المجتمع وبعد ذلك نقفى بآثاره على الرجال (العنصر الثانى فى المجتمع) ثم على المرأة ليس كأنثى وإنسان وإنما باعتباره العنصر الثانى من عناصر المجتمع، وأخيراً بأثر ذلك على المجتمع وآدابه والروابط التى تربطه.

- أ -

وقف بنا الحديث عن المرأة عند ظاهرة الأمومة التى أنقذت المرأة من رتابة العمل المنزلى وتجرده من العاطفة. فالأمومة تملأ جنبات المرأة بالعاطفة المبهجة حتى تفيض وتوجد لحياتها طعما لا يوجد إلا بها، فلا الأجر العالى، ولا المنصب الرفيع، يمكن أن يساميا ابتهالة الطفل بكلمة "ماما".. وتتلاءم هذه الحقيقة مع حقيقة المنزلة الرفيعة للأمومة وأثرها الضخم فى حياة ومستقبل المجتمع وهذا الدور البطولى الذى تقوم به الأم هو مما يجب أن يسجل للمرأة، وقد عبر عنه الرسول أحسن تعبير عندما جعل الجنة تحت أقدام الأمهات...

ويمكن القول بصفة عامة إن المرأة المسلمة تقوم بهذا الدور بوحى عواطفها دون أن تدخل المدرسة أو تلم بمعرفة. ولعله يكون على أفضله عند المرأة الفلاحة ذات الفطرة السليمة. والمجتمع البسيط الخالى من التعقيد، ولكن هذا لا ينفى أن العوامل السيئة التى تكتنف البيت المسلم وصنوف الحرمان التى تعانيه المرأة وإهدار شخصيتها.. هذه العوامل شوهت تربيتها لطفلها ودفعتها فى أحيان للقسوة عليه وفى أحيان أخرى لتدليله بحيث انعكس ذلك على حياة أطفالها. ولعلها أن تكون قد غرست فيهم بذرة النفاق وحرمتهم من خصائص الصراحة والصدق والاستقامة والشجاعة. وكل من يتحدث مع بعض الأطفال ما بين سن الخامسة والعاشرة يحس بضحالة الشخصية وعدم بروز الإرادة وغلبة الحيرة والتردد وكأن فى أعماقه شيئاً يثير فيه الخوف والرهبة. وهذه هى جريرة الجو غير الصحى للبيت المسلم الذى لا تكون العلاقة فيه، ما بين الزوج والزوجة قائمة على الصراحة والمساواة والتقدير المتبادل واحترام كل للآخر أكثر مما تعود إلى جهالة المرأة بأصول التربية، وإن كان لهذه الجهالة أثرها أيضاً.

وتذهب بعض الدراسات إلى أن الرحم – كما أنه قرار مكين يحفظ الجنين – فإنه مدرسة تنقل دروسها من الأم إلى الجنين بحيث ينعكس عليه كل ما يؤثر على الأم فترة الحمل من انفعالات نفسية أو مؤثرات عضوية. ومعروف أن الطفل يعجز عن التمييز ما بين نفسه وأمه خلال الشهور الستة التى تعقب الميلاد، وكان الفرق أنه قبل الميلاد داخل بطنها وأنه بعد الميلاد على صدرها، فالطفل الوليد يرث بجانب الخصائص العضوية بعض الصفات النفسية أو الشخصية للأب والأم كالحركات والسكنات وطريقة المشى إلخ... كما أن أثر تربية الأم خلال السنوات الخمس الأولى من حياة الطفل تغرس فى نفسه الخلائق والصفات والمقومات التى تصاحبه طوال عمره ويعسر عليه أن يغيرها.

من هنا نجد كيف أن انتقاص شخصية المرأة وإهدار استقلاليتها وحريتها وإرادتها بقدر ما أساء كأحد عنصرى المجتمع، بقدر ما انعكس على تربيتها لأطفالها بحيث عجزت عن أن تقدم الجيل الصحيح الجسم الصحيح النفس صاحب الإرادة والذى يستطيع أن يعتمد على نفسه، وهى العيوب القاتلة التى تصاحب الأطفال بعد أن يشبوا ويصبحوا رجالاً أو نساءً، وتصبح من أكبر عوامل تخلف المجتمع.

وحرم الحجاب المجتمع من تعليم المرأة، فقد كان الرأى الفقهى السائد هو أن لا تعلم المرأة إلا الفاتحة وخمس أو ست من قصار السور تؤدى بها الصلاة أما ما عدا ذلك فلا يلزم المرأة، وفيم تقرأ وتكتب ودورها أن تلد وترضع وتطبخ وتغسل، وقد كانت سياسة طالبان فى أفغانستان مصداقاً لهذا الفهم، حينما تولت الحكم عام 1996، وخلال فترة التخلف التى شملت العالم الإسلامى قبل عصر النهضة الحديثة لم يفلت من إسار هذا الفهم المظلم السقيم إلا آحاد من كبار القوم وسراتهم فكانوا يعلمون بناتهم القراءة والكتابة فى بيوتهن وطوال ألف سنة لم تفتح مدرسة للبنات ولم يفلت من ظلام الجهل إلا العشرات أو المئات من الملايين. وحتى مشارف العصر الحديث، وفى مصر التى كانت متقدمة على غيرها من الدول العربية كان الفتيات النابهات الطموحات يتعلمن خلسة من إخوانهن حتى يتوصلن إلى "فك الخط" والقراءة والكتابة وعندئذ يواصلن التعليم سراً وعندما يعلم الأب يثور ويحرّم على ابنته مواصلة الدراسة ولا تلين قناته إلا بعد أن "تسوق" عليه الخيلان والأعمام والمعارف وقد سلك هذا المسلك معظم النابهات اللاتى ظهرن فى مطلع القرن العشرين.

وعندما دخلت أول دفعة من الفتيات الجامعة المصرية كان ذلك يوماً أسود عند بعض المتعصبين الذين رأوا فيه علامة من علامات القيامة تؤذن بسقوط الإسلام وتحت عنوان "مخلوق يتحدى العرف العام" قال الأستاذ محمد عطيه خميس وهو أحد زعماء قادة شباب سيدنا محمد فى مصر فى كتابه "مؤامرات ضد الأسرة المسلمة" عن أحمد لطفى السيد الذى "أقدم على ما لم يقدم عليه غيره من خلق الله ! أقدم على قبول الفتيات طالبات فى الجامعة المصرية يجلسن بجانب الفتيان فى الدروس والمحاضرات ويختلطن بهم فى أفنية الجامعة ومكاتبها (ص96).

فتصور مخلوقاً بهذا الفهم يدعى الإسلام، وهو دين العلم والمعرفة ثم يرى أن دخول الطالبات الجامعة جنباً إلى جنب الفتيان جريمة نكراء لم يقدم عليها أحد من خلق الله سوى هذا اللطفى السيد!

ولنا أن نقدر كم خسر المجتمع الإسلامى وأمة محمد عندما أبقوا نصف الشعب فى دياجير الجهالة وظلام الأمية وحالوا بينه وبين نور العلم والمعرفة ...

ويبدو أن تحريم التعليم على المرأة كان جزءاً من الخطة – إن لم نقل المؤامرة – على المرأة – لأنه حال بينها وبين أن تمارس عملاً فتعمل طبيبة أو ممرضة، أو معلمة أو أى مهنة تليق بالمرأة ويتطلبها وجود الملايين من النساء. إن الغباء وضيق الأفق عطل على المجتمع الإسلامى سد هذه الحاجة الماسة التى تتطلبها "الحشمة" الإسلامية نفسها. فأيهما أفضل أن تعرض المرأة على طبيب ليكشف عليها أو تعرض على طبيبة مثلها ؟ وأن يمرض المريضة ممرض أو ممرضة "إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور".

- ب -

كان الأثر الأول للحجاب على الرجال أنه حرم الرجال من التعرف على النساء والاختلاط بهن ما لم تربطه بهن صله النسب وهكذا وقع الرجل فى شر أعماله عندما أبعد المرأة وسجنها فى بيتها. لقد انقلب السحر على الساحر أصبح السجان "سجينا" تحكمه لوائح السجن، وحرم نفسه من الحرية. فى الوقت الذى ظن أنه استأثر بكل الحرية. حريته وحرية المرأة. وكما أن المرأة قد حرمت رؤية زوجها قبل الزواج، فإن زوجها أيضاً لم يكن ليراها قبل الزواج فتساويا فى الحرمان.

أصبح مجتمع الرجال بعد أن أبعد الحجاب المرأة عنه مجتمعاً ذكوريا مقصوراً على الرجال فيما بينهم وهو أمر يخالف مخالفه مباشرة منطق الفطرة لأن الرجال لا يحسون بحقيقة رجولتهم إلا فى مرآة المرأة كما لا تحس المرأة بحقيقة أنوثتها إلا فى مرآة الرجل ومن ثم فإن الفصل بينهما يوهن فى خصائص كل منهما على نقيض ما يتصور، وقد تحدث القرآن عن الرجال والنساء وأنهم "من نفس واحدة" وبعضهم من بعض وأنهم أولياء بعض، وأنه تعالى خلقهم من ذكر وأنثى ليتعارفوا وتحدث الرسول فى كلمة مؤثرة "مسكين مسكين رجل لا زوجة له مسكينة مسكينة المرأة لا بعل لها" وهى تصور بأساء الرجل دون المرأة والمرأة دون الرجل، وكأن المجتمع الأوربى الحديث يحس بهذه "المسكنة" عندما يجد رجلاً فى حفل أو اجتماع لا ترافقه امرأة، أو امرأة لا يرافقها رجل فإنهم "بسرعة" يهيئون رجلاً للمرأة.. وامرأة للرجل. لأن كل واحد منهما دون الآخر مسكين!

بالطبع إن كلمة الرسول تختص بالعلاقة الزوجية، ولكنها تلقى ضوءاً على المجتمع المنفصل، خاصة وأن هذا الانفصال قد أدى إلى صعوبة الزواج، وعدم نجاحه فى كثير من الحالات وإذا قدرنا أن نصف الرجال متزوجون، وأنهم عندما يؤبون إلى بيوتهم يجدون زوجاتهم فى انتظارهم.. ومن ثم فلا يمكن القول إنهم "دون نساء" وأن كانت علاقة الزوجية لا تؤتى أفضل ما فيها من سكن ومحبة ومودة إلا فى مناخ الحرية والمساواة والتقدير العميق والمتساوى من كل للآخر. وهو وضع ذهب به الحجاب لأنه حال دون أن تستكمل المرأة شخصيتها وبالتالى انعدمت "الندية" بين الزوج والزوجة ولم يعد الزواج يحقق للمتزوجين ما أراده الله له من أن يكون سكنا ومودة ورحمة.

هذا هو حال المتزوجين، على أن المتزوجين لابد وأن يكونوا أقل عدداً من غير المتزوجين، ممن بلغوا الحلم.. أو حتى جاوزوا مرحلة الشباب وحالت الحوائل دون أن يتمكنوا من الزواج. فبالنسبة لهؤلاء جميعاً تعد المرأة كتاباً مغلقاً وعالماً مجهولاً.

لقد غرس الله تعالى فى فطرة الإنسان الغريزة الجنسية، وجعلها أقوى الغرائز، لأنها تتصل بسبب بغريزة البقاء وهى التى تمسك الإنسان بقيد الحياة..

من هنا فإن أى تجاهل لهذه الغريزة يعد غباءً مطلقاً ومكابرة فى واقع كالشمس فى رابعة النهار ويصبح من الضرورى التصرف معها...

والتصرف الطبيعى هو الإشباع، ولكن هذه الغريزة تظهر فى وقت مبكر نسبياً، مع فترة المراهقة، عندما لا يسهل إشباعها. ويصبح من الضرورى على الصبى والفتاة أن يجاهدا فى تحملها، وفى التسامى بها وتحويل مجراها إلى صور أخرى من النشاط العضلى والذهنى.. حتى تتهيأ الظروف لإشباعها عن الطريق الطبيعى: الزواج.

والفطرة التى أوجدت هذه الغريزة منذ المراهقة هى نفسها التى تبعد بالمراهقين عن فكرة الإشباع المباشر لأن فترة المراهقة تضم فيما تضمه – مثاليات، وأخيله، وطموحاً يشارك الغريزة اهتمامات الفرد، وترتفق عليها، وبالتالى فإن فكرة الإشباع المباشر يمكن أن تنتظر بشرط الالتفاف إلى الاهتمامات الأخرى لفترة المراهقة، وتحويل الغريزة إلى منطلقات تتناسب مع المراهقين الذين يبدو لهم الإشباع المباشر.. شيئاً غامضا، ملتبساً تكتنفه المحرمات..

والذى لابد أن نعترف به أن الغريزة الجنسية التى تشتعل فى نفوس المراهقين، وتصرخ فى دمائهم دون أن تجد متنفساً تكون هى الهم المقيم المقعد للملايين من المراهقين الذين يتخبطون فى دياجيرها ودهاليزها وطرقها المسدودة.. لمدة قد تزيد على سنوات عشر...

فى شبابى كنت أعرف مراهقين وشباباً كانت كل آمالهم هى التعرف على فتاة والجلوس معها والتحدث إليها.. ولو فى اجتماع أو فى رحلة، كان هذا فى الثلاثينات محالا. ولم يكن هؤلاء يريدون علاقة جنسية من أى نوع، فهم فى سنهم تلك أبعد الناس عنها، ولكنهم كانوا يريدون التعرف فحسب، وقد حال المجتمع القاسى دون ذلك فاضطروا إلى دخول المجال الذى يمكن لهم الاختلاط بالمرأة، وللأسف كان الكباريهات، أو ما هو أسوء دور البغاء، ولم يكونوا سعداء أو مستمتعين بهذا، ولكنها كانت النافذة الوحيدة على عالم المرأة وقتئذ فاضطروا إليها رغم التقزز الذى كان يخالطهم.

إن هناك سراً دقيقاً يكمن فى أعماق النفس الإنسانية يجعل الخلطة العامة بين الشباب والشابات تشيع عاطفة عذبة، وتثير ما يشبه الأحلام السعيدة وتضرم طموحاً وتحيى عزائما، وكان الإنسان الذى تكوّن من "نفس واحدة" لا يجد كماله ووحدته إلا فى هذا المجتمع المختلط فيسعد بذلك. ويشعر بهذه العاطفة الطالب المراهق، كما شعر بها الشاعر المشهور "جميل بثينة" عندما قال :

إلا ليت شعرى هل أبيتن ليلة

بوادى القرى إنى إذن لسعيد

لكل حـديثٍ بينهن بشاشـة

وكلُّ قتيـل عندهـن شهيـد

لقد كان كل واحد من هؤلاء الشباب يرى نفسه فارس زميلته وحاميها والمؤتمن عليها، وما كان يمكن أن يتطرق إلى ذهنه سوء أو شر ..

يقرأ شبابنا فى الأدب الأوربى بلغاته، أو مترجما – عن نشوة المحبة التى تتملك الشاب وهو يدعو صديقته لتراقصه تحت أنغام الموسيقى. ويقرأ فى الأدب العربى ..

لم أدر ما طيب العناق على الهوى

حتى ترفق ساعدى فطواك

وتأودت أغصان بانك فى يـدى

وأحمرَّ من خفريهما خداك

ثم يقرأ فى كتب الحديث أن لمس المرأة جمرة خبيثة وأن النظرة سهم مسموم وأنه ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، فتتمزق نفسه ما بين هذا وذاك وإذا سيطر عليه التقى فأخذ بألفاظ هذه الأحاديث أسودت الدنيا فى عينيه. فلهذا الشاب نقول خذ نصيبك من الدنيا والمتعة البريئة وأعتبر هذه الأحاديث وازعا حتى لا تنحرف إلى الحرام الصراح، فهى – رغم أن معظمها ضعيف أو موضوع – لم يرد بها التطبيق العملى ولكن عدم مجاوزة الحدود...، ولا تأخذها أبداً مأخذاً حرفيا لأنها كلها مجاز..

وقد حال الحجاب دون وجود المجتمع المختلط وأن يستشعر الشباب ذكوراً وإناثاً. تلك المشاعر العذبة، التى تعينهم على قضاء سنوات عزوبتهم وتزودهم بذكريات سعيدة وتجارب بريئة، وتذيقهم طعم الحب الرومانتيكى والأفلاطونى وما يشيعه من عاطفة عذبه دافئة. وكان لابد أن يظهر الانحراف ما لم يسرعوا بالزواج ولكن الزواج غير متاح، وحتى لو تم دون تفاهم فسيكون فاشلاً وبداية لسلسلة من المتاعب والهموم. من هنا يضطر المراهق لتحمل عذاباته أو يتورط فى إنحراف يمكن أن يأخذ شكل الحب المثلى، بمعنى أن تحب الفتاة فتاة مثلها، وأن يحب المراهق مراهقا مثله.. وهو ما لا يمكن أن يتم إلا فى ظل سرية، تكتنفها مشاعر الإثم والتحريم والشذوذ..

ولو أبيح الاختلاط لكان فيه مندوحة عن كل هذه التخبطات لأن الاختلاط الذى نتحدث عنه هو الاختلاط فى النشاط الاجتماعى والعام مما يعد مأمونا، ويحقق الهدف، وحتى لو وصل إلى أوثق صوره، صورة الرقص المزدوج، فلن يكون أكثر من مصل مخفف يذهب التوتر دون أن يصل إلى انزلاق.

سمعنا الكثير عن مساوئ الاختلاط، ولكننا لا نسمع شيئاً عن انحرافات المجتمع المغلق.. ولا ما يرتكب فيه لأنه يتم سراً فى حين أن هذه الانحرافات يمكن أن تؤدى إلى تعقيدات فى الحياة الزوجية والتعامل السليم مع الجنس الآخر، بحيث لا يستشعر الزوج والزوجة المشاعر الطبيعية السوية، لأن مؤثرات الانحراف القديم لوثت فكرهما ومشاعرهما.. وهذه الظاهرة تتجلى بدرجات متفاوتة وتحدث عند الكثير من الناس وتخفى أسبابها وتدق على الزوجين نفسيهما لأنها تكون قد آوت إلى ركن دفين فى أعماق النفس.

فضلاً عن أن المجتمع المغلق يحول دون تعرف المرشحات والمرشحين للزواج بعضهم على بعض بحيث يمكن للرجل أن يتعرف على المرأة وهل تحقق رغباته ومآربه وتصلح أما لأطفاله، كما يمكن للمرأة أن تتعرف على الرجل الذى ترتضيه زوجاً وأباً لأطفالها، بل يفترض عندما ينتهى المرشحان إلى قرارهما بالزواج أن يدرسا معا خطة الزواج، وكيف تتم، وما هى العقبات التى تتعرض ذلك، وكيف يمكن التغلب عليها، وماذا يكون الموقف بالنسبة لعمل المرأة ولقضية الإنجاب إلخ... إنه لمن البديهى أن هذه المسائل الهامة، والحساسة تتطلب دراسة جادة، مشتركة وتنازلاً من كل واحد عندما تتطلب الضرورات ذلك فهل يعقل أن هذه القضايا التى تتوقف عليها سعادة الحياة الزوجية واتفاق الزوجين.. تؤجل، ولا ينظر فيها إلا بعد الزواج بالفعل. وماذا يكون العمل عندما يتضح أن فكرة الزوجة تخالف مخالفة تامة فكرة الزوج. أليس هذا جنونا يفرضه المجتمع على الشباب والشابات وعندما يكون الخلاف جذرياً فلا مفر من الشقاء المؤبد، أو الانفصال السريع.. وقد كانا فى غنى عن هذا لو كان لدى هذا المجتمع مسكة عقل أو أثارة فكر..

إن دهشتى لا تنقضى تجاه مجتمع يحرم على المرأة أن ترى الرجل.. ويحرم على الرجل أن يرى المرأة. ثم يزج بهما معاً، ومرة واحدة، إلى أحضان بعض! وينتظر منهما أن يعيشاً فى سلام ونبات وأن ينجباً أولاد وبنات! فماذا يكون هذا سوى الجنون والحماقة، ومن العسير على الذين يعيشون اليوم فى مجتمع سمح بالاختلاط أن يتصوروا المجتمع الذى ظل من أيام الجاهلية حتى مشارف العصر، يعتبر رؤية المرأة "تابو" محرم لا يجوز.

وجناية عدم الاختلاط على المرأة أشد من جنايتها على الرجل. لأنها إذا أفقدت الرجل العاطفة والإحساس بالجمال، فإنها قضت على المرأة بأن تظل سجينة بيتها رهينة زوجها، لا تعرف شيئاً عن العالم الخارجى الذى يحيط بها. ويغلب أن يحال بينها وبين القراءة والكتابة لأن الفكرة المتأصلة هى فكرة الأنثى – الزوجة – ربة البيت – أم الأطفال وهذه كلها فيما تصوروا لا علاقة لها بقراءة أو بكتابة.

- ج -

أخيراً نأتى إلى المجتمع، وما جناه الحجاب عليه، ولعل أعظم أثار هذا الحجاب كما قلنا هو تغييب المرأة عن المجتمع وحبسها فى عقر بيتها وأن هذا المجتمع أصبح مجتمعاً رجاليا، ذكوريا، خشنا، تنتفى منه لمسة الأنثى التى تشيع الرقة، والحنان، وتهذب من السلوك وتضفى هالة من الجمال. وتهذيب السلوك والإحساس بالجمال وهى ظاهرة بوضوح فى المجتمع الإسلامى رغـم أن الإسلام عنى عناية فائقة بوضع "إتيكيت" إسلامى لا يقل – بل يفوق – الإتيكيت الأوربى، ولكن الفقهاء قضوا عليه جملة وتفصيلاً ولم يعد له وجود إلا على صفحات الكتب. أما فى الحياة فلا، لأن العامل الفعلى الذى يكلفه هو وجود المرأة فى المجتمع – وهو مفقود فى مجتمع يرفض فقهاؤه الاختلاط، كما أن الإسلام عنى بالنظافة والطهارة ونجح بالفعل فى حمل المسلمين على ممارسة التصرفات التى تؤدى إليها لارتباطها بالعبادة، كما فى حالة الوضوء وقد امتدح القرآن الزينة والجمال، وإذا لم يكن قد أفاض القول فيهما فإن فيما قدمه ما كان يمكن أن يدفع المسلمين لتوفير فنون الزينة ومظاهر الجمال. ولكن هذا ما كان يمكن أن يوجد دون أن يكون له محور يدور عليه وهو المرأة، لأن المرأة هى رمز الجمال الحى، الذى يثير العاطفة الجمالية فى النفوس. وهذا بالذات هو ما هدف الفقهاء إلى طمسه بدعوى مقاومة الفتنة. فلم ير الفقهاء فى المرأة الجميلة سوى أداة لاستثارة الغريزة الجنسية فى حين أن المرأة الجميلة يمكن أن تثير أنبل المشاعر وأرق الأحاسيس وأسمى العواطف، ولو أخذت الفتنة مأخذاً جاد لكان من حق النساء أن يطالبن بحجب الرجال لأنهم يفتنوهن، ولأن الرجل القوى يثير فى المرأة ما تثيره المرأة الجميلة فى الرجل.

وكان من نتائج تغييب المرأة أن لم يسمح المجتمع الإسلامى لبعض أنواع الفنون كالغناء والموسيقى والرقص والتمثيل وهى فنون جمالية يثير كل واحد منها الإحساس بالجمال فى موضوعه.

وأصلتت كالسيوف أحاديث تتوعد من يسمع الغناء أو المعازف بأن يصب فى أذنيه الآنك، وأن الغناء هو "لهو الحديث" الذى ندد به القرآن الكريم، وحاول المجتمع الإسلامى حينا ما التمرد على هذه المحرمات وتحداها عندما جعل أكبر كتاب فى الأدب يحمل اسم (الأغانى) ولكن الانتصار الأخير كان للفقهاء والمحدثين بحيث أخرست أصوات النساء.

ولا تزال لعنة الفقهاء تلاحق الفنون حتى الآن وترى فى كل فنانة خاطئة، وقد أثروا على عدد من أفضل الفنانات حتى اعتزلن. وكان يمكن أن يبدأن مسيرة فنية تحقق ما يهدف إليه الفن وما يهدف إليه الإسلام أيضاً من بث توجيهات تربوية بطريقة غير مباشرة. وإذا وجد النص الجيد فإن الرواية (سينمائية أو مسرحية) تنجح بصرف النظر عن أى استثارات جنسية أو استعانة برقص أو غيره وبدلاً من هذا عمدن إلى الوعظ والتجمع فى حلقات لسماع أحاديث دينية، وكانت منزلتهن تسمح لهن بأن يكن أكثر نفعا حتى فى المجال الإسلامى نفسه.

وكان من الآثار الاجتماعية لتغييب المرأة، تشجيع تعدد الزوجات فالرجل الذى افتقد المرأة فى المجتمع أراد أن يجدها فى بيته، وما كان يمكن أن تكفيه واحدة، وهذه اللفتة تربط ما بين تعدد الزوجات وفرض الحجاب. وهى رابطة لم يلحظها الكثيرون.. ولما لم يكف التعدد ظهرت الجوارى، وقمن بالدور المطلوب فى إشاعة "طائف" من الفن وصورة محدودة من المجتمع المختلط وبقدر ما أريد منهن الترخص بقدر ما أزداد التزمت بالنسبة للزوجات، وهى ظاهرة وجدت فى المجتمع الأثينى الذى كان يحقق المتعة عن طريق العشيقات ولا يريد من الزوجات سوى إنجاب أبناء شرعيين وعبر عن ذلك ديموستين فى كلمة مشهورة له.

وكان لوجود الجوارى أثر بعيد على مستقبل وطبيعة المجتمع الإسلامى، خاصة فى فئاته العليا، فقد كانت أمهات كل الخلفاء العباسيين – باستثناء زبيده – من الجوارى وقيل إن النسل الحسينى إنما جاء من زواج الحسين بابنة كسرى، وأن هذا من أسباب هوس الفرس بالحسين.

وكان لـ "روكسان" زوجة سليمان القانونى وأورورا أو صبيحة زوجة الحكم الثانى الأموى فى الأندلس، وثريا الزوجة الأسبانية للملك التعيس أبو عبد الله آخر ملوك بنى الأحمر أثر انعكس على سياسة أزواجهن.

وأخيراً فماذا كان يحدث فى المجتمع الأفغانى الذى جعلته طالبان سجناً كبيراً يعزل الذكور عن الإناث.. وما هى صور الانحراف بدءاً من الكبت إلى الشذوذ..؟ هذا ما لا نعلمه لأنه يتم سراً وراء الأستار المسدلة والأبواب المغلقة. ولكن تفرض وجوده الطبيعة البشرية الغلابة، كما قد نجد أثاراً عنه فى بعض الإشارات فى كتب الفقه عن "الأمرد" الذى كادت أن تلحقه بالنساء وتضيق بوجوده وصحبته. إننا لا نعلم على وجه التحديد حجم هذا الانحراف ولا آثاره التى لابد أن تكون مدمرة، للطبيعة السوية والسليمة لدى الرجال والنساء على سواء...

ولكن من المؤكد أنها من أكبر أسباب تأخر المجتمع الإسلامى وما فيه من جفاف، وافتقار الإحساس بالجمال وما يشيعه فى النفس والمجتمع.

0 التعليقات:

إرسال تعليق