السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الرابـع: الأمة – الدولة – السلطة

رأينا فى الباب الأول كيف أن الأحداث التاريخية قد أدت إلى هجرة الرسول إلى المدينة، وكيف أن الهجرة أدت إلى تكوين "دولة" ذات طبيعة خاصة فهى بنت التاريخ من ناحية الحدوث، وبنت الدعوة من ناحية الطبيعة وكانت نتيجة ذلك دولة يرأسها رسول يوحى إليه، ثم شاهدنا مسلسل الأحداث التى أخذت بعضها برقاب بعض بصورة سريعة متلاحقة بحيث لم تدع للمسلمين وقتئذ متنفساً، أو تصرفاً آخر، وهذه السرعة والتلاحق مع أنها لم تدع للمسلمين سلوكاً آخر فإنها ربطت ما بين عهد الرسول والخلافة التى أعقبته، وقد ولدت الخلافة والرسول مسجى فى بيته، قبل أن يودع مثواه الأخير، وفى ظل هذا الحكم عاشت وكأنما أنفاس الرسول تتردد حولها وتحفظها وكان من توفيق الله أن ولى أمرها "المتبع الأمين" أبو بكر الذى أظهرت الحوادث أنه رجل دولة من الطراز الأول وأعقبه عمر بن الخطاب "المبتدع العظيم" الذى أرسى أسس الدولة الإسلامية.

ولكن لما كانت الدولة تقوم على ساقين هما الإيمان من ناحية والضرورات الاجتماعية من ناحية أخرى. ولما كان الإيمان يزيد وينقص، أو لنقل ينقص أكثر مما يزيد فقد انحسر الإيمان، وانحسر معه المقوم الإيمانى لدولة الخلافة الراشدة. وبدأ الإيمان يتقلص وينحسر مع طعن عمر بن الخطاب، وأخذ هذا الانحسار يزداد شيئاً فشيئاً حتى بلغ الفتنة الكبرى التى كانت إيذانا بنهاية الخلافة الراشدة.

ومن هذا نعلم أن الخلافة الراشدة تدين بظهورها إلى أنها ارتبطت بالرسول، ولم يحدث انفصام (باستثناء انقطاع الوحى طبعا) بحيث أمكنها أن تُسِّير الأحداث فى ظل الرسول وأثرة، وأن تتغلب بهذه الصفة على ما جابهها من صعاب، لعل أوقعها أثراً كان حروب الردة. وهو ما يشير إلى توفيق الخلافة الراشدة فى قائديها الأوّلين أبو بكر وعمر ثم تعثرها فى قائديها الآخرين عثمان وعلى مما أدى إلى انحسار الإيمان وإلى النهاية المحتومة.

ومع طى صفحة الخلافة الراشدة يبدأ الباب الثانى بفتح صفحة جديدة تقوم على فكرة محورية هى أن السلطة تفسد العقيدة (الأيدلوجيا) وأن هذا أمر محتم لا مفر منه بحكم طبيعتها والسلطة فى الوقت نفسه هى الخصيصة التى تميز الدولة، ومعنى هذا أن الدولة لا يمكن أن تكون راعية لعقيدة أو فكرة لأن السلطة الكامنة فيها لابد وأن تفسد العقيدة، ويثبت الباب ذلك بشواهد من التاريخ الإسلامى والمسيحى واليهودى والأوربى مما يوضح أن إفساد السلطة ليس مقصوراً على العقيدة الإسلامية، ولكنه يمحق ويفسد كل عقيدة لها طابع القيم والمثل العليا. وتنوع الأمثلة التى أوردناها أكبر دليل على صدق الفكرة المحورية فيه، إلا وهى أن السلطة تفسد العقيدة.

f

الفصل الرابـع: الأمة – الدولة – السلطة

فى الجزء الأول من هذا البحث عالجنا دولة المدينة فى عهد الرسول والخلفاء الراشدين لأنها أول ما يرتكز عليه دعاة الدولة الإسلامية وأثبتنا أن دولة المدينة تجربة فريدة لا تتكرر، ولكن تستلهم وأن الخلافة الراشدة كانت برزخا بين رحمة الحكم النبوى وغشومة المُلك العضوض. وأن عامل نجاحها كان هو قرب العهد بالرسول، وأنها كانت امتداداً له، ورأينا أنها انتهت مع طعن عمر بن الخطاب، وتوقفت فترة فى عهد عثمان وأراد على بن أبى طالب إعادتها. فلم يستطع لأن القوة المحركة لها وهنت وتلاشت دفعتها مع بعُد العهد بالرسول.

وننتقل فى الباب الثانى الذى يحمل عنوان "السلطة تفسد العقيدة (أو الأيدلوجيا) إلى دراسة السلطة وأنها مفسدة بطبيعتها. وأنها تفسد كل ما يتصل بها. ولما كانت السلطة هى الخصيصة المميزة للدولة، ولما كانت السلطة مفسدة، فمعنى هذا أن لابد وأنه يفسد الحكم الإسلامى إذا جاء عن طريق الدولة وانبثق من سلطتها.

وقد كان هذا أقوى عامل دفعنا لرفض أن يكون الإسلام دولة، كما كان هناك من الناحية الإيجابية عوامل أخرى تدفعنا للتركيز على الأمة.. وبهذا يكون هناك مبررات إيجابية وسلبية ترفض الدولة وتفرض الأمة.

ومن الضرورى أن نقدم لهذا الحكم بتعريف موجز للأمة، والدولة، والسلطة.

الأمــة :

لا نريد أن نعذب القارئ ونضيع وقته فى مباحثات أكاديمية حول تعريف الأمة، خاصة وأن لنا فكرنا الخاص الذى قد يختلف عن علماء القانون الدستورى أو النظم السياسية أو علماء الاجتماع. من هنا فإننا نقول باختصار ووضوح إن ما نعنيه فى بحثنا هذا بالأمة الإسلامية هو الشعب والجماهير التى تؤمن بالإسلام بصرف النظر عن لغاتهم وأجناسهم وألوانهم وتباعد بلادهم واختلاف نظمهم السياسية.. ذلك أن الإسلام بحكم قوته الذاتية الخاصة يمكن أن يكون عاملاً موحداً لهذه الجموع أو على الأقل يؤثر تأثيراً فعالاً فيها ..

فى هذه الأمة نجد أن العنصر البارز الذى يجمعها ويوحدها ويميزها عن غيرها هو العقيدة.. كما نجد عنصراً آخر هو الإرادة. فمع أن المسلمين يولدون مسلمين ولا يكون لهم إرادة فى هذا، إلا أنهم لا يحملون هذه الصفة كعبأ، ولكن ككسب. وهم لا يضيقون بها بل هم يعتزون بها وقد يهمل الكثير منهم فى أداء التزاماته العبادية، ولكنه يظل متمسكا بالإسلام، معتذراً عن تقصيره وهنا يظهر جانب الإرادة إلى جانب العقيدة.

وهذه الأمة ليست من صنع التاريخ أو الجغرافيا أو عمل ملك أو حاكم كالفرعون مينا مثلاً الذى وحد الوجه البحرى والوجه القبلى مكونا الأمة المصرية من أقدم العصور. ولكنها من صنع الإسلام فقد بدأت عندما بدأ الرسول دعوته بعشيرته الأقربين ثم اتسعت حتى شملت المدينة، وجزيرة العرب.. ثم انتشرت حينما انتشر الإسلام.

هذه هى أمة الإسلام التى أرادها الله تعالى فى قرآنه عندما قال )وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(. فإنه وحَّدها.. ووحد عقيدتها، ولعل هذا أن يكون أبرز الظواهر الاجتماعية للتوحيد الدينى، وكانت هذه الأمة فى ذهن الفقهاء الذين أبدعوا تعبير "دار الإسلام" وكانت هى التى أوحت إلى الشاعر :

بك اتصلت أسبابنا بعد فرقة

فنحن بنو الإسلام نُدعى ونُنسب

أو الآخر ..

أبى الإسلام، لا أبا لى سواه

إذا افتخـروا بقـيس أو تميم

الدولــة :

إن العنصر الهام الذى يميز الدولة عن الأمة هو وجود الحكومة. فقد توجد الأمة دون أن توجد الحكومة، ولكن لا يتصور قيام دولة دون حكومة أى الجهاز الذى يقوم بعملية الحكم، وهو أمر لا يتحقق إلا بالسلطة. فالسلطة هى خصيصة الحكم فى الدولة. والسلطة معناها وجود جهاز للقمع يلزم المخالفين الطاعة.

وعندما نقول إن الإسلام دين وأمة، وليس دينا ودولة، فإننا نلحظ أن الدولة هى فى حقيقتها السلطة – ومن الناحية المبدئية والتاريخية والواقعية. فإن السلطة تفسد الأيدلوجيا (أو العقيدة) فما أن يحدث خلط بينهما فلابد، ولا مناص من أن تفسد السلطة العقيدة، لأن السلطة بطبيعتها، ليست فحسب فاسدة بل هى مفسدة أيضا، وليس من الطبيعى إصلاحها.

وقد يوضح لنا شيئاً ما هذه الحقيقة. الطريقة التى ظهرت بها الدولة، وهناك ثلاث رؤى عن هذا ...

الرؤية الأولى: رؤية علماء الاجتماع ويقول هؤلاء – كما صور ذلك الدكتور محمد معروف الدواليبى فى كتابه "الدولة والسلطة فى الإسلام" (من ص 24 – 28)..

"مضى على المجتمعات البشرية الأولى حين من الدهر لم يكن فيها (للمجتمع) الواحد من كيان ومفهوم حينذاك غير كيان (الأسرة) الواحدة ومفهومها، سواء ضاق نطاق هذه الأسرة فى التبعية لأب واحد حى، أو اتسع نطاقها لتشمل أسراً متعددة تحت اسم (القبيلة) الواحدة التى ترجع فى أصولها البعيدة إلى جد أعلى واحد.

وكذلك لم يكن لمفهوم (السلطة) فى المجتمع والأسرة من مفهوم غير مفهوم (السلطة الأبوية المطلقة) والمحصورة فعلاً بأبى الأسرة وكبيرها. وكان هذا الأب هو فى آن واحد سيد الأسرة وملكها، وحاكمها وكاهنها فى شؤونها الدينية، وبالجملة فإن أبا الأسرة كان وحده الآمر الناهى من غير منازع، وله بموجب سلطته الأبوية المطلقة حق الموت والحياة على جميع أفراد الأسرة على نحو ما هو ثابت ومعروف مثلاً فى تاريخ روما القديمة.

ولما تطور المجتمع وظهرت فيه (الدولة) انتقلت جميع خصائص (السلطة الأبوية المطلقة) إلى (رئيس الدولة) فكان هو أيضاً الحاكم المطلق فيها، وكان الويل كل الويل عندئذ للمجتمع من نزواته المطلقة.

وفى ظل ذلك الحكم المطلق ظهرت فئة المقربين الأشراف، ثم من عداهم من عامة الناس، وانتهت بتقسيم المجتمع إلى طبقات متفاوتة فى الحقوق وفى الكرامة. وهكذا كان هناك امتياز للبراهمة على المنبوذين فى شرائع الهند، وامتياز لأعيان الدولة على فلاحيها فى الصين، وامتياز للأشراف على العامة لدى اليونان والرومان، بل وامتياز لجنس الرجل على جنس المرأة لدى الجميع.

وهكذا فإن ذلك الحكم المطلق، وذلك التفاوت فى طبقات الشعب وفى حقوق الأفراد، قد جعل (مفاهيم الدولة وسلطاتها) فيما يتعلق بالسلطة وبالشعب وبالقانون، لا تظهر إلا :

  • من خلال (السلطة المطلقة للحاكم) على الشعب من جهة، وذلك بما يشبه (السلطة الأبوية) فى حق الحياة والموت على أفراد أسرتها كما كانت من قبل.

  • من خلال (التبعية المطلقة) المفروضة على (الشعب) تجاه الحاكم دون أن يكون للشعب أية شخصية حقوقية، أو أى اعتبار له أمام سلطة الحاكم المطلقة.

وأما القانون – إن وجد فى مراحل وجوده – فما هو إلا تلك الأحكام الصادرة عن إرادة ذلك الحاكم المطلق إن شاء. وذلك من دون أن يكون فى تلك الأحكام ما يعبر عن شئ من القيم الاجتماعية السامية أو المصالح الإنسانية غير تثبيت الأمر الواقع فى تلك السلطة المطلقة للحاكم، وتبعية الشعب له كشىء من أشيائه، مع تمايز فئاته وطبقاته فى الحقوق والاعتبار فضلاً عن التمايز بين شعوب الإمبراطوريات فى الأعراق، والأوطان، والأجناس.

ففى ظل تلك المفاهيم تظهر الدولة فى :

  • سلطات الحاكم المطلقة على شعبه.

  • تبعية الشعوب لقادتها بدون (أية شخصية حقوقية) أو أى اعتبار لهم أمام حكامهم.

  • التمايز بمقتضى العرف أو القانون بين فئات شعوبهم تبعاً لأصولهم وأعراقهم وأجناسهم" انتهى الاقتباس من كتاب الدكتور معروف الدواليبى.

ولم ينفرد علماء الاجتماع فى الرجوع بالدولة إلى الأسرة وأن هذا هو أصل الاستبداد فيها. فإن من علماء السياسة من ذهب إلى هذا المذهب وأشهرهم بودان الذى نشر فى عام 1576 كتابه "الجمهورية" الذى ذهب فيه إلى أن الاستبداد الفردى المطلق هو النظام الذى يتفق مع القانون الطبيعى ذلك لأن الطبيعة قد شكلت أول مجتمع فى صورة الأسرة. والأسرة هى مجتمع صغير متعدد الأفراد وذو مصالح مشتركة لابد من أن يقوم فيها واحد من أفرادها لتكل إليه الأسرة إدارة شئونها، هو رب الأسرة. ولم يكن من الممكن أن يقوم فيها "ربان" وإلا تمزقت، لأن الأمر فى الأسرة كالأمر فى السفينة أن تعدد فيها الربابنة غرقت. والأسرة هى النموذج المصغر للدولة. ومن هنا فإن الدولة "الطبيعية" هى التى يكل أفرادها سيادتهم إلى واحد منهم ليمارسها. وهم لا يستطيعون إلا أن يكلوها إليه كاملة لأن السلطة لا تتجزأ ولا يمكنهم أن يسحبوها بعد أن يكلوها إليه لأن مبررات التخلى عنها إليه مبررات دائمة ولا يجوز أن تنقطع.

وكان يشفع له أن الوحدة الاجتماعية الأولى فى تاريخ الأجناس البشرية كانت هى الأسرة. وكان لرب الأسرة السلطة الكاملة فهو صاحب ومالك وسيد الناس وما يحوزون. وما تزال مفردات اللغة تحمل آثاراً من ذلك الاستبداد البائد. فقد كانت كلمة أسرة عند الرومان (فاميلوس وفاميليا) تعنى العبيد. وحتى أيام المشرع الرومانى جايوس (القرن الثانى قبل الميلاد) كانت كلمة "أسرة" تعنى الميراث (أنجلز – أصل العائلة – 1820) ولم يكن الأمر مختلفاً عن هذا فى المجتمع الأنجلو سكسونى قبيل الفتح النورماندى لانجلترا إلا فى أمرين. الأول هو أن الولد كان يتحول من عبد مملوك لأبيه إلى حر ببلوغه سن الرجولة. والثانى أن الأسرة كانت تضم قرابة من الأبوين لا من الأب وحده كما كان الشأن عند الرومان. وتنبئ بعض الآثار المنقولة عن نظام الأسرة فى الجاهلية العربية، مثل وأد البنات وزواج المقت، والعضال، بأن رب الأسرة كان السيد المطلق على أفراد أسرته إلى حد التصرف فى حياتهم. وهو ما أدى إلى القول بأن قد كان لرب الأسرة عند العرب فى أيام الجاهلية، سلطة على أفرادها مماثلة لما كان لرب الأسرة عند الرومان من سيادة مطلقة على أفراد أسرته تشمل أشخاصهم وأموالهم (دارست: أبحاث تاريخية).[16]

الرؤية الثانية: هى رؤيتنا الخاصة. وهى ببساطة أن الدولة نشأت عندما نشأ الجيش المحترف.

ذلك أن وجود تجمع من الناس وحده لا يوجد دولة، ولكن يوجد "شعباً" ولا يتطور هذا الشعب فى دولة إلا عندما تنشأ له "حكومة" أى نظام يفصل فى العلاقات التى يثمرها تجمع الناس والتى لا يمكن أن تترك لهوى كل واحد وإرادة كل واحد، ولابد أن تحدد الحقوق والواجبات وتنظم شئون هذا المجتمع.

هذا الدور الهام هو ما تقوم به الحكومة، وهو فى حقيقة الحال ما يمثل وظيفتها ولكن كيف تتوصل الحكومة إلى القيام بهذه الوظيفة؟ إنها لا يمكن أن تقوم بذلك بدعوة فلاسفة يوضحون للجماهير الخطأ والصواب، الحكمة والضلال، المفيد النافع والضار السئ لأن فى النفس الإنسانية غرائز أقوى لتعزيز ذاتها على حساب غيرها. وإرواء شهواتها والتكاثر والاستعلاء الخ… ووجود أفراد ضعفاء جنباً إلى جنب أفراد أقوياء فى حد ذاته يغرى الأقوياء بالسيطرة على الضعفاء.

فى النهاية نجد أنه لابد من "سلطة" أى قوة تلزم وتخضع الأفراد لطاعتها والالتزام بأوامرها، ولابد من أداة أو تنظيم يستخدم القوة لإرغام الناس على الطاعة والالتزام بها، وقد تكون هذه القوى هى القوة الجسدية والعضلية فى المرحلة البدائية كسيطرة الرجل على المرأة والأب على الأبناء ثم بطريق السلاح فى المراحل التالية، وما يتميز به من تنظيم وضبط وربط واحتراف.

ومنذ أن توصل حاكم ذكى إلى تفريغ عدد من الرجال، وتنظيمهم وتدريبهم ووضع فى أيديهم السلاح وفرغهم لهذا ظهرت الصورة الأولى للجيش، وبفضل هذه الأداة استطاع الحاكم أن يلزم إلزاما، ويكره إكراها، المجموعات التى تحاول التمرد عليه بينما كان مجرد وجود هذا الجيش كافيا لأن يحمل الآخرين على الطاعة، حتى لا يتعرضوا لما يمكن أن يقوم به الجيش من غارة عليهم ..

ويلحق بالجيش عادة البوليس. وهو تنظيم مخفف نشأ فى فترة لاحقة عندما ظهر أن إخضاع الجمهور قد لا يتطلب تحرك الجيش بسلاحه الثقيل، ولكن يكفى "البوليس بسلاحه الخفيف" وتكون مهمة البوليس تطبيق إرادة الحكومة فى الداخل بينما تكون مهمة الجيش تطبيق إرادتها فى الخارج أو صد أى هجوم على الدولة.. ولا يمنع هذا من تدخل الجيش عندما تحتدم صراعات فى الداخل.

ويلحق بالجيش أو البوليس "السجون" التى هى إحدى وسائل العقوبة لمن يرفض تطبيق الأوامر أو يتمرد على الطاعة.. ويقترن بالسجون القيود والإصفاد الحديدية والاحتباس فى زنزانات ضيقه رطبة والاقتصار على أسوأ أنواع التغذية وكثيراً ما يتعدى الأمر إلى التعذيب.

هذه هى فكرتنا عن نشأة الدولة ..

فلا يمكن لمجموعات من الناس تقطن إقليما واحداً وتتكلم لغة واحدة، ولها مصالح واحدة أن تكون دولة.

إنها يمكن أن تكون أمه، وليس دولة ..

الدولة لا تنشأ إلا عندما توجد فى هذه الأمة الحكومة أى الجهاز المسئول عن تنظيم العلاقات بين أفراد هذه المجموعة.

ولا تستطيع الحكومة القيام بذلك إلا بالسلطة ..

ولا سلطة إلا بجيش يملك القوة الجبرية التى تلزم الناس الطاعة وتحول بينهم وبين التمرد فالأمر فى النهاية إلى الجيش.

وقلما يذكر علماء النظم السياسية كلمة الجيش كما نصرح بها وعادة ما يكنون عنها بكلمة "القوة".

وقد قال بعض النقاد إن نظرية القوة.. لا يمكن التسليم بها على طول الخط لأنه "ما من سلطة تستطيع أن تحقق لنفسها الاستقرار والدوام مستندة إلى القوة وحدها، بل يلزم أن تكسب رضاء الأفراد وقبولهم لها، وإلا كان من الضرورى تخصيص جندى لكل مواطن ووراء كل جندى يجب وضع جندى آخر لحراسته… وهكذا "انظر النظم السياسية للدكتور ثروت بدوى – دار النهضة العربية – ص 131".

وهذا كلام سليم نظريا، ولكنه بعيد عن منطق الواقع. إذ الواقع أنه لابد أولاً وقبل كل شئ من القوة (الجيش) لتقلد السلطة وعندما يتم هذا فإن الحاكم لا يعجز عن استخدام وسائل التزييف والاصطناع والضغوط الخ… ليتوصل إلى تعزيز سلطته بحيث لا تكون قائمة على وجود الجيش ولكن بفضل وجود الجيش.

وذهب بعض المفكرين إلى أن العلاقة ما بين القوة والقانون الذى يفترض أنه العمود الفقرى للدولة أو إطارها العام ليست كما ذهب البعض علاقة السيد بالعبد، أو العبد بالسيد ولكنها علاقة تزاوج، ولكن هؤلاء المفكرين لم يوضحوا لنا من هو الزوج ومن هى الزوجة فى هذه العلاقة، لأن الحقوق والواجبات ليست متكافئة. ولأن المساواة تحول دون الحسم بينما ذهب مفكرون آخرون إلى أن عنصر القوة هو الأكثر تأثيراً فى ظهور القانون فيقول :

"يبدو لنا مما سبق أن جانباً كبيراً من فلسفة القانون تعترف بصراحة أن القوة هى التى تنشئ القانون وتحميه، فالقوة تخلق القانون وفى الغالب لمصالحها الخاصة، وهى أيضاً التى تحمى تطبيقه وتحل محله فى أوقات الأزمات.

ويبدو لنا أيضاً مما تقدم أن فكرة القوة تنشئ الحق وتحميه ترتبط فى الغالب من الأحيان ببداية تكوين المجتمعات الإنسانية، ففى بداية أى مجتمع إنسانى لابد من استعمال القوة لتنظيم المجتمع ولتحديد النظم القانونية وفرضها، فغالبا يكون هناك انقلاب أو ثورة أو صراع اجتماعى يتولد منه القانون."[17]

وقد يدل على هذا التعبير المشهور might is right وأن يطلق أيضاً تعبير "الإمبراطور" وهو أصلاً قائد الجيش على رئيس الدولة فى التاريخ الرومانى الأوربى وأن يطلق لقب "قاضى عسكر" فى الدولة العثمانية على قاضى القضاة.

وأقسى ما يمكن أن يوجه من نقد لنظرية الجيش أنها لا تكفى وحدها لظهور الدولة ولكن – فى مقابل هذا – لا يمكن أن تظهر الدولة بدونها. فهى العامل الحاسم، وإن لم تكن كل العوامل أو هى العامل الذى يمكن عن طريقه التوصل إلى بقية العوامل ..

ولو راجعنا التاريخ فى الشرق والغرب لوجدنا أن العامل الحاسم فى ظهور الدول والإمبراطوريات كان هو الجيش. ففى العهد القديم كان السيف الرومانى العريض والتنظيم الدقيق للجيش هو الذى جعل "كل الطرق تؤدى إلى روما" وهو الذى مكن روما من السيطرة على العالم القديم وكان السيف الرومانى هو الذى حقق "السلام الرومانى" المزعوم وفى مستهل العصر الحديث كان نابليون وقنابله هى التى هزمت المماليك وفرسانهم وجعلت المصريين يصيحون "يا خفى الألطاف.. نجنا مما نخاف" وهى الصيحة نفسها التى قالها قبل خمسة قرون القديس لويس التاسع عندما فوجئ "بالنار اليونانية" التى استخدمها المصريون ضده.

وكانت مدافع الأسطول البريطانى هى التى مكنت بريطانيا من أن تتوغل فى أعماق آسيا وأفريقيا وتدك الحصون والقلاع وتمهد الطريق أمام الجيش.

وقبل هذا طبقت مصر تجربة فريدة فى الحكم عندما استقدم – أو بمعنى أصح استورد – حكامها جموعا من المماليك الذين كان يأتى بهم النخاسون أطفالاً – ليربوا ويدربوا على المهام القتالية، واستطاع هؤلاء المماليك أن يحكموا مصر قرابة ثلاثة قرون. وكانت سيوفهم هى التى هزمت لويس التاسع فى المنصورة. وهى التى ردت التتار فى عين جالوت كما كان هؤلاء المماليك هم الذين شيدوا من المساجد ما يوازى المعابد الفرعونية القديمة، وأدى المماليك هذا كله بينما كان شعب مصر عاكفا على زراعة الأرض محافظاً على روح الحضارة التى حماها المماليك بسيوفهم.

وهذا ما يمكن أن يقال – إلى حد ما – على الفرقة العسكرية التى كانت زهرة الجيش العثمانى وكفلت للترك الانتصار فى كثير من المعارك – فرقة الانكشارية التى كانت تتكون من صبيان صغار من البلاد المفتوحة يؤتى بهم إلى تركيا فيربون تربية عسكرية خالصة، ويعتزلون المجتمع بحيث يكون العالم الوحيد الذى يعرفونه هو عالم القتال.

وفى الحقبة المعاصرة، فإن ما مكن أمريكا من السيطرة والقوة هو أنها بدءًا من الحرب العالمية الأولى 14 – 18 جعلت نفسها مصنع سلاح العالم وتعزز هذا بحرب 39 – 45 فمع أن أرضها لم تتعرض لحرب، ولم تنزل قوات عليها، فإنها صنعت السلاح الذى مكن الحلفاء فى الحربين العالميتين من الانتصار وأصبحت حاملات الطائرات أشبه بقلاع متحركة لا يمكن أن يحملها إلا المحيطات التى تمخرها. ومن هذه القلاع السابحة يمكن أن تنطلق طائرتها فتصيب الأهداف فى أى مكان من العالم ..

وقد فرضت الضرورات التسليح على الأديان نفسها، وهى دعوات الحب والسلام والضمير – عندما هدد الطغاة الدعوات الدينية، واضطر دعاتها إلى حمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم وحتى لا يفتنون عن دينهم، كما لم يكن بد من الجيش فى العهد الإسلامى الأول. لتفويض نظم إمبراطوريات طبقيه وعنصرية جائرة وإحلال نظم تقوم على المساواة وعدم التمييز. وهكذا نرى جانبا من جوانب التعقيد الاجتماعى. ولكن هناك فرق بالطبع بين الحرب الدفاعية، والحرب الهجومية. بين جيش كالجيش الإسلامى يرفع الكتاب والميزان وجيش كجيش روما يتبعه البغايا والنخاسون.

فالقوة العسكرية التى يحملها الجيش هى لحمة وسدى تاريخ ظهور الدول والإمبراطوريات ونحن نسلم بأن وراء السيف والمدفع والطائرة كان هناك عامل نفسى من زهو قومى. أو تفوق حضارى أو وجود نظام اجتماعى رصين أو الدفاع عن العقيدة الخ… ولكن فى نهاية الملاذ يكون الجيش هو الذى يقوم عمليا بالمهمة ويصدق كلام الشاعر :

"تكلم السيف. فاسكت أيها القلم."

وهناك دول عديدة ظهرت إلى الوجود وأخذت شهادة ميلادها من "توحيد" مناطق ودمجها بعضها فى بعض لتكون دولة. وهذا بالطبع ما لا يتأتى لولا الجيش، ويمكن أن يقال إن هذا ظهر مع ظهور أول دولة قومية فى التاريخ – مصر – عندما وحد مينا الوجه الشمالى والوجه الجنوبى فى دولة واحدة.

ثالثا: الرؤية اللينينية : النظريات الاشتراكية على اختلافها تؤمن بأن الدولة جهاز قمع طبقى تحكم به القلة المنظمة المسلحة الكثرة المفرقة العزلاء. ولا يختلف عن نظرية الجيش إلا فى الوسيلة، وليس الطبيعة لأنها جهاز قمع، ولكن جهاز القمع هذا له طبيعة خاصة.

ولما ظهر لينين قدم إضافته التى تتمثل فى نظرية الحزب باعتباره "جيشاً مدنيا" فهو يقوم على ثوريين محترفين يعملون تحت قيادة منظرين اشتراكيين. وأن هذا الحزب الذى يمكن أن يتحول إلى جيش – كما حدث فى الاتحاد السوفيتى فى الأيام الأولى لظهور ثورة 17 عندما تحلل الجيش القيصرى ولم يتيسر للسلطة الجديدة تكوين جيش، فقدمت النقابات عمالها كجنود وقدم الحزب الضباط وبذلك نشأ الجيش البلشفى الذى تصدى لقوات الحلفاء الذين أرادوا وأد الاتحاد السوفيتى. ولكن مع أن الحزب يمكن أن يتميز عن الجيش فى أنه يلوذ بنظرية لا بسلاح ويعتمد على الإقناع والدعوة وليس الضرب والأسر وأن هذا سيقدم الغطاء الأيدلوجى لقمع الجيش مع هذا كله فمن الغريب أننا لا نجد فى التنظيرات ما يماثل صراحة التنظير اللينينى فى أن الدولة هى جهاز "إرهاب" وأن هذا الإرهاب لا يستخدم ضد الذين يهددون الأمن الخارجى للبلاد فحسب، ولكن ضد الذين يهددون الأمن الداخلى. وقد كتب تروتسكى – منظر الحزب والرجل الثانى بعد لينين كتاباً كبيراً عن الإرهاب والشيوعية (ترجمه الأستاذ جورج طرابيشى وطبع فى دمشق) دافع فيه دفاعاً حاراً عن الإرهاب كجزء لا يتجزأ من نظام وقوام الدولة الشيوعية ليس فحسب لإرهاب الأعداء فى الخارج، أو حتى مخلفات وسلالات الإقطاعيين والرأسماليين. ولكن بالنسبة للعمال أنفسهم وهم الذين من أجلهم قامت الثورة، فإن الشعارات ما كانت لتجوز على تروتسكى ولا تحمله على إغفال الحقائق الصعبة التى تسيطر على الطبيعة البشرية. فقال بدون موارية إن العمال – بدون دفع الإرهاب – سيستسلمون للكسل الفطرى، وأنه لابد من إكراههم إكراها على العمل جميعا لما تتطلبه الدول الشيوعية، ووصل فى هذا إلى درجة "عسكرة العمل" التى لا تختلف عن "السخرة" فأظهر إلى أى مدى يمكن للسلطة أن تفسد الأيديولوجيا.

خصائص أخرى للدولة :

قدمنا أن العامل الأعظم الذى جعلنا نرفض الدولة هو أن الدولة ترتبط ارتباطاً لا مناص منه بالسلطة المفسدة بطبيعتها، ولكن هناك عوامل أخرى تجعلنا نرفض فكرة الدولة.. يجمعها أنها عوامل محددة ومفرقة تبرأ منها الأمة التى لا يوجد فيها إلا عامل واحد مجمع وموحد.. وهو العقيدة الإسلامية ..

من عوامل التفرقة والتمييز فى الدولة أنها :

أولاً: تختص الدولة بإقليم واحد لا تتعداه. فالحدود الجغرافية هى إحدى محددات الدولة.. وعندما نقول إن الإسلام دين ودولة.. فأى دولة.. وقد قسمتها الجغرافيا إلى عشرات الدول لكل منها نظمها وطبيعتها ..

لقد زرع الاستعمار بذرة صراعات الحدود لتشتعل بعده الحروب بين الدول الإسلامية بعضها بعضاً حرصاً على عدة أمتار من الكيلو مترات من الأرض.. كل دولة تدعى أنها جزء لا يتجزأ من تربة الوطن المقدس التى يفتدونها بالدم..

ثانياً: أن الدولة تفرض "جنسية" فأبناء الدولة المصرية يكتسبون جنسية مصرية. ولا يمكن لغيرهم أن يحملوا هذه الجنسية ويتبع الجنسية أن تكون حقوق المواطن الدستورية والاجتماعية والاقتصادية مقصورة على من يحملون جنسية الدولة. بما فى ذلك الدخول أو الخروج منها عن طريق "جوازات سفر" ولا يمكن لغير صاحب الجنسية أن يدخل ويخرج من دولة لا يحمل جنسيتها إلا وفق ضوابط خاصة وما أكثر الفروق بين السكان الأصليين، ومن يطرأ عليهم أو يعيش معهم عشرات السنين، ولكنه لا يحصل على الجنسية، بل هناك فروق بين من يحصل على هذه الجنسية دون أن يكون أصلاً منها وبين صاحب الجنسية الأصلى، فيطلقون على الأول "متجنس".

وبتأثير الحدود الجغرافية وقيود الجنسيات تنشأ النزعة القومية ولا يعد الاستسلام لها أو التشدد فيها مأخذاً بل إنها توجب على المصرى القومى أن يحارب حتى لا تضم جغبوب إلى ليبيا أو حلايب إلى السودان. فى حين أن المصرى المسلم لا يرى فرقاً كبيراً فليبيا دولة إسلامية جارة، والسودان دولة إسلامية جارة، وهما مع مصر فى إطار دار الإسلام الواحدة، فلا داعى للتشنج أو سفك الدماء مقابل حفنة رمال، ما أكثرها فى الدول الثلاث.

ثالثا: أن الدولة لا تتضمن قيما معنوية ولا إرادة شخصية فقد كونها أصحابها لأنهم يعيشون على هذه القطعة من الأرض التى هى مصر أو السودان أو فرنسا الخ... ورثوا ذلك عن أجدادهم وليس لهم من إرادة فى هذا، كما أن قيام الدولة لا يرتبط بقيم معينة. وهى فى هذا تختلف عن الأمة الإسلامية التى يكون الرابط فيها هو الإسلام، وبالطبع فإن شعوب كل دولة توصلوا إلى عالم القيم، ولكن هذا لم يكن فى أصل تكوين الدولة أو يعد خصيصة مميزة لها.

رابعا: أن مصالح الدولة متعارضة، وقد لا توجد دولتان متفقتان تماماً، لأن الأوضاع الدولية تجعل شبكة العلاقات تتلاقى وتتقاطع طبقا للسياسات والمصالح بحيث لا تكون هناك صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، ولكن مصالح دائمة، ومصلحة هذه غير مصلحة تلك.

وأخيراً فيمكن القول إن تعبير الدولة – كما نفهمه الآن كان غريباً على المجتمع القديم، فنحن لا نجد له تعريفاً فى معاجم اللغة ففى المصباح المنير "تداول القوم الشىء تداولا وهو حصوله فى يد هذا تارة وفى يد هذا تارة أخرى والاسم الدولة بفتح الدال وضمها، وجمع المفتوح دول بالكسر مثل قصعة وقصع وجمع المضموم دُول بالضم مثل غُرفة وغُرف، ومنهم من يقول الدولة بالضم فى المال وبالفتح فى الحرب. ودالت الأيام تدول مثل دارت تدور وزنا ومعنى."[18]

وفى مختار الصحاح "الدولة فى الحرب أن تدول إحدى الفئتين على الأخرى يقال كانت لنا عليهم الدولة والجمع الدّول بكسر الدال. والدولة بالضم فى المال يقال صار الفىء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا ومرة لهذا والجمع دولات ودول. وقال أبو عبيد" الدولة بالضم اسم الذى يتداول به بعينه والدولة بالفتح الفعل. وقال بعضهم: هما لغتان بمعنى واحد... وأدالنا الله من عدونا من الدولة. والأدالة الغلبة يقال اللهم أدلنى على فلان وأنصرنى عليه. ودالت الأيام أى دارت والله يداولها بين الناس. وتداولته الأيدى أخذته هذه مرة وهذه مرة."[19]

فهذه كلها عوامل تدفع المفكر المسلم لأن يقول الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة.. ولا يخالجنا شك فى أن مقولة "الإسلام دين ودولة" إنما قيلت لقلة الدراية السياسية للدعاة المسلمين، ولأن الجوانب التى كشفنا عنها أى ارتباطها المحتوم بالسلطة المفسدة لم تكن واضحة لديهم، أو لأنهم أرادوا إعادة نموذج دولة المدينة التى قلنا أنها تجربة لا تتكرر ويغلب أنهم أرادوا بالدولة، الدولة الإسلامية بمعنى الخلافة التى تضم كل المسلمين، قبل أن يحدث التطور الذى أدى إلى ظهور القوميات والدول التى استقلت بوجودها عن الخلافة، وظهرت الأسوار والحواجز بينها وكأنهم أرادوا الأمة فاخطأهم التعبير.

لماذا تكون السلطة – ولابد – مفسدة ؟

لم نوضح فى الكلمات السابقة لماذا تكون السلطة ولابد مفسدة. وقد آن الأوان لإيضاح ذلك، فالسلطة هى أعظم الإغراءات. فإذا كان إغراء المال والثروات والاستمتاع بالترف بحمل الألوف المؤلفة على العمل لكسب الثروات، فإن كل الثروات تحت رحمة السلطة، ويمكن للسلطة أن تصادر الأثرياء بعد أن يكونوا قد أمضوا حياتهم فى الكد لتحصيلها فيأتى قرار المصادرة بكلمة يكتبها الحاكم.. فتنقل هذه الثروات من بيت صاحبها إلى بيت الحاكم، كما كان الشأن قديماً عندما كان كل وزير عباسى، لابد وأن يصادر فى النهاية ..

وإذا كان الجمال والجنس هو الذى يستأثر بأفئدة مجموعات عديدة من الناس، فإن الجمال والجنس – كالمال – تحت رحمة السلطة.. وما أكثر ما حفل به حريم السلطان من جوارى لا يقف العدد عند المئات.. بل يتعداه للألوف فأى "روميو" أو "دون جوان" يمكن أن يصل إلى هذا ..

وإذا كان الإغراء الأعظم عند أناس ترفعوا عن الثراء أو شهوات الجنس ولكن استأثرت بهم إرادة الرئاسة والهيمنة والأمر والنهى، فهذا ما تقدمه السلطة أكثر من أى هيئة أخرى.. لأنه جوهر وطبيعة السلطة …

السلطة إذن هى مجمع الإغراءات وإليها تنتهى ومعها تلتقى كل الإغراءات وخمر إغراءات السلطة مما لا يمكن أن يقف أمامه أحد أنه يسكر أعتى الأجسام وأذكى العقول.

من أجل هذا كانت مقصد الجبارين والطغاة والذين يفوق ذكاؤهم ضمائرهم والنرجسيين الذى تتغلب عليهم الأنانية وحب النفس فهؤلاء جميعاً يجدون فى السلطة ما يروى غلتهم ويشبعها، ولم يكن عبثا أن يسمى مقعد الملك – عندما كان صاحب الأمر والنهى بالعرش.

من ذا يستطيع أن يصمد ؟

لقد قال يوسف عندما تعرض لإغراء الجمال )وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ( {يوسف 33} ..

من أجل هذا فإن السلطة لا تقبل شريكاً لها فى نفس صاحبها لأن "المُلك عقيم" كما قال عبد المُلك بن مروان – أى لا يقبل شريكاً من أخ أو ابن، ومن هنا أجاز بعض الفقهاء لسلاطين الترك أن يقتلوا إخوانهم عندما تكررت ثورات هؤلاء الأخوة ومطالبتهم بالعرش على أساس أن الفتنة أشد من القتل. وعندما تتملك السلطة فرداً ما، فإنها تمحق ما عداها ويصل لدد خصومتها إلى مثل ما قاله الشاعر :

لو يشربون دمى لم يرو شاربهم

ولا دماؤهم جمعاً تروِّينى

وعندما يهدد الحاكم بفقد السلطة، فإنه يؤثر الموت ولكنه عادة لا يموت وحيداً إنه يأخذ معه أعداءه "علىَّ وعلى أعدائى" كما قال شمشون. أو عليه وعلى خصمه كما قال عبد الله بن الزبير.

اقتـلونى ومـالكا[20] واقتــلوا مـالكا معـى

وشهوة التسلط والزهو بطاعات الجموع وأنه مالك الحياة والموت على الناس وأنه يرفع من يشاء ويذل من يشاء أقوى من أى شهوة أخرى. أقوى من شهوة الجنس أو المال وما أكثر ما يخطر على الذهن لو أن هتلر أو موسولينى أو لينين أو ستالين أو غيرهم من الطغاة ابتلوا بحب المأكل والمشرب والاستمتاع بالحياة لكان هذا أفضل للبشرية آلاف المرات من تحكم شهوة السلطة. فلم يكن هتلر يذوق اللحم، ولكنه أوقد أكبر محرقة "شوى" فيها الملايين من الرجال والنساء.

ووسائل السلطة – كسلطة – للتعامل محدودة، فقد تكون الإرهاب والبطش والجبروت واستخدام القوة.. لإخراس الخصوم والتخلص من الأعداء وقد تكون الاصطناع والإرشاء والإغراء بالمال أو المناصب، وقد تكون الخداع والدهاء ونصب المكائد وتزييف الحقائق.

أى خير يرجى من رجل يقول لحاكمه ..

إملأ وطابى فضة وذهباً

قتلت خير الناس أماً وأباً

فهذا التعس تملكه حب المال وجعله يقتل – أو يشارك فى قتل الحسين – وهو يعلم أنه خير الناس أماً وأباً حتى يظفر بما يملأ رداءه فضة وذهباً، فهل يرجى منه وأمثاله خير؟

أى خير يأتى من حاكم يقول إن لله جنوداً من عسل! متباهياً بنجاحه فى تسميم خصم سياسى بالعسل.

وأى خير يمكن أن يأتى من هذه كلها ..

إنها أسوأ الشرور فهل يمكن أن يتمخض عنها خير؟

ولو تصفحت دفاتر السلطة – أى سلطة – فلن تجد إلا هذه الصفحات: صفحات القتل وصفحات الارتشاء وصفحات الخداع والدهاء ..

إن قصارى ما تصل إليه السلطات أن تثير الخوف فى نفوس الناس حتى يصبح كل واحد "عبد المأمور" (لاحظ المفارقة أنه عبد المأمور وليس الآمر!) أو أن يصطنع بعضهم بالرشا والمناصب والمال ليعملوا له.. أو أن يخدع بعضهم ويكيد له المكائد.

فأين هذا الإرهاب والإغراء والإفساد من الإسلام الذى كره نبيه أن يتمثل له الرجال وقوفا وقال "حسب المرء من الشر أن يشار إليه بالأصابع" وأمر "إذا قابلتم المداحين فاحثوا فى وجوههم التراب" ..

ان السلطة تمسخ الإنسان السوى الذى خلقه الله فى أحسن تقويم وجعل له القلب والوجدان وملكة التمييز بين الخير والشر إلى كائن منحط لا يلحظ إلا ولا ذمة، يستحل قتل الابن والزوجة – بل وحتى الأم كما فعل نيرون – فى سبيل السلطة ثم لا يقنع بما قد يكون ضروريا لإخضاع الناس وضمان استسلامهم، بل ينحط إلى صنوف من الخسة والدناءة يعف عنها الوحش المفترس الذى لا يهاجم غيره إلا عندما يعضه الجوع. وما ظل شبعانا فإنه يظل مسالماً وديعاً.. وليس فى هذا أى مبالغة فإن سيرة نيرون وكاليجولا فى روما وسيرة أبى مسلم الخرسانى والسفاح. وما سلكه يزيد تجاه "الأنصار" الأتقياء البررة الذين رفعوا لواء الإسلام فأجبرهم قائده الأثيم على أن يكونوا "خول يزيد" ثم الجرائم التى اقترفها التتار فى اكتساحهم بغداد وخراسان. والجرائم التى اقترفها الأمريكيون فى إبادة الهنود الحمر وتفريغ القارة الإفريقية من رجالها ونسائها لاستعبادهم فى مزارع القطن والدخان وقصب السكر الخ… وأنواع التعذيب التى مارستها محاكم التفتيش فى أسبانيا ضد بقايا المسلمين، أو بالنسبة لمن رأت أنهم هراطقه ثم جرائم الاستعمار الأوربى فى العصر الحديث بدء من الهند وإندونيسيا حتى شمال أفريقيا وجنوبها وما بين ذلك مصر.

لا ريب أن الملائكة كان لهم حق عندمــا تساءلــوا )أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ( {البقرة 30} ..

لقد قيل إن المبرر الأول لإقامة الخلافة هى حماية الدين وإقامة الشعائر الخ… ولكن الدولة – حتى لو كانت خلافة – هى أعجز الهيئات عن أن تقوم بهذا، لأن أى عمل تقوم الدولة به يحمل طبيعة السلطة من إرهاب أو اصطناع. وقد تستطيع أن تقيم المساجد، ولكنها تعجز عن تعمير هذه المساجد بالمصلين، والصلاة، بعد تجوز فى الفلاة. ويمكن أن توظف عشرات الألوف من الوعاظ الذين يعظون الناس بحكم المنصب ولأنهم يتقاضون مرتباتهم لهذا، فيغلب أن تكون كلماتهم من طرف اللسان ولا تصل إلى القلب ويمكن أن تطبع مئات الألوف من كتب التراث فلا يفيد هذا بل قد يضر.. والدور الحقيقى للدولة هو إقامة العدل الذى يأخذ الاسم الإسلامى "الشريعة" ولكن هذا هو آخر ما تفكر فيه الدول الإسلامية، وما نفتقده فيها ونجده فى الدول التى ترفع راية الصليب.. لأن إقامة العدل هى الوظيفة المنشودة من الدولة إسلامية أو غير إسلامية.

باختصار فإن كل تدخل من الدولة فى شئون الدين يسئ إلى الدين ويشوهه ويوظفه لخدمتها. وهذا هو أسوأ صور الاستغلال.

كيف نتعامل مع السلطة ؟

مع كل سوءات السلطة، وإنها مفسدة بطبيعتها فالحقيقة المرة هى أن السلطة لازمة، وأنه لا يمكن تصور المجتمع البشرى فى أحكم تنظيماته بدون السلطة. لأن الإرادات البشرية لابد وأن تتضارب، وأن المصالح لابد وأن تتعارض وأن هوى النفوس لا يقف عند حد إلا عندما يوجد ما يلزمه الوقوف وما يكبح جماحه ..

والأفراد عندما يجتمعون فإن مجرد هذا الاجتماع يجعل من هذا الاجتماع ما هو أكثر من مجموع أفراد وهو يولد قضايا ذات طابع اجتماعى تتطلب الحسم الذى لا يتحقق إلا بقدر من السلطة.

السلطة إذن أمر واقع، ولا يقودنا التنديد بها إلى أن نتصور إمكان التخلص منها نهائيا كما تصـور أبو حاتـم الأصم، أو كما أراد العدميـون anarchists الذين جعلوا شعارهم "لا إله.. ولا سيد" ولا حتى الشيوعيين فى أحلامهم الخيالية عن "ذبول الدولة" ..

فلا مناص عن الدولة.. ولا مناص عن السلطة ولابد أن نجد معادلة للتعامل معها نحيِّد أو نضائل بها شرورها. وقد نصل إلى مزايا تفوق شرورها.

السلطة نار حامية، جحيم يحترق فيه كل من يحتك بها احتكاكاً مباشراً.

ولا حل إلا أن نحيط هذا الجحيم ببحر من ماء. تتلاطم أمواجه وتستطيع أن تطفئ النيران المشتعلة للسلطة أو تحدها فى نطاق ضيق ..

هذا البحر هو الحرية …

ومن الجلى بالطبع أن هذا البحر لا يمكن أن يكون داخل السلطة لأنه لو كان بداخلها لبخرت الحرارة العالية لجحيم السلطة سيولته، وإنما يحيط بها بحيث تكون الدولة جزيرة وسطه ..

بهذه الحالة لا يكون البحر – داخل الجحيم ولكن الجحيم يكون محاصراً ومحاطاً بالبحر.

ولن نجد هذا البحر إلا فى الأمة، وفى تنظيماتها الطوعيه، وفى دعواتها الإصلاحية، وفى رجالها ونسائها المؤمنين …

وقد يسأل سائل ..

".. الحــرية فقط .."

فنقول إن الحرية لا يمكن أن تكون "فقط" ..

إن لها توابعها التى توجد فيها بحكم طبيعتها ..

فلا يُتصور وجود الحرية – دون أن يوجد العدل لأنه عندما تغرى الحرية فريقاً بالظلم والاستغلال فإن الحرية نفسها ستدفع فريقاً للمطالبة بالعدل والإنصاف. إن اللواذ بالظلم هو إساءة استخدام الحرية أو تجاوزها لها. لأن الحرية والعدل وجهان لعملة واحدة ..

بهذه الطريقة وحدها يمكن أن نحول نار السلطة الحامية الحارقة.. إلى نار هادئة لا تحرق الطبخة ولكن تمكنها من النضج المطلوب ..

كيف تجسد الأمة الحرية ..

وكيف تتحقق عملياً هذه الحرية …

إنها يمكن أن تتحقق بفضل الأمة وما تمثله من هيئات تطوعيه حرة تعمل فى مختلف المجالات. فالأحزاب تستهدف الحرية السياسية ومشاركة الشعب وصد الطغيان والنقابات تحمى العمال وتصد جائحة الاستغلال الاقتصادى وهيئات الإصلاح الاجتماعى تحارب وجوه النقص فى المجتمع كالجهل والمرض والهيئات النسائية ترفع صوت المرأة وتعمل لمساواتها بالرجال ونيلها حقوقها.. بل إن الأفراد كأفراد يمكن أن يقوموا كل على حده – بدور فى هذا وهو ما أطلق عليه القرآن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهو ما أوجبه الحديث على كل واحد بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو الحديث الذى يحاول البعض أن يحيف عليه فى حين أنه يمثل أحد وسائل تطبيق التكافل الاجتماعى. وقد أساء البعض تطبيقه، ولكن المبادئ كلها معرضه لإساءة التطبيق.

لعل هذا يجعل القارئ أخيراً يعرف لماذا قلنا إن الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة. إننا نعيد الأمور إلى نصابها. ونبدأ مع الجماهير والقاعدة ونجعل غرسنا من الأسفل للأعلى كما هى طبيعة كل نمو ونتخلص من مضاعفات وتعقيدات الدولة ونغسل أيدينا من أقـذار السلطة عليها اللعنة! ونقصر أسلوبنا على ما أراده الله للمؤمنين: "الحكمة والموعظة الحسنة."

0 التعليقات:

إرسال تعليق