السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل السادس عشر: العلماء والمخترعون والدعاة يقيمون العصر الحديث

- 1 -

تقدم لنا أوربا مثالاً ثالثاً للعوامل التى تنهض بالأمم حتى وإن لم يكن مقصوراً عليها، ولكنه بارز فيها، لأن أوربا لم تكن أرض النبوات والرسل. وقد منحها الله تعالى الكثير من المزايا ولكنه لم ينعم عليها بالأنبياء، ونتيجة لذلك كان عليها أن تلتمس الهداية ممن اعتبرهم الإسلام ورثة الأنبياء – أى العلماء. وقد ظن فريق من فقهائنا أن المقصود بالعلماء هم "أهل الحديث" أو "أهل السُنة والجماعة" وكأنهم لم يقرءوا )أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27) وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ( {فاطر 27-28} ..

لقد أراد القرآن الكريم بالعلماء هنا كل الذين يستكشفون الآفاق الجديدة ويلمون بالأبعاد العديدة للحقيقة ويُعمِلون عقولهم فيما يرون ويستخدمونها فيما يريدون.. سواء كانوا علماء أدب وفن، أو علماء طبيعية ورياضة، أو جغرافيا وجيولوجيا، أو فلاسفة يعالجون من منطلق العقل ما عالجه الأنبياء من منطلق الوحى حتى يقفوا على باب الألوهية المقدس.. حيث لا يجرؤ عقل على الدنو.

من فجر التاريخ الأوربى ظهر الشعراء والروائيون العظام فى اليونان وقدموا للشعب تلك الروائع الشعرية والمسرحية التى بلورت "الوجدان" اليونانى، وفيما بعد، الأوربى وضمنوها أمثلة عديدة للمغامرة والشجاعة، والقوة، والجرأة.. وهى بوجه خاص الفضائل التى تتجاوب مع النفسية الأوربية، ثم ظهر الفلاسفة الذين كللوا فى العصر القديم بسقراط وأرسطو وأفلاطون فعالجوا مشاكل الوجود، والكون، والحياة، والموت، والطبيعة وما توحى به آياتها وظواهرها.. كما عالجوا مفاتيح كل العلوم تقريباً لأن الفلسفة وقتئذ كانت أم العلوم وكانت تنتظم الرياضة البحتة وعلم الطب والموسيقى، والحساب والهندسة كما تعالج مشكلات الحكم. وكان ما قدمه الشعراء من ناحية والفلاسفة من ناحية أخرى ما يمكن أن نسميه الأساس المعنوى والنظرى للحضارة الأوربية الذى يجتمع فيه العلم والفن والعقل والقلب.

ثم توالت القرون وتعرضت أوربا لبيات طويل امتد عشرة قرون كان الشرق الإسلامى فيها يقدم عطاءه، وكان الفلاسفة الإسلاميون يبدءون حيث انتهى فلاسفة أثينا، كما كان العلماء المسلمون فى الطبيعة والكيمياء والطب يقدمون الأسلوب التجريبى العملى الذى كان مفقوداً فى المجتمع اليونانى. ففى هذا المجتمع كان العمل مقصوراً على العبيد أما السادة فإنهم يفكرون – ولكن لا يعملون حتى أن الطبيب اليونانى كان يدلى بتوجيهاته لمساعدة العبد الذى يمارس العمل لأنه ليس من شأن الطبيب أن يعمل، وكأنه المهندس الذى يأنف أن يعالج الآلة بيديه ويعرضهما للشحم والزيت الخ... جاء العلماء المسلمون وكان رائدهم جابر بن حيان بالأسلوب العملى والتجريبى، وكان هو أول كيميائى فى التاريخ استخدم النار والأنابيب والأنبيق والبوتقة والتقط العلماء الأوربيون عندما بدءوا نهضتهم هذه الأساليب فيما التقطوه من عناصر إصلاح شملت حتى الكنيسة والإصلاح الدينى الذى كان تطبيقاً للأصول الإسلامية فى نفى الوساطة بين الله والإنسان وتحريم الصور والتماثيل والشفاعة الخ... التى كانت تعج بها المذاهب الكاثوليكية.

بدأت النهضة الأوربية وكان من سعدها أن بدأت فى عصر جاوز عصر الإيمان ليبدأ عصر العقل. لأنهم كانوا أنداده وأجناده وأبطاله.. وكما بددت الأديان ظلمات الكفر والوثنية وأضاءت بقبس من الألوهية سبيل الهداية والإيمان، فإن العقل جاء بالعلم ليستكشف العوالم المحيطة بالإنسان وليجيب على الأسئلة كيف؟ ولماذا... وكأنه يطبق التوجيه القرآنى فى التدبر فى السماء والأرض والليل والنهار والعناصر والمعادن والإنسان وما يعرض له من صحة ومرض واختلاف الأجناس والألوان واللغات الخ... بدءوا حيث انتهى العلماء المسلمون وتسلحوا بالأسلوب العلمى والتجريبى الذى بدأه العلماء المسلمون ثم ويا للأسف نسوه وأهملوه.

ومما يثير الدهشة أن معظم الاكتشافات التى أحدثت الثورة الصناعية والثورة العلمية والتى انتهت بالأجهزة والاكتشافات الكبرى كالآلات البخارية، والتليفون والكهرباء والسيارات الخ... كلها بدأت بدايات بسيطة ساذجة، وعلى أيدى مهرة الصناع وأجريت التجارب عليها فى البيوت وكانت المصادفة العارضة عاملاً فيها.. وعندما يتساءل الإنسان ولماذا لم تتح هذه العوامل للعلماء المسلمين وهم الذين بدءوا المسيرة لكان الرد أن الأوربيين قد رزقوا قوة ملاحظة نفاذه. فما الذى يجمع بين إطارة البخار لغطاء الحلة المغلقة، وبين فكرة استخدام البخار كقوة دافعة؟.. وبين سقوط تفاحة، وقانون جاذبية الأرض؟.. إن الكثير من الاختراعات جاءت عن طريق مصادفات كهذه كان يمكن أن تذهب أدراج الرياح لولا قوة الملاحظة، وما هو أهم، أن المجتمع الأوربى مجتمع حيوى يؤمن بالحياة، والحياة هى رأس ماله الوحيد، فهو لا يفكر فى حياة أخرى بعد الموت. إن الحياة هى جنته وناره، ومن أجل هذا فوراء علمه، وفلسفته، وفنونه، رغبة غريزية عميقة فى أطواء النفس عن حب الحياة، وعن تسخير كل قوى الطبيعة لجعل الحياة أكثر ثراء وكانوا فى هذا يختلفون بالطبع عن المجتمع الإسلامى الذى جعله إيمانه بالحياة الآخرة يستهدف هذه الحياة وكان الطريق فيما ظن – لأن العصر كان عصر الإيمان الذى أطبق على هذه الأجيال – هو العبادة فحافوا على حق حياتهم وكان جديراً بهم أن يعلموا أن إثراء الحياة الدنيا يثرى الحياة الآخرة أيضاً، لأن الحياة الدنيا كما يقولون. مزرعة الآخرة ولكن روح العصر حالت دون أن يدركوا ذلك ففقدوا تلك القوة الدافعة المحرقة التى تتضرم فى نفوس الأوربيين وتجعلهم يسخرون كل ملكاتهم لخدمة الحياة. ولو اقتصرت البحوث والاكتشافات والاختراعات على جانب الاستمتاع بالحياة فقد يكون للفكر الدينى شيئاً من الوجاهة. ولكن النقطة الهامة هى أن تلك البحوث والعلوم استهدفت أول ما استهدفت الطاقة (power): أى القوة. وعن طريقها أصبحت الدول الأوربية أقوى دول العالم وتمكنت من استعمار العالم الإسلامى فى القرن التاسع عشر، ثم واصلت المسيرة فى الولايات المتحدة – حتى نقلت الحروب من الأرض إلى السماء وأصبحت سماوات العالم مكشوفة أمام الطائرات والصواريخ الخ... من هنا ظهر خطأ الفكرة التى استولت على أذهان المفكرين الإسلاميين سواء كانوا مفسرين أو محدثين أو فقهاء، أو شعراء، عن تسخير الحياة الدنيا للآخرة بالعبادة من صلوات أو ابتهالات أو صوم الخ... وكان قمينا بهم أن يعملوا لجعل إثراء الحياة الدنيا وأن تكون مجال قوة تجعل المسلمين أعزة، ولا عزة إلا بالقوة.

وبجانب هذا الانغلاق الدينى، وجد الاستبداد السياسى لطغاة حكموا حكماً مطلقاً وأهدروا ضمانات العدالة وآليات الشورى التى أوجبها الإسلام، وكان الكثير منهم قادة عسكريين ولم يكن معظمهم من أهل المنطقة ولم يكن لديهم شعور بأن الحكم وظيفة لتعمير الأرض وإصلاح المجتمع وإسعاد الناس. وبينما كان ملوك أوربا وأمراؤها يشجعون "العلم ويقدرون المكتشفين كان ملوك الشرق وخلفاؤه يكافئون الشعراء الذين يمدحونهم ويجزلون لهم العطاء. فكانوا من أكبر أسباب تأخر العالم الإسلامى.

هذا استطراد رأينا فيما يبدو أنه هام لأنه يجيب على علامة استفهام مزعجة، ولأنه قد يسهم فى تصحيح وضع خاطئ ...

ولنعد مرة أخرى إلى السياق ..

فنرى أن عملية اكتشاف قوى الطبيعة بدأت فى مجال الطاقة – أى القوة التى كانت حتى ذلك الوقت هى العضلات الإنسانية أو قوى الحيوان. وبدأت مع استخدام ظاهرة "قوة البخار" وطرأت فكرة حبسه فى قناة ضيقة بعد غلى الماء بنار الفحم حتى يصبح له قوة دافعة تسلك طريقها فى سلسلة من القنوات بحيث تحرك تروساً أو روافع. أو أجهزة فى آلات وبدا استخدام الفكرة فى صناعة الغزل والنسيج، وضمت المجموعة التى توصلت إلى ذلك غزالاً، وحلاقاً، وقسيساً، وراعياً بحيث ظهر فى النهاية المغزل الآلى ونول النسيج الميكانيكى، بينما كان هناك محاولات جادة لاستخدام البخار فى المضخات التى تسحب الماء من مناجم الفحم، ودفع بإحدى هذه المضخات إلى ميكانيكى نابغ هو جيمس وات الذى عكف على إصلاحها بحيث أصبحت تؤدى المهمة بكفاءة.

وانتقلت الفكرة إلى مجال آخر هو مجال النقل الذى كان بدء التقدم فيه هو إقامة قضبان حديدية تسير عليها عربات تجرها الخيول. وكان هذا بالطبع يكفل سرعة أكثر من سرعة العربات على الأرض. ولكن جورج استفنسن (George Stephenson) – وقد كان وقّادا وميكانيكيا – فكر فى استخدام قوة البخار فى آلة تقوم بجر العربات – أى القطار وذلك بتحويل الطاقة من المحرك إلى عجلات الجر عن طريق عجلات مسننة، وعكف على ذلك حتى توصل إلى صنع قاطرته التى أطلق عليها "الروكت" التى ركبها خمسة وثلاثون راكبا وسارت بسرعة 25 ميلاً فى الساعة وكانت تلك هى البداية المتواضعة التى سارت قدماً حتى ظهرت القطارات التى تسير بسرعة مائة ومائتى كيلو وتجر عشرين عربة وكانت أكبر عامل فى بلوغ الأراضى البعيدة واستثمارها وربطها وإنتاجها بالأسواق.

كان البحث عن "الطاقة" فى حقيقته تعبيراً عن إرادة المجتمع الأوربى التوصل إلى "القوة" وهذا هو ما كان فى ذهن جيمس وات. وعندما زاره ملك إنجلترا فى ورشته هو وشريكه بولتن وقال له فى آنفة الملوك.

- ماذا تصنعون ؟

- أجاب إننا نصنع يا مولاى ما يريده كل الناس "القوة" (Power).

ولهذا لم يكن اكتشاف البخار إلا الخطوة الأولى فى سبيل استكشاف القوى التى وصلت إلى الكهرباء ثم إلى الذرة ...

وكان المجتمع الأوربى فى بحثه عن القوة، وفى استخدامه العلم لتسخير الطبيعة وعناصرها لخدمة الحياة مسوقاً بتلك بروح الحيوية، وحب الحياة وجعلها محوراً ومنطلقاً للنشاط الإنسانى.

وعبّرت كتابات فرانسيس بيكون (1561 – 1626) عن التكييف الجديد للعالم والوسائل العلمية للتعامل مع قوى الطبيعة فى مؤلفه "Novum Organum" الذى رزق انتشاراً وأثار انتباه الجمهور للعلم والبحث العلمى ثم جاء ديكارت فحرر الفكر من إسار الاتباع الأعمى وضرورة التثبت من صحة الأحكام واختبارها على محك العقل والتجربة.

"ومما أمتاز به القرن السابع عشر إنشاء جمعيات علمية فى مختلف الحواضر الأوربية. غايتها أن تضم رجال البحث العلمى والفلسفى، للمباحثة والمناقشة حثاً للهمم وشحذاً للأذهان فتألفت فى إيطاليا سنة 1603، برعاية الأمير فريدريجو شيزى (Duke Federico Cesi) الجمعية اللينسوية (Accademia dei Lincei-Academy of the Lynxes -The Linceans) نسبة إلى "الوشق" (lynx) الذي اتخذته الجمعية رمزًا لها، وهو حيوان من فصيلة النمر يتميّز بنظره الثاقب، البالغ الدقة إشارة إلى التدقيق المطلوب في البحث العلمي. وكان غليليو عضواً فيها. ثم انحطت فحلت محلها فى سنة 1657، الجمعية المشهورة باسم مدرسة الطبيعيين الفلورنسيين (نسبة إلى مدينة فلورنسة الإيطالية) (The Accademia del Cimento - Academy of Experiment) التي أسسها تلاميذ غليليو وتوريشلى صاحب التجارب المشهورة فى ضغط الهواء. وفى فرنسا أنشئت أكاديمية العلوم الملكية سنة 1666 فى عهد الملك لويس الرابع عشر (1699 Académie des Sciences 1666 - Académie Royale). وتألفت جماعة فى أكسفرد سنة 1645 (the Invisible College – the Society) تحولت فى عهد الملك تشارلز الثانى سنة 1662 إلى معهد ملكى يعرف باسم الجمعية الملكية لتقدم العلوم واسمه المتداول الآن الجمعية الملكية فقط (the Royal Society). ومما يتصل بإنشاء هذه الهيئات العلمية تأسيس مرصد باريس القومى سنة 1667 ومرصد غرينتش سنة 1675.

أما وهذه هى الأحوال المؤاتية للعلم والبحث، فلا عجب أن يتصف النصف الثانى من القرن السابع عشر بنشاط عجيب فى البحث العلمى، وبتقديم أعجب فى الرياضة والطبيعة، وبطائفة ممتازة من أكبر العلماء والفلاسفة الطبيعيين أمثال بويل وهوك وهالى فى إنجلترا. وليبنتز وهوجنس وتوريشلى وباسكال فى ألمانيا وهولندا وإيطاليا وفرنسا. ولكن نيوتن كان بين معاصريه، كالجبل الشامخ، كان جباراً بين جبابرة، كان عالماً لا يدانيه عالم آخر فى تنوع مباحثه وجمله ما أضافه من الحقائق والقواعد الأساسية إلى علوم الطبيعة. كان حقاً أميراً لفلاسفة الطبيعيين بلا منازع."[74]

ويضع أمامنا كتاب "أساطين العلم الحديث" الذى وضعه فؤاد صروف محرر المقتطف سنة 1936 عقداً نظيماً للعلماء والمخترعين والمكتشفين الذين رادوا هذا الطريق من القرن السادس عشر حتى الفترة المعاصرة بدءاً من الذين وجهوا مراصدهم نحو السماء لاستكشاف النجوم والأقمار والكواكب والشمس مثل كوبرينكوس وكيلر وجليليو وهرشل أو الذين عالجوا الطبيعة مثل بريستلى ولافوازيه ودايفى وفراداى ومكسول وميكلين ودالتون ومندليف وكورى ورذرفورد وماركونى ثم أديسن صاحب الألف اختراع وفورد الذى صنع السيارة والإخوان رايت اللذين صنعا الطائرة.

ومن الغريب أن الثورة الصناعية استهلت بفضل جهود صناع وعمال هم الذين توصلوا إلى استخدام قوة البخار فى آلات الغزل والنسيج ثم القطار البخارى.. ثم كادت الثورة تتكلل ببضعه من الصناع والعمال هم أديسن الذى توصل إلى اكتشاف المصباح الكهربائى. والجرامفون ومئات الاختراعات الأخرى التى يسرت السينما وكان أديسن بائع صحف وعامل تلغراف وفصل من المدرسة وهو طفل لأنه غبى! فتولت أمه تربيته. وهذا الغبى هو الذى ضرب الرقم القياسى فى براءات الاختراع! أما فورد فكان ميكانيكيا وعامل فى إصلاح الساعات.. وهو الذى جعل من السيارة أداة عملية للركوب فقضى على عهد البغال والحمير وسمح بظهور المدن الكبيرة أما اللذان صنعا الطائرة لأول مرة وهما الإخوان رايت فكانا أصحاب دكان لإصلاح الدراجات ومن إصلاح الدراجات حتى آفاق السموات أمام الإنسان وقدما "بساط الريح" للجميع !

وفى مجال الطب ظهر "غزاة الميكروب" الذين اكتشفوا لأول مرة بالعدسات المكبرة كائنات لا ترى بالعين المجردة. وقد رآها لأول مرة صانع عدسات هولندى يدعى لوفن هوك عندما نظر عبر إحداها فى قطرة ماء فوجدها تعج بمئات الكائنات الدقيقة. ودخل الحلبة باستور وكان ابناً لدباغ وحفيداً لأحد أقنان الأرض فتوصل إلى ميكروب الكلب وشفا الناس من داء من أسوأ الأمراض ثم واصل المسيرة أطباء وعلماء كيمياء كشفوا جراثيم السل. والدفتريا والجمرة ومعظم الأمراض وخلصوا البشرية منها أو أوجدوا فى الناس مناعة أو حصانة منها.

ومع مشارف العصر ظهر جهاز جديد هو الكومبيوتر أو الحاسوب، وظهر معه "الإنترنت" كما ظهرت قنوات التليفزيون الفضائية التى تنقل مادتها عبر الأقمار الصناعية فأصبحت أخبار العالم كله وأحداثه تشاهد وقت وقوعها فى أفريقيا وإن حدثت فى أمريكا.. وفى أوربا وإن حدثت فى آسيا ..

هذا العالم الرائع – عالم العلم – عالم المعرفة: عالم معالجة الظواهر والعناصر والقوى وأسرار الحياة والموت والصحة والمرض. هذا العالم الذى حقق حلم الأقدمين فى الطيران إلى الكواكب.. والنزول على القمر.. العالم الذى أمسك "الجوهر الفرد" وحجر الفلاسفة والأكسير الذى يجعل الرصاص ذهباً واستخرج أقوى قوة من أصغر "ذرة" كل هذه العوالم توصل إليها الإنسان من بدايات متواضعة حتى نهايات فاقت الخيال وجعلها العلماء فى خدمة البشرية.. هذه المعايشة هى التى يمكن أن ينفِسها الملوك على العلماء.. أكثر مما ينفسها على الصوفى القديم (كما قالوا) ...

إن العالم الحديث وضع تحت تصرف العامل والعاملة من وسائل الحياة ما لم يصل إليه الملوك والأباطرة.. وجعله هينا سهلاً سائغا يتم بضغطة من إصبع.

فالعصر الحديث، يدين سدى ولحمة، للعلماء والمكتشفين والمخترعين وهم الذين بنوه طوبة ودفعوا المجتمع الإنسانى ونهضوا به كما لم ينهض أحد من قبل.

f

إن حركة هذا التقدم والبحث والعلم والتوصل إلى الاكتشافات والاختراعات وأن كان قد بدأت متواضعة على ما أوضحنا فإن استمرارها ومواصلتها ما كان يمكن أن يتم لولا أن المجتمع الأوربى كان مجتمعاً واحداً رغم تعدد دوله فكان العالم فى إنجلترا يستفيد من العالم فى فرنسا، وهذا يستفيد من إيطاليا، حتى روسيا القضية قدمت الرجل الذى وضع جدول العناصر طبقا لوزنها الذرى فكان الجديد يبدأ حيث انتهى القديم وكان العلماء فى الشرق والغرب يتبادلون المعارف ويستكمل بعضهم ما ببعض وكان المناخ القائم هو مناخ الطموح نحو التقدم والثقة فى الإنسان والحرية فى المعرفة.

ظهر بجانب المخترعين والمكتشفين ورجال العلم، الشعراء والفنانون الذين اسهموا فى تقدم المجتمع. إن مسرحية "لعبة البيت" للمسرحى النرويجى أبسن كانت دفعة نحو تحرير المرأة كما دفعت رواية "كوخ العم توم" دعوة تحرير العبيد فى الولايات المتحدة حتى أوقدت الحرب ورحب لنكولن بمؤلفتها "السيدة الصغيرة التى أضرمت الحرب الكبيرة" كما كان هناك الفلاسفة الذين وضعوا القيم للمجتمع ولا يتسع المجال لتعدادهم وحسبنا أن نذكر ديكارت الفرنسى الذى حرر الفكر من ربقة الاتباع والتقليد واجست كونت فيلسوف التقدم وكانت صاحب القيم والواجب وهيجل الذى أبرز "الجدلية" التى قضت على منطق أرسطو الجامد وماركس الذى نقل الفلسفة من أبراج العاج إلى منابر الشعب وحولها دعوة للعدالة والانتصاف.. كل هؤلاء استكملوا للمجتمع الأوربى قيمه، وآدابه، وهذبوا طباعه.

فأنىَّ للحكومات والدول أن تقوم بشىء مما قام هؤلاء العلماء وما كان السبب الحقيقى لنهضة الشعوب وتقدمها ..

هل قامت الدول والحكومات باكتشافات واختراعات؟ هل عكفت على علوم وأبحاث؟ هل قدمت فلسفة للحياة.. هيهات. إن الحكومات لا تعنى بالعلوم والأبحاث إلا عندما تتعلق بالتسليح. وعندئذ تستغل ثمرتها فى قتل الملايين وتدمير المدن وإشاعة الفوضى والخراب، وقد ندم ندماً شديداً علماء الذرة من إينشتين حتى أوبنهيمر أنهم وضعوا أسرارها فى خدمة الحكومة الأمريكية فصنعت قنبلتين أزالتا مدينتين آهلتين بمئات الألوف من السكان فى غمضة عين.

- 2 -

قد لا تكون بعض البلاد محظوظة كالدول الأوربية التى تحدثنا عنها، ومع ذلك فإنها لم تحرم قوة تنهض بها، لم تكن هذه القوة هى اكتشافات العلماء.. ولا هى الإصلاحات السياسية ولكنها الأداب والفنون والدعاة وهذا ما حدث فى روسيا القصية البعيدة التى كانت على أطراف أوربا وأطراف آسيا وتمزقت هويتها بين الاثنين فكان هناك فريق سلافى يعود بها إلى آسيا البيزنطية وكان هناك فريق أوربى يعدها جزءاً من أوربا كفرنسا وإنجلترا وألمانيا وعندما ظهر بطرس الأكبر حاول أن يحسم الصراع ويجعل روسيا أوربية فبنى بطرسبرج كعاصمة عملية وأدخل الصناعات وأمر الرجال بحلق لحاهم وتقصير أرديتهم الشرقية الطويلة، ثم جاءت كاترين الثانية، وكانت ألمانية الأصل فرنسية الثقافة – فدفعت هذا الاتجاه دفعة إلى الأمام ولكن بطرس الأكبر وكاترين الثانية قاما بالفتح والتوسع وكان يجاورهما ممالك التتر والخانات خلائف جنكيز خان الذين استعبدوا الروس حينا من الدهر وكانت موسكو تجمع الإتاوات من الولايات الروسية لتقدمها للخان. وكانت هذه الممالك قد تدهورت فغزاها بطرس وكاترين واستلحقا مدنها وضماها إلى روسيا، وبذلك عادت روسيا مرة أخرى أسيوية.

كانت روسيا فى القرن الثامن عشر متخلفة، يطلق عليها بسمارك "اللاشىء الكبير" تسودها الأمية، ولم يتحرر فيها الأقنان إلا سنة 1861 وتقاسم السلطة فيها القيصر والبطريرك، ولم تشهد مرحلة الأحياء والنهضة التى حدثت فى أوربا فى القرن الخامس عشر والسادس عشر، ولا حركة الإصلاح الدينى، ولا شهدت الثورة الفرنسية فى أواخر القرن الثامن عشر كانت قارة مغلقة يعمها ظلام الليل ويلفها صمت القبور ويعمل فيها ملايين الفلاحين الذين كانوا رموزا للغفلة والجهالة والفجاجة يطلق عليهم "الموجيك" وفى أواخر القرن الثامن عشر عندما حاربت قواتها مع نابليون حينا وضده حينا آخر تعرف فريق من الضباط على الحضارة الأوربية وعالم الحرية فلما عادوا حاولوا الثورة على القيصر نقولا الأول الذى كان يعد رمزاً للأوتقراطية وأرادوا تكوين ملكية دستورية تستمد سلطتها من الشعب وتسئل أمامه، ولكن مؤامرتهم كشفت وقبض عليهم القيصر سنة 1825 وقتل بعضهم ونفى الآخرين إلى سيبريا حيث أقاموا البقية الباقية من عمرهم وكانوا عنصر تقدم فى هذه الناحية. وكانت هذه الحركة التى حملت اسم "الديسمبريون" هى أول محاولة لانقلاب يستهدف الإصلاح ..

وبعد هذه القومة الفاشلة شدد القيصر قبضته وعاد ظلام الليل الدامس وصمت القبور الموحشة ..

ولكن بدا وسط تلك الظلمات الموحشة شهاب ثاقب بدد الظلمات وأحيى النفوس وأوجد وعياً وإحساساً بالحياة وأخترق الحجب حتى وصل إلى الريف الموحش المظلم.

كان هذا الشهاب هو الفنون والآداب. وبوجه خاص الشعر والرواية وظهر الشعراء والروائيون العظام بوشيكين، وتورجنييف، ودستويفسكى وتولستوى وجوجول الخ... كما ظهر الكتاب الاجتماعيون ودعاة الثورات فأخذت الظلمات تنقشع.. والوعى يتيقظ، بل قد جاوزت الرواية الروسية بفضل عمالقتها الثلاث دستوفيسكى وتورجيف وتلستوى حدود روسيا ووصلت إلى أوربا حيث أثارت موجة من الإعجاب والحماسة.

فانظر إلى التربة الهامدة وقد سقط عليها المطر فأحياها وأثمر فيها من كل زوج بهيج. تلك حالة روسيا عندما انقذها الشعر والأدب من سباتها وهمومها، ويأسها واستسلامها ..

ولاحظ كاتب أن الأدب الروسى هو أكثر آداب العالم تنبؤية وهو ملىء بالنذر والتنبؤات. والتحذير من الكارثة المقبلة سمة مميزة له. وقد شعر كثير من الكتاب الروس فى القرن التاسع عشر أن روسيا معلقة على شفا هاوية تكاد تتردى فيها. وكان القرن التاسع عشر بأسره وهو من جميع القرون فى التاريخ الروسى – أعظمها فى القدرة الخلاقة – قرن الثورة الآخذة فى النمو ولم يولد الأدب الروسى من وفرة خلاقة سعيدة، بل من العذاب ومن معاناة البشرية المؤلمة ومن البحث عن الخلاص للناس كافة."[75]

كان بوشكين شاعر "الإمبراطورية" والمقرب من البلاط ومع ذلك فإنه كان يهيم بالحرية، ويستشعر الآم الجماهير ويصب لعنته على الطغاة.

ويذهب البعض إلى أن الدوائر الرجعية فى البلاط القيصرى هى التى استفزته لكى يبارز ضابطا محترفاً غازل زوجته وهى تعلم أنه مقتول لا محالة.

وجاء فى بعض أشعاره :

نحن ننتظر وقلوبنـا المشوقة تخفـق

بالأمل فى الحرية المقدسة، كما ينتظر

عاشق شـاب لحظة لقائه بحبيبته

وسيتذكرنى القوم البسطاء طويلاً

لأن قيثارى جعـل قلوبـهم إلى الحنـان تميل

وبالرحمة أهبت لأولئك الذين يسقطون ويهلكون

وبمدائح الحرية تفتت فى هذا العصر القاسى

ولا نعدم تنديداً عنيفاً بالقياصرة ..

أيها الطاغية الشرير

عليك وعلى أهلك لعنتى !

وفى سرور غامر أهب بذرتك

للموت، وأقدمك للهلاك الأبدى !

وتنبأ لرمنتوف فى قصيدته المسماة "نبؤة" التى نشرها سنة 1830 :

سيـأتى ذلك اليـوم، ذلك اليـوم المظـلم لـروسيـا،

حين يهوى تـاج القيصر.. وهؤلاء الذين أحبـوه يوما

لن يحبوه بعد، وسيعيش الكثيرون على الموت والدماء.

لن يمنح القانـون الـذى وطئ بالأقـدام مأوى للطفل

أو المرأة البـريئة. وسيجـوب الطاعون المنبعث من

الجـثث المتعفنة الأرض التى نـزل الحـزن بساحتها،

وينتـقل مـن كـوخ إلـى كـوخ طالبـا معـونـة

لا يستطيع أن يقدمها أحد،

وستقبـض آلام المجـاعة الرهيـبة على مخنق الريف

بمخالب لا ترحم.

ووجد الضمير المعذب بشقاء الجماهير شاعره فى نيقولا نكراسوف (1821 1877) الذى جاء ليقود القراء فى الستينات والسبعينات من القرن التاسع عشر وصور فى قصائده أنواع الفلاحين والمناظر الطبيعية الروسية بأسلوب واقعى دارج. وعبرت قصائده الأخيرة عن حزن الملايين من أبناء وطنه وشقائهم، وبدا لمعاصريه أن سوداويتهم ومزاجهم الذى يقرب من اليأس، يمثل الواقع حقيقة. ومعظم قصائده الطويلة مثل قصيدته الشائعة "من يجد الحياة طيبة فى روسيا؟" أو "النساء الروسيات" (عن زوجات الديسمبريين اللائى تبعن أزواجهن إلى منفاهم).

وكان نكراسوف يؤمن برسالة الشعر الاجتماعية، وكانت تعليقاته على الأحداث الجارية تخاطب بوضوح أمثاله الذين يؤمنون بـ "أمتنا روسيا التعسة الثرية المظلومة ذات البطش. الضعيفة القوية، وقد كان نقادة النبلاء على حق تام فى شكواهم من أن قصائده "تفوح منها رائحة الفلاحين" فقد أدخل نكراسوف أحوال الفلاحين وحركاتهم فى الشعر المكتوب.

بالإضافة إلى بوشكين، و لرمنتوف ونكراسوف فقد وجد ميخائيل لتيكوف (1826 – 1889) الذى كان يكتب تحت اسم شهرة "شتشيدرن" وكان من أبرز ممثلى المعارضة للسياسة القيصرية وهاجم بعنف أخطاء الساسة الأغبياء، وفساد أعضاء الحكومة المركزية الكسالى، وجهل الطبقات الحاكمة وتخلف الأشراف الرجعيين، وجشع الرأسماليين الحديثى الظهور ومعاداتهم للاستنارة. وعرض فى قصة رمزية تتكلم عن مدن خيالية، تاريخ روسيا القيصرية بأكمله كسلسلة طويلة من الأعمال البربرية والأخطاء، وسخر من الأباطرة والوزراء، وهزأ من الإجراءات الرجعية التى حاول الحكم المطلق بها أن يوقف انتشار الأفكار التقدمية.

وعبر الكسندر بلوك (1880 – 1921) عن مشكلات الحياة والثقافة، واصطبغت قصائده الجديدة، ومن بينها "أشعار من روسيا"، وقصيدة "حقل كوليكوف" عن شخصية روسيا ومصيرها، بالشعبية والتطرف مع نغمات سلافية عرضية. وعبر فى قصائده القصصية الغنائية ومسرحياته عن نذير الكارثة القريبة وبداية فترة تاريخية جديدة.

وظهر بجانب الشعراء الكتاب والنقاد الكبـار مثل فيساريون بلنسكى (1811 - 1848) الذى كان الزعيم الفكرى لجيل بأسره وكانت الطبقة المستنيرة تقرأ وتناقش بشغف تفسيراته للأدب والمجتمع ويعكس تطوره الفكرى تطور اتجاهات عصره وانتهى إلى أن الحرية والعدالة السياسية والاجتماعية على حد سواء يجب أن تكون من لزوميات أى تطور تاريخى. وأن الإنسان نفسه يخلق القيم التى تستخدم كمعايير فى استطلاعه للوقع. ويجب ألا يظل الجمال، والعدالة، والحقيقة، أسمى من الحياة بل يجب أن تتخلل الحياة ذاتها، ويجب أن تغير الحياة لتحقيق ذلك.

ووصفة الدكتور لويس عوض :

"وفى مناقشاته الكلامية كان بلنسكى إذا غضب يصول ويجول ويقارع غريمه الحجة بالحجة ويهجم عليه بالمحاجة تلو الأخرى كما يهجم الليث على فريسته فلا يتركها إلا جثة بلا حراك. وفى حياته دان له النفوذ الأدبى المروع فأصبح يعز من يشاء من الأدباء ويذل منهم من يشاء. ولكن لم يصدر أحكامه أبدا عن الغرض والهوى. ورغم أن التوفيق فى آرائه النقدية كان يجانبه أحيانا فإن بصيرته فى اكتشاف مواهب جوجول ولير منتوف وتورجنيف وجورنشاروف فدل ونيكراسوف وهرزين ودستيوفسكى وغيرهم. وبسبب أمانته لم ير أدنى غضاضة فى العدول عما يراه خطأ فى آرائه. هكذا عاش حتى مات بداء السل فى عام 1848."

ويماثل بلنسكى فى الأهمية الكاتب تشرنشفسكى الذى – فيما رأى نقولا برديائف "لم يسيطر على فكر الانتلجنسيا المتطرفة فى الستينات فحسب، بل وسيطر أيضاً على فكر الأجيال التالية. وأسهمت الهالة التى أحاطت باسمه عقب الحكم عليه بالأشغال الشاقة إسهاما كبيرا فى شعبيته."

وكتب تشرنشفسكى رواية سماها: "ما العمل؟" أصبحت نوعا من كتب العبادة لدى العدمية الروسية، ومرجعا للانتلجنسيا الثورية الروسية.

وهذه الرواية هى التى جعلت لينين يكتب – فيما بعد – كتابا بنفس الاسم "ما العمل؟" كما أن الاتجاهات الاشتراكية لتشرنشفسكى جعلت ماركس يدرس الروسية حتى يستطيع أن يقرأ مؤلفاته – رغم عزوف ماركس عن روسيا وصعوبة اللغة الروسية.

على أن التأثير الأعظم على الأمة الروسية جاء كرد فعل للقصة والرواية لأن الجمهور الذى يقرأ القصة والرواية أكبر من الجمهور الذى يقرأ الشعر أو النقد الأدبى. ولأن المعالجة الروائية – خاصة فى الطويلة منها – تتيح عرض جوانب عديدة من جوانب المجتمع. ومن هنا فيمكن القول إن الرواية الروسية كانت من أكبر عوامل التأثير فى المجتمع الروسى وإيجاد رأى عام. عن عوامل التخلف فى المجتمع الروسى.

كان أول هؤلاء الكتاب الروائيين هو جوجول الذى بعد معالجة طويلة للقصة انتهى إلى القضية الاجتماعية / الإنسانية التى تجلت فى قصته المشهورة "المعطف" التى يحلم بطلها وهو موظف مغمور بشىء واحد هو معطف جديد يرى أنه رمز الكرامة الإنسانية وبعد معاناة طويلة يحصل عليه، ولكن فى الليلة التى يرتدى فيها معطفه يتعرض للهجوم على قارعة الطريق ويجرد من أغلى ما يملك: المعطف – ويحاول بكل طرق استعادته ولكنه يفشل ويموت بتأثير الحزن ويسكن شبحه شوارع العاصمة التى يغطيها الجليد. وذات يوم ينتزع المعطف من كتفى الذى اغتصبه فيختفى الشبح إلى الأبد.

وكان لهذه القصة تأثير هائل لأن جوجول أحسن عرض رثاءه للموظف المغمور فريسة الظلم الاجتماعى وإحساسه بالظلم، والضياع وسط البيروقراطية. وقد قال دستويفسكي "كلنا خرجنا من معطف جوجول" ..

وفى عام 1836 قدم جوجول مسرحية "المفتش العام" التى مكنته من أن يعرض لمشاهد الفساد فى الإدارة القيصرية.

وتدور أحداث المسرحية فى مدينة صغيرة من مدن الأقاليم، يحكمها محافظ فظ مولع بالاستيلاء على الأموال، وزمرة من الموظفين الجهلة غير الأمناء. ويعتقد الجميع خطأ أن خلستاكوف، وهو شاب آفاق مفلس، هو المفتش العام المنتظر قدومه من سانت بطرسبوج. ويستغل خلستاكوف الفوضى، ويتقاضى الرشى، ويخطب ابنة المحافظ، ثم يرحل دون أن يغفل إرسال خطاب إلى صديقه، يسخر فيه من هؤلاء الذين وقعوا فريسة لخداعه. ويطلع مدير البريد على الخطاب ويقرأه علنا فيما بعد فى منزل المحافظ، على مسمع من الضحايا المذهولين الذين يسمعون فى النهاية بأن المفتش العام الحقيقى قد وصل لتوه.

وصور جوجول فى قصته شخصيات لا تنسى، كالمحافظ الفظ وزوجته العابثة، وابنته الفارغة العقل، واثنين من ملاك الأرض الحمقى، والروس القصار المكتنزين، وناظر البريد المتجسس، ومدير المستشفى سوداوى المزاج، يعالج المرضى كالذباب، وأخيراً خلستاكوف، الكاذب والدعى الضحل، والرمز الدنىء للتبلد الإنسانى. وعلى الرغم من حب جوجول للتصوير الهزلى، فقد وجد قراؤه أن شخصياته هى شخصيات مألوفة، كجزء من الواقع الروسى. وبلغ من صدق هذه الشخصيات ودقة تصويرها أن "المفتش العام، قوبلت بالمديح كمؤلف هجائى اجتماعى، وملهاة قومية. وبدأ أن أهميتها السياسية كهجوم على الحكم الراهن يرجح كافة مزاياها الأخرى.

وبعد المفتش العام كتب جوجول "الأرواح الميتة" وهى عن محتال "محترم" يقطع مسافات طويلة كى يشترى أرواحاً ميته لأرقاء ماتوا من أصحابهم وبهذه الطريقة يدعى أنه يمتلك الآلاف من "أقنان الأرض" ويكتسب وضعا اجتماعياً مرموقاً ويقوم بعملية "رهونات" عديدة ويسعى للزواج من "وارثه" وفى محاولته الوصول إلى غرضه، يصادف كافة أنواع الناس – ملاك الأراضى الراسخى القدم، والذين يشبهون الكلاب، والنبلاء الحمقى ذوى العاطفة السطحية الذين تعوزهم الصلابة ويسمون أطفالهم "يتيموستوكليز وألسبديز" والنساء الثرثارات، والمقامرين المتباهين الذين يمارسون الغش، والبخلاء الجشعين الذين يرتعدون فرقا خوفا على بنس، والموظفين الحاذقين الذين ينظرون إلى القانون على أنه عقبة، والثرثارين العاطفيين الذين تزيد خطورتهم على خطورة قطاع الطريق الخ...

ولم تكن روسيا قد شهدت من قبل كتاباً له مثل المدى والروعة الفنية. وجعل التأثير المتجمع لكل المناظر والشخصيات والحوادث الناس تتساءل – هل هذه روسيا؟ هل من الممكن أن يمثل هذا الموكب من الأهواء والأوغاد الواقع؟

ولم يصل النثر الروسى إلى أصالته الحقيقية إلا فى كتابات جوجول. ولم يكن تأثيره على معاصريه أقل أهمية. والواقع أن كافة الكتاب الروس بين 1840 – 1860 ربما باستثناء تولستوى وتورجنييف الناضج. أحسوا إحساساً قويا بتأثير جوجول، بل إنهم قلدوا أسلوبه الأدبى ولا عجب فى أن بلينسكى ومن بعده تشيرنيشفكسى قد أسمياه (عهد جوجول فى الأدب الروسى) ..

وبعد إيفان تورجنييف (1818 – 1883) أول الثلاثة الذين جعلوا الرواية الطويلة قوة دافعة ومؤثرة فى المجتمع الروسى، وقد كان أكثر الثلاثة إطلاعاً على العالم الأوربى وكان صديقا لفلوبير وهنرى جيمس وعاش ثلاثين عاماً فى فرنسا وألمانيا وكشف عن نفسه ككاتب عظيم عندما بدأ بكتابة "مذكرات صياد" وهى دراسة لشخصية الأقنان والفلاحين وملاك الأراضى وما يحدث فى الحياة الريفية. وأظهرت أن الأقنان كائنات بشرية لها نفس الصراعات النفسية والحنين إلى السعادة الذى كان يعزى إلى سادتهم وحدهم.

وفى رواية "الآباء والأبناء" التى كتبت بعد تحرير الأقنان أبرز لنا شخصية "بازاروف" الذى رمز به إلى رجل الكفاح وحتى تعبير "العدميين" الذى سيتردد بعد ذلك كثيراً فى المجتمع الروسى. وفى روايته الطويلة "الأرض العذراء" أبرز نجدانوف المثقف الرخو العاطفى وسولومين المهندس الميكانيكى العملى وماريانا سليلة الأسرة الأرستقراطية التى تضحى بوضعها الاجتماعى وتلتحق بركب المكافحين و"ماشورينا" الفلاحة الريفية المكافحة.. وتنبأ بأن مستقبل روسيا رهن بالتقدم الصناعى.

وتحدث الكاتب الروسى نقولا برديائف عن دستويفسكى وتلستوى فقال :

"وانعكست الثورة الباطنية التى كانت متصلة فى روسيا أكثر ما انعكست فى عمل دوستويفسكى الخلاق، ولكنها انعكست فى تولستوى على نحو مختلف، ذلك أن فن الأخير لم يكن تنبؤيا، بل كان ثورة فى حد ذاته. ومما له أهمية أن نعقد الموازنة بين هاتين العبقريتين الروسيتين العظيمتين. فالعلاقة بين العنصر الفنى والعنصر العقلى تقيم بينهما تضاداً حادا، إذ كان دوستويفسكى فنانا ديناميا، بل لعله أشد الفنانين دينامية فى العالم. وكل شىء عنده غائص فى جو أثيرى فائر، كل شىء فى حركة عنيفة، ولا شىء قد تحدد أو اتخذ شكلا نهائيا. دوستويفسكى فنان ديونيزوسى. وهو يعبر عن الروح الثورية، ويكشف عن ديالكتيك الثورة، والعنصر التنبؤى قوى فيه غاية القوة. لقد واجه المستقبل، وتنبأ بالكثير مما حدث فيه، وإذا كانت روايات دوستويفسكى مآسى، فإن روايات تولستوى ملاحم. وتعد رواياته أكمل الروايات فى الأدب العالمى، فالحياة الإنسانية ممتزجة بالحياة الكونية، ومختلطة بدورانها. دوستويفسكى يتحرك فى التاريخ، أما تولستوى فيتحرك فى الكون. والدينامية والتنبؤى لا ينتميان إلى الحياة الكونية. وإنما ينتميان إلى التاريخ بالذات.

ومن ناحية أخرى، كان تولستوى ثوريا من حيث الفكر فضح مظالم الحياة، وكان فوضويا وعدميا، تمرد على التاريخ والمدنية بروح راديكالية لم يسمع بها من قبل، فلا ينبغى للإنسان أن يضع قوانين العالم، بل عليه أن يطيع قانون سيد الحياة الأعظم وأعنى به الله. وكان بالتأكيد معارضا للشيوعية إذ لم يكن يقبل العنف، وكان عدواً لكل الحكومات، ويرفض تكنيك الحياة وتنظيمها العقلى، ويؤمن بالأساس الإلهى الذى تقوم عليه الطبيعة والحياة، ويدعو إلى الحب لا إلى البغض، ويمكن أن يعد بطريقة سلبية سلفا للشيوعية، فهو ينكر الماضى، وتقاليد التاريخ، والثقافة القديمة، والكنيسة والدولة، ويرفض كل ظلم اقتصادى واجتماعى بين الناس. وهو يثور على الطبقات الحاكمة المتمتعة بالامتيازات، ولا يضمر أى حب "للصفوة" المثقفة. وبلغ تأنيب الضمير الذى تعانيه الطبقات الحاكمة فى تولستوى أوج شدته. وكان تولستوى مشبعا تمام التشبع بفكرة قيام حياة المجتمع المتحضر على الأكاذيب والحيف. وأراد أن يقطع صلته بهذا المجتمع قطعا تاما. وفى هذه الاتجاه كان ثوريا، ولكنه كان يرفض العنف الثورى.

وبعد أن اصدر تولستوى روائعه "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا" و"البعث" تعرض لأزمة نفسية عميقة انتهت بأن ينبذ هذا الماضى وأن يكرس حياته لخدمة الإنسانية، ومن ذلك الحين وهو يكتب القصة. إما ليعبر عن أفكاره الدينية وإما بتأثير رغبة أقوى من كافة قراراته المنطقية.

وكان التغير الذى طرأ عليه نهاية عملية طويلة. ولما كان قد تأثر إلى حد كبير بروسو الذى كان يعشقه، وحياة الفلاحين الروس الفطرية، فقد كان يضع الطبيعة دائماً فى مواجهة الحضارة، وكان يشعر بأن كافة الشرور مبعثها المجتمع والقيم الزائفة، وبأن الإنسان خير فى جوهره. وكان ضميره يقلقه دائماً. وكان مثل الكثيرين من "النبلاء النادمين" فى فترة الشعبية، يخجل من ثرائه ومركزه الاجتماعى، وأضفى على الفلاحين الفقراء حكمة روحية عظيمة.

وسرعان ما أصبح نبذه لمغريات العالم فعالا. فعلى الرغم من أنه كان أبا لثلاثة عشر طفلا، ورجلا ذا طاقة جنسية قوية ومزاج شهوانى فقد هاجم الجنس بعنف ونادى بالعفة. وفى "سوناتا كروتزر" وهى قصة غاضبـة عن الغيـرة والعشق الجسدى (1889)، هاجم تصنّع المجتمع الذى يغلف الجنس بأكاذيب عن "الحب" والعاطفة. ولم يكن رفضه للفن بأقل تطرفا. فقد هاجم معظم الكتابات، والرسومات، والموسيقى المعاصرة، على أنها وسائل ترفيه عن الطبقات العليا، ومكرسة تكريسا شبه تام لمواضيع الجماع الجنسى والبرم بالحياة والكبرياء. وكل ما كتبه بعد عام 1880 كان يستهدف تحقيق هذه المتطلبـات. وبسط نظريته الجمالية الجـديدة فى مقاله "ما هـو الفن؟" (1897 – 1998) الذى أثر بطريقة غير مباشرة فى نقاد العهد الشيوعى الذين، على أية حال، أحلوا كلمة "اجتماعى" محل كلمة "دينى". وبما أنه آمن بفضيلة العمل اليدوى وطريقة الحياة البسيطة، فقد أعطى لنفسه الحق فى الحكم على الدولة والمجتمع. ولما كان عدو للحرب، والخدمة العسكرية، والعنف، فلم يجد أية صعوبة فى إظهار التباين بين النظم السياسية أو القضائية أو القضائية ومبادئ الحب والرحمة المسيحية. وكان التصنع وأوهام الحياة القائمة على التنافس وغباء الكبرياء وعدم جدوى نشاط الإنسان العقيم هى أهدافه الأثيرة. ثم جاء بعد ذلك التحامل على الطبقة المتعلمة، بما فى ذلك الاعتقاد فى العلم والطب، وممارسات الكنيسة بقداسها الوثنى وطقوسها الدينية التى لا معنى لها. وفى "ما هو الفن؟" (وفى "الحرب والسلام" من قبلها) سخر من سخافة المسرحيات الغنائية والبالية، وبعد ذلك فى "البعث" تحدث بطريقة تحقيرية عن القداس على أنه "كلام سحر" حتى إن الكنيسة اعتبرت ذلك تجديفا وحرمت تولستوى من الكنيسة. ولكن هذا لم يمنعه على أية حال من التبشير بما أسماه "المسيحية الحقيقية" التى تقوم على موعظة المسيح فوق الجبل وأسس إنجيل المسيح: "أحب جارك" "ولا تقاوم بالعنف". وكانت هاتان الآيتان، فى رأى تولستوى، إرشادا كافيا للحياة وفقا للمشيئة الإلهية. وعلى أية حال، فقد أنكر ألوهية المسيح وخلود الروح، ورفض مناقشة مشكلات ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقية)، واقتصر على الأخلاق. ودعم تولستوى هذه الديانة الإنجيلية الفطرية بتوصيات قليلة تعكس إعجابه بالفلاح: يجب على الإنسان أن يرفض الحضارة الآلية، وأن يعيش فى وحدة مع الطبيعة، وأن يعمل بيديه (كان تولستوى يصنع أحذية ويحرث حقوله بنفسه، وكان يستمد من ذلك المتعة التى يصفها ليفين فى "آنا كارنينا" وأن يظل نباتيا. وكان يرى أن البساطة والطهارة والطبيعة والتسليم، هى الفضائل الأساسية للإنسان، وكان يعتقد أن ممارسة هذه الفضائل تستطيع أن تقود الإنسان إلى الخلاص. ولا تستطيع أية ثورة أو تغيير أن تساعد على ذلك، إن مملكة الله بداخلنا، ولا يمكن تغيير البشرية إلا بإصلاح الفرد فقط بالمجهودات المركزة لملايين الإرادات المنفصلة.

وبعد أن رفض تولستوى فكرة الملكية على نحو ما فعلت الشيوعية والرسولية البدائية، وصل إلى حد التخلى عن كافة "ممتلكاته المادية" بما فى ذلك حقوق الطبع. ومع ذلك، فقد شعر بأنه لم يؤد واجبه كاملا، وفى سن الثانية والثمانين تخلى عن زوجته وأبنائه، وترك منزل أسلافه العريق وهام على وجهه فى طرق روسيا. وفى أثناء تجواله سقط مريضاً، وتوفى فى محطة سكة حديدية مغمورة عام 1910 ودفن رفاته فى حديقة كلير جليدز.

وكان لحياة تولستوى – ومايزال – تأثير بالغ الاتساع والعمق. وقد اتبع الآلاف من تلاميذه فى كافة أنحاء العالم، من غاندى فى الهند إلى رومان رولاند فى فرنسا، ومن الفوضويين الدينيين فى اليابان إلى المعارضين الضميريين فى أمريكا.

f

لم يكن غريباً، والحكم الروسى على ما كان عليه – جزيرة من الحكم الأوتقراطى وسط بحر من الحريات الأوربية – وأن يظل القياصرة متمسكين بحقهم الإلهى فى الحكم، ورفضهم الدائم لبدء حكم دستورى – نقول لم يكن عجيبا أن يظهر بالإضافة إلى الشعراء، والروائيين، والكتاب، مجموعة أخرى من الثوريين الذين ضاقوا ذرعاً برفض الحكومة القيصرية ودعوات الإصلاح، فبدأوا فى الثورة عليها.

ولعل شخصية نشايف Nechaev الروسية الصميمة هى أبرز رموز الحركة العدمية، وقد أسس الجمعية الثورية "المحور أو عدالة الشعب" ووضع كتاب "التعاليم الثورية" الذى عرف فيه الرجل الثورى "إنسان كتب عليه الهلاك فلا مصالح شخصية، ولا عمل، ولا عواطف، ولا ارتباطات."

وأمضى نشايف عشرة أعوام فى السجن فى ظروف بشعة، ولكن مضى فى دعايته فحول حراس السجن جميعا إلى أعوان له وعبر طريقهم كان يراسل الجماعات الشعبية.

وأعجب الأشياء هو أن أيدلوجية الفوضوية هى فى شطرها الأكبر من خلق الفئة العليا من طبقة الأعيان الروسى من ذوى الأملاك. فقد كان باكونين وكروبوتكين Kropotkin والكونت تولستوى من كبار الأعيان، هم مؤسسو الفوضوية الروسية والعالمية. وكانت الشخصية الرئيسية هى باكونين الذى كان يعتقد أن الثورة التى تشمل العالم كله سوف يشعلها الشعب الروسى والعنصر السلافى، وهو فى هذه النزعة الميسياوية الثورية يعد رائدا للشيوعية. والعبارة القائلة أن "عاطفة الهدم، عاطفة خلاقة" هى من العبارات التى أطلقها باكونين. وفوضوية باكونين هى الثورة، فهو يريد أن يثيرها ثورة عالمية شاملة، وأن يحطم العالم القديم، وكان يعتقد أنه على أطلال العالم القديم، ومن الرماد المتخلف عنه، سينهض تلقائيا عالم جديد.

ومن أبرز دعاة الفكر الثورى ديمترى بساريف (1840 – 1868)، وقد كان نبيلا شاباً يملك قلم الصحفى الحاضر البديهة، وكان مجادلا من الدرجة الأولى. وكانت حياته قصيرة (فقد توفى فى الثامنة والعشرين وربما مات منتحرا)، ولكن شهرته كانت قد استفاضت وهو فى الثانية والعشرين، وتركت كل مقالة من مقالاته أثرا هائلا – فقد بدا أنه معبر صادق عن معاصريه، ينطق بما يفكرون فيه ويرغبون فى قوله. وقبل كل شىء، فقد نبذ العاطفة والحب الأفلاطونى، والمثالية، والأحلام الشاعرية على أنها "حماقة بحتة" أو دليل على الضعف. "كل ما يبعدنا عن واجباتنا الرئيسية: - التعليم، التقدم العلمى، التطور الاجتماعى – هو شىء لا فائده منه فهو إذن أمر كريه". "إن المال الذى ينفق على الباليه والمسرح وكتب الشعر يجب أن يستخدم فى تشييد الطرق الحديدية". وكان يجد متعة فى صياغة مثل هذه الأقوال، "زوج من الأحذية أفضل من مسرحية لشكسبير."

وفى سنة 1879 حل حزب "إرادة الشعب" محل جماعة "الأرض والحرية". وأكدت هذه المنظمة التآمرية المركزية أن هدف الحزب المباشر هو حكم ديموقراطى يحظى بموافقة الإرادة الشعبية الحرة، وأن الكفاح ضد الحكم المطلق القاسى هو صراع مسلح، يحق للحزب فيه استخدام العنف. وكانت اللجنة المركزية للحزب تتكون من مجموعة من الرجال والنساء ذوى العقلية المثالية العازمين على التضحية بذواتهم وشرعوا فى العمل بحماية وإخلاص مطلق. ولما كانوا إرهابيين وشهداء فى نفس الوقت، فقد ضربوا أمثلة عديدة فى الشجاعة وقوة التحمل الأخلاقى فى نضالهم اليائس ضد الحكومة المسيطرة. وكانوا مصممين على القتل لأنهم كانوا مستعدين للموت. وهزت اللجنة المركزية روسيا، بانفجارات القنابل وحوادث الهروب المثيرة من السجن ومحاولات اغتيال القيصر وكبار موظفيه. ولم تستطع المشانق وفرق الإعدام والأشغال الشاقة إخماد جذوة تعصبهم.

"وفى 14 يناير سنة 1878 أطلقت فيرا زاسلوتشى رصاصات مسدسها على الجنرال تريبوف رئيس شرطة بطرسبرج فأصابته بجروح قاتلة، وقبض عليها وحوكمت ولكن المحلفين رغم ثبوت التهمة عليها براؤوها، وكان هذا أكبر دليل على ما يضمره الناس من الكراهية للجهاز والبوليس.

وجن جنون المسئولين وحاولوا القبض عليها، ولكنها استطاعت الهرب منهم ولاذت بالفرار.

وأعقب ذلك اغتيال الجنرال مسنتسوف الذى عرف بقسوته مع المسجونين. ففى يوم 16 أغسطس، بينما كان الجنرال سائراً فى ميدان القديس ميخائيل أطلقت عليه رصاصات، فخر صريعاً، وهرب القاتلان. وحاولت الحكومة تعقب أثارهما دون جدوى بل لقد استطاعت الجماعة التى نفذت الاغتيال أن تصدر نشرات تصل إلى المصانع، بل كان القيصر نفسه يجدها ملقاة فى أركان قصره وفوق مكتبه.

وفى 9 فبراير سنة 1879 أطلق الرصاص على الأمير الكسيس كرابوتكين حاكم خركوف وكان قد اشتهر بقسوته مع المعتقلين حتى آثر بعضهم الانتحار كما قتل بعده رئيس الشرطة السريين، كما قتل الجنرال درنتلين وهو الذى كان المسئول عن شنق بعض المسجونين.

وطرأت فكرة اغتيال القيصر، وقام العدميون بمحاولات عديدة، فأطلق عليه الرصاص فى يوم 12 أبريل سنة 1879 وهو يتمشى فى ساحة القضاء دون أن يصيبه فوضعوا خطة لتفجير قطار القيصر إثناء رحلته من القرم إلى بطرسبرج ووضعوا ألغاما فى ثلاث جهات، ولكن فى اللحظة الأخيرة سار القطار من طريق آخر. وانفجر لغم ثان ولكنه أصاب القطار الذى كان يحمل حقائب القيصر، وكان قد تقدم القطار الذى يحمل القيصر نفسه. ونجحوا فى تدمير قاعة قصر الشتاء عن طريق نجار كان يعمل بالقصر وقتل خمسة من الحراس وجرح خمسون ولكن القيصر كان قد تأخر فنجا.

ولم ييأس العدميون رغم ما اتخذته الحكومة من إجراءات قاسية، وأنها زجت بأكثر من ثلاثة آلاف رجل إلى السجون وبلغ عدد من أرسل إلى سيبريا فى سنة واحدة أثنى عشر ألفا وتطوع سبعة وأربعون لقتل القيصر. وقتل القيصر بالفعل يوم 13 مارس سنة 1881.

كان القيصر عائداً فى عربته من عرض عسكرى قرب بطرسبرج، فلوحت فتاتان بمنديلهما، وكان هذا التلويح هو الإشارة المتفق عليها بين المتآمرين من أعضاء الجمعية، فألقى رايساكوف قنبلة، وانفجرت القنبلة خلف العربة التى كان يستقلها القيصر، وجرحت عدداً من الجنود، فترجل القيصر، وفى تلك اللحظة مضى إليه قُدمُاً إجناتيوس جونفزكى وألقى قنبلته فى عناية وإحكام، وتبع ذلك انفجار مروع مزق القيصر والذى ألقى القنبلة، ولقى جونفزكى حتفه قبل القبض عليه، أما القيصر فإنه لم يعش بعد ذلك سوى ساعة ونصف ساعة.[76]

ولكن اغتيال القيصر لم يثمر إلا شدة ى مقاومة الحكومة وكان القيصر الذى خلفه اسكندر الثالث أشد رجعية من سلفه ولجأت الحكومة إلى القبض الجماعى على كل من تحوم حوله أقل شائبة ونفت عشرات الألوف إلى سيبريا ومات الكثيرون خلال الرحلة، بينما مات آخرون نتيجة لسوء المعيشة والبرد وانتشار الأمراض.

وتوضح لنا تجربة التاريخ أن كل هذه الأعمال – أعمال عقيمة من ناحية النتيجة، بل إنها تضاعف السوء وتجعل قبضة السلطات تشتد وتتصلب، ولكن – من ناحية أخرى يبدو أنها كانت أمراً لازما، لأنها رد فعل للطغيان، وأنها إذا كانت سيئة، فلأن الفعل كان سيئاً.

إن المفارقة التى تعرضها هذه الصفحة الدامية، وأن الذين قاموا بعمليات الاغتيال والتدمير رغم بشاعتها كانوا رجالاً ونساءً على استعداد دائم للتضحية بحياتهم وقد صور الكاتب الفرنسى ألبير كامى فى مسرحيته "العدول" نفسيتهم وأبرز كيف أن كالياييف وهو المكلف بإلقاء قنبلة على عربة الدوق الكبير سيرج لم يقذف قنبلته لأنه وجد بجانب الدوق طفلين صغيرين قائلا "لن أضيف إلى الظلم ظلما. إن قتل الأطفال يتنافى مع الشرف وإذا كان على الثورة أن تخالف الشرف فسأتخلى عنها."[77]

f

تلك كانت روسيا طوال القرن التاسع عشر والعشرين كانت الدولة الوحيدة التى ظل فيها طغيان القياصرة والحكم الاوتقراطى ورفض الدستور والحريات – وكانت الفنون والآداب. هى التى حافظت على معنويات الشعب أن تتهاوى. وهى التى ألهمته الكفاح بمختلف الطرق حتى أشدها تطرفاً، وكانت هى التى هيأت روسيا للثورة عندما حان حينها، فعندما هزمت الجيوش الروسية فى الحرب العالمية الأولى ثار الفلاحون، وثار الجنود وقاموا بثورة مارس 1917 الديمقراطية التى قضت على القيصرية، وأرادت حكما دستوريا، وكان يمكن أن ينجح لولا أن لينين قلبها إلى ثورة بلشفية.. وما كان يمكن أن تحدث الثورة لولا الإعداد الطويل الذى سبقها بفضل شعر وكتابات بلنسكى وتشريفسكى. وبفضل قصص جوجول ونشيكوف وبفضل الروايات الطويلة للثالوث العظيم تورجنيف دستويفسكى ونتولستوى. ثم بفضل هؤلاء الثوريين الذين أثبتوا حيوية الشعب ..

وإذا قارنا آداب أمم أخرى لم ترزق ما رزقه الأدب الروسى من طابع انتهاضى، ولم تتوجه إلى الشعب فتستثير همته، فلنا أن نقول إن خمول الأدب يسهم فى خمول الشعب بحيث لا يستطيع حتى عندما تواتيه الفرصة أن يتحرك – كما حدث لمصر أثر هزيمة 1967 المدوية ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق