السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الثالث عشر: الدولة الإسلامية من التنظير إلى التطبيق

تعد التجربة التى قامت نتيجة لتحالف الإمام محمد بن عبد الوهاب مع حاكم نجد الأمير سعود فى السنوات الأولى للقرن التاسع عشر هى أولى تطبيقات تنظير الدولة الإسلامية. فقد أراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب القضاء على البدع التى تفشت فى عهده وكان أبرزها تقديس الأولياء والاعتقاد فى شفاعتهم فى الدنيا والآخرة. وبناء المآذن والقباب العالية فوق القبور فى المساجد – وارتأى كما ارتأى كل منظرى الدولة الإسلامية – أن السلطة هى التى يمكن أن تقضى على هذه البدع فتحالف مع الأمير سعود أمير نجد الذى آمن بالفكرة. ووجد إن إقامته الدولة على أساس الدعوة سيكفل لها الغطاء الفكرى وسيدعم قوتها المادية بقوة إيمانية ويعزز الحكم القبلى بدعم إيمانى. وباستثناء الدائرة الضيقة لما يتعلق بالشفاعة والأولياء والقبور الخ... فإن الفكر الوهابى لم يقدم شيئاً وقد عنيت الأجيال التى جاءت بعد محمد بن عبد الوهاب بشرح المذهب الحنبلى، ولكن ذلك لم يقدم جديداً بالنسبة لنظم الحكم.

وبسطت الدولة الناشئة حكمها على نجد واستطاعت أن تمد حدودها، ولكن السلطان العثمانى كلف محمد على والى مصر بأن يقضى عليها وأرسل محمد على ابنه النابه إبراهيم باشا الذى هزمهم وأعاد الحكم التركى.

ولكن الدعوة الوهابية عادت مع ظهور "الملك" عبد العزيز آل سعود الذى استطاع أن يهزم الأتراك ويستعيد حكم آل سعود ويتحالف مع بقية أسرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذين حملوا اسم "آل الشيخ" حتى يكفل لدولته الغطاء الإسلامى – كما كان الحال فى البداية الأولى.

ونجح الملك عبد العزيز بفضل صلابته، وذكائه – فى السيطرة على شبه الجزيرة ووحد مقاطعاتها من نجد حتى المدينة وجده ومكة. وأعلن نفسه ملكاً وأطلق على الدولة اسم "السعودية" فابتدع شيئاً لم يحدث منذ أن أُطلق اسم المستعمر البريطانى رودس على روديسيا فى أفريقيا. وكانت الإضافة التى قدمها إلى "آليات" العمل السياسى أن صاهر معظم القبائل وبهذا اكتسب رضاها وتأييدها وأنجبت له زوجاته قبيلة صغيرة من "الأمراء" أصبحوا هم الذين يتولون إدارة الدولة. وأصبح الحكم قبيلياً بمعنى الكلمة ولم يكن للإسلام دخل إلا فى مجال الحرص على العبادات والحفاظ على الشكليات وتطبيق الحدود.. ومع أن الظروف كانت مواتية للسعودية، إذ أنها بعيدة عن بؤر الصراع التى أثقلت المنطقة العربية (مثل إسرائيل والصراع بين سوريا والعراق الخ...) وأن البترول اكتشف فيها بكميات تفوق أى منطقة أخرى فى العالم. وأن هذه الثروة التى جاءت بها الأرض القاحلة تضاعفت أضعافاً مضاعفة مع حرب رمضان 1973 بحيث صعد ثمن البرميل من أربعة دولارات إلى أربعين دولاراً.. فإن نظام الحكم لم يتغير فمجموعة الأمراء من أبناء عبد العزيز.. وأبناء أبنائهم هم الذين يحكمون بمقتضى هذه الوراثة، وقد حققت الدولة إحدى علامات القيامة، فقد أصبحت مبانى رعاة الشاه والبعير تناطح السحاب. ورغم كل مظاهر التقدم المادى والاستهلاكى، فلا تزال أعراف القبائل سائدة، ولا تُعرف مؤسسات الحكم، ولا حريات الفكر، أو تكوين أحزاب أو نقابات أو دور سينما أو مسارح ولا تزال المرأة منقبة معزولة عزلاً حديدياً عن الرجال فهى فى الحقيقة جاهلية الواقع إسلامية المظهر.

وقد حرصت القبيلة الملكية الحاكمة على تعليم أبنائها فى الجامعات الأمريكية لاكتساب المهارات والامتياز الأدبى، ولم يخش المسئولون من أن يكون هؤلاء دعاة ثورة على الوضع، أو حتى تجديد، لأنهم بمجرد عودتهم يتم استقطابهم وتعيينهم فى المراكز والمناصب ويمنحون المهايا العالية والمزايا المتعددة بحيث يرتبطون بالعهد، ويدافعون عنه، وبذلك يكتسب العهد بهم قوة جديدة.. وتمويها ثقافيا.

وهذه هى حال أقدم وأعرق تجارب الدولة الإسلامية ...

وقد يرى البعض أنه لم يكن فى الإمكان أفضل مما كان بالفعل، وأن هذه المنطقة لها حساسيات خاصة لا توجد فى أى مكان آخر باعتبارها مقر الحرمين ومهد الدعوة الإسلامية، وأن ما يوضع للإصلاح فى دول قد لا يتلاءم تماماً مع "السعودية"، وأن القيادة السعودية لا تخلو من حسنات وهذه كلها اعتبارات يجب أن توضع فى حسباننا، ولكن حتى لو أخذنا بها. فلابد من تطوير وهى المهمة التى تناط بالعناصر المثقفة التى يتوافر فيها الثقافة الحديثة والإيمان بالإسلام. والزمن جزء من العلاج.

f

كانت باكستان مهيأة لتكون دولة إسلامية. فقد قامت لغاية هى أن يكون للأغلبية الإسلامية فى الهند حرية إدارة شئونهم وعقائدهم فلا يخضعون لتحكمات الأغلبية الهندوسية التى طالما أعربت عن عداوتها للإسلام. وكان فى باكستان الدكتور محمد إقبال الذى جسد العاطفة الإسلامية الحقه.. وصاغها فى شعر رقيق.. كما كان هناك الأستاذ أبو الأعلى المودودى وهو غارس بذرة "الدولة الإسلامية" فى العصر الحديث.. مع هذا كله لم يحدث أن أصبحت باكستان دولة إسلامية حقاً، ولم يحدث أن ولى الجناح الإسلامى الحكم، فعندما جد الجد لم يكن لدى هؤلاء ما يقدمونه لإدارة الدولة الجديدة وتقلدت "الانتلجنسيا" المثقفة ثقافة أوربية والتى مارست العمل السياسى والمناصب فى الهند فى عهد الاستعمار البريطانى زمام الأمور وأظهرت تجربة الباكستان أن من المستحيل أن تقوم دولة فى العصر الحديث على أساس تجاهل هذا العصر الحديث تماماً والعودة إلى عهد الأسلاف السعيد.. كما ظهر أنه لا يكفى الأخذ بوسائل الحياة العصرية دون تفهم روح العصر الذى أوجد هذه الوسائل. إن عكوف المنظرين الإسلاميين على كتب الفقهاء القدامى وحدهم، وعدم إطلاعهم وتعاملهم مع نظم السياسة فى العصر الحديث، وما قدمته الحضارة الحديثة من تطورات وما يحفل به العصر الحديث من آليات جعل الطريق أمام تكوين دولة إسلامية فى العصر الحديث مسدوداً وكل المحاولات للف حول هذا السد أو تسور الجدار محاولات غير سليمة وغير طبيعية وتأخذ طابع التحايل، وكيف يمكن أن يتقلدوا زمام الأمور فى عصر يتنكرون له ويريدون الانفلات منه. وهل يعنى هذا إلا الانتحار ؟

وفى الحقيقة فإن الصورة التى أخذتها "الجماعة الإسلامية" تطبيقاً لفكر السيد أبو الأعلى المودودى – ما كان يمكن أن تصل إلى أغلبية الشعب. فرغم الحماسة الكبيرة للإسلام لدى الباكستانيين – فإن افتراض مستويات فى الإيمان والسلوك يصعب على عامة الناس التمسك به مع تجاهل قضايا العصر حال دون أن يحقق الأغلبية. وما عجزت الدعوات الإسلامية عن فهمه أن التجاوب العاطفى الإيمانى للجموع مع الإسلام لا يكفى وحده لتحقيق انتصار فى العمل العام، فحتى فى العهد الإسلامى الأول، وجد من يقول "سيوفهم مع معاوية وقلوبهم مع على". فيمكن جداً للرجل العادى أن يكون متحمساً للإسلام مؤديا للفروض الدينية من صيام وصلاة. ولكنه مع هذا لا ينضم إلى الجماعة الإسلامية التى تعزله عن المجتمع ونشاطاته وتحول بينه وبين ممارسة هوايات أو الاستمتاع بفنون أو آداب. وهكذا فإن المعايير التى وضعتها الجماعة الإسلامية للعضوية والتى تقوم على أساس إيمانى "سلفى" وثيق حال دون أن تصل العضوية إلى الأغلبية. وحال بالتالى أن تصل إلى الحكم.

ومنذ أن ظهرت باكستان والحكم قسمة ما بين أحزاب يرأسها أفراد يمثلون البورجوازية الغنية أو الأسر الإقطاعية القديمة فى حزبى الرابطة الإسلامية وحزب الشعب وهذه النخبة تدير البلاد إدارة متأثرة بالنظم والتقاليد البريطانية فى الإدارة، والسياسة والفهم الحضارى... ولما لم يكن لهذه النخبة قاعدة شعبية أو أصول حضارية حقيقية عصرية، أو إسلامية، فإن الحكم أخذ الطابع الانتهازى والمهاترات الحزبية والأطماع والغنائم الخ... وقد تولت مع هذا الحكم لأن لديها الخبرة بآلياته ونظمه وإن لم تكن لديها الأغلبية الشعبية، ولا لديها الإيمان... وعندما كان يظهر فسادها، فإن الجيش كان يتدخل، وليس بأفضل منها.. وهكذا قضى على هذه التجربة فى الحكم الإسلامى فى أن تدور فى هذه الحلقة ..

f

وتعرض لنا حكومة "طالبان" أشد محاولات إقامة الدولة الإسلامية بؤساً وتعاسة، رغم إنها تصورت أنها أكثر المحاولات قرباً إلى المثل الإسلامى وأكثرها اتباعاً للسُنة النبوية وهى دليل لا يدحض على فشل دعاوى تكوين دولة إسلامية تدعى إنها تحذو حذو الخلافة الراشدة بما فى ذلك تقشف حاكمها وتسميته بأمير المؤمنين.

ونحن لا نقول هذا لأن العهد لم يطل بها نتيجة للعدوان الأمريكى. ولكننا نقوله لما أخذته من انعزال عن العالم واستغراق فى الماضى، وجهل بالقيم الحقيقية التى نزل بها القرآن من حرية وعلم ومساواة واستسلامها للأحاديث الضعيفة بحيث لم تعد دولة الإسلام ولكن دولة الجلباب واللحية.

لقد كان وجودها بلاءً، وكان القضاء عليها بلاءً. وما بين الدعوة لقيامها، والعمل للقضاء عليها تتبدد جهود الأمة الإسلامية وتتعقد أوضاع المجتمع وتنفتح فرصة للتدخل الخارجى ..

f

يعرض لنا السودان صورة جديدة. فقد ظهرت دعوة الإخوان المسلمين فى السودان على يدى الطلبة السودانيين الذين درسوا فى القاهرة وانتموا إلى الإخوان. وظهر بينهم وتعلم على أيديهم فنون الدعوة الدكتور حسن الترابى وفى مرحلة لاحقة استكمل حسن الترابى دراساته الأكاديمية ما بين لندن وباريس وحصل على أعلى الدرجات العلمية وجعلته هذه الثقافة، بالإضافة إلى ذكائه، وطموحه، يضيق بدعوة الإخوان. ويؤسس تياراً جديداً حمل أولاً اسم "جبهة الميثاق الإسلامى" ثم بعد هذا جبهة الإنقاذ واستقطب أعداداً كبيرة من الجمهور السودانى. ووصل فى الدولة إلى منصب "النائب العام" وتعامل بذكاء مع السلطة والهيئات الأخرى. وبدا كما لو أنه يمكن أن يكون المفكر الرئيسى المنشود. ولكن عمله التنظيمى حال دون ذلك وإن كان المدى الذى وصلت إليه حركة الترابى فى السودان جاوز من الناحية التنظيمية والفكرية ما عداه، ليس فحسب فى السودان – بل فى دول إسلامية أخرى.. وإن كنا نرى أن الدكتور الترابى لم يذهب إلى المدى الواجب فى التجديد، وأنه لم يؤصل هذه التجديدات بما تتطلبه ويستحقه، إذ من الواضح أنه لا يكفى لتجديد أصول الفقه الإسلامى رسالة من ثمانين صفحة. مع هذا فإن ما دعا إليه بالفعل كان أكثر مما يمكن أن تتحمله الدوائر السلفية فى السودان التى ثارت عليه واعتبرته من الذين انحرفوا عن "السُنة والجماعة" وكتب أحدهم كتاباً "مناقشة هادئة لبعض أفكار الدكتور حسن الترابى"[67] عاب عليه فيه زعمه أن العقيدة يجب أن لا تكون سلفية ولا كلامية ورفع شعار التجديد دون تحديد مفهومه مما جعل من سمات هذا التجديد التلفيق والسلبية ورد كثيراً من السنن لا تفه الأسباب واعتباره أن الصحابة ليسوا كلهم عدولا والتشكيك فى أصول المحدثين وتقسيم السُنة إلى تشريعية وغير تشريعية وتجديداته فى مجال المرأة بما فيها مصافحة الرجال الأجانب والاختلاط والسفر دون محرم وعملها الخ... وختم كتابه بالإشارة إلى وجود "لوبى تجديدى – حركة ثورية فلسفية صوفية ويزعم المؤلف أنها "ظهرت فى عام 1978 وهى حركة سرية تعمل وفق برنامج معين وخطط مدروسة وبخطى محسوبة وأن دستورها يقوم على (أ) المصدر الأول لثقافة الحركة التجديدية هو القرآن الكـريم وأن التفسـير السليم بالأكثار من التلاوة وتستبعد كـل كتـب التفسير التراثية. (ب) المصدر الثانى السُنة وتعتمد على صحيح البخارى ومسلم. وأنها تستبعد الكتب التراثية – باستثناء – مقدمة ابن خلدون ومدارح السالكين لابن القيم الجوزية، وتحبذ كتابات المجددين ونسب. إحد دعاة هذا اللوبى إلى الدكتور الترابى أنه قال – بالنسبة لعصمة الأنبياء أن الرسول فى بشريته كمثل أى دينكاوى !

ومن الواضح أن هذه التجديدات كلها – باستثناء السطر الأخير – هو مما لا غبار عليه، بل هو جزء من حركة التجديد الإسلامى وأن دعوة "الإحياء الإسلامى التى ندعو إليها جاوزت هذه التجديدات كثيراً. على كل حال كان للدكتور الترابى أن يقر عينا بما وصلت إليه دعوته وأن يأمل لها التقدم والازدهار وأن ترسخ قواعدها فى المجتمع السودانى ما ظل يوجهها من على منبر المرشد – المربى. لولا إن ذكاءه الحاد رما به إلى السلطة.. وتعجل التوصل إلى "الحكم الإسلامى" وأدى به هذا التعجل لأن يصل إلى السلطة بطريقة ملتوية هى التحالف مع عدد من ضباط الجيش من أعضاء الجبهة للقيام بانقلاب عسكرى لا يحمل اسم الجبهة من قريب أو بعيد، ولكن يدعى "الإنقاذ" ويصل التمويه إلى درجة يعتقل الانقلاب الترابى نفسه مع من اعتقله من الشخصيات السياسية ..

وبعد فترة طالت أو قصرت اتضحت الحقيقة. وخرج الترابى من المعتقل ليشترك مع قائد الانقلاب فى السلطة، ولكن هذه الثنائية خاصة مع طموح الترابى لأن يكون الرجل الأول ما كان يمكن أن تستمر فنشب الخلاف بينهما. وفى هذه الجولة كان القائد العسكرى أقدر على الحسم من الزعيم الفكرى فاعتقل الترابى – هذه المرة بحق – ولعله عومل معاملة سيئة وقام صراع مرير ما بين رئيس الدولة "البشير"، وبين زعيم الدعوة الذى فقد كثيراً من أصوله نتيجة لأن السياسة الانتهازية والسلطة لوثته بأوزارها وأدخلت عاملاً غريباً على مناخ الدعوة. ودفعته لأن يمد يده ويصافح أعدى أعداء الإسلام وعميل أمريكا وإسرائيل والمنادى بتقسيم السودان وفصل جنوبه عن شماله "جارنج". بعد أن كان يجند الشباب لمحاربته.

وظهر أن الصراع مع البشير لم يكن حول الدين، أو الدولة، ولكن على السلطة كما أعلن ذلك صراحة أحد كبار أعوان الترابى.[68]

وهكذا خسر الترابى الدعوة.. ولم يكسب السلطة، على أنه لو استعاد السلطة لما زادته إلا فساداً ..

وهو المصير الذى لابد وأن ينتهى إليه كل داعية إسلامى يستهدف السلطة أو حتى يصل إليها. لأنه عندئذ يكون قد انتهى تماماً كداعية وسيأتى الدور عليه كحاكم ..

وفى الوقت نفسه فشلت تجربة "الدولة الإسلامية" فى السودان، بل كانت محاولة "تطبيق الشريعة" سببا فى اشتعال الحرب الأهلية التى قد تؤدى إلى تقسيم السودان ..

f

فى سنة 1830 بدأت فرنسا غزوها الجزائر، وقامت حروب ومناوشات عديدة بينها وبين السيد عبد القادر الجزائرى الذى قاد مقاومة مجيدة وأن انتهت بانتصار الفرنسيين بعد أن ضيقوا الخناق عليه. وعمل الفرنسيون من الأيام الأولى للقضاء على عروبة وإسلام الجزائريين باعتبارهما المقومين اللذين يحفظان الشخصية الجزائرية ويعزلانها عن فرنسا، فهدمت المساجد أو حولت إلى كنائس وحوربت اللغة العربية، ومنع التحدث بها وفرضت اللغة الفرنسية على المدارس. واستقدموا أعداداً كبيرة من الفرنسيين أعطوهم الأرض التى انتزعوها من العرب، فضلاً عن تسليمهم زمام الصناعة والتجارة، وعندما احتفلت فرنسا بمرور مائة سنة 1930 على احتلال الجزائر، ظنت أنها قد نجحت فى استلحاق الجزائر بفرنسا والقضاء على شخصيتها العربية/ الإسلامية واستنسخت جيلاً فرنسياً من الجزائريين. وفى هذا الوقت ظهر الشيخ عبد الحميد بن باديس وهو مسلم عريق من بربر صنهاجة الأشداء وكون جمعية العلماء.. وأخذ يؤسس الكتاتيب التى تعلم القرآن كما أخذ يدرس فى المساجد الباقية. وأخذ يحيى الرميم وينفخ فى الرماد حتى استطاع أن يعيد للجزائر شخصيتها وهويتها وأن ينشد نشيده ...

"شعب الجزائر مسلم

وإلى العروبة ينتسب"

فعادت الحركة الوطنية إلى الظهور وبدأت المناوشات والمصادمات ما بين الشباب المؤمن بدعوة بن باديس، وما بين بوليس الدولة المحتلة وجيشها. وظهرت مجموعة حملت اسم هيئة التحرير أشرفت على تنظيم المقاومة وبذلت الجزائر فى حربها تلك مع الاستعمار قرابة مليون شهيد حتى قدر لها فى النهاية الانتصار.

رغم أن الذى بدأ الحركة كان شيخاً، وأنها حملت الشعار الإسلامى وأن الجهاد كان روح القتال ما بين الجزائريين والفرنسيين، إلا أن الذى قطف الثمرة كان هيئة التحرير التى ضمت بضعة من الشباب الثائر بزعامة بن بيلا دون أن يكون لهم تأسيس إسلامى خاص. وعندما آلت السلطة إليهم بدت ظواهر التخبط ثم الفساد وحدث صراع داخل المجموعة أدى إلى إقصاء بن بيلا وظهور هوارى بومدين، ثم ورثته مجموعة فاقدة للمواهب والإخلاص. وتعددت الصراعات ما بين السلطة وبين المجموعة الإسلامية التى أخذت تنهض وتلم شعثها فى "جبهة الإنقاذ" برئاسة الشيخ عباس مدنى والشيخ على بلحاج.

وفى الوقت نفسه عرف الشعب فساد النخبة الحاكمة، واشتهرت فضائحها المالية التى زكمت الأنوف وقدم هذا دعما سلبياً لحركة "الإنقاذ" بحيث أنها فى الانتخابات البلدية سنة 1990 حازت أغلبية المقاعد، وأصبح واضحاً أنها ستنال الأغلبية فى الانتخابات السياسية العامة. فتحرك الجيش وقمع الحركة وزج بزعمائها فى السجون وأجهضت حركة من أكبر حركات العمل السياسى الإسلامى وُضرب عرض الحائط بكل المبادئ الديمقراطية.

ولكن رب ضارة نافعة ..

فلو ترك الأمر لها، ولو تقلدت زمام الأمور لعجزت عن إدارة الدولة.

ذلك أن جبهة الإنقاذ كانت بناء تراكميا ضم العناصر المتشنجة من أنصار "الجهاد" وأئمة المساجد، والإخوان المسلمين وأمشاجاً من المتجاوبين مع الفكر الإسلامى دون نظرية موحدة ولم يكن لديها "كوادر" تنهض بإدارة الدولة ..

f

وفى مصر لم يكن الإخوان المسلمون بعيدين عن الحكم لو أحسنوا التعامل مع انقلاب 23 يوليو ولكنهم فرطوا فى حقهم عندما تقدم جمال عبد الناصر طالبا تأييدهم ثم أضاعوا بسذاجتهم – الفرصة السانحة – أو كما قال مؤرخ الإخوان "فرصة الفرص" فى أزمة مارس 1954 وكان عليهم أن يدفعوا الثمن لأن هذا الموقف أضاع على البلاد – وليس على الإخوان فحسب فرصة تعديل مسار انقلاب 23 يونيو وإنهاء سيطرة العسكر.. وقد كان يمكن تفادى وقوع هزيمة 1967 التى أخرت المنطقة كلها مائة سنة إلى الوراء.

واحتدمت العداوة ما بين الإخوان المسلمين فى سوريا ونظام حزب البعث، وحمل شنآن العداوة طاغية سوريا حافظ الأسد لدك حماة (ثالث المدن السورية) بالمدافع والطائرات. وسن قانون يقضى بعقوبة الإعدام على كل من ينتمى إلى الإخوان المسلمين فى سوريا وتكررت فى سوريا مأساة تعذيب الإخوان فى سجون عبد الناصر.

f

ولعل أشد فصول هذه المأساة مأساوية هو ما حدث فى تركيا عندما فاز فى الانتخابات حزب له اتجاهات إسلامية على رأسه مهندس مثقف واسع الأفق تعلم فى ألمانيا ولا يمكن أن تعلق به شائبة تعصب أو جهالة. ومع هذا تحرك الجيش – كما لو كان جيش أوربا – وليس جيش تركيا لتحريم الحزب.

فى حالة الجزائر وتركيا كان تدخل الجيش انتهاكاً صريحاً لكل المبادئ الديمقراطية وإحلالاً لحكم عسكرى محل نظام ديمقراطى اختاره الشعب ومع هذا أيدت الدوائر الأوربية والأمريكية هذا التصرف. إن لم يكن قد أوعزت به.[69]

f

التجربة التى تستحق أن نقف أمامها طويلاً هى تجربة إيران.. ليس فحسب لأن ما حدث فيها كان ثورة بالفعل، ولأنها رزقت قائداً اكتسب محبة قلبية من شعبه تصل إلى القداسة. ولا لأن إيران نفسها دولة كبيرة بالثروة البشرية والطبيعية.. ولكن أهم من هذا كله هو أنها الآن تجابه المشكلة الرئيسية التى ستجابه كل دعاة الدولة الإسلامية. ألا وهى كيف يمكن الجمع بين الدولة الدينية والدولة المدنية فى وقت واحد. كيف نوفر للدولة المقوم الإسلامى، وفى الوقت نفسه تستطيع أن يجابه بفاعلية قضايا العصر.

وحاول الدستور الإيرانى أن يجمع بين المتناقضات فالمادة الرابعة تنص "يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها. هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى إطلاقاً وعموماً. ويتولىّ الفقهاء فى مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك."

وفى الاتجاه نفسه تنص المادة الخامسة "فى زمن غيبة الإمام المهدى (عجل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة فى جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقى. البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير وذلك وفقاً للمادة (107).

وهذه الصياغة توحى بأن هذا الفقيه هو نائب أو وكيل الإمام المهدى حتى وإن لم تنص صراحة على ذلك كما أن كتابات الخمينى التى يمكن أن تعد "مذكرة تفسيرية" لنصوص الدستور تعتبره كذلك.. وسلطة الإمام فى المذهب الشيعى ليست فحسب مطلقة، بل ومقدسة أيضاً ..

"وتنص المادة 12 "الدين الرسمى لإيران هو الإسلام والمذهب هو الجعفرى الاثنى عشرى وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابله للتغيير". نقول إن هذه الصياغة تدل على مدى تمسك واضعى الدستور وما قد يجبره هذا إلى تحكم فى وضع الحريات والحقوق.

وأجازت المادة لأصحاب المذاهب الستة أداء مراسمهم حسب فهمهم.

وهناك نص فى المادة 16 "بما أن لغة القرآن والعلوم والمعارف الإسلامية هى العربية، وأن الأدب الفارسى ممتزج معها بشكل كامل، لذا يجب تدريس هذه اللغة بعد المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية فى جميع الصفوف والاختصاصات الدراسية."

وإيراد مثل هذا النص فى الدستور ينم عن حرص إيران الإسلامية على العربية. وهو أمر يجب أن يكون محل تقدير. ويبقى أن تنفذ المادة ..

ويقرر الدستور الحريات المدنية – كما تقررها الدساتير الأخرى لكنه يضيف فى آخر كل مادة يقرر فيها هذه الحرية "ما لم يخل بالقواعد الإسلامية والحقوق العامة" أو "بشرط أن لا تناقض أسس الاستقلال والحرية والوحدة الوطنية والقيم الإسلامية". أو "بشرط أن لا تكون مخلة بالأسس الإسلامية". وهذه التحفظات حاصرت حريات الصحافة. والاجتماع والأحزاب. ومكنت السلطات من الافتيات عليها.

وفى الفصل الخامس من الدستور وهو عن "سيادة الشعب والسلطات الناشئة عنها" تنص المادة 57 "السلطات الحاكمة فى جمهورية إيران الإسلامية هى: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وتمارس صلاحيتها بإشراف ولى الأمر المطلق وإمام الأمة وذلك وفقاً للمواد اللاحقة فى هذا الدستور، وتعمل هذه السلطات مستقلة عن بعضها بعضاً."

والنص لا يحتاج إلى شرح وهو يجعل أزمة القيادة كلها فى أيدى "ولى الأمر وإمام الأمة."

وتنص المادة 64 على أن عدد نواب مجلس الشورى – وهو السلطة التشريعية – التى تنتخب من الشعب مباشرة هو 270 نائباً، ويمكن إضافة عشرين عضوا كحٍد أعلى كل عشر سنوات.

ومع أن سلطات مجلس الشورى هى سلطات مجالس النواب أو البرلمان فى الدول الأخرى أى سن القوانين فهناك تحفظان هامان الأول: ما نصت عليه المادة 72 "لا يحق لمجلس الشورى الإسلامى أن يسن القوانين المغايرة لأصول وأحكام المذهب الرسمى للبلاد أو المغايرة للدستور، ويتولى مجلس صيانة الدستور مهمة البت فى هذا الأمر طبقاً للمادة السادسة والتسعين من الدستور." والتحفظ الثانى: أن ما يتخذه المجلس من قرارات أو قوانين لا تكون نافذة إلا بعد موافقة مجلس صيانة الدستور عليها وهذا المجلس يتكون من ستة أعضاء من الفقهاء العدول العارفين بمقتضيات العصر وقضايا الساعة ويختارهم القائد، ثم ستة أعضاء من الحقوقيين المسلمين من ذوى الاختصاص فى مختلف فروع القانون يرشحهم رئيس السلطة القضائية ويصادق عليهم مجلس الشورى. والستة الأول هم الذين يملكون وحدهم حق التصويت فى مجلس صيانة الدستور. أما أعضاء الفئة الثانية فيستطيعون التصويت بجانب الفقهاء إذا ما بحثت قضية تماشى قرارات المجلس مع الدستور، وتكون الأغلبية فيه بتسعة أصوات من أثنى عشر مما يظهر أن ذلك يعنى أن لا تصدر قرارات لا تحظى بأغلبية الأعضاء الستة من الفقهاء وفى هذه الحالة تكون الغالبية المطلوبة هى ثلاثة أرباع عدد أعضاء المجلس، كما نصت المادة 98 من الدستور، أى تسعة أصوات من أصل اثنى عشر صوتا. وليس خافيا أن شرط غالبية التسعة هو يضمان تمثيل الأعضاء الستة من الفقهاء، الذين نصبهم الدستور قيمين وأوصياء على أحكامه. ولأعضاء "مجلس صيانة الدستور" الحق فى فحص "صلاحية" المرشحين لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية، واستبعاد من يرونه "غير مستوفى للشروط"، بالاستناد على عدة معايير منها المنطلقات الفكرية للمرشحين، وبالأخص الإيمان بولاية الفقيه، والالتزام بخط الإمام وهو ما حدث مع مرشحى التيار الوطنى الليبرالى الذين استبعدوا من انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1997، أو فى انتخابات البرلمان الأخيرة.

وبعد هذا كله فإن المادة 93 تنص على أنه "لا مشروعية لمجلس الشورى دون وجود مجلس صيانة الدستور عدا ما يتعلق بإصدار وثائق عضوية النـواب وانتخـاب ستـة أعضاء حكوميين لمجلس صيانة الدستور" ..

وعلى نقيض هذا التضييق على مجلس الشورى بل ومحاصرته نجد التوسع بالنسبة للقائد فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة وهو الذى يعلن الحرب والسلم والمعاهدات ويقوم بتعيين السياسات العامة للجمهورية والإشراف على حسن إجراء السياسات العامة للنظام وعزل رئيس الجمهورية بعد صدور حكم من المحكمة العليا.

وعلى هذا، فافتراض وجود صراعات ما بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور لا مناص عنه، وقد حدث بالفعل مرات عديدة مما أدى بالمرشد إلى تشكيل مجلس جديد للفصل ما بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور هو "مجلس تشخيص" مصلحة النظام ..

ولكن المشكلة أن تكوين هذا المجلس الجديد له الطبيعة المزدوجة التى لا تجعله قاضيا موضوعياً بمعنى الكلمة. إنه عادة ما يغلب الجانب الفقهى التقليدى.

إن أفضل ما على الساحة الإيرانية اليوم أن رجلىَّ القيادة فيها – المرشد على خامئنى ورئيس الجمهوريين خاتمى يتسمان بالوطنية والاتزان وأن كل واحد منهما يعلم أن الآخر على شعبة من الحق، وأن المطلوب هو إيجاد التوازن بين تيار "ولاية الفقيه" وبين تيار ولاية الشعب. إن الخمينى نفسه وهو الذى أبدع ولاية الفقيه كان شاعراً تماماً بقوة الشعب وأنه هو الذى حمله إلى الحكم وهزم أكبر قوة عسكرية أمضى الشاه حياته فى تزويدها بالسلاح وتنشئتها على الطاعة. كما أن خامئنى شاهد كيف أن الجماهير خاصة الشباب والنساء أعطت خاتمى أغلبية كاسحة فى الانتخابين الأخيرين. من ناحية أخرى، فإن خاتمى نفسه ليس بعيداً عن الحوزة وعالم القيم وهو يؤمن بأن الدولة الإيرانية دولة إسلامية.

إن كلا من الخامئنى وخاتمى يؤمنان بضرورة التوصل إلى الحل، ولكنهما يحذران تجربة جورباتشوب فى الاتحاد السوفيتى ولكن هذا هو ما سيحدث بالفعل إذا لم تتم تسوية الأمور وقد حدثت حوادث عديدة أدت إلى توترات عنيفة، وثارت فيها الجماهير، وبوجه خاص الطلبة والنساء، وكان منشئوها جميعاً التضييق على مجلس الشورى من قبل مجلس صيانة الدستور وهيمنة السلطة القضائية وإصدارها أحكاماً على الإصلاحيين، وكان آخرها ما حدث عندما حكمت إحدى المحاكم الدينية على المفكر الإيرانى هاشم أغاجرى بالإعدام لأنه دعا الناس إلى عدم تقليد الشيوخ كالقرود. إذ تعددت إضرابات الطلبة، وقرأ فى أحدها حفيد آية الله منتظرى رسالة من جده – الذى رشحه الخمينى لخلافته، ثم أعفى منها، يؤيد فيها الطلبة، وظلت المظاهرات مستمرة من 9 نوفمبر سنة 2002 واضطر المرشد على خامئنى لأن يلقى بنفسه خطبة الجمعة، وأن يدعو التيارات المتنازعة للاتحاد ومندداً بالمظاهرات.. كما قام "الباسيج" وهم المليشيا الإسلامية التى تتبع المرشد بمظاهرات مضادة. وهى الهيئة التى طالما تدخلت لإجهاض مظاهرات الطلبة، وندد على أكبر هاشمى رافسنجانى الرئيس الإيرانى السابق، ورئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام بحركة احتجاج الطلبة ودعا الباسنج إلى الحذر وقال "إن الشيطان أرسل لتدمير النظام الإسلامى وأن ما يحصل اليوم أشبه بأولى سنوات الثورة عندما أتحد المنافقون والليبراليين وأضاف أن الذين يطلقون شعارات معادية للباسيج فى الشوارع هم ضد الأمن لأن كل واحد يعرف أن انعدام الأمن سيسود دون الباسيج، ولم تهدأ الإضرابات إلا بعد أن قيل أن المحكمة ستعيد النظر فى حكمها. وإذا كانت هذه الأزمة قد حلت بهذه الطريقة، فقد لا يحدث هذا فى أزمات لابد أن ستحدث، ما دام القضاء وسلطة المرشد على ما هى عليه خاصة بعد أن هدد كبار المسئولين من الإصلاحيين بالاستقالة من منصبهم إذا واصل القضاء عرقلة الانفتاح الإصلاحى للشعب بعد أن أصبحت السلطة القضائية كرقابة ثقيلة على أعمال مجلس الشورى فى صورة اتهام عدد كبير من أعضائه بلغ ستين عضوا بمختلف اتهامات ازدراء السلطات أو عدم الانفاق مع خط الإمام الخ... مستغلة المادة 30 من الدستور التى تجعل المواطنين جميعاً سواء أمام القضاء وظفرت بعض القضايا مثل محاكمة وزير الثقافة بشهرة وأثارت دويا.

لقد آن للمرشد وللقضاء ولآيات الله فى حوزاتهم، وفقهاء المذهب أن يعلموا أن إرادة الأغلبية العظمى للشعب التى جاءت بخاتمى والتى تؤيد الإصلاح يجب أن يكون لها الأولوية إنها الحقيقة الإنسانية.

وحتى تصل إيران إلى الحل الإسلامى الأيدلوجى فإنها ستظل مهددة بالانشقاق، وبأن يحدث فيها ما حدث فى الاتحاد السوفيتى، وقد تجد إيران الحل. عندما ما تستكشف أن حكم الفقيه، ومعه أحكام علماء المذهب السابقين ليست هى على وجه التعيين حكم الشرع، وإنما هى اجتهاداتهم فى فهم حكم الشرع وهذا ما يفتح باباً للتأويل، وللاجتهاد وللرأى الآخر، وكتب الفقهاء حافلة بوجوه الاختلاف فيما بينها. وإذا كان الفهم المتحفظ – فيما يظنون – يعمل لحماية النظام فإنه يصيبه بالجمود والشلل ويضعه فى نفق مسدود مظلم فى حين أن مخاطر الانفتاح أقل من مخاطر الانغلاق. وما دام التأويل يسمح بالانفتاح فلن يكون فى هذا مخالفة أصولية – وهناك شواهد عديدة من القرآن والسُنة على ذلك، وقد اعتبر بعض الفقهاء أن الإجماع يقضى على الكتاب نفسه من ناحية أنه يمثل فهم الأمة للكتاب. فإذا كان من الصعب أن تجتمع الأمة على ضلالة. فإن للأغلبية الكاسحة هذا الحق ولو من باب الترجيح.

إن ارتباط التجربة الإيرانية الشديد بالمذهب الجعفرى والدولة الإسلامية التى يحكمها إمام معصوم، أو من ينوب عنه. ولأن رمز الثورة وروحها كان أحد آيات الله الكبار وضع الثورة وجها لوجه أمام المعادلة الصعبة: معادلة الحفاظ على المضمون الإسلامى وفى الوقت نفسه كفالة الحرية والمرونة اللازمة لمضى عمل الدولة تجاوبا مع إرادة الشعب خاصة الشباب والمرأة الذين يمثلون المستقبل وتحقيقاً لمقتضيات العصر الحديث.

إن الإمام الخمينى، ولم يكن ينقصه الذكاء ولا الحاسة السياسية كما لم يخل من العاطفة الحارة التى تربطه بشعبه، لم يدق عليه هذا، ولكن لم يكن ممكنا له أن ينقض البناء الذى قام عليه المذهب الجعفرى أو يخل بأركانه، فقد حاول إجراء توازن ما بين عمل مدنى وسياسة دينية يقوم بالأولى رئيس الجمهورية ويقوم بالثانى مرشد الثورة. وهو بالطبع أحد آيات الله.

وإذا كان الإمام الخومينى قد قاد بنجاح الثورة، فمن المحتمل أن تؤدى سياسته إلى فشلها. لأنه رفض من البداية أن تكون إيران "جمهورية إسلامية ديمقراطية" ورفض تشكيلاً واسعاً لجمعية دستورية تقدم دستوراً لا يضع السلطة فى أيدى الفقهاء، ورفض السماح بوجود قناة للمعارضة والانتقاد، وهى الفكرة التى تقدم بها آية الله العظمى شريعة مدارى على ما رواه وزير الأمن محمدى الرشتهرى عندما بدت بوادر أزمة المنتظرى "يجب أن يفتح الإمام قناة لانتقاد المجتمع والحكومة وإصلاحها. أن الشيخ المنتظرى يطرح أموراً ضرورية جداً مع أنه ينقل بعض الأحاديث التى ليس لها كثير اعتبار ولكن بشكل عام جيد ويجب أن يسمح له الإمام بأن يطرح كلاماً جيداً وبناءً."[70] ولكن شريعة مدارى نفسه عندما قال هذا كان فى منزله الخاص تحت المراقبة فى ما يتعلق بقضية قطب زاده. وقد وضحت صلابة الخمينى فى رفض المعارضة بعزله آية الله منتظرى وقد كان كما قال الخمينى عنه "حصيلة عمرى وقلبى يدمى من أجل مصلحة النظام والإسلام". وحدث هذا كله لأن إيمانه العميق بالفكرة الشيعية جعله يغلب ولاية الفقيه على ولاية الشعب الذى قلده القيادة، وكان يجب – منطقياً – أن يكون إيمانه به أكبر من أى إيمان آخر. ولم يكن ليعدم من الحوزة نفسها من يناصره.

ولعل أول خطوة نحو الحل أنه عندما تصدر المحاكم (حتى لو كانت المحكمة الدستورية العليا – أو أى هيئة أخرى) أحكاماً تخالف السياسة التى أقرها مجلس الشورى – يكون من حق مجلس الشورى إستفتاء الشعب باعتبار أن إرادة الشعب تمثل الإجماع – أو الأغلبية التى لها حكم الإجماع. فإن قرار الشعب يكون له حجية أصولية خاصة إذا لاحظنا ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن الإجماع يقضى على القرآن، باعتباره يمثل فهم الشعب المسلم للقرآن كما ذكرنا آنفا. كما يجب الإشارة إلى أن الزيدية، وهى فرقة شيعية تقدم قضية العقل المبتوتة على القرآن الكريم.[71]

وبالإضافة فيجب اعتبار أن مجلس صيانة الدستور كان إجراءً مرحليا يرتبط بمرحلة بداية الثورة، وأن هذا الدور قد انتهى لأن بقاءه يمحو – عمليا – مجلس الشورى.

وإذا قام خلاف ما بين المرشد ورئيس الجمهورية فيتبع أسلوب استفتاء الشعب. واعتقد أن مجرد تقرير هذا سيجعل المرشد – كالرئيس – يلحظ إرادة الشعب ..

وعلى الجميع أن يؤمنوا إن إرادة الشعب من إرادة الله وأن أمة محمد لا تجمع على ضلاله.

f

من هذا الاستعراض لحالة الدول التى أريد فيها قيام دولة إسلامية يظهر مدى إفلاسها وفشلها إذا قيست بمقاييس الإسلام الحقه. ففى دولة )اقْرَأْ( تتفشى الأمية، وكان يجب أن لا يكون بها أمى. وفى دولة )وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( و).. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(. تقوم الدعوة على أساس الإكراه ويحاكم كل صاحب حر بقانون الردة اللعين. وفى دولة )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ(. توجد ألف درجة ودرجة بين النساء والرجال وفى دولة تكون فيها الزكاة ركناً ثالثا للإسلام لا نسمع شيئاً عن الزكاة ولا عن حسن تطبيق مصارفها وفى دولة محمد وأبى بكر وعمر وعلى الذين لم يأخذوا لأنفسهم شيئاً ولم يخلفوا ديناراً ولا درهما يقال إن نصف عوائد البترول فى المملكة السعودية تأوول إلى الأسرة المالكة والنصف الآخـر للشعب بأسره )تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى(.

وأسوأ من هذا كله وصمة الاعتقالات والسجون والتعذيب. لقد حرم الإسلام المثلة بالكلب العقور فكيف بإنسان يمارس حقه كمواطن فى المعارضة ويعمل بما طلبه أبو بكر وعمر "إن أسأت فقومونى" فتكون النتيجة أن يسجن ويعذب وتصادر أمواله ويضطهد آله. هذا موجود ولا يمكن المجادلة فيه. وقد كانت السودان أبعد ما يمكن أن يتصور أن يوجد فيها تعذيب، لأنه يخالف طبيعة وفطرة الإنسان السودانى ومع هذا تواترت الأنباء عن "بيوت الأشباح!" وكانت إيران بحكم استلهامها أعظم الخلفاء تسامحاً مع معارضيه – على بن أبى طالب – وبحكم خلائق الحسن والحسين أن تكون أبعد النظم عن التعذيب. ومع هذا فإن آية الله منتظرى الذى كان مرشحاً لخلافة الخمينى كتب إلى الخمينى نفسه "سُمع أنكم قلتم إن فلانا يقرننى بالشاة وأمنى بسافاك طبعا لا أفرض أن سماحتكم هو الشاه. ولكن جرائم أمتكم بيضت وجه الشاه والسافاك. هذه الجملة أقولها بإطلاع دقيق."[72] وليس من شهادة تقدم من خليفة الخمينى إلى الخمينى نفسه مثل هذه ...

من هنا، فإن الدولة الإسلامية كما طبقت بالفعل فى الدول التى أشرنا إليها لم تحقق أهداف الإسلام كما لم تستطع أن تكون "دولة الرعاية" كما حدث فى بعض الدول الأوربية أو "دولة الحرية" كما هو حال دول أخرى، ولا نهضت بالزراعة والتجارة ولا حققت الأمن والأمان.. فخسرت الدنيا ولم تكسب الآخرة ...

0 التعليقات:

إرسال تعليق