الأربعاء، ٢٦ أغسطس ٢٠٠٩

واقع الحرية فى مصر والدول العربية

واقع الحرية فى مصر والدول العربية

ليس هناك داع للحديث عن الحرية فى العصور القديمة فالشعوب فى العالم بأسره، وخاصة أوربا. لم تعرف الحرية وقد كان حظ العالم العربى اسعد من العالم الأوربى لأن الإسلام كان فى حقيقة ثورة تودى بالطواغيت حتى وإن لم يستمر "الدفع الثورى" للإسلام طويلاً.. ومقارنة الحكم فى ظل خلفاء الإسلام بالحكم فى ظل الإمبراطورية الرومانية أو الكنيسة الكاثوليكية طوال القرون الوسطى فى أوربا تبرز إن حكم هؤلاء الخلفاء كان أقرب إلى الحرية من حكم الإمبراطورية الرومانية والكهنوت الكنسى.

ولكن التاريخ فى أوربا كان يسير نحو الحرية بينما كان فى الشرق ينتكس إلى الاستبداد وبينما كانت المجتمعات الأوربية تتفتح كانت المجتمعات العربية تتقوقع حتى أيقظتها مدافع نابليون بونابرت ووضعتها وجها لوجه أمام العصر الحديث ..

إن تاريخ مصر من الحملة الفرنسية حتى الآن معروف فنحن بالطبع لم نتوقع من نابليون حرية، فلم يكن إلا فاتحاً غازياً عسكرياً بالمهنة، وقد جاء ليفتح ويغزو.. وإذا كانت مدافعه أيقظت النيام.. فإن هذا على أهميته لا يحتسب له أو يثاب عليه، فالأعمال بالنيات.

وقد سنحت لمصر فرصة فريدة عندما التف شعب مصر حول شيوخ الأزهر الذين كانوا وقتئذ يمثلون القادة الطبيعين له وكان فيهم "بقية" من تحررية الإسلام وإن اكتنفتها غشاوات كثيفة. وعندما أفلس الحكم التركى، وتهاوى حكم المماليك وظهر محمد على وظن الشيوخ إن من الممكن أن يبدأ صفحة جديدة فمنحوه التأييد الشعبى وحاصروا الباشا التركى حتى أستسلم، ومن يد الشيخ الشرقاوى وعمر مكرم تقلد محمد على خلعه الولاية بعد أن تعهد للشيوخ بأن يحكم بالعدل والشرع .

تلك كانت هى "الماجنا كارتا" (Magna Carta) المصرية التى تجعل الشعب يحكم حكما شبه مباشر طريق قادته الطبيعيين.

ولكن محمد على لم يكن بالرجل الذى يحكم "بالشرع والعدل" لقد كان "رجل دولة" من الطراز الأول. فيه كل ملكات "بناة الإمبراطورية" لولا نقص واحد.. هو إنـه كان يقيم إمبراطورية "علوية" وليست مصرية. فمع أنه تقلد الحكم من يد قاده الشعب فإنه لم يدخر محبه أو تقديراً للمصريين. وقد أضطر رغم أنفه أن يدرج الفلاحين بين الجنود بعد أن لم يعد كافيا الاعتماد على بقايا المماليك، أو الأرناؤوط، أو السودانيين الذين حاول تجنيدهم. وعندما كسب له الفلاحون انتصارات الموره، والشام وبلغوا جبال طوروس فإن موقفه لم يتغير ولم يكن فى خلفائه شخصيات موهوبة. باستثناء إبراهيم باشا كقائد عسكرى. وقد توفى قبله أما عباس وسعيد وإسماعيل فإن أخطاءهم العديدة غلبت حسناتهم القليلة، وقد أدى ضعف إسماعيل أمام الأوربيين، وافتنانه بفرنسا إلى الأخذ بظواهر الحضارة الأوربية دون الوصول إلى جذورها وأعماقها، وهى ظاهرة لعلها لا تزال موجودة، أما توفيق فإن جبنه واستخذاءه ومقاومته لإرادة شعبه كانت السبب فى احتلال بريطانيا لمصر سنة 1882، وكانت الصفات البارزة فى عباس الثانى وفؤاد الأول وفاروق هى الحرص على السلطة، ومعاداة الشعب، والعمل بكل الطرق للاستحواذ على الأموال. وقد يكون من المفارقات أن الفرد الأخير من أفراد هذه الأسرة الذى خلعه الشعب ووضع نهاية لحكم أسرته. كان هو الوحيد الذى لم يول بفرمان تركى، أو إعلان بريطانى وكان هو الوحيد الذى يجهل التركية ويتكلم العربية كما يتكلمها القاهريون ويتقن "النكتة المصرية" ولم تنجب الأسرة من الأميرات والأمراء والبرنسات من يستحق الذكر. كانت أسره متحللة تمثل الأرستقراطيات اللاهية الفارغة دون أى قيم أو مثل وكانت الإطاحه بها هى إحدى الحسنات القليلة لضباط 23 يوليو .

وطوال حكمهم 1805-1952 لم تعرف مصر الحرية إلا عندما أنتفض الشعب انتفاضته الكبرى التى حولتها التطورات إلى ثورة 1919 التى هيئت المجتمع المصرى لدخول المرحلة الليبرالية وهى- من زاوية الحرية- الإشراقة الوحيدة فى الليل المظلم الطويل. وكان الفضل فيها للشعب وحده دون قادته، بل ورغم قادته وظهرت الثمرة فى دستور 23.

لم يكن دستور 23 دستوراً كاملاً. وحسبه أنه قُدم كمنحه من ملك كان أشد الحكام حرصا على السلطة واستئثاراً دون الشعب وأشرك مجلس الشيوخ فى السلطة وأعطى الملك سلطات كبيرة ولكنه رغم كل السوءات أخذ بمبدأ مسئولية الوزارة أمام البرلمان وحقه فى مناقشة الميزانية وأقر حريات الفكر والمعارضة فغرس البذرة التى أثمرت بسرعة معظم الأمجاد التى تعيش عليها مصر حتى الآن .

ومن المؤسف إن لم يستمر دستور سنة 23 طويلاً إذ دهمته القوى العسكرية الغاشمة بانقلاب 23 يوليو وبداية الحكم العسكرى .

لقد تحدثنا عن العسكر بصفة عامة باعتبارهم أحد القوى المعادية بطبعها للحرية. وكان حكم عبد الناصر بوجه خاص أكبر دليل على صدق ذلك. ولكى نخلص من المماحكات، نقول إننا نقصر الحديث هنا على "الحرية" فى عهد الناصر، وليس عن أى شىء آخر، ولا يجادل أحد فى أن عبد الناصر قضى على الحرية قضاء مبرماً. فحل الأحزاب، وسيطر على الصحافة واستلحق النقابات والهيئات الجماهيرية واستأثر بالحكم وابتدع بدعة الـ 99،99% المشهورة وحال دون تداول السلطة ثم لم يكتف بهذا بل فتح المعتقلات على مصراعيها للإخوان والشيوعيين والحزبيين والنقابيين الخ ومارس فيها زبانيته أخس صور التعذيب، وماذا بالله يمكن أن يفعل بعد هذا قضاء على الحرية واستئصالاً لها ..

إن السوءة الكبرى التى لا تغتفر لحكم عبد الناصر هى أنه أرسا عميقا "قهر الإنسان المصري" وجعل هذا خطا رئيسيا فى سياسته ووضع مختلف الوسائل لتعميقه وتأصيله بحيث لا يزال يطبق حتى الآن .

لم يكن عبد الناصر حاكما ديمقراطيا لقد كان فرعوناً كأسوأ الفراعنة، وثمة كلمة بدرت منه قد تكون فلته لسان، وقد تكون لحظه صدق مع النفس، تعبر عن سياسته وقد قالها لصحفى بريطانى ولعله لم يتصور إن تنقل وتترجم هى "إن برلماني هو جيشي" فقد جاء عبد الناصر إلى الحكم بالجيش، وظل يحكم بالجيش وسقط نتيجة لتهاون الجيش ..

لقد فجعت عندما قرأت كلمة فى مجلة العربى العدد 720 فى 27 أغسطس سنة 2000 لروائى مصرى قدير كان زميلاً لشهدى عطية يوم مصرعه الأليم ووضع زبانية السجن يده مع يد شهدى عطية فى قيد "كلابش" واحد. وشاهد بعينى رأسه تعذيب شهدى حتى مات من الضربات الوحشية المتوالية وأنقذ بمعجزة من أن يفعل به كما فعل بشهدى.. الأمر الذى جعل المحررة تسأله :

- بعد كل هذا تتحدثون عن عبد الناصر بكل حب وإجلال .. هل هى حالة مرضية؟

فردّ الروائى الكبير:

- هذا ليس مرضاً. أنه شرف والتفكير العقلانى والموضوعى البسيط يقول إن هذا الرجل كان عنده رؤية ومشروع عظيم لتطوير وتحديث مصر والعالم العربى[11] الخ...

فإذا كانت زيوف السياسة البراقة، ورؤى الاشتراكية وتنظيراتها الخادعة قد أزاغت بصره فلم ير الحقيقة فهل خانته أيضاً حاسة الفنان؟ إن الفن الأصيل يقوم على الإنسان، وعلى الحرية. وكل فن لا يقوم عليهما يصبح نوعاً من الدجل أو الدعابة السياسية الرخيصة أو نرجسية فردية، فأى مشروع يمكن أن ينهض بمصر "والدول العربية" إذا كان يقوم على قهر الإنسان وكبت الحرية وحكم السجون ؟ لقد تنبه إلى هذه النقطة نزار قبانى فى إحدى اللحظات القليلة التى يُلهم فيها الحق ويعزف فيها عن الهذر والهزل.. عندما قال فى "هوامش على دفتر النكسة".

يا سيدى يا سيدى السلطان.

لقد خسرت الحرب مرتين.

لأنك انفصلت عن قضية الإنسان.

وقبل هذا، وأهم من هذا..ألم يقرأ قول الله تعالى ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا..﴾.

فهذه هـى المبدئية الحقة ...

وعندما هزم ملك فرنسى هزيمة مشرفة قال "لقد خسرنا كل شئ.. إلا الشرف" وفى 67 خسر عبد الناصر وحلفاؤه من الشيوعيين المصريين النصر.. والشرف أيضاً.. ولم يؤبوا إلا بالهزيمة والعار.

z

وكان من الأعمال الأولى لعبد الناصر إلغاء دستور سنة 23 والبدء فى وضع سلسلة من الدساتير كل واحد منها يستحق لقب "عّرة الدساتير" لأنها تفرغ نصوصه من معانيها بمختلف التعبيرات ولأنها "مفصله" على مقاس القائد وتعطيه سلطات مطلقة وإن تسترت وراء ألفاظ ضخمة، وشعارات رنانة ..

وأنظر إلى آخر هذه الدساتير- دستور 71 "الدائم" (العفو !) إنه فى واد.. والواقع المصرى فى واد آخر وكأنه وضع لدوله غير دولة مصر، فهو يتحدث عن القطاع العام والمدعى الاشتراكى ونسبة العمال والفلاحين وهذه كلها "تقليعات ناصرية" للتستر على الحكم الشمولى وانتهت عمليا مع هزيمة 67 ودفن عبد الناصر سنة 71.

ولم يعد لهذه الدساتير حق فى الحياة والوجود، كما إن فكرة إصلاحها لا تجدى لأنها مهلهلة ومتهرئة. والحل الوحيد هو العودة إلى دستور 23.

إن الأمم الناهضة تنظر المستقبل، وتأمل فى الجديد ولكننا لنكد طالعنا، وسوء حظنا أصبح قصارى أملنا أن نعود إلى دستور 23 فهل وصل بنا الهوان، ومجافاة الحرية أن تكون العودة إلى دستور وضع منذ سبعين عاما وله قصور.. خطوة كبرى لا تسمح بها الأوضاع .

رحمتـــك يـارب !

z

أما عن الحرّية في الدول العربيّة فإنها أسوأ مما هى عليه فى مصر. فلم يظهر فى البلاد العربية مثل محمد على ولم يستقر فيها مفكر ثورى مثل جمال الأفغانى الذى أمضى فى مصر ثمان سنوات متصلة، وهو الذى لا يقر له قرار. ولم تظهر فيها ثورة مثل ثورة 19 تدخلها دنيا الليبرالية طوال ثلاثين عاما. لقد كانت مسرحاً لتخلف الحكم التركى وتأمر القوى الاستعمارية، وعندما ظهر فيها فكر سياسى، فإن الذين ابتدعوه كانوا نخبه من المارونيين الذين أدى عزوفهم عن الإسلام لتلفيق نظرية "قومية" أضفوا عليها اسم "البعث" وأدعو فيها إن للعرب رسالة خالدة.. ولست أدرى إذا جردنا العرب من الإسلام فماذا يبقى لهم ؟ ولما كانت الفكرة نخبوية، ملفقة، متأثرة بالفكر الاشتراكى آونة وبفكرة القومية آونة أخرى- على ما فيهما من تنافر- فلم يجذب حزب البعث فى سوريا أو العراق جمهوراً وعندئذ اتجه به أصحابه إلى العسكر الذين بدأوا سلسلة انقلابات يتزعمها جنرال أو عقيد أو نقيب، ومزقت سوريا والعراق وفى النهاية وضعتها فى أيدى اعتى وأسوأ الديكتاتوريين حافظ الأسد وصدام حسين اللذين كانت حياتهما حربا متصلة ما بينهما. وحربا متصلة ما بين نظامهما.. وحريات شعبيهما.. "سوريا والعراق".

ففى سوريا "الأسد إلى الأبد" فإن حالة الطوارئ معلنة من عام 1962، ويبدو إنها ترغب فى أن تدخل فى موسوعة جينز للأرقام السياسية، إذ ليس هناك ما يدل على إنها تريد التغيير.

وفى سوريا والعراق فإن الإعدام هو العقوبة الناجزه لأى نقد أو مساس بنظام الحكم أو من يمثله ولا يزال فى سوريا قانون يعاقب بالإعدام لعضوية فى الإخوان المسلمين، وقد قتل فى سوريا والعراق من الفلسطينيين أو الشيعة ما لم تكن إسرائيل لتقتلهم أو تفعل بهم هذه الأفاعيل.

أما فى عراق صدام.. بطل الانتصارات الأسطورية من نوع "أم المعارك" فإنه دخل موسوعة الأرقام القياسية التاريخية فى العالم عندما استطاع أن يتحدى العالم بارتهان شعبه.. فقد جعل من عشرة ملايين عراقى ترساً له يحول دون الوصول إليه.

وهذا بالنسبة لأكبر دولتين (سوريا والعراق) أما الدول الأخرى فقد عادت إلى عهد الجاهلية وحكم شيوخ القبائل.. وأما السودان فقد فرقته الخلافات وحكم العسكر. عبود. نميرى. البشير كما جنت عليه الفكرة المغلوطة عن تطبيق الشريعة وأما ليبيا التى تدعى الحكم بالقرآن فإنها أصبحت أحق من مصر/ المتنبى فكم فيها من المضحكات "ولكنه ضحك كالبكاء.

أما بقية دول الشمال الأفريقى فهى ممزقة ما بين محاربة البذرة الخبيثة التى غرستها فرنسا "الفرنسة" التى كادت أن تؤدى بشخصية هذه الدول ويتمسك بها "حزب فرنسا" فى الجزائر وجنرالات جيشها، وما بين مشكلات الحكم والفساد والاستبداد وتجاهل العذل وكبت الحرية ..

فليس للحرية مكان فى العالم العربى ..

وكان لابد أن يتأخر العرب فحيث تقهر الحرية والإنسان.. يتقهقر الشعب.. ويتقوقع المجتمع..

z z

z

خُـلاصةُ القـول..

كان من الضرورى أن تبدأ دفاتر الإحياء بالحرية وذلك رداً على التساؤلات التى ذكرناها فى الصفحة الأولى. والحديث عن الحرية يعنى تعريف القارئ على مفردات الحرية واحداً بعد آخر. وأن نفرد فقرة لكل من حرية الفكر والاعتقاد وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية التنظيم النقابى وحرية المنظمات المدنية. وأخيراً حرية المرأة وإن تقوم كل فقرة منها بشرح المضمون، وبإشارة إلى بعض المشكلات التى تكتنف هذه الحريات ..

وكان من الضرورى أن نعالج تفاعلات الحرية مع ضرورات وأوضاع المجتمع والضوابط التى تتدخل لحماية الحرية نفسها. وكيف تشق الحرية طريقها أمام القانون والعرف وما هى عناصر الائتلاف والاختلاف ما بين الحرية والعدالة، وما يثار عما تحدثه الحرية فى المجتمع من بلبلة واختلاف.

وأخيراً جداً، كان علينا أن نعرف القارئ بالأعداء المطبوعين للحرية، أى الذين تجعلهم أوضاعهم أعداءً لها، كما تجعل مهمته السجان أن يغلق الأبواب. فتحدثنا عن العسكريين الذين يحكمون بأسنة الرماح، وفقهاء التقليد الذين يشلون الفكر والإرادة، وبالطبع الحرية وأخيراً دعاة الحكم الشمولى الذين يمدون سلطة الحكومة إلى كل مجالات الحياة، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا باحتكار السلطة، وهذا معناه وأد الحرية ...

وكان لابد أن نضع يد القارئ على "الدمّل" الممتلئ بالقيوح.. ليعرف حال الحرية فى الدول العربية.

وفى النهاية طالبنا كحل سريع بالعودة إلى دستور 23 لأن أى ترقيع أو إصلاح فى "دساتير الثورة‍‍" لا يمكن أن يجعلها توفر الحد الأدنى من الحرية المطلوبة ويتطلب وقتاً وجهداً ومالاً ثم لا نضمن تحقيق المطلوب فى حين إن حذف مادتين أو ثلاثة من دستور 23 المتعلقة بالملكية، وإضافة مادتين أو ثلاثة عن محاكمة الوزراء يجعل دستور 23 صالحاً .. ولو للبداية ...

- انتهى -

0 التعليقات:

إرسال تعليق