الأربعاء، ٢٦ أغسطس ٢٠٠٩

معسكر أعداء الحرية

معسكر أعداء الحرية

عندما سأل أحد الناس سقراط النصيحة قال له " أعرف نفسك ".

وهو توجيه يكفي على المستوى الشخصي، ولكن عندما يتعلق الأمر بقضية اجتماعية معقدة – متعددة الأطراف، متشابكة العلاقات فقد يكون الرد "أعرف عدوّك".

للحرّية أعداء مطبوعون، بمعنى أنهم لابد وأن يكونوا أعداء بحكم وضعهم، فوضعهم يملي عليهم العداء للحرّية، حتى لو كانت مشاعرهم تخالف ذلك فهم كالسجان لابد فى النهاية من أن يغلق الباب على السجين، لأن هذه هى مهمته ..

z

السلطة عليها اللعنة..

والبيئة التى تجعل من يعيش فيها عدواً للحرية بالضرورة هى ما أطلقنا عليه "السلطة" لأنها أشد ما يعطى المعنى المطلوب وألفاظها وحدها تدل عليه. فإن "سُلط عليهم" – مبنية للمجهول – أو تسلط عليهم – تعنى معنى مضاداً للحرية قلباً وقالبا...

كما أن السلطة أخذت طابعاً مؤسسات بأخص وأشد دلالة من الألفاظ الأخرى المرادفة لها كالهيمنة والسيطرة على المجتمع .

وكيف نشأت هذه السلطة ؟ لقد نشأت نشأة ساذجة مع اتسام بعض الناس بقوة جسدية أو بدهاء عقلى على الآخرين بحيث تمكن من إخافتهم بقوته أو خداعهم بدهائه. وفى النهاية تسلط عليهم ..

وأبسط الأمثلة على ذلك تسلط الرجل على المرأة .

ولكن هذا التسلط أخذ شكلاً منهجياً "شيطانيا" عندما عمد أحدهم إلى تخصيص مجموعة من الأفراد لتقوم بمهمة السيطرة وتحقيق السلطة بطريقة منهجية تربوية، ففرغ هؤلاء من عملهم كفلاحين أو عمال الخ.. وتولى الأنفاق عليهم بما يجعلهم لا يحملون هم الأعاشه ثم أخذ يمرنهم على وممارسة التدريبات الرياضية والعسكرية وأساليب المران والضبط والربط بدءاً من صفهم صفوفاً منتظمة وسيرهم بطريقة خاصة ثم وضع فى أيديهم أسلحة عصيا، أو رماحاً أو سيوفاً... وأخيراً تولى رآستهم وزحف بهم على الفلاحين الآمنين الغافلين والتجار المسالمين الفاتحين محالهم فنهب وسلب بيوتهم ومحالهم وقتل بعضهم ثم أتفق معهم على الخضوع له وتقديم ما يطلبه من مال الخ... وإلا عاد فتسلط زبانيته ولم يعد أمام الفلاحين والتجار من مخرج إلا الاستسلام، لأنه لا يمكنهم أن يهجروا أرضهم أو يغلقوا محالهم للتصدى له، فضلاً عن أنهم عزل ليس لديهم السلاح، ولا التدريب والمران على حمل السلاح وشن الحرب ..

وصور جورج أوريل مؤلف "عمال المزرعة" نشوء السلطة كما تخيلها فى عالم الحيوان- بصورة تتفق مع هذا المجتمع دون أن تختلف فى الجوهر عما حدث بالنسبة للمجتمع الإنسانى- فبعد أن ثارت الحيوانات على صاحبها حتى طردته وأعلنت جمهورية الحيوان ووضعت شعاراتها "كل الحيوانات متساوون" "كل من يدب على أربع أو يطير بجناحين فهو صديق، وكل من يسير على قدمين فهو عدو" "لا يجوز لحيوان أن يرتدى ثيابا أو ينام على فراش" الخ... وانتخبوا الخنزير رئيسا ووضع هذا يده على الجراء الستة التى ولدتها كلبة حراسة المزرعة ليربيهم لها، واستطاع فى سرية أن يمرنهم على الطاعة العمياء وإتباع أوامره بما فى ذلك الهجوم على من يغضب عليه عندما يشير إليهم بذلك. وتعود أن يخرج ووراءه الكلاب الستة. وعندما يجلس تحوطه وتبصبص له بذيولها ..

ولم تعلم الحيوانات بما وراء ذلك، إلا عندما ضاق الخنزير برفض أحد معارضيه عندئذ صاح بكلابه صيحة معينة فزمجرت هذه الكلاب وانطلقت تجرى وتعوى فى وحشية، وقد استيقظت فيها طبيعة الذئاب حتى كادت أن تعقر المعارض لو لم يفر ناجياً بجلده ...

عندئذ ظهرت السلطة وتأسس جهازها المنهجى، واستكملت سواء فى جمهورية الحيوان أو جمهورية الإنسان أخص قسماتها وهى إنها "أداة قمع" وإنها وحدها التى تملك السجون.. وتنفذ أحكام الإعدام.

وما لنا نذهب بعيداً أو نستشهد بجمهورية الحيوانات، والتاريخ المصرى شاهد شديد الشبه. فقد كان الأمراء يشترون "المماليك" أطفالاً ويربونهم- كما ربى الخنزير الجراء- ويفرغونهم تماماً للقتال وفنون الحرب. ويسيطرون بهم على شعب مصر المسالم الوديع. ومن هؤلاء المماليك ظهر أقوى وأكبر سلاطين مصر.

ومن الواضح إن النشأة البدائية للجيش لا يمكن أن تفصل نشأة أى عصابة أو "منسر" للصوص يهتدى إليها شقى عريق فى دهائه وإن قوامها السيطرة – عن طريـق استخدام القوة فى نهب عمل وثروة الآخرين أو ابتزازها بصورة منتظمة. نقول إن هذا الميلاد المهين للعصابة لا يختلف عن الميلاد للجيش، بل ولا يختلف عن الطبيعة التى أخذتها الجيوش تحت قيادة يوليوس قيصر وأغسطس والاسكندر حتى نابليون.. فبقدر قدرة الجيش على القتال بفضل الأسلحة من ناحية.. والضبط والربط من ناحية أخرى ومهارة القائد فى التوصل إلى أساليب وخدع الخ… نقول بقدر التقدم فى هذا بقدر ما تكون قوية فى اكتساح الممالك والاستحواذ عليها بتلك الطريقة الوحشية التى نقرأها فى التوراة : قتل الرجال واستحياء النساء والأطفال وحرق الممتلكات. أو قننتها قوانين الحرب الرومانية وكانت تقضى بالاستحواذ على الأراضى والممتلكات والرجال والنساء فى البلد المفتوح أو وضعتها نظم الاستعمار الأوربية الحديثة ..

وقد يعود انعدام الوحشية فى الجيوش الإسلامية فترة النبوة والخلافة الراشدة بالإضافة إلى ما كانت تؤمن به من قيم تحرم الممارسات الوحشية، أنها لم تتكون من جيوش نظامية لها طرق الضبط والربط والمران والرتب العسكرية الخ.. وإنما كانت تتكون من متطوعين أو قبائل معروفة... ومع هذا كله فيظل الجيش جيشاً يحمل فى أحشائه بذرة التوحش ما دامت مهمته القتل وهو ما ظهر فى جيوش معاوية ويزيد (معركة الحرة) وتعذيب ابن المقفع وغيره فى الدولة العباسية. [9]

نعم إن الواجب الدفاعى للجيش، أى حماية أمن واستقلال البلاد- هو أمر نبيل بلا جدال بل لعله أنبل الأفعال وأى شئ أنبل من التضحية بالنفس للإبقاء على النفوس الأخرى وحماية البلاد من العدوان ولكن هذا يمكن أن يؤدى دون جيش- عندما يتعاون السكان جميعاً للدفاع عن بلدهم، وقد دافع أهل المدينة المنورة بتوجيه وذكاء "أبى بكر" عن مدينتهم المقدسة بعد سفر الجيش الوحيد لديها- وهو جيش أسامة، ونجح سكان مدينة السويس فى أن يحولوا دون دخول القوات الإسرائيلية الغازية عام 73 فى أعقاب خديعة الثغرة التى تسللوا منها إلى المدينة. ولكن المدينة وحالت دون دخول المصفحات والدبابات المدينة. ونجحت فى أن توقفهم خارجها بعد أن استأصلت من كان قد استطاع الدخول فضرب الجيش الإسرائيلى الحصار عليها لمده مائة يوم ظلت المدينة الباسلة صامدة حتى أنسحب الإسرائيليون.. وصد أهل عكا حصار نابليون، ونجح أهل رشيد فى هزم الجنرال الإنجليزى "فريزر" مما أثار قلق محمد على وشكر الأهالى ولكن أوضح لهم إن الدفاع عنهم هى مهمة الجيش ! وكان فى الحقيقة يعرب عن مخاوفه إزاء ظهور الشعب المسلح الذى يمكن أن يقف فى مواجهة استبداده ...

z

العسكريون..

من العرض السابق يتضح لنا إن الصورة الأولى التى تجلت فيها "السلطة" كانت سلطة القوة المعززة بالسلاح والمزود بنظم الضبط والربط التى حملت اسم الجيش. والذى أريد به حماية تراب البلاد وحدودها من عدوان الغزاة ولكنه عملياً وربما قبل أن يتعرف على هذه المهمة الدفاعية النبيلة. كان قد عُنى بتركيز الحكم وإقامته على أساس القوة.

ولا جدال فى إن القادة الأوائل الذين وضعوا أسس وتقاليد المران العسكرى درسوا بعمق النفسية البشرية ونقط الضعف والقوة فيها. بل لعلهم استفادوا من تجربة تدليل الحيوان المتوحش واستئناسه بإطعامه وتدريبه بعد ذلك (وقد كان لينين يراقب بدقه تجارب عالم النفس المشهور بافلوف الكلاب والحيوانات وانعكاساتها على أجهزتها العصبية) وقد كان الدرس الأول هو إن على القائد أن يوفر لجنوده الحاجات - أى المأكل والشرب وما إلى ذلك- حتى يسلموا القياد له ويمكن استئناسهم ..

ولكن الإنسان يختلف عن الحيوان فى إن إشباع الماديات لا تنفى وجود إرادة، وعقل، ومن هنا كان لابد من التحكم فى هذه الإرادة والعقل. وكانت الخطوة الأولى هى جعل "الطاعة" العمياء أى دون أى تفكير هى الفضيلة الأولى التى يقوم عليها كيان الجيش وعلاقاته، فحتى عندما يعترف بالوطنية، والإخلاص، والدقة الخ... فإن الأولوية تكون للطاعة. وتنفيذ الأوامر. وهذا الصفة تنتظم الجميع فعلى الجندى أن يطيع الضابط، والضابط الأصغر أن يطيع الضابط الأعلى الخ...

وعندما تصبح الطاعة هى قوام العلاقة والالتزام الأول في الجيش- فأن هذه الحقيقة التى لا استثناء فيها تحدث أكبر وهن فى الإرادة والذاتية والفكر لأنها إنما تتم على حسابها ..

ومما يمت إلى الطاعة بصله تقديس الطبقية واللا مساواة والتركيز على الرتبة والأقدمية، فالجندى يظل جنديا، يدخل الجيش جندى. ويموت فيه وهو جندى والضابط يبدأ حياته بملازم ثان وحتى لو كان ابن الملك ثم يتدرج طبقاً لنظام صارم.

أما التدريبات التى تبدأ من الصباح ولا تنتهى إلا بالليل فقد أريد بها تطويع الإرادة والشخصية طبقاً للأوامر واستنفاد الطاقة البدنية والفكرية للمجند بحيث لا يترك له مجال للتفكير، خاصة عندما تتسم بالتكرار الروتينى أو الصيحات البلهاء. كما إنها تؤدى إلى معرفة المجند وشخصيته وما فيه من مقاومة أو استسلام. وهى كذلك مبرر لإيقاع عقوبات لإشاعة الخوف فى النفوس.

والخوف سلبياً، والطاعة إيجابياً، يعملان كحدى مقص يقضيان على الإرادة ويطمسان الذاتية ويجعلان المجند قلباً وقالباً ملكاً للنظام .

وهناك أساليب أخرى فى الزى والمعيشة الجماعية والحمامات تهدر الخصوصية وتوهن الحياء قدر ما تضخم الفجاجة.. فضلاً عما هو أشد من وسائل الامتهان، ولقد كشفت قومه الأمن المركزى لمدينة القاهرة عن فنون الإذلال التى كانت تمارس بطريقة منهجية ويومية .

وهذه الوسائل كلها تؤدى إلى نوع من "غسيل العقل وشل القلب" وتحيل الإنسان إلى وحش أكثر وحشية من أى حيوان مفترس. لأن الحيوان المفترس إنما يفترس للجوع، فإذا شبع امتنع عن الافتراس أما المران ووسائل الضبط والربط والطاعة العمياء الخ... فإنها تقضى على الفطرة وعلى الاتزان الذى بنى الله تعالى الطبيعة البشرية عليه. وبدون هذا المسخ للطبيعة البشرية لا يمكن أن تُفهم فنون التعذيب التى تقشعر لمجرد سماعها الجلود، والتى مورست فى سجون الدول الشمولية ومعسكرات العمل بحيث استهلكت الملايين الذين ذهبوا دون أن يعرف شئ عنهم.

فإذا سلمنا جدلاً، بان قد تكون هناك ضرورة لوجود مثل هذا الجيش لصد العدوان، فمن غير المعقول أن يكون هو المدرسة التى تخرج الساسة، والرؤساء ولأن أسلوب الطاعة فى العلاقات لا يمكن أن يتسق مع الديمقراطية. فمن يتعود الطاعة لا يقبل الشورى ..

ولا تقف جريرة الحكم العسكرى عند هذا، لما كان المحور الذى يقوم عليه هو القوة فإنه لا يطيق أن يؤمن بفكرة الحق، أو إنه يرى إن "القوة هى الحق" وقد غرست نظم الحكم العسكرى بذرة القوة عميقاً فى جذور المجتمع الأوربى بحيث صارت القوة هى الحق might is right وأهدرت كل القيم والفضائل التى انتهى الفلاسفة ودعا إليها الأنبياء ونشروها بين الناس، وهذه هى فى الحق مأساة الحضارة الأوربية.

وأسوأ شئ فى هذا الموضوع السىء بطبيعته أن الحكم العسكرى هو أقدم صور الحكم. وقد غطى تاريخ العالم القديم تقريباً بما فى ذلك دولة كاليونان يُظن إنها بعيده عن العسكرية. أما بالنسبة لروما فقد كانت المحضن الأصيل للتقاليد العسكرية التى أثبتت فعاليتها وأخذت بها كل النظم العسكرية فى العالم بدءاً من تقسيم الجنود إلى مجموعات تبدأ من عشرة وتنتهى بألف، ولكل وحدة قائد يطيعه أعضاء المجموعة ويطيع هو رئيس المجموعة الأعلى، ثم تسليحهم بالسيف القصير، والدروع والخوذات والرماح، وتخصيص رتب وألقاب لرئيس كل مجموعة ثم وضع خطط الزحف التى تحرك هذه المجموعات كلها وطرق القتال الخ... كما يدخل فيها زى الجندى وما يكلف به من مهام خلال الحرب والسلم.. ففى هذه كلها كانت روما أستاذة العالم بأسره ونهضت به إلى أعلى مستوى شهده العالم القديم ..

كما أنها هى التى نهجت المسايفات والمصارعات ووصلت بها إلى درجة لم تلحق، واعتبرت إن هذه المصارعات هى جزء لا يتجزأ من تربية الشعب والحصول على رضائه تطبيقاً للشعار "خبزاً وألعاباً" ..

وعند مراجعة التاريخ الرومانى، فإننا لا نجد فيه إلا الحكم المطلق، وإلا تدمير الشعوب والاستحواذ على ثرواتها وإخضاعها للسلام الرومانى المزعوم والذى كان فى حقيقته "الإرهاب الرومانى" وإن القانون الرومانى كان قانون العنصرية، والتفرقة والتمييز بين الناس. وأنه إذا أعطا ضمانات للعدد القليل من الرومانيين فإن الملايين فى آسيا وأفريقيا كانت تعامل كالعبيد ولم تكن هناك مشاركة فى السلطة إلا لأعضاء السناتو وهم قمة الاستقراطيه الرومانية. وكانوا يفقدون هذه المساهمة إذا كان الإمبراطور شخصا قوياً، فضلاً عن إن معظمهم كان ممن قادوا الجيش وخـاضوا غمار المعارك والحروب.

وكانت العسكرية الرومانية هى المرجع والملهم لكل القادة العسكريين الأوربيين وعلى رأسهم نابليون الذى كانت تواريخ روما هى ملهمته الأولى ..

وتاريخ نابليون يقدم لنا أكثر القادة العسكريين استنارة، وثقافة، وتأثراً، وكيف أن الطبيعة العسكرية فيه غلبت فى النهاية.. فقد كان أبنا للثورة الفرنسية وجعلته عسكريته حافر قبرها، فما كان شخص آخر يمكن أن يوجه طلقات مدافعه إلى الجماهير المتجمعة والتى ألفت أن تتجمهر طوال سنوات الثورة. ووضعت هذه الطلقات نهاية لهذا الأسلوب،من التجمهر، وللثورة الفرنسية وآذنت ببدء الحكم العسكرى الذى يظفر بتأييد الجماهير بقدر انتصاراته وبفقدها بقدر هزائمه.

كان نابليون قائداً عبقرياً تتعادل فيه الملكات الإدارية المدنية مع الملكات العسكرية والحربية، وقد كان رغم انتصاراته فى المعارك. يؤثر أن يُلقب نفسه "عضو المجمع العلمى" الذى كونه وكان فخره بجلساته بين رجال القضاء عند وضع القانون الذى أصبح يحمل اسمه – لا يقل عن فخره بجلساته مع أركان حربه قبيل المعارك. ومن النادر أن نجد عسكرياً توفرت فيه هذه اللمسات. ومع هذا فلا جدال إن ما خلفه من أثار إنما كانت نتيجة للمعارك الحربية التى غيرت خريطة أوربـا، وأن الأمر المحقق هو قتل الملايين وتشويه أمثالهم وتدمير البيوت والحقول والمصانع الخ.. فما دام عسكرياً فلا بدّ أن ينتصر "العرف العسكري" فى النهاية ..

ومع هذا فإن نابليون يعد استثناء لم يتكرر ولم يظهر حتى الآن من يماثله فى توفر ملكة الإدارة المدنية جنبا إلى جنب الملكة العسكرية والحربية الأمر الذى لطف حكمه شيئاً ما وجعله يصدر قانون نابليون الذى كان قانون الطبقة البرجوازية الصاعدة. أما كل الذين ظهروا بعده فهم قادة عسكريون يحكمون بقانون السيف وقد جنوا جميعاً على شعوبهم لأنهم كبتوا الحريات وفى النهاية أوقعوها فى الهزائم.

ولما كانت القوة العسكرية وما يكتنفها من أساليب تقوم على الطاعة والمران وهى بعيده كل البعد عن الحكم الديمقراطى أو إشاعة الحرية، فليس هناك مبرر على الإطلاق يبرر وضع العسكريين فى قمة نظام الحكم، ويفترض أن يوجد فى الدول التى تعرف قيمة الحرية وتحرص عليها نص أو تقليد يحرم رآسة الدولة على أى شخص عسكرى، وهو الأمر المطبق فى الدول التى تحرص ديمقراطيتها، والذى نجد وزير دفاعها رجلاً مدنياً أو رجال الأعمال مثل "ماكنمارا" فى الولايات المتحدة.

z

فقهاء التـقليد..

أشرنا إلى أن الحرية ليست إلا صدى للإرادة الفردية التى قد تقوم على إعمال العقل، كما قد تنبعث بالعاطفة، ولكنها فى جميع الحالات تنبثق عن الفرد..، وهذه الصورة لا توجد عندما يملى على الفرد "إملاء" كل ما يكون عليه عمله. لأن هذا العمل- حتى لو كان صوابا- لا يمكن أن يكون حرية، إنه يكون تقليداً ولا يكون صاحبه هو الإنسان الحر، ولكن القرد المقلد.

ومن القرن الرابع الهجرى وقد أغلق الفقهاء باب الاجتهاد. واصبح عليهم الالتزام بالمذاهب المقررة لا يتعدونها.. كما أصبح على الجماهير أن يقلدوا شيوخهم، والتقليد هو أداء الحكم دون السؤال عن الحكمة أو العلة ...

وكانت نتيجة إغلاق باب الاجتهاد أن حيل ما بين عامة الشعب والتفكير فصدئت عقولهم من ناحية وعقمت إرادتهم وحرياتهم من ناحية ثانية.

ويعود تمسك الفقهاء بتقليد ما وضعه الأئمة دون أن يقدموا إضافتهم إلى أن ما قدمه الائمه يكتسب عراقة ومصداقية لا تتوفر للأراء الفردية، وإن مجموعة هذه الآراء هى التى تمسك "المؤسسة الدينية" وتوجد لها المحاور التى تدور حولها وتضفى عليها قدراً من القداسة. فالعملية أكثر تعقيداً مما يبدو ..

وفى العالم الإسلامى، كما فى العالم الأوربى، فإن تجمد المؤسسة الدينية وفرضها مفاهيمها على الفكر، كان من أكبر أسباب تأخر هذه المجتمعات، لأنها حـالت دون انطلاقه الفكر واستكشافه للأفاق العديدة.

ومن حسن حظ العالم الأوربى إن رزق مفكرون ثاروا على كهنوت الكنيسة وسلطانها على الفكر، ودخلوا معها فى معركة طويلة ومريرة، وقدموا شهداء.. ضحوا بحياتهم على المحرقة. ولكن كتب لهم الانتصار الذى كان بداية تحرر المجتمع الأوربى وانطلاقه على طريق التقدم.

ولم يحدث هذا بالنسبة للعالم الإسلامى لأسباب عديدة، ولم تقم سوى محاولات جزئية لإصلاح جانب من جوانب العقيدة أو العبادة، ولكن لم يوجه نقد للمؤسسة الدينية باعتبارها حامية التراث التقليدى، ولا إلى أصول الفقه وأساسياته التى اعتبرت من المسلمات، وربما يعتبر منكرها ممن يجحد معلوماً من الدين ويعد مرتداً .

ومنذ أن وضع الشافعى "الرسالة" على رأس المائة الثانية من الهجرة، ولم يظهر مفكر يدعو إلى النظر فيها. كما لم تتعرض مقاصد الشريعة التى وضعها الشاطبى فى القرن الثامن للدراسة الجادة فقد أخذ مأخذا التسليم.

إننا نعيد هنا ما سبق إن كتبناه فى "نحو فقه جديد" إن تقليد المسلمين لمده ألف عام، أو أكثر معناه إن أمة محمد أعطت عقلها أجازه طول هذه المدة "فلنحمد الله إننا لا نزال نسير على قدمين، وكان يمكن أن نسير على أربع" لأن الفرق البارز بين الإنسان والحيوان هو العقل. فإذا أغفله فإنه يصبح حيوانا.. بل أضل ﴿ أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ.

المصيبة التى لا تعادلها مصيبة إن هذا الوضع المزرى الذى يرفضه كل من لديه مسكة عقل يجد من يدعو إليه ويدافع عنه ويعتبران "اللا مذهبية" هى الكارثة العظمى وتقف المؤسسة الدينية بجلالة قدرها وراءه.. ويتشبث به الأزهر.

وفى غير مصر يقوم صراع مرير ما بين الإصلاحيين فى إيران وبين المحافظين من حملة "آيات الله" ورعاة الحوزات فى قم المقدسة !

وهذا الصراع الذى تدور رحاه فى إيران جدير بأن يدفعنا ويستحثنا على العمل. لأن آيات الله فى إيران يتمتعون بنفوذ روحى عميق وتراث تاريخى عريق واستقلال مادى واقتصادى مكين. فشن الإصلاحيين الحرب عليهم أمر ينم عن شجاعة وجدير إن لا نقل شجاعة عنهم خاصة والعرب هم أقدر من يدافع عن الإسلام بحكم إتقانهم لغة القرآن. ولا تتمتع مؤسسة الأزهر بما يتمتع به آيات الله من قوة واستقلال. فلم يعد لنا عذر خاصة بعد أن سددنا ضربة المعول الأول بكتابنا "نحو فقه جديد" بأجزائه الثلاثة..

z

دعاة الحكم الشمولي..

دعاة الحكم الشمولى هم أخطر أعداء الحرية لأننا نجد عندهم التنظيم والتنظير الذى يقضى قضاءً مبرماً على الحرية. ولا تعد الأساليب العسكرية فى بطشها الفج بالأعداء، ولا المؤسسة الدينية فى تجميدها للأفكار.. شيئاً مذكوراً أمام ما جاء به دعاة الحكم الشمولى من نظم منهجية دقيقة ومن تأويلات نظرية لوأد أو لتقييد الحرية وشل حركتها.

المفارقة المذهلة إن الذى أوجد هذا الموقف المعادى للحرية، واحكمه وأرسى أسسه وشد طنبه كانت الاشتراكية التى أملت فيها الشعوب والجماهير كما لم تأمل فى أى دعوه – تعزيز كرامة الإنسان وإنقاذه من استغلال الرأسمالية ..

لقد آمن الملايين من الرجال والنساء من عمال ونقابيين وفنانين وأدباء الخ.. فى أربعة أركان الأرض بالمثاليات التى تصوروها فى الاشتراكية: العدل، المساواة، التحرر من الفاقة، كرامة الإنسان، حكم الجماهير، مقاومة الاستغلال الرأسمالى والاستعباد الإمبريالى الخ... وتعرضوا فى سبيل هذا- على مدار قرن كامل- من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين لكل صور الاضطهاد والإرغام. وضحوا بحياتهم فى السجون الرهيبة أو تحت وطأة التعذيب فما استسلموا ولا استكانوا حتى نجحوا أخيراً وبصورة فاقت أحلامهم عندما قامت "دولة العمال والفلاحين" فى روسيا- سدس العالم ورمز الرجعية والأتوقراطية، وبزعامة شخصية أسطورية بلورت كل أحلام البطولة ومثاليات الكفاح والتضحية ووصلت الثقة فيها والإيمان بها درجة التقديس.

ولنا أن نتصور الفجيعة التى أطبقت على الأجيال التى قدر لها البقاء عندما رأت أن الأمل الوردى الذى كافحت فى سبيله وضحى الآباء والأجداد لتحقيقه أصبح كابوساً رهيباً أفظع وأشنع من الرأسمالية المستغلة، ومن يد هذا المنقذ نفسه الماركسية المعصوم تجرعوا كؤوس السم وغصص العذاب وزج بهم فى السجون ...

فهل هناك "دراماً" أشد مأساوية من هذه... وما عسى أن تبلغ تراجيديا عن رجل وامرأة- حبيب وعشيقة أمام هذه الجائحة التى اجتاحت الملايين وقضت على آمال الأجيال.

كيف حدث أن تحول لينين الداعية الجماهيرى والعدو اللدود للأتوقراطية القيصرية ووارث نظرية ذبول الدولة والذى تصور أن كل طباخ يمكن أن يكون رجل دولة وأن أى جندى- يمكن أن يكون جنرالا، وأنه عندما يشترك الشعب كله فى بيروقراطية الدولة لا تعد هناك بيروقراطية إلى أكبر طاغية عرفته البشرية، طاغية تصغر أمامه الأتوقراطية القيصرية، وكيف وضع أساس أسوأ جهاز إرهابى عرفته البشرية وأطلق عليها "درع الثورة" .

كيف تحولت ديكتاتورية البلوريتاريا إلى ديكتاتورية على البلوريتاريا وأوجدت أضخم جيش سخرة عرفه التاريخ، وجعلت قادة النقابات جلادين للعمال يزجون بهم فى سجون تقيمها النقابات نفسها وتبعث من الماضى السحيق "دفتر العمل" الذى كان يقيد حركة "الأقنان" – أى عبيد الأرض- فى القرون الوسطى لتطبقه على عمال روسيا فى أربعينات القرن العشرين ‍...

كيف يتحول قلم تروتسكى الذى ألف المجلدات ودبج الصفحات إلى سيف بتار أو خنجر غدار يكتب تاريخ الثورة بالدماء لا بالمداد.

لقد حدثت هذه المأساة لأن ماركس بعد دفاعه الحار عن عمال بريطانيا وتعرية الاستغلال المتأصل فى الرأسمالية وهو الموقف الذى اكتسب به قلوب الجماهير تخندق فى مكتبة المتحف البريطانى وانغمس فى دراسات نظرية انتهت به إلى إن القوى المادية – ولتكن علاقات الإنتاج أو ملكية وسائل الإنتاج أو غيرها- وليس الوجدان الإنسانى بما فيه من عواطف ومشاعر ومبادئ وقيم وأشواق وطموحات هى التى تتحكم فى مصير الإنسان... فانتهى ماركس "العدالة الإنسانية" وظهر ماركس "المادية الجدلية" .

وحدثت لأن لينين آمن إن السلطة يمكن أن تحقق التغيير، إذا أوجد "حزباً" ثورياً لا يختلف فى شئ عن الجيش الذى يخضع للمران والضبط والربط ويلتزم بالطاعة والفرق الوحيد إنه لا يحارب بالبنادق والمدافع. ولا يصول فى ميدان القتال، ولكن فى كل مفارق أربعة من شوارع المدينة، أو فى مصانعها. إنه الجيش المدنى الحديدى الذى صنعه لينين على يديه وجعل قوامه "الصلابة" البلشفية وأعتبر إن أكبر جريمة هى "العاطفية" .

وما دام الإيمان اللينينى يتبلور حول السلطة وقدرتها على أحداث التغيير، فلا كلام بالطبع عن الحرية "تكلم السيف فاسكت بها القلم" وهكذا خرست كل الأصوات ولم يعد فى "القارة الروسية" إلا جريدتين إحداهما تحمل اسم الأخبار التى ليس فيها حقيقة... والأخرى تحمل اسم الحقيقة ولا أخبار فيها ! وحلت الأحزاب واستلحقت النقابات وكل "الهيئات الجماعية" بالحزب وأصبحت بمثابة "السير ناقل القوى من الحزب إلى الجماهير" ولفقت نظريه "المركزية الديمقراطية" واعتبرت كلمة الحرية من الكلمات الكريهة فى الفكر اللينينى وقضى لينين على صفة "الديمقراطية" التى كانت تلحق بأسماء الأحزاب الاشتراكية وإن احتفظ بها لستر سوأه المركزية .

وحاول لينين بكل ما رزق من جدل ولجاج تلويث فكرة الحرية نظرياً بعد أن قضى عليها عملياً .

وما من مأساة مثل مأساة لينين يمكن أن تبرز جريمة السلطة وكيف تمسخ الإنسان مسخاً وكيف تقلب الحق باطلا والباطل حقاً، لأنه لا شك فى مقدرة، وإيمان، وزهد لينين فى المظاهر.. ومع هذا كله فقد جعله إيمانه بالسلطة أكبر عدو للحرية فى العصر الحديث وبئس المصير .

إننى أناشد الاشتراكيين فى الوطن العربى أن يكون ولاءهم للحقيقة وللإنسان وليس لزيد أو عبيد، وأن يتحرروا من عبادة الأوثان ومن تلك الدعايات العريضة الضالة المضلة التى كان لابد أن تنسجها الأجهزة المعنية عن قائد دولة هى سدس العالم ولديها من عدد السكان.. وثروات الطبيعة ما يجعلها أكبر وأقوى دولة فى العالم.

لقد نسجت أجهزة الدعاية عن عبد الناصر رغم هزيمته المدوية، وأنه لم يكن إلا قائداً لإحدى دول العالم الثالث ما يجعله بطل القومية العربية.. وحامى فلسطين والله يعلم إن لم يكن لدى عبد الناصر إيمان موضوعى خالص بقومية عربية وأنه حقق لإسرائيل بهزيمة 67 فوق ما كانت تحلم به، وقدم لها مجانا ! سينا والقدس والضفة الغربية والجولان ...

z

نتيجة لنجاح لينين فى النهضة بروسيا من دولة متخلفة إلى أقوى دولة فى العالم. وهى المهمة التى بدأها إيفان الرهب، وبطرس الأكبر من قبل- أعتبر التنظيم والتنظير اللينينى هو الدواء من كل داء وبلسم التنظيم الاجتماعى ونقلت عنه نازية هتلر وفاشية موسولينى الأسس التنظيمية وأضفت عليها أسماء أخرى بينما نقلت كل الدول الاشتراكية من الصين حتى السودان. الأساليب اللينينية فكبتت الحريات، وحلت الأحزاب واستلحقت النقابات واستأثر الحزب الوحيد بالحكم وسالت الدماء أنهاراً ومن لم يقتل زج به فى المعتقلات الرهيبة.

وقد تهاوى الاتحاد السوفيتى كبيت من ورق دون الدخول فى معركة أو إطلاق رصاصة واحدة .. وظهر الإفلاس كأفدح ما يكون ..

ومع هذا فلم يكن سهلاً أن يتحرر البعض من الفكر المقيم بالمقعد الذى هيمن عليهم قلباً وقالباً لسنوات طوال وارتبطوا به وارتبط بهم وأخذوا يتعللون التعلات .

ولا عجب .. فقد قال المتنبّي :

ولو زلتـم ثـم لـم أبـككم

بـكيت على حبـي الـزائل

ومن قبل هؤلاء كاد الإسرائيليون أن ينكصوا عن مسيرة الحرية ويعودوا إلى مصر "أرض العبودية" وجابهوا موسى "لن نصبر على طعام واحد !" بل حتى فى المسلمين، وفى عهد الرسول وجـد من يقول "أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط".[10]

هذه هى الطبيعة البشرية، والضرورات الاجتماعية فلا تثريب ...

ولكن آن الأوان للتخلص من أثر الصدمة، وبقايا التركة لذلك فنحن نناشد أخوتنا الذين دفعت بهم الظروف والملابسات للوجود فى أحد معسكرات أعداء الحرية الثلاث: العسكر، فقهاء التقليد، دعاة الحكم الشمولى. أن يجعلوا ولاءهم للحرية وحدها، وللحقيقة الموضوعية، وليست للصلات العاطفية أو الملابسات الذاتية. فهذا هو الأكرم لهم والأليق بهم، حتى لو أدى هذا لهجر أصدقاء وترك مواقع.. فالحق أحق أن يتبع...


0 التعليقات:

إرسال تعليق