الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الأول توحيد الله يستتبع التعددية فيما عداه

لم يصل دين من الأديان بتوحيد الله إلى الحد الذى وصل إليه الإسلام، وقد أهدرت اليهودية المعنى المطلق للتوحيد عندما جعلت الاهها الواحد إلها خاصاً ببنى إسرائيل، ومن ثم فلا معنى للحديث عن التوحيد فى اليهودية. أما المسيحية فقد ألقت ظلالاً كثيفة على الاهها الواحد بفكرة الأقانيم الثلاثة، فإذا أريد التوحيد بأجلى معانيه فليس إلا الإسلام.

فـ الله فى الإسلام هو الْوَاحِدُ الـ أَحَدٌ الفرد الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولم يكن له كفئا أحد. وقد أسهب القرآن الكريم فى عرض صفاته تعالى وكلها تصب فى هذا المعنى فهو الذى لا تدركه الأبصار وليس كمثله شىء. ونهى القرآن عن أن يضرب المؤمنون له الأمثال أو أن يجعلوا له أنداداً لأنه لا مثيل له.

وقد أمل الفلاسفة القدامى أن يصلوا إلى الجوهر الفرد الذى لا يتجزأ، وظن بعضهم أنه يمكن الوصول إليه، وأنه سر الكون، ولكن هيهات فقد أثبت العلم الحديث أن ليس فى الموجودات والقوى والعناصر جوهر فرد أو عنصر لا يتجزأ فكل شىء يتجزأ إلى ما لانهاية، وكل جزء يرتبط وينفصل عن بقية الأجزاء والجميع يدورون بانتظام أو بالتعبير المعجز ﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

وعندما يتحدث القرآن الكريم عن الله الواحد الأحد فإنه يتحدى الإدراك الإنسانى رغم ما يبدو من بساطته وبداهية فكرة الواحديه فما أن بفكر الإنسان حتى يعجز عن تصورها لأنه يعجز عن تصور كيان غير مركب من أجزاء وهو يتصور أنه إذا انتفت الأجزاء انتفى الكيان، ولا يوجد شىء، وليس إلا العدم ومن ثم فإما أن يكون مركباً من أجزاء وإما أن لا يكون، خاصة وأن القرآن يعزز ويعمق فكرة التوحيد وينزهها فنفى عنها كل شوائب التجسيد والتوثين، وأضفى عليها فى الوقت نفسه الحياة والقوة والإدراك والحكمة والسمع والبصر و99 اسما من الأسماء الحسنى بجانب الصفة الهامة التجريد ..

وعندما يقول الله تعالى عن نفسه إنه "الباقى" أو "الذى لا يموت" فإنه بالتبعية ينفى أن يكون لشىء أو مخلوق هذه الصفة- فكل ما نراه يتعرض للتغيير، وللموت وللفناء- ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. والموت هو مصير الجميع فى هذه الحياة الدنيا ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ. ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ.

ولو قلنا إن هناك خالقاً غير الله وباقيا غير الله لكان هنا شركاً بالله وخروجاً عن "التوحيد" الإسلامى لأنه يشرك أحداً فيما خص التوحيد الإسلامي الله تعالى – وحده – به.

وكذلك عندما يقول الله تعالى عن نفسه إنه الواحد الأحد ، فمعنى هذا أن ليس فى الكون أو المجتمع أحدية ولكن تعددية يمكن أن تصل إلى مئات وألوف الصور.

وقد ضلّ الفلاسفة وبعض الذين تحدّثوا عن "وحدة الوجود"، ووهم الشعراء الذين تصوروا الله تعالى فى الشمس البازغة والزهرة اليانعة والجمال الإنسانى فهذه كلها من آيات الله فى الخلق فى أحسن تقويم، ولكنها ليست صفاته وأبعد منها أن تمس ذاته.

كما ضلّ كل من تصوّر أنه يمكن بحكم إيمانه وتفانيه فى حب الله تعالى أن يصل إلى درجة من القرب بالله توجد نوعا من التوحيد فهيهات أنا للإنسان أن يصل إلى هذا ولم يصل الرسول إلا إلى "قَابَ قَوْسَيْنِ" من سدرة المنتهى لأن ما بعد ذلك يخالف طبيعة التوحيد ويمكن أن يصل إلى حد الشرك.

وعندما يقول الله تعالى فى عشرات، أو مئات الآيات أنه الخالق، فانه ينفى بالتبعية أى خلق لغير الله تعالى ويصبح من ينسب قدرة الخلق إلى غير الله مشركاً، وهو الذنب الوحيد الذى أعلن الله تعالى أنه لا يغفره إلا أن يتوب.

وهو لا يكتفى بهذا المعنى الضمنى، بل يعلنه مراراً وتكراراً فمن غير الله يخلق؟ إن كل شىء عدا الله تعالى مخلوق ..

ووصل حرص الإسلام على إفراد الله تعالى وحده الخالق. أن حرّم الإسلام فى المرحلة الأولى لظهوره التصوير ونحت التماثيل لأنها نوع من "الخلق" يمكن أن يؤدى إلى الوثنية، خاصة والعرب حديثو عهد بها. فجاء فى الحديث "من أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة. "

ولا يجوز لأحد أن يقول عن سيده "ربّي" ولكن سيدى كما لا يجوز للسيد أن يقول "عبدي" ولكن فتاي ..

ولا يجوز لأحد أن يتألى على الله فيقول مثلا "والله لا يغفر الله له"! فمن ذا يتألى على الله، ومن ذا يعلم ماذا سيفعل الله.

ورفض القرآن فكرة أن يعبد العرب أوثانا ﴿لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وندد بالذين اتخذوا أحبارهم أربابا دون الله، وفسر الحديث ذلك بأن هؤلاء الأحبار كانوا يحللون ويحرمون، وهذه المهمة هى ما ينفرد بها الله تعالى فقيام الأحبار بها نوع من الشرك.

بل حتى الشفاعة، التى ليست إلا رجاءً وسؤالا، لا يجوز إلا لمن أذن الله وبضوابط موضوعة- لأنه إذا عدمت هذه الضوابط فيمكن أن تتحول الشفاعة إلى الشرك أو أن تقارب الشرك.

من هذا نفهم إن ما تطرق إلى بعض الأذهان من وجود مجتمع إسلامى أحادى الطبيعة لأنه يدين بالتوحيد إنما هو لبس ووهم بل مفارقة لأن الإيمان بتوحيد الله يستتبع التعددية فيما سواه، وأن هذه التعددية تصبح أمراً لازماً بحكم الواحدية الإلهية، لأنها تعد الضرورة المنطقية أمام الواحدية الإلهية حتى لا تتطرق إثارة من شرك لمعنى التوحيد الإلهى- وفى الوقت نفسه فإن الله تعالى هو الذى أراد هذه التعدّدية ووضع لها آلياتها حتى لا يتطرق الخلل إلى هذه التعدّدية وبهذا نجد التوحيد الخالص بالنسبة لله تعالى والتعدّدية المنضبطة بالنسبة للمجتمع.

0 التعليقات:

إرسال تعليق