الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩

التعدّدية في مجتمع إسلامي مقدّمة

تصور البعض أنه لما كان الإسلام دين التوحيد. فإن التوحيد ينسحب على كل شىء فيه بما فى ذلك المجتمع ومظاهره وتجلياته من نظم وأوضاع وفنون وآداب وعادات وسلوك وأزياء الخ... فلا يوجد إلا نمط واحد فى كل مجال من هذه المجالات وهو ما يضع المجتمع الإسلامى فى قالب واحد لا يتغير ولا يتطور ولا يتعدد.

وقد يُذكر فى هذا الصدد "الوسطية" التى ينادى بها بعض المفكرين باعتبارها الموقف المختار للمجتمع الإسلامى تجاه التيارات المتعارضة يمينـا، ويساراً، شرقاً وغرباً، وهو تكييف سليم، وقد نص عليه القرآن. فلم يقل القرآن "أمة التوحيد" ولكنه قال ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. ولكن هذا نفسه لا ينفى التعددية، بل هو يثبتها لأن الوسطية تفترض وجود الإفراط والتفريط. التحلل والتزمت. الإسراف والتقتير الخ... ولا يمكن تصور وسطية حيوية بدون تعددية، وإلا تصبح هى الوسطية الرياضية التى تعنى التوسط بين نقطتين أو أنها تتجمد فى قالب واحد وتأخذ طابعاً ثبوتيا، وهو ما يتنافى مع حيوية ودينامية الإسلام.

ويرى هذا البحث أن التوحيد فى الإسلام إنما أريد به الله تعالى وحده، وأن سحب هذه الصفة (الواحدية) على غيره أمر لا يجوز، بل إنه قد يصبح شكلاً من أشكال الشرك. لأن الله تعالى قد تفرّد بهذه الصفة، واضفائها على غيره شرك به. فتوحيد الله يستتبع تلقائيا التعددية فيما عداه.

ونحن فى استخدامنا لهذه الطريقة إنما نتبع الأسلوب الفريد الذى صاغه الإسلام فى إثبات الوجوب بنفي ما عداه. والشاهد الأعظم على هذا هو لا إله إلا اللَّهُ فهنا يثبت الإسلام وجود الله فى الوقت نفسه الذي ينفي ما عداه ولو أنه قال "الله موجود" هذه الصيغة وإن أثبتت وجود الله، ولكنها لا تنفي ضرورة ما عداه – أي أن يكون له أنداداً – فى حين أن "لا إله إلا الله" تثبت الله وتنفي ما عداه.

ومن هنا فإن لقب "دولة التوحيد" الذى يرسله البعض فى اعتزاز وفخر ليس وصفا سليما من ناحيتيه، فالإسلام ليس دولة، وإنما هو[1] أمة، وهذه الأمة تأخذ بالتعددية لا بالواحدية كما لا يمكن أن يقال "دولة الفضيلة" لأن نصيب الدولة فى إقامة الفضيلة أو تعزيزها تافه، بل قد يودى تدخل الدولة فى هذا المجال إلى المساس به. والتعبير الصحيح هو "أمة العدل" لأن الإسلام بالنسبة للتجمع البشرى "أمة" ولأن طابعه الرئيسى فى القيم الاجتماعية هو العدل.

وقد وضع الإسلام للمجتمع البشرى كيفية أوردها القرآن الكريم تقوم على تفاعل ركائز أو قوى. فهناك هداية الأنبياء التى تعين الإنسان على سلوك الطريق المستقيم، وهناك غواية الشياطين التى تلقى به فى لجج الشهوات والشرور، وهناك الإنسان نفسه الذى يملك بما غرس الله فيه من عقل وفطرة أن يتجاوب مع هداية الأنبياء، كما يمكن – فى حالات أخرى – أن يستسلم لغواية الشياطين بالتفصيل الذى سيرد فى هذا الكتاب، فالمجتمع البشرى له طبيعة تعدّدية.

والمجتمع الإسلامى لا يشذ نوعياً عن المجتمع البشرى، لأن الإنسان مسلماً أو غير مسلم، له طبيعة واحدة، ولكن المجتمع الإسلامى يختلف فى الدرجة وليس فى الطبيعة، وفى بعض التجليات، وليس فى كلها، فلا جدال أن فى الإسلام قوة خاصة تكيف سلوك المؤمنين به، وفيه من الضمانات ما تحول دون الاستسلام الكامل للشهوات والشرور أو الانسياق وراء خطأ الشيطان. أو انتهاج السرف والشطط، ولكن هذه الضمانات قد لا تحول دون ممارسات أدنى من ذلك لأن للطبيعة البشرية - بعد كل شىء - حكمها وضعفها، ولأن الله تعالى عندما جبل النفس البشرية ﴿َأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.

وأى محاولة لفرض قالب واحد مصمت على المجتمع بدعوى التوحيد الإسلامى، أو حتى الوسطية الإسلامية، وأي تجاهل للعوامل العديدة التى تؤثر فى هذا المجتمع أو تقف فى وجه التعدّدية تكون محاولة محكوم عليها بالفشل بعد أن تستهلك وقتاً وجهداً كان البناء الرشيد والقصد السديد أولى بهما وهذه هي قيمة المعرفة، إذ هي تميز ما بين الخطأ والصواب كما تهدينا إلى السبل الموصلة والوسائل الناجحة. فإذا لم تكن لدينا المعرفة بهذا كله تخبطنا وتوزعتنا الطرق وغلبت المماحكة أو غرّتنا الأمانى وخدعنا السراب فنمضى طويلاً دون أن نصل إلى شيء.

ولكى لا يحدث هذا وضعنا هذا الدفتر من دفاتر الإحياء، وأن يكون الثالث، بعد الحرية وتثوير القرآن هو ما يعبر عن الأهمية الكبيرة للموضوع فى الفهم السليم للإسلام ...

0 التعليقات:

إرسال تعليق