الثلاثاء، ١٨ أغسطس ٢٠٠٩

جناية «قبيلة حدثنا» ( ١ ــ ٣ )

قبيلة «حدثنا» هى الفئة التى احترفت احترافاً رواية الأحاديث، وبحكم هذا الاحتراف وطبيعة «حدثنا» فإنها أخذت صفات وخصائص مميزة تجعلهم «قبيلة» فعلاً، وما قد لا يخطر للقارئ أننا لا نتحدث عن «السُـنة» لأن السُـنة هى المنهج والطريقة، فهى ذات طابع عملى فى حين أن الحديث له طابع «قولى»، وبهذا تكون السُـنة هى عمل الرسول وليس قوله.

ولا أعتقد أن هناك من ينكر السُـنة العملية، فمنها تعرف المسلمون على طريقة الصلاة والزكاة ومناسك الحج، وتسعة أعشار من يطلقون عليهم «منكرى السُـنة» لا ينكرون السُـنة، وإنما يتحفظون على الألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف من الأحاديث، وقد أصبح إنكار السُـنة مثل «عداء السامية» نوعًا من الإرهاب الفكرى.

الفكرة الرئيسية فى كل مقال من هذه المقالات الثلاث عن جناية «قبيلة حدثنا» هى:

المقال الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة أحاديثه، بل أمر من كتب شيئاً أن يمحوه وأن الخلفاء الراشدين الأربعة لم يدونوا السُـنة، بل إنهم، بالإضافة، كانوا يأمرون بالإقلال من الرواية حتى يمكن القول إن الأحاديث التى كانت تدور فى المدينة فى حكم الخلفاء الراشدين كانت قرابة خمسمائة حديث.

والمقال الثانى: أن الأمر تحول تحولاً جذريًا عندما بلغت الدولة الإسلامية مرحلة الإمبراطورية، وكان يجب أن يقل الحديث فيها عما كان فى المدينة، ولكن الذى حدث هو أن قفز عدد الحديث إلى عشرات ومئات الألوف، بل بلغ عند الإمام أحمد بن حنبل مليون حديث (ألف ألف)، وهنا تنتهى الواقعة الثانية.

والمقال الثالث: يعرض جناية «قبيلة حدثنا» على وجه التحديد، أولاً على العقيدة، ثانيًا على القرآن الكريم، وثالثاً على الفرد المسلم، ورابعًا على المجتمع المسلم.

كما قلنا، فإن موضوع هذه الحلقة هو حالة الرواية فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفى عهد الخلافة الراشدة، وكان يحكمها أمران:

الأول: تحريم الرسول كتابة الأحاديث.

والثانى: الإقلال من الرواية مع أخذ ضمانات.

لقد قيل إن عمرو بن العاص كان يكتب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ألقى خطبة أعجبت مستمعًا يمنيًا يدعى «أبو شاة» فطلب كتابتها، فقال الرسول «اكتبوا لأبى شاة» .

وقد ناقش السيد رشيد رضا الحديث الوارد عن عبدالله بن عمرو بن العاص مناقشة حديثية وانتهى إلى أن أخف حكم عليه أن «فيه مقال» .

وبالطبع فإن الإذن بكتابة خطبة لأبى شاة يدل على أن الأصل عدم الكتابة، والكتابة استثناء.

فى مقابل هذا، فهناك عشرات الأحاديث عن الرسول وعن الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة تؤكد الأمر بعدم الكتابة، منها ما رواه مسلم فى صحيحه عن أبى سعيد الخدرى أن النبى قال: (لا تكتبوا عنى شيئاً فمن كتب عنى شيئاً غير القرآن فليمحه، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار). وكذا روى عن زيد بن ثابت أن النبى نهى أن يكتب حديثه.

وروى عن أبى هريرة أنه قال: خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: (ما هذا الذى تكتبون؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك، قال: أكتاب مع كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله وخلصوه، أتدرون ما ضل الأمم قبلكم إلا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى)، قلنا: أنحدث عنك يا رسول الله؟ قال: (حدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، قلنا : فنتحدث عن بنى إسرائيل؟ قال: حدثوا ولا حرج، فإنكم لن تحدثوا عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه).

قال أبو هريرة فجمعناها فى صعيد واحد فألقيناها فى النار، وفى رواية أخرى عن أبى هريرة أنه قال: بلغ رسول الله أن ناسًا كتبوا حديثه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما هذه الكتب التى بلغنى أنكم قد كتبتم، إنما أنا بشر، من كان عنده منها شىء فليأت به)، فجمعناها وأحرقت، فقلنا يا رسول الله : نتحدث عنك؟ قال: (حدثوا ولا حرج.

ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبـوأ مقعده من النار). وفكر عمر فى كتابة السُـنن واستشار الصحابة، فوافقوه، ولكن شيئاً حاك فى صدره جعله يفكر طوال شهر، ثم خرج على الناس وقد خار الله له، فقال: كنت قد ذكرت لكم من كتاب السُنن ما قد علمتم، ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإنى والله لا ألبس بكتاب الله كتبًا.

كما جاء عن عمر أنه بلغه ما ظهر فى أيدى الناس من كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيها الناس قد بلغنى أنه قد ظهرت فى أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتانى به، فأرى فيه رأيى، فظن القوم أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار، ثم قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب، وفى رواية «مثناة كمثناة بنى إسرائيل».

روت السيدة عائشة أن أباها قد جمع الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيرًا، فغمها ذلك، وقالت له: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أى بنيـة هلمى بالأحاديث التى عندك، فجاءته بالأحاديث، فدعا بها فحرقها، فقالت عائشة: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهى عندى فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت فيه ولم يكن كما حدثنى فأكون قد نقلت ذلك.

وظلت كراهة التدوين سائدة حتى التابعين فجاء أن القاسم بن محمد ومنصور بن المعتمر ومغيرة والأعمش وإبراهيم كانوا يكرهون كتابة الحديث، وفى تعبير إبراهيم أنهم كانوا يكرهون الكتاب.

كما جاء عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: لا تتخذوا للحديث كراريس ككراريس المصاحف.

وعنه أيضًا أنه قال: يأتى على الناس زمان يكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا ينظر فيه.

وعن إبراهيم أنه قال: كنت أكتب عند عبيدة فقال: لا تخلدن عنى كتابًا. وعن محمد بن سيرين أنه قال: قلت لعبيدة أكتب منك ما أسمع؟ قال: لا، قلت : وجدت كتابًا أأنظر فيه؟ قال: لا. وعن ابن سيرين أنه قال: إنما ضلت بنو إسرائيل بكتب ورثوها عن آبائهم.

كما جاء عن أبى إدريس أنه لما علم أن ابنه يكتب ما يسمعه منه، أمر به فحرقه. وجاء أن ابن شهاب الزهرى كان يأتى الأعرج وعنده جماعة يكتبون وهو لا يكتب، لكنه عندما يجد الحديث طويلاً فإنه يأخذ ورقة من ورق الأعرج، وكان الأعرج يكتب المصاحف، فيكتب ابن شهاب ذلك الحديث فى تلك القطعة، ثم يقرؤه ثم يمحو مكانه، وربما قام بها معه، فيقرؤها ثم يمحوها.

ولم يقف الأمر عند عدم التدوين، بل امتد إلى كراهة الإكثار من الرواية، فعن أبى بكر الصديق أنه جمع الناس بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.

كما روى عن عمر بن الخطاب أنه منع الإكثار من الرواية خشية الانشغال بغير القرآن، أو لعلة الخوف من الكذب على النبى، ومن ذلك أنه حبس كلاً من ابن مسعود وأبى الدرداء وأبى مسعود الأنصارى لكونهم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أنه بعث إليهم فقال: ما هذا الحديث الذى تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحبسهم بالمدينة حتى استشهد.

وجاء عن قرظة بن كعب أنه قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لمَ مشيت معكم ؟ قالوا: نعم نحن أصحاب رسول الله مشيت معنا، فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوى بالقرآن كدوى النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة قالوا حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب.

وفى رواية أنه قرأ: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قومًا لهم أزيز ــ صوت بالبكاء ــ بالقرآن فيأتونكم فيقولون: قدم أصحاب محمد، قدم أصحاب محمد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومع كل هذا، فإن أبا بكر كان يطلب شاهدًا آخر غير الراوى، وكذلك كان عمر، وكان علىّ يستحلف قائله.

ولكن لما كانت «قبيلة حدثنا» تذهب غير ذلك وتلجأ إلى المماحكة، وإلى أن السُـنة كتبت فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد محص السيد رشيد رضا تلك القضية فى بحث طويل، وناقش كل الأحاديث المؤيدة للكتابة فقال:

(١) حديث أبى هريرة (اكتبوا لأبى شاة) وهو فى الصحيحين وموضوعه خاص.

(٢) حديث أنس (قيدوا العلم بالكتاب) تقدم أنه ضعيف.

(٣) حديث أبى بكر (من كتب عنى علمًا أو حديثًا) تقدم أنه ضعيف أيضًا.

(٤) حديث رافع بن خديج (اكتبوا ولا حرج) تقدم أنه ضعيف أيضًا.

(٥) حديث حذيفة (اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء) ضعيف أيضًا كما تقدم بل يشم منه رائحة الوضع.

(٦) كتاب الصدقات والديات والفرائض لعمرو بن حزم، رواه أبو داود والنسائى وابن حبان والدارمى وموضوعه خاص، وإنما كتب له ذلك ليحكم به إذ ولى عمل نجران.

(٧) حديث عبد الله بن عمرو هو أكثر ما ورد فى الباب وقد جاء بألفاظ مختلفة من طريقين فيما أعلم عند أحمد وأبى داود والحاكم؛ فالطريق الأول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أى عبد الله بن عمرو بن العاص فهو جده.

وهذا الطريق في ه بلفظ (قيدوا العلم)، وعبد الله بن المؤمل قال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال النسائى والدارقطنى: ضعيف، ولا حاجة إلى مراجعة طريق ابن عساكر فقد جزم السيوطى بضعفها.

* * *

بعد كتابة هذه الكلمات قرأت كلمة لفضيلة للدكتور على جمعة مفتى الجمهورية فى «الأهرام» (٢٠/١٠/٢٠٠٨) تحت عنوان «أدلة تدوين السُـنة فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم»، أثارت عجبى لأن الشيخ على جمعة لابد أن يعلم ما قدمناه من أدلة عن عدم تدوين السُـنة لا فى حياة الرسول ولا فى حياة الخلفاء الراشدين، ولابد أنه ألم بتحليل السيد رشيد رضا، فالشيخ متمكن ولا ينقصه المعرفة، ولقد شعرت بأسى عميق عندما قارنت كلمة المداجاة «بالأهرام» بما كان يصدع به الشيخ فى مسجد السلطان حسن، فإلى هذه الدرجة تغير المناصب الرجال؟!

0 التعليقات:

إرسال تعليق