الاثنين، ١٧ أغسطس ٢٠٠٩

الإمام البخارى ليس ملاكاً (١ ــ ٣)

لا جدال فى أن الإمام البخارى كان من أعظم ــ إن لم يكن أعظم- من عكف على حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعُنى بتنقيته مما دُسَّ فيه، وفرغ لذلك طول عمره، كما عرف عنه قوة الذاكرة، أما تقواه وورعه فهما محل تسليم من جميع معاصريه، ويكفى لتقدير عمله أنه استخلصه من ستمائة ألف حديث ألمَّ بها، وهذا الرقم بقدر ما يوضح لنا العبء الكبير الذى أوقعه على البخارى، بقدر ما يعطينا فكرة عن مدى شيوع الوضع فى الحديث، وأنه أخذ شكلاً وبائيًا، لأنه لا يعقل أن الرسول قد تحدث بهذه الأعداد المهولة.

نحن إذن أول من يعترف بفضل البخارى، وكذلك زميله الإمام مسلم، ولكن هذا لا يتنافى مع كونه إنساناً وليس ملاكاً معصومًا لا يمكن أن يخطئ، فوقوع البخارى فى خطأ أمر لا ينال منه، ولا ينقص من منزلته، لأن كل بنى آدم خطاء، وقد قال الشاعر:

كفى المروء نبــــلاً أن تـُعــــد معايبــــــه

وفى الوقت نفسه فإن تمكنه وإحكامه وأستاذيته لا تقتضى منا بالضرورة الاتباع والتقليد، والتسليم بكل ما جاء به، إذ المفروض ألا نوقع على بياض، أو نسلم لكل ما جاء به، لأن هذا يعنى أننا لن نستخدم عقلنا، وأننا نهمل إعمال أعظم ما أنعم الله علينا به، ولا يمنع هذا من أن نستأنس به ونأخذ بما فيه من حق. وقد توصل كبار الأئمة إلى هذا المعنى ونهوا عن تقليدهم، وقال مالك: كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا المقام (يشير للرسول) صلى الله عليه وسلم.

وطبق الأسلاف ذلك، فرغم تقديرهم للبخارى فإن هذا لم يمنعهم من نقده، ولم يحدث أن كان هناك إجماع على صحة كل حديث فى الصحيحين، وقد نقد بعض أحاديث البخارى الإمام أحمد بن حنبل وعلى بن المدينى ويحيى بن معين وأبوداود السجستانى وأبوحاتم وأبوزرعة الرازيان وأبوعيسى الترمذى والعقيلى والنسائى وأبوعلى النيسابورى وأبوبكر الإسماعيلى وأبونعيم الأصبهانى وأبوالحسن الدارقطنى وابن مندة والبيهقى والعطار والغسانى الجيانى وأبوالفضل الهروى بن عمار الشهيد وابن الجوزى وابن حزم وابن عبدالبر وابن تيمية وابن القيم والألبانى وكثير غيرهم، فهل كل هؤلاء العلماء مبتدعة متبعون غير سبيل المؤمنين؟!

ومن الكتب التى تضمنت نقدًا لأحاديث فى البحارى كتاب "الالتزامات والتتبع" للحافظ الدارقطنى، بتحقيق الشيخ مقبل الوادعى، طبع دار الكتب العلمية ببيروت، وهو ينتقد حوالى مائتى حديث بعلل قادحة فى نظره، وقد ركز على العلل أكثر مما ركز على ضعف الرواة.

وحاول ابن حجر فى كتابه "هدى السارى" وهو مقدمة "فتح البارى شرح صحيح البخارى" أن يدفع انتقادات الدارقطنى حديثاً حديثاً، وقال فى ختام حديثه عنها: "أكثرها الجواب عنه ظاهر القدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه فى الجواب عنه تعسف".

وضعَّف العقيلى عددًا من أحاديث صحيح البخارى، بل ضعَّف بعض ما اتفق عليه البخارى ومسلم مثل حديث همام بن يحيى فى الأبرص، ورد أبوحنيفة الحديث المروى عن أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم برض رأسه بين حجرين، وقال إنه هذيان، كما رد حديث رفع البدن عند الركوع وهناك أحاديث أخرى ردها أبوحنيفة وأوردها الشيخ أبوزهرة فى كتابه "الإمام أبى حنيفة" ص ٣٢٤، وكان مالك يضعف حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، ويقول: "يؤكل صيده فكيف يكره لعابه"، وأهمل حديث "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" لمنافاته الأصل القرآنى "لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى".

وقد يحق لنا أن نقول إن التخصص الذى وصل فى الحديث إلى درجة عالية، وكان كله هو حول "الرجال والرواة"، جعل المحدثين على مبعدة من القرآن، وقد فتن بعضهم بالسُـنة حتى قالوا إنها تقضى على القرآن، وقالوا "إن القرآن أحوج إلى السُـنة من السُـنة إلى القرآن"، ولعل هذا كان فى أصل قبول المحدثين لأحاديث تمس القرآن، بل وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن تخصص المحدثين وعنايتهم بالحديث فاقت عنايتهم بصاحب الحديث، بمعنى أنها لم تجعل حاستهم نحو القرآن ونحو الرسول مرهفة بحيث تستكشف المساس بهما.

وفى العصر الحديث ارتفعت الدعوة لتنقية التفاسير القرآنية مما حفلت به من إسرائيليات وأساطير وخرافات، فطالب الشيخ عبدالمنعم النمر، وزير الأوقاف الأسبق، فى بحث له فى مجلة العربى (١) بتنقية التفاسير وطبع النسخة المنقحة، وعدم طبع النسخة القديمة وإيداع نسخها دور الكتب والجامعات بحيث لا يطالعها إلا البُحَّاث أو طلبة الدكتوراه، ورفع محام بالإسكندرية دعوى على شيخ الأزهر ووزير الأوقاف يطالبهما بتنقية كتب الحديث والتفسير مما فيها من روايات تخالف العقل، كما تنبه الشيخ محمد الغزالى السقا فى أواخر حياته إلى التأثير الضار لكثير من الأحاديث، وأنه يجب تنقية المراجع الإسلامية منها وجر ذلك عليه عداوة التقليديين ونشر عدد كبير من الكتب ضده.

فإذا كان الأسلاف، وإذا كانت شخصيات إسلامية فقهية مثل الشيخ عبدالمنعم النمر والشيخ الغزالى تطالب بتنقية كتب السُـنة فنحن إذن عندما أصدرنا كتابنا "تجريد البخارى ومسلم من الأحاديث التى لا تـُلزم" لم نأت أمرًا إدًا، بل إننا ابتكرنا الطريقة المنهجية المثلى للبت فى هذه القضية ومعالجتها، ألا وهى العرض على القرآن الكريم.

ولكى لا يكون كلامنا عامًا يفقد فاعليته وضعنا اثنى عشر معيارًا يمثل كل منها معلمًا مشهورًا من معالم القرآن ويُعد أى حديث يخالف معلمًا منها "لا يُلزم"، وهو اصطلاح اصطنعناه لنخرج من متاهات "التخريج"، والتى لا تعنينا لأننا جعلنا نقطة الالتزام أو عدم الالتزام هى اتفاق متن الحديث مع المعايير القرآنية، واتباع هذا المنهج وتطبيقه على كل أحاديث البخارى حديثاً حديثاً مكنا من استبعاد ٦٣٥ حديثاً لا تـُلزم، علمًا بأننا لم نتعسف، بل آثرنا ترك أحاديث كان يمكن إدراجها فيما لم يُلزم حتى لا ندع تعلة لمن يقولون إننا نتحيف على السُـنة.

***

كان أول معيار وضعه كتاب "تجريد البخارى ومسلم من الأحاديث التى لا تلزم" هو الغيب على أساس أن الغيب هو ما استأثر الله بعلمه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد أنه لا يعرف الغيب ووجود أحاديث عن الغيب غير ما جاء فى القرآن يُعد مخالفة، فضلاً عن أنه يدعم فى تكوين عقلية تختلط فيها الخرافة بالحقيقة.

فهناك عدد كبير من الأحاديث عن عذاب القبر، وقد استبعدها الكتاب على أساس أن ما جاء فى القرآن هو "العرض" فحسب، وأن الحساب إنما يكون بعد البعث من القبور وليس قبلها، وقد يهم القراء أن يعلموا أن الشيخ الشعراوى أكد أن عذاب القبر يقتصر على العرض دون توقيع أى عذاب.

وأحاديث عذاب القبر عديدة، وهى تضم الأحاديث (١٢٠٩ ــ ١٢٣٧ ــ ١٢٣٩ ــ ١٢٤٠ ــ ١٢٤١ ــ ١٢٤٣ ــ ١٢٤٤)، ومعظمها يشير إلى الضربة التى يسمعها الثقلان دون بنى آدم.

وهناك أحاديث عن ابن صياد، وأحاديث عديدة عن الدجال وأنه أعور، أو أن عينه مثل عنبة طافية، أحاديث أرقام: (١٤٠٤ و ١٢٢٤ و ١٦٩٥ و ٢٩٨٤ و ٣٠٨٨ و ٣٨٢٨ و ٦٣٦٦ و ٦٣٧٢ و ٦٣٧٣ و ٦٦٣٤).

وأحاديث عن أن الشمس عندما تغرب فإنها تذهب لتسجد تحت العرش حديث (٢٨٥٥)، وهناك أحاديث عن الكوثر وأنها خيمة من لؤلؤ مجوفة عرضها ستون ميلاً (٦٧٤٠)، وفى حديث رقم (٢٨٩٨): أن طولها ثلاثون ميلاً.

كذلك ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم رفع إلى السدرة فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فأما الظاهران: النيل والفرات، وأما الباطنان: فنهران فى الجنة.. الخ حديث رقم (٤٩٣٥).

وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم فى الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم" حديث رقم (٥٨٢١).

كذلك ما حدث للرسول صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء: "إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم فى المسجد الحرام، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبَّته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تَوْرٌ من ذهب، محشوًا إيماناً وحكمة، فحُشى به صدره ولغاديده، يعنى عروق حلقه، ثم أطبقـه ثم عرج به إلى السماء الدنيـا"، حديث رقم (٦٧٤٠).

وأما الشجرة التى فى الجنة والتى يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يدركها، فقد تكرر خمس أو ست مرات، وفى بعضها "يسير الراكب الجواد المضَمَّر السريع مائة عام ما يقطعها" حديث رقم (٥٨٤٠) الذى تكرر مرارًا.

وتضمنت أحاديث البخارى أحاديث تؤكد رؤية المؤمنين لله تعالى، أحاديث عديدة منها رقم (٤٩٦) و (٤٢٠٨).

وكذلك روى "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد فى الدنيا رياءً وسمعة فيذهب ليسجد ويعود ظهره طبقاً واحدًا"، حديث رقم (٤٢٧٥).

وكذلك أن النار لا تمتلئ حتى يضع الله رجله فيها فتقول: قط قط قط.

وحديث جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، إنا نجد : إن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول أنا الملك، فضحك النبىــ صلى الله عليه وسلم-ـ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، حديث رقم (٤١٦٨) وتكرر بأرقام (٦٦٤٠ و ٦٦٤١ و ٦٦٧٤ و ٦٧٣٦).

(١) التفسير والمفسرون للشيخ عبدالمنعم النمر، نشر فى مجلة العربى، العدد الصادر فى أكتوبر ١٩٦٩، ص ٢٠ : ٢٤.

0 التعليقات:

إرسال تعليق