الأربعاء، ٢٦ أغسطس ٢٠٠٩

مفـردات الحرّيـة

المفردات التى تُكوّن فى مجموعها الحرّية عديدة، وقد يتسم بعضها بطابع فردي، كما يتسم البعض الآخر بطابع جماعي، ولكن هذا التقسيم ليس حاداً أو دقيقاً لأن هناك درجات من التداخل بينهما، كما أن هناك حريات تجمع بينهما كحرية الصحافة، التى يمكن أن تكون فردية كما يمكن أن تكون جماعية.

وفيما يلى عرض لهذه المفردات.

أوّلا : حرّية الفكر والاعتقاد

هذه هى أولى الحريات وهى تشمل حرّية كل فرد في الإيمان بما يشاء من أراء وأفكار أو عقائد طبقاً لتفكيره الذي يعود بدوره إلى ظروفه وثقافته الخ ...

وأى تقييد لهذه الحرية يعد انتهاكا لحرية الإنسان في أخص خصائصه، وعدوانا على ابرز الصفات التى يتميز بها الإنسان على الحيوان أو بقية الكائنات. وبناء على هذه الحرية تقوم كل الحريات الأخرى. فإذا لم تكن قائمة لا يكون لكل الحريات الأخرى وجود أو قيام. وإذا وجدت أنفتح الباب أمامها.

وأى محاولة لكبت حرية الفكر لا يمكن تفسيرها إلا بالرغبة فى استعباد الإنسان وتسخيره تبعاً لإرادة الحاكم، لأن معناها هو إفقاد الإنسان القدرة على اتخاذ قرار أو تحديد موقف أو الإيمان بمبدأ .

وفى الوقت نفسه فإن حرية الفكر والاعتقاد تتطلب، ضرورة، توفير حرية الوصول إلى الأفكار من الصحافة، أو الكتابات أو الإذاعة الخ... لأن الإنسان لا يبلور أفكاره إلا بفضل اطلاعاته وثقافاته وتوفير الكتابات بكل أنواعها، بل وتوفير حريات كالاجتماعات التى تلقى فيها المحاضرات أو المعاهد والهيئات التى تعرض أو تدرس أفكاراً بعينها. وأن تكون حرية الفكـ ر هى قاعدة الحريات الأخرى لا ينفى ارتباطها بالحريات الأخرى. فهى تفتح الباب لها. ولكنها فى الوقت نفسه لا يمكن أن توجد فى مجتمع الانغلاق. وهذا أمر طبيعى، فالحريات تتفاعل بعضها مع بعض وكل واحدة منها تأخذ، وتضيف، تؤثر وتتأثر، بالحريات الأخرى.

ويدخل فى حرية الفكر حرية الاعتقاد، وبالطبع حرية تغيير المعتقد، بما فى ذلك الدين، وقد ادعى بعض الإسلاميين إيمانهم بحرية الفكر، ولكنهم يرفضون حرية تغيير المعتقد ويتمحكون بمختلف الاعتبارات التى يرتفقون بها على هذه الحرية ويعطلونها بها، وكائنة ما كانت هذه الاعتبارات التى يسوقونها، فلا يمكن أبداً أن تسامى المبدأ المقدس: مبدأ الحرية أو تبرر أى مساس بها.

ولما كان الأئمة الأربعة، وبعض الصحابة، وحتى الشيعة وأئمة المذاهب الإسلامية الأخرى قد اجمعوا على وجوب معاقبة المرتد بعد استتابته، فإن لم يتب فالقتل هو عقوبته ويقتل "كفراً لآحداً، أى لا يصلى عليه، ولا يكفن أو يغسل أو يدفن فى مقابر المسلمين. وتصبح أمواله فيئاً للمسلمين " الخ ...

نقول لما كان الأمر هكذا، فلم يوجد حتى الآن مفكر مسلم يصرح بأن هذا الإجماع لا يعد إجماعا للأسباب التى استبعد من اجلها أبن حنبل الإجماع، ولو كان إجماعا فهو خطأ، وأن الذين وضعوه وإن توخوا به حماية العقيدة، فقد خانهم التوفيق فى تقرير الوسيلة المثلى لذلك وأنهم فى الحقيقة كانوا يعبرون عن روح عصرهم المغلق الذى تحكمه الجهالة من ناحية والاستبداد من ناحية أخرى. وأنه ليس هناك من حرج من أن يخطأ هؤلاء جميعاً لأنهم ليسوا أنبياء، أو معصومين. وما دام الخطأ يجوز على كل واحد منهم فأين العجب فى أن يخطئوا جميعاً.. وبحق قال ابن حنبل "من ادعى الإجماع فقد كذب".

لقد سقطت أغلبية المفكرين الإسلاميين المعاصرين فى هذا الامتحان، كأن أحداً منهم لم يقرأ ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [99 يونس]. وقد عرضنا لهذه النقطة بإفاضة فى كتابنا "الإسلام وحرية الاعتقاد" واستعرضنا أراء أكثرهم حرية وانفتاحاً وأنهم مع هـذا يتمسكون بعقوبة الردة [1]..

وهناك واقعة أخرى أكثر دلالة فيما نحن بصدده ..

فقد روّع المجتمع المصرى عام 1996 بصدور حكم من محكمة الاستئناف بالتفريق ما بين الدكتور نصر أبو زيد وزوجته السيدة ابتهال يونس على أساس أنه مرتدّ، ولما كان هذا حكما "استئنافيا" فقد تكتلت كل القوى المناصرة لحرية الرأى من محامين، أو قضاه، أو كتاب أو مسئولين فى جمعيات حقوق الإنسان لمجابهة هذه الكارثة ومحاولة استدراكها أمام الملاذ الوحيد الباقى "النقض" .

"الشاهد" كما يقولون أن جهود عباقرة الكتاب ومدرهى المحاماة وأساطين القضاة تركزت فى محاولة إثبات إن ما كتبه نصر أبو زيد لا يعد ردة طبقاً لما قرره أئمة المذاهب وما وضعوه من أصول وضمانات، ولم يخطر ببال أحدهم إن من حق المفكر أن يشذ حتى عن الثوابت، وأن له الحق فى الكفر والإيمان. لأننا إذا وضعنا أى حد، بأى أسم أمام حرية الفكر غرسنا بذرة التدخل التى يمكن أن تقضى على الحرية. لم تدر هذه الفكرة فى ذهن أحدهم فيدفع بها لأنها كانت مما تقشعر لها جلودهم، كما لم يدر بخاطر أحدهم أن ينتقل من إطار الفقهاء ليصل إلى إطار القرآن.. وكنا قد اقترحنا على بعض أفراد هيئة الدفاع أن ينقلوا المعركة فى المحكمة من الفقهاء إلى القرآن وأن يدفعوا بالآيات التى تقرر حرّية العقيدة ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.. الخ... ولكنهم لم يستسيغوا الفكرة، مع أنها هى الأمل الوحيد، فضلاً عن أنها تجعل لمطالبتهم بحرية الفكر سنداً قرآنيا. يدفع عنهم الاتهام ويكسب لهم الموقف لأنهم تلقوا تأسيسهم الثقافى عن الشريعة الإسلامية فى كليات الحقوق على أيدى فقهاء، أو من مقررات فقهية. فهم فى الحقيقة كالفقهاء الذين يعيبون عليهم تمسكهم بالمذاهب، وقد انتقد أحدهم أخذ المحكمة بأرجح الأقوال فى مذهب أبى حنيفة ودفع ذلك بدفوع قانونية، ولم يخطر له ببال أنه لم يعد ضروريا أن نأخذ اليوم بما جاء به أبو حنيفة وأن علينا أن نعيد النظر فى أقوال أئمة الفقه فى ضوء التطورات، وما جاد به العصر من ثقافات وما تفتحت عنه الاختراعات والاكتشافات عن وسائل بحث ..

وهناك عامل آخر لعله كان كامناً فى أطواء نفوس اليساريين منهم وأعماق عقلهم الباطل. وهو أنهم -على نقيض ما يُظن- لا يؤمنون بالحرية وإنما بالمادية الجدلية التى تخضع الحرية للضرورة.

وهكذا يتضح لنا أنه فى حميا معمعة من أكبر معارك الحرية تكتل فيها كل أقطاب الحرية لم يكن هناك إيمان حقيقى بحرية الفكر، ولم يكن لدى أحد الشجاعة ليقول إن من حق المفكر أن يؤمن أو يكفر دون أن يحكم عليه بالموت أو يعامل معاملة المرتدين بما وضعه الفقهاء. من أحكام، وكان من الممكن أن يقيموا هذا على أساس من آيات القرآن الكريم. فيكسبوا الحرية.. والأصالة ..

ويفترض بالطبع مع حرية الفكر والاعتقاد أن تُستأصل شافه التكفير وتجريم أى مذهب أو فكرة أو عقيدة. فالأفكار ليست حلالاً أو حراماً ولكنها صحيحة أو خاطئة.. ولا يعد الخطأ مبرراً لوقف الحرية، فقد يكون الخطأ طريق الصواب. والخطأ بعد، اعتبارى وما يراه البعض خطأ يراه الآخرون صوابا. ولهذا فليس من حل إلا ترك الآراء تشتجر، وتتعالى وتتناظر. لأن هذا هو ما يلقى بالأضواء الكاشفة والأبعاد العديدة للقضية.. وأن ما يؤدى فى معظم الحالات إلى الخطأ إنما هو فى الحقيقة إبراز بُعد واحد وتجاهل الأبعاد الأخرى. وهو ما لا يتضح إلا بحرية عرض كل الآراء ..

z z z

ثانياً : حرّية التعبير

كنا حتى فترة قصيرة لا نفرق بين حرية الفكر، وحرية التعبير حتى تطوع محامى إسلامي ضليع ففرق بحكم ثقافته القانونية، واتجاهه الإسلامي ما بين حرية الاعتقاد وحرية التعبير. واعتبر أن الأولى حرية فردية خاصة بالفرد ذاته. وان لهذا الفرد أن يؤمن بما يشاء ويفكر- فيما بينه من نفسه- بما يشاء. { وأن استثنوا دون أن يصرحوا- حرية تغيير المعتقد- واعتبارها رده يعاقب عليها بالموت على ما ذكرنا آنفا}.

أما حرية التعبير فهى أن يعبر عن فكره الخاص، وينقله من مجاله الفردى والشخصى- إلى المجال العام- مستخدما وسائل التعبير كالكتابة والصحافة، والإذاعة والاجتماعات الخ... فإن هذه الحرية تخضع كما قال المحامى الضليع للقوانين والدستور...

فهل فات مدره المحاماة أن القوانين والدساتير ما كانت لتظهر وما كانت لتكفل حرية وما كانت لتعطى الشعوب حقاً فى حكم نفسها.. لولا الحرب المقدسة التى شنها أحرار الفكر على كل أنواع الاستبداد والطغيان وعلى الدساتير والقوانين السائدة وقتئذ فى بلادهم، وتعرضوا فى سبيل ذلك للسجن والتعذيب والمصادرة والموت.. وانه بفضل هذا الكفاح وحده ظفرت الشعوب بحق مشاركة الحكام، ثم إخضاع هؤلاء الحكام لإرادة الشعب.. وعرفت الدساتير ..

وما فائدة القوانين والدساتير دون حرية نقدها وتنقيحها وتقويمها. وكل واحد يعلم قدرة الحكام ومن فى أيديهم السلطة على استثمار مالا يخلو منه أى قانون من ثغرات لحسابها بحيث تحارب القوانين والدساتير باسم القوانين والدساتير.. وأى ضمانه لوجود هذه القوانين والدساتير إذا انعدمت حرية التعبير.. من يبكى عليها.. ومن يعمل لاستعادتها ..

لقد كانت حرية التعبير هى التى قادت البشرية إلى التقدم فى كل المجالات. وكان سداها ولحمتها انتقاد الأوضاع المقررة والأحكام السائدة.. فظهر الأحرار المجددون الذين اصلحوا نظم القضاء والقانون وأفكار الجريمة والعقوبة، وظهر المصلحون فى مجالات التعليم الذين أنقذوه من التلقين وأشاعوه بين الناس جميعاً بعد أن كان حكراً للقلة المميزة. وظهر ثوار الفكر الذين ثاروا على الاستبداد وطغيان الملوك والحكام واستئثارهم بالأمر ونادوا بحق الشعوب فى أن تحكم نفسها بنفسها.

لقد عنينا فى كتابات سابقة لنا عن الحرية بإبراز نقطة أن الثوابت- التى يمكن أن يعد الدستور أحدها- مهما كانت مقدسة فلا يمكن أن تقف أمام حرية التعبير وقلنا بالحرف الواحد ..

"إن أهم ما يفترض أن تتجه إليه الحرية هو هذه الثوابت بالذات التى وإن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع، وتمسكه من الانزلاق أو التحلل، إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد، بل وتتوثن وتأخذ قداسة الوثن المعبود. هذا كله بفرض أن الثوابت هى دائما صالحة ولازمة، ولكنها لا تكون كذلك دائما. وقد جلى القرآن صيحة عجب المشركين من الرسول الذى يريد أن يجعل الآلهة إلاها واحدا ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، فضلا عن أن الثوابت تعبير مطاط فيمكن أن تنتقل من الله إلى الرسول، ومن الرسول إلى الصحابة، ومن الصحابة إلى السلف الصالح، كما هى الحال فى فكر الكثيرين، وتجربة البشرية أنه ما أن يسمح المشرع باستثناء فى الحريات، ولو كثقب إبرة، حتى يصبح ثغرة تتسع للجمل وما حمل". [2]

وقد يسأل سائل هل معنى أن نستخذى أمام الهجوم على المقدسات والثوابت؟ فنقول كلا.. إن الحرية التى سمحت للناقدين بالنقد هى نفسها التى تسمح للمؤيدين بالتأييد.. وإذا كانت تعطى الناقدين حق نقد المقدسات.. فهل تقف أمام نقد الناقدين أنفسهم ؟ وهجوم الناقدين على المقدسات مهما كان سيئاً فأنه لا يخلو من مزايا. فهو يستثير الحرية للدفاع، وهو يبعث على النظر فيما أورده النقاد وهو يقدم وجهه نظر عن الثوابت لا باعتبارها ثوابت تستحق البقاء والتخليد بالأقدمية ومضى المدة والعراقة، ولكن بحكم الصلاحية الموضوعية ..

إننا لا نحرم هذا، بل إننا ندعو إليه بقوة، ونكفل لانصار الثوابت الحق فى إعلان وجهه نظرهم والدفاع عنها وتفنيد وجهه نظر خصومهم. وأن يضعوا الحجة أمام الحجة والبرهان أمام البرهان.

إن ما نرفضه هو تجريم الناقدين، أو تكفيرهم أو إلحاق أى أذى بهم أو مصادرة ما يكتبون.. لأن هذا كله فى الحقيقة فرار من المعركة. فالقضية فى جوهرها هى أن هناك رأيا مختلفاً، أو متناقضاً. والوسيلة الفعالة للقضاء على هذا الرأى هى تفنيده وإبطال كل ما ذهب إليه من أدلة. وبهذه الطريقة تبطل الدعوى ويسقط النقد.. أما إذا سمحنا لعواطفنا أن تنتصر على دواعى العقل ونزواتنا أن تستأثر بالحكم وتنفرد بالقضاء...

وأما إذا حولنا قضية الاختلاف فى الرأى إلى خروج أو زندقة وهرطقة أول ما تستهدف توقيع العقوبات على شخص الناقد أو كتبه. فإن هذا سيدع الدعوى التى أثارها الناقد قائمة.. فضلاً عن أن اضطهاد صاحبها سيكسبه تأييد فريق من الناس وتعاطفهم معه.. وحتى لو استبعدنا عاطفة الانتقام من المخالف فإننا من ناحية أخرى جعلنا منه بطلا... وتركنا دعواه قائمة ..

وهـــذا هو الخسران المبين

مرة أخرى قد يسأل سائل هل معنى هذا أن نترك لبعض الناس حرية انتهاك الأعراض، وسب الأشخاص والسخرية والهزء بالمقدسات.. وقذف الأبرياء.. فنقول إننا لا يمكن أن ندافع عن حرية القذف والسب والسخرية والهزء لأن هذه لا علاقة لها بالفكر أو الموضوع، وإنما هو انتقال إلى مجال العاطفة الجامحة ومثل هذا يجب أن يحال إلى القضاء ليحكم عليه بمقتضى قانون القذف. وبقدر ما كان الإسلام حريصاً على أن لا يسد الطريق أمام البحث عن الحقيقة وابتغاء الحكمة، فإنه كان حريصاً على صيانة الأعراض وحماية الكرامات وعقوبات القذف فى الشريعة الإسلامية تعد من أقسى العقوبات فى بابها.

z

وفتح باب حرية التعبير يقتضى عملياً إلغاء كل القوانين والأوضاع التى تفرض تحريماً أو تقييداً على كافه وسائل التعبير- كتابة- وصحافة- وإذاعة الخ... بأى صورة من الصور وتركها حرة تماماً لتقوم بدورها المقدّس فى حماية الحرية الإنسانية وقيادة قطار البشرية على طريق التقدم. واعتبار كل هذه القيود مخالفة للحقوق الأساسية للإنسان.

على أن تحريم إصدار الصحف أو تأليف الكتب أو كتابة الروايات أو تصوير الأفلام لا يكفى إذا وجدت أى رقابة على ممارسة هذه الأجهزة لعملها. ونحن لا نستثنى من استبعاد الرقابة شيئاً، لأن لو فرضنا جدلاً سلامة الرقابة فى بعض الحالات (ممارسات جنسية فى الأفلام مثلاً الخ...) فإن المبدأ فى حد ذاته غير سليم. وهو ما يتضمن بالضرورة احتمالات إساءة الاستخدام، فضلاً عن أن وجود هذه الممارسات الشاذة له دلالة. فما كان يمكن أن توجد لولا أن هناك جمهوراً غفيراً يتطلبها، وما كان هذا الجمهور ليوجد لو كانت الأوضاع الجنسية والعاطفية مستقرة. فوجود جمهور كبير لمشاهد العرى والجنس دليل على وجود مجاعة عاطفية وجنسية، وتكون هذه الأفلام تعبيراً عن وجود ظاهرة اجتماعية يجب أن تعالج. وبدون أن تعالج (ومن ذا يتصدى لمعالجتها !) فإما أن يعيش قسم كبير من الناس فى كبت محرق، وهو لا يعد الموقف الأمثل. وإما أن يلتجئوا إلى طرق منحرفة لإشباع غرائزهم أو التنفيس عنها. وقد يقولون لماذا لا تسلكون السبيل الأمثل فتعفوا أنفسكم بالزواج.. ونقول إن غشاوات الجهالة والتقاليد صعبت الزواج وجعلته فى حكم المستحيل فى سنوات الشباب الأولى التى تستعر فيها العاطفة والغريزة.

ذا كان الأمر كذلك، فإن نقمتنا لن تشتد على ما قد يوجد فى بعض الأفلام من مشاهد عرى وجنس لأنها ليست إلا الرد على مناخ الكبت والحرمان، ومحاولة التغلب عليه. ولعلها على سوئها أفضل من غيرها مما يحتمل اللجوء إليه. والحل الحقيقى لهذه الأزمة لا يكون بالرقابة أو حذف المشاهد الجنسية، ولكن بالتوصل إلى الطريقة السليمة لإشباع أقوى الغرائز فى الإنسان فعندئذ ستفقد هذه الأفلام الجنسية جاذبيتها، لأنه ما أحد يعنى بإطعام الشبعان..، ولا الشبعان نفسه يريد مزيداً من الطعام.. وإنما الذى يريده ويقاتل عليه الجائع ومن حق هذا الجائع أن يشبع. وهذه هى المشكلة ولا يكون حلها بلطم الخدود والتنديد بالفجور مما لا يغير واقعاً ولا يقدم طائلاً.

وقد نهج ويسر الإسلام وسائل إشباع الغريزة وأثاب عليها عندما تمارس بالطرق المشروعة، ووصل فى ذلك إلى درجة إباحة الزواج المؤقت (وهو أيسر الوسائل قاطبة) عند الضرورة. فإذا كان هذا هو مسلكه، فأن المزايدة عليه بدعوى التقوى والورع مرفوضة، ولا مكان لها.

z z z


ثالثاً : حرّية الصحافة

قال شوقى

" لكل زمان مضى آية .. وآية هذه الزمان الصحف ".

وأعتقد انه لم يغال. فمع أن آيات هذه الزمان عديدة وجسيمة يمثل بعضها الأعجاز الذى حلمت به البشرية من طائرات تسير بسرعة الصوت فوق السحاب إلى غواصات تشق العباب تحت الماء إلى قنوات فضائية تنقل الصوت والصورة من أوربا وأمريكا إلى أدغال الأمازون أو أحراش أفريقيا الخ... فإن الصحافة- باعتبارها تنهيج وتنظيم واستمرارية وإشاعة- حرية التعبير هى من العوامل التى أدت إلى كل منجزات العصر. وتعمل للحفاظ عليها.

ولا جدال فى أنها فكرة عبقرية أن يصدر أحد الأفراد جريدة أو مجلة، يومية أو شهرية أو أسبوعية يكتب فيها ما يشاء ثم يفتح صفحاتها للقراء والكتاب لكى يعرضوا وجهات نظرهم، وقد تكون هذه الصحيفة دينية فتناقش كل موضوعات الدين وقد تكون علمية (هندسة- رياضة- طبيعة- كيمياء) فتعرض أخر الأبحاث التى توصل إليها العلماء فى هذه المجالات بحيث يلم من يعيش فى الجنوب بما توصل إليه من يعيش فى الشمال. ويتعرف الصينى على المغربى والمصرى على الأمريكى الخ... وما وضعه هؤلاء جميعا من دراسات وتجارب وخبرات.. وقد تكون الصحيفة سياسية فتقف بالمرصاد لتصرفات الحكام وسياسات السلطة، وما يمارس فى الأحزاب والوزارات والمجالس النيابية الخ... وقد تكشف وجوها للفساد والاستغلال أو خطأ فى تطبيق الشركات القومية الكبرى. أما المجلات والصحف الفنية والأدبية فحدث عنها ولا حرج فإنها ليست فحسب تمكن الناس من مطالعة النماذج الأدبية المختلفة، بل إنها أيضاً تشجع الذين لديهم القابلية على تنمية قابليتهم بما تنشره لهم، وبما تعرضه من نقد يعينهم على استدراك ما فى أعمالهم من نقص.

وقد تكون الصحيفة أخبارية فتطلع قراءها على أخبار مجتمعهم المحلى والمجتمعات الدولية الأخرى. وما يحدث من أخبار سياسية أو علمية أو اجتماعية. ودلاله ومضمون هذه الأخبار وانعكاساتها على حياة الناس فى الداخل والخارج.

إن عبقرية الصحافة أنها وسيلة شعبية، مباشرة، وعامه فإن أى واحد يمكن أن يأخذ القلم ويخط بضعة سطور ينتقد بها تصرف أحد الوزراء. وبذلك يستطيع المشاركة فى طريقة وضع القرار، وتكفل الصحافة لرأيه هذا أن ينشر فى عشرات الألوف من النسخ.

وقد يكشف أحد القراء، بفضل موقعه أو ما وصل إلى علمه عن أحد مصادر الفساد فيمكن للدولة مقاومته من البداية والحيلولة دون أن يستشرى لولا ملاحقه الدولة ..

وإذا قدرنا أن النائب فى المجلس النيابى قد تمر الدورة دون أن تسنح له فرصة الكلام. وأنه عندما يتحدث محكوم بضرورات الوقت وسياسة رئيس المجلس الذى يستطيع أن يلزمه الاختصار المخل.. نقول إذا قدرنا هذا، وقارناه بقدرة أى قارئ أو كاتب على نقد التصرفات والسياسات يوماً بعد يوم وبإسهاب وتفصيل لأتضح لنا الدور الكبير الذى تقوم به الصحافة فى إفساح المجال للمواطنين كافه فى النقد والتعليق على سياسات الحكام دون تعقيدات بيروقراطية أو إدارية أو كلفة مالية.. ولهذا فإن دور الصحافة فى مراقبة، ومتابعة، ونقد سياسات الحكومة هو أهم بكثير من الدور الذي تقوم به المجالس النيابية التى لها الحق فى نقد الدولة ..

على أن الدور الوقائى للصحافة لا يقل عن دورها العلاجى. فمعرفة المسئولين أن هناك صحافة، وأن هناك أعداداً كبيرة من الصحفيين ينقبون وراء الأخبار ويعملون للتوصل إلى الأسرار أمر يجعلهم يحجمون عن أسوأ ما يمكن أن يقربوه.. وبهذا ينسد الباب أمام الكثير من تجاوزات الطمع والأثرة والطموح التى تقوم على التهريب والتحايل الخ... ويفضل أصحاب مثل هذه المشروعات أن لا يتعرضوا للفضيحة التى توقعهم تحت طائلة القانون. وتجعلهم يقنعون بما وصلوا إليه بالفعل من ثروات أو مراكز .

ولأن مهمة الصحافة فى المتابعة والمراقبة حساسة، ولأن مجالها يتسع للسياسة والاقتصاد والاجتماع فيحدث أن تقع الصحافة فى مآزق، أو تسلك سبيلاً يثير عليها نقمة المتضررين منه. وقد تجاوز الخط الأخضر الذى تسمح به الأوضاع فينقلب النقد إلى تجريح أو تشهير أو قذف. ولما كانت التعبيرات القانونية فى قوانين القذف مطاطة، وتحمل الكثير فيغلب أن يقدم أكثر الصحفيين جرأة إلى المحاكم. ومع تسليمنا بأن من الخير الابتعاد عن الإثارة والتشهير. فهناك اعتبارات تتعلق بمهنة الصحافة توجب أن يكون الموقف منها مختلفاً عن الموقف الذى يكون عندما يصدر القذف والتشهير بين فردين. فمن هذه الاعتبارات أن الصحافة تتناول شخصيات عامه. من وزراء مسئولين أو موظفين أو مديرين لشركات قومية وعامة.. ومجرد شغل شخص ما لمثل هذه المناصب يجعله مستهدفاً من البداية كما يمكن القول أن مسئولية الموظف العام أثقل، وأن تبعاتها يمكن أن تجر الشقاء والتعاسة على مئات الألوف. وكما أنه فى حالة القيام الأمثل يستحق التكريم فأنه فى حالة القيام الأسوأ يستحق التقريع. ويكون التقريع أقسى مما يتبع إزاء تصرف شخصى. وقد أجاز القرآن الكريم أن تضاعف العقوبة على شخصيّـات بعينها بحكـم تمـايزها عندمـا قـال ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ، وكان عمر بن الخطاب يحاسب أهله اقسى مما يحاسب غيرهم. ويستخدم مع عماله (ولاة الأمصار) أساليب دقيقة وقاسية للمحاسبة التى قد تحيف على الوالى، وهو يتأول أن هذا أخف من أن يقع الحيف على الناس أو يضار به الجمهور.

ويجب أن لا ننسى أن الصحافة هى أقوى عامل فى "الحراك" الاجتماعى والاقتصادى والسياسى. وأن دورها أن تدفع المجتمع دوما إلى الأمام وأن تتصدى لكل ما يقف فى هذا السبيل. ومن هنا فقد يكون للغلواء التى تسلكها ما يبررها. وعندما كانت مجلة الاشتراكية فى الخمسينات تصدر وقد حملت صفحتها الأولى "مانشتا" عريضاً باللون الأحمر "الثورة.. الثورة.. الثورة.." أو عندما وضع الدكتور محمد عباس عنوان مقاله الذى هاجم فيه رواية "وليمة لأعشاب البحر" "من يبايعنى على الموت" فإنهم كانوا مدفوعين بإيمان. ويريدون به تحقيق ما يرون أنه الخير. ولعلهم اخطأوا ولكن من يعطى نفسه حق الفصل فى مسالك الآخرين.. إن الذى يملك ذلك هو "القاضى الطبيعى" أى المحكمة التى تطبق القانون ومن العسير أن نجد فى نصوص القانون ما يجرم مثل هذه العناوين حتى وان أخذت طابعاً ديماجوجيا مثيراً ..

وقد كان النقد فى الصحافة المصرية خلال مرحلتها الليبرالية يمكن أن يصل إلى حد القذف، بل وأسوأ صور القذف ومع ذلك كان الالتجاء إلى القضاء هو الاستثناء وليس الأصل .

إن السجل الحافل للصحافة فى الحراك السياسى، وإقالة الوزراء وتغيير النظم وكشف الفضائح، والتنديد بالسياسات التى جرت الهزائم والإفلاس الخ.. نقول إن هذا السجل الذى لا يماثله سجل آخر. يغفر لها ما قد ارتكبته فى هذا السبيل من سرف أو شطط أو غلواء ...


z

وإذا ذكرنا الصحافة ودورها. فلا يمكن إغفال الدور الثقافى الذى قامت به الصحافة لإشاعة الثقافة والمعرفة. وقد كان الطابع الغالب على الصحافة فى مستهل حياتها هو الطابع الثقافى. وقد قامت بهذا الدور بجدارة بحكم انتشارها، وسلاسة ما تنشره ورخصها الخ... يستوى فى هذا الصحافة فى أوربا، والصحافة فى مصر. ففى مصر أشاعت مجلة الرسالة فى الأربعينات الوعى بالأدب العربى ومكنت الشباب من أن يلم بأساليبه، وشعره وفنه وأن يطلع على كتابات الكبار قديماً وحديثاً. وأن يقرأ لأحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعى، وتوفيق الحكيم، والمازنى، والعقاد وطه حسين وسيد قطب وأنور المعداوى الخ.. وأجرت وقتئذ إحدى الصحف مسابقة لمعرفة أشهر الشخصيات العامة فكان الأول هو شوقى بك الشاعر الذى كانت تنشر جريدة الأهرام قصائده فى الصفحة الأولى. وما كان هذا ليحدث لولا الأثر الثقافى الكبير للصحافة . كما اخترقت مجلة المنار الحدود ووصلت إلى آسيا وماليزيا وإندونيسيا وعرفت شعوب هذه المناطق على تفسير الشيخ محمد عبده واجتهادات الشيخ رشيد رضا وأبرز كتاب الشرق. وخلاصات أهم الكتب الإسلامية، ككتاب مصارع الاستعباد. وكتاب "أم القرى" الخ ...

وتحدث كاتب مصري عن أثر الصحافة الفرنسية على دراسته فى العشرينات فقال:

"وانتهزت فرصة زيارتى المكتبات واطلعت على مجلة "مركور دى فرانس"، ولم أكن قد سمعت بها ولا قرأتها، فكان اهتدائى إليها ظفرا لي ومصدر معرفة واسعة بالأدب والفنون الحديثة، فأقبلت على المجلة فهى تنشر للأساتذة الراسخين والنوابغ البادئين وتميل إلى التجديد فى كل شئ وتلخص الكتب والمجلات الأوربية وتصدر مرتين فى الشهر وتطبع كل مرة أكثر من مائتى صفحة بفرنك ونصف، فبادرت إلى الاشتراك فيها وما زلت مشتركا إلى عام 1938 أو 1939 وعاملت مكتبتها فأمدتنى بالكتب الجديدة، وفيها اطلعت على الحركة الجديدة فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وحتى إنجلترا والمدارس الأدبية نثراً وشعرا وتعرفت فى صفحاتها إلى أكابر النقاد وتسلسلهم كابرا عن كابر، وكانت جريدتا "لوطان" و "لوفيجارو" ومجلة "مركور دي فرانس" تغذى نهمي فى الأدب وتربط الماضى بالحاضر، فكم قرأت لبول فرلين وآرتور ريمبو وجان ريشبان وفرنسيس جام وريمى دى جورمون صاحب الشهريات الباهرة وهى مزيج من الفلسفة والأدب والعلم، أما نقد الكتب والحركة العقلية وتلخيص الرسائل والبحوث الممتعة المسهبة فحدث ولا حرج."

وما استفاده محمد لطفي جمعة من الصحافة الفرنسية، فعله مُعظم الذين أرسلوا إلى أوروبا والولايات المتحدة ..[3]

فإنها تفرط فى جانب حيوى من رسالتها .

خلاصة القول أن الصحافة هى الوسيلة الوحيدة التى يتفق لها أنها عامة، ومباشرة فى الوقت نفسه بحيث يمكن لكل قارئ أو كاتب أن يكون مثل نائب مجلس الأمة. بل ولديه حرية أكثر مما لدى النائب المحترم. وأن نقد الصحيفة قد يكون أكثر فعالية من نقد أعضاء المجلس النيابي. لأن نقد الصحافة يعرض يوماً بعد يوم، ولأن من يطّلع عليه أكثر ممن يطّلع على كلام النائب المحترم وبهذا تكون أكثر فعالية فى النقد، والمتابعة، واقتراح الحلول من المجلس النيابى نفسه. وتعدّدها يكفل تعدّد وجهات النظر بحيث ينتفى الاستبداد بالرأي والنظرة الأحادية..

z

كانت الصحافة عندما بدأت وسيلة لإشاعة الثقافة والمعرفة، كانت الكتاب الجماهيرى الذى يوجد بين يدى الجماهير ونتعلم منه، وعليه، الجماهير، ولكن التطورات جعلت الصحافة تعنى بالأخبار من ناحية والمتابعة السياسية من ناحية أخرى (مع عدم إغفال وجود الصحف النوعية فى كل مجال) .

كما أدى التطور لأن تعتمد الصحافة شيئا فشيئاً على الإعلان، وانتهى الأمر بان أصبح الإعلان هو المورد الأعظم. وأن سعة انتشار الجريدة قد يؤدى إلى زيادة خسارتها لأنها تقدم للقارئ بأقل من تكلفتها، فإذا زاد التوزيع زادت الخسارة. ولكن الإعلان يعوض ذلك. وبقدر زيادة التوزيع وسعة الانتشار بقدر ما ترتفع قيمة المساحة الإعلانية. وبهذه الوسيلة عوضت الصحافة خسائرها. واستطاعت أن تقدم للعاملين فيها أجوراً سخية وأن تقيم المبانى الضخمة ...

والجانب السيئ فى هذا هو أنها أصبحت صناعه أكثر مما كانت "رسالة" وخضعت لكل ما تخضع لها الصناعات من ضرورات.

إن القيم والاتجاهات التى تنشأ عن المهنة، كمهنة، أعنى الوسيلة لكسب المال والجاه والشهرة الخ... قد لا تكون دائماً أفضل القيم. حتى وإن أدت إلى النهضة بمستويات الأداء وفنية المهنة، ويغلب أن تسلك مسلكاً يخالف الموضوعية والاعتبارات الأخرى التى يكون على المهنة أن تلحظها بحكم أنها تقوم فى مجتمع معين ووسط أناس لهم، وله حق عليهم، دع عنك القيم العامة التى تعزف عن القيم الفردية ووازع الربح.. وهذه النزعة موجودة فى كل المناشط التى يمارسها الإنسان وبوجه خاص التجارة والصناعة... وقد تكون مفهومة- وإن لم تكن مبررة- فيها، ولكنها لا تكون مفهومه أو مبرره فى مهن كالصحافة، والطب، على سبيل المثال. لها جوانبها الإنسانية والمبدئية التى لا يجوز للاعتبارات المهنية من كسب أو مزايا، أن تحيف عليها.

ولن نسهب القول فى انعكاسات ذلك على مدى انطلاق الصحافة وتحررها من المؤثرات والضغوط. سياسية أو مالية، لأن هذا حديث يطول، ولكننا سنشير إلى نقطة تتعلق بالعاملين فى "خدمة صاحبة الجلالة" فبقدر ما يكون هذا العمل "مهنة" تخضع لمقتضيات المهنة. بقدر ما تظل "رسالة" لها الطابع الخاص المتحرر للرسالات. وقد غلب الطابع الأول المهنى على الطابع الرسالى بحيث جاءت نقابة الصحفيين على غرار نقابة الأطباء والمهندسين واستتبع الانضمام إليها ما يتطلب فى هذه النقابات عامه من الحصول على شهادة أو إمضاء مده خدمة الخ... وفى نظرنا أن هذا يحيف على دور الصحافة كرسالة حرة يجب- دائماً وأبدا- أن تظل حره وأن لا تخضع العضوية فى النقابة لأي شرط سوى ممارسة المهنة بالفعل ...

على أن "حرفنة" المهنية حافت على حق عدد كبير من الصحفيين العاملين بالفعل فى الصحافة، والذين يقدمون ثلاثة أخماس المادة الصحفية بحيث لم يستطيعوا الالتحاق بالنقابة.

وهذا الوضع بشقيه- أى تجاهل أن الصحافة رسالة كما هى صناعة، وبالتالى فلا يفترض أن يوضع أى قيد على عضوية النقابة سوى الاشتغال بالمهنة، ووجود أغلبية الصحفيين بالفعل خارج إطار النقابة يكشف عن أزمة نقابة الصحفيين التى لن تحل إلا بأحد حلين الأول "جعل العضوية حرة لكل من يمارس المهنة دون أى قيد آخر". والثانى "الأخذ بمبدأ التعدد النقابى". وهو الأصل فى التنظيم النقابى على ما سنشير إليه عند الحديث عن النقابات. فيكون هناك أكثر من نقابة واحدة للصحفيين توزن كل واحدة بحجم العضوية وفعالية الخدمة.. وهو وضع وإن كان سيحرم النقابة الوحيدة القائمة مما تتمتع به من سلطة احتكارية، وما تسبغه على أعضائها من مزايا وما يمكن أن تصل إليه مع السلطة من معونات الخ... إلا أنها تحقق الحرية النقابية وتعلى جانب "الرسالية" فى المهنة كما تفتح الباب لكل العناصر الشابة والطموحة والتى من حقها أن تتاح لها الفرصة فى العضوية النقابية.

z

وهكذا يتضح لنا أن حرية الصحافة هى من أعظم الحريات أثراً وأبلغها خطراً وأنها قد تفوق فى الأهمية المجلس النيابى فضلا عما تقوم به فى المجالات الثقافية أو الفنية أو العلمية الأخرى. ومن هنا فيجب أن تكون الصحافة حره من كل قيد، فلا يشترط الحصول على رخصه، وإنما يكون من حق كل فرد أن يصدر صحيفة إذا آنس فى نفسه القدرة على ذلك. وما الذى يمنع ذلك ما دامت التجربة تثبت صدقه أو كذبه، فإذا كان لديه القدرة فسيمضى قدما ويحقق كسبا وإضافة، وإذا كان عاجزا فسيفشل ويموت مشروعه.. كما يجب أن ترفع كل القيود على حرية التعبير والنقد والمتابعة الخ... وأن تستبعد كل صور الرقابات كائنه ما كانت. ومهما كان المبرر المزعوم لها. بحيث لا يكون هناك قيد إلا ما تفرضه القوانين كافه عن تجريم للقذف أو الاستهزاء أو السخرية. وحتى مع هذا، فيجب أن يلحظ الوضع الفريد للصحافة، وأنها إنما تتابع شخصيات عامه مسئولة. وأن نقدها إنما ينصب على سياسات هؤلاء الأشخاص وليس على ذواتهم أو تصرفاتهم الخاصة. وأنه من الخير أن يشعر الشخص العام أنه عرضة للمحاسبة والمؤاخذة حتى لا يخضع لأغراء الانحراف... وهو فى الحقيقة ما يعد إلى حد ما حماية له ويفترض كذلك أن تتحرر نقابة الصحفيين من اشتراط أى شروط غير ممارسة المهنة. ومن المرفوض اشتراط أن يكون رئيس تحرير مجلة، أو محرروها أعضاء فى النقابة، فهذا احتكار لرسالة حرية التعبير وإخضاعها لاعتبارات مهنية، أو فئوية يجب عدم السماح بها حتى لا تضار حرية التعبير. وكائنة ما كانت الصحافة فهى ليست إلا وسيلة لغاية، ولا يجوز للوسيلة أن تشل، أو تجمد الغاية التى قامت من أجلها.

ويعد كل ما كتبناه، فمن البديهى استبعاد كل صور الرقابة على الصحابة واطراح ما يدعيه الرقيب فى المعسكر الشيوعى. وفى المسجد السلفى وفى المكتب البيروقراطى عن "رعاية المصلحة العامة" أو "الحرص على الأمن والقانون والنظام" أو "الحفاظ على المقدسات" فهذا كله لا يعدو فى الحقيقة المساس بمصالح النظام القائم.

لقد نشرت مجلة الشعب عده مقالات ضد طبع مسرحية "وليمة لأعشاب البحر" فاعتبرتها بعض الدوائر "إرهابا" وقامت السلطات بإغلاقها. فهل هناك إرهاب أكثر من هذا ؟ إغلاق مجلة لها تاريخ صحفى عريق وتشريد صحفييها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق