الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الثالث تقرير تعدّدية الأديان

يصل القرآن إلى الغاية فى التعددية عندما يقرر – وهو الذى يختلف عن المسيحية واليهودية وبقية الأديان الأخرى – قبول وجود هذه الأديان والتعايش معها ..

وهذا الموقف الفريد – لأننا لا نعلم مثيلاً له بين الديانات الأخرى – يعود إلى سببين أولهما تاريخى وثانيهما موضوعي.

أما السبب التاريخي فإنه يعود إلى النشأة التاريخية للديانات السماوية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام.

فكما هو معروف فقد ولد سيدنا إبراهيم فى العراق وعاش ردحاً من الدهر فى "أور" "الكلدانية" ثم تنقل ما بين مصر وفلسطين حتى مات ودفن فى بئر سبع.

وكانت زوجة إبراهيم "سارة" عاقراً فدفعت بسيدة جاءت بها من مصر هى هاجر إليه ليتزوجها عسى أن تلد له ولداً. وهذا ما حدث فقد ولدت له هاجر بكر أبنائه "إسماعيل" وتملك الغيظ والغيرة سارة، ودفعت زوجها لأن يبعد هاجر وأبنها عنها. فأخذهما إلى الحجاز وأودعهما ذلك المكان الذى سيصبح أقدس الأماكن، وتركهما. وبعد فترة أشتد العطش بها وبطفلها، وأخذت تروح وتجئ بحثاً عن المياه حتى عثرت على بئر زمزم فارتوت، ولاذ بالبئر نفر من العرب، ونشأ إسماعيل معهم وتزوج منهم وأصبح رأس العرب العدنانيين الذى سيولد منهم رسول الإسلام العظيم محمد بن عبد الله.

وقد لا يفهم الإنسان الحكمة فى هذه العملية كلها، وقد يستشعر غيظاً من سارة التى أصرت على إبعاد هاجر وإبراهيم الذى أطاعها، ولكنهما كانا مسيرين بإرادة الله وبعنايته الذى شاء أن يستقل هذا الفرع من أسرة إبراهيم بدين هو الإسلام.. وبشعب هو العرب.

ولنعد إلى السياق فبعد أن عاد إبراهيم إلى موطنه أوحى إليه الله تعالى أن سيرزق من سارة العجوز بابنين هما أسحق، ثم يعقوب.

ومن يعقوب الذى يطلق عليه إسرائيل جاءت الأسباط التى كونت شعب بنى إسرائيل وتكرر بالنسبة ليعقوب ما حدث بالنسبة لإبراهيم فقد وقعت المجاعة المجاعة بديارهم وأرسل يعقوب بعض أبنائه إلى مصر ليمتاروا منها وغار الأبناء من أخيهم الصغير يوسف الذى كان والده يؤثره بالحب.. فتآمروا عليه وباعوه بدورهم لأحد حكام مصر.

وظفر يوسف باحترام الحاكم عندما فسر له حلمه المشهور عن سبع بقرات عجاف تأكل سبع بقرات سمان. بأن سيحدث فى البلاد قحط يستمر سبع سنوات.. وعينه مديراً لخطة مقاومة القحط.

وعندما جاء للمرة الثانية – أخوته – عرفهم بنفسه وطلب منهم إحضار الأسرة كلها فجاءوا وأقاموا فى إحدى مناطق الشرقية بالوجه البحرى، وأمضوا أجيالاً عديدة تكاثروا فيها حتى ضاق بهم المصريون فاستعبدوهم وشغلوهم فى بناء المعابد (وهذا لا ينطبق على الأهرام لأنه جاء بعد الأهرام بمئات، وربما آلاف السنين) حتى ظهر منهم موسى الذى تربى فى بيت فرعون ونشأ كنبيل مصرى ولكنه تبنى قضية بنى إسرائيل ودخل فى صراع مع فرعون وأيده الله وجعله نبياً وكتب له النصر على فرعون بحيث خرجوا من مصر "بيت العبودية" فذهبوا إلى فلسطين "ليستعبدوا" الفلسطينيين وتوالت الأجيال حتى ظهر فيهم عيسى السيد المسيح الذى أراد هداية خراف بنى إسرائيل الضالة فانقلبوا عليه وتوصلوا إلى محاكمته، وصلبه ﴿وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.

وبعد قرابة ستة قرون من ظهور المسيحية أذن الله تعالى بظهور الإسلام على يد محمد بن عبد الله وهو سليل إسماعيل بن إبراهيم.

وكادت القضية تتكرر عندما أهدى المقوقس للرسول مارية المصرية القبطية، وعندما أنجبت من الرسول وولدت له إبراهيم.. ولكن الله تعالى لم يشأ لإبراهيم أن يعيش فمات طفلاً.

وهكذا نجد أن الديانات الثلاث نشأت عن أب واحد، وهو ما يجعلنا نفهم كلمة الرسول عن الأنبياء أنهم "أبناء علات" أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، وارتبطت تاريخياً وجغرافياً بمكان وزمان متقارب قبل أن يتفرغ كل دين ويذهب إلى قارات الأرض، وكان يفترض أن تكون العلاقة بينهم كالعلاقة ما بين الأخوة، ولكن سدنة كل دين ضاقوا بالدين الآخر.. وساد الجميع نوع من الفتور، إن لم يكن العداء.. وكانت العلاقة على أسوئها ما بين المسيحيين من ناحية واليهود والمسلمين من ناحية أخرى، وكانت على أخفها ما بين المسلمين من ناحية والمسيحيين واليهود من ناحية أخرى، ذلك لأن الإسلام كان عليه كآخر الأديان أن يحدد الموقف بالنسبة للأديان التى سبقته فوضع مبدأ القبول لكل الأديان، وحرية أصحاب كل دين فى ممارسة دينهم دون أى تقييد، وتطبيقاً لهذا المبدأ ظفر المسيحيون واليهود بالحرية الدينية الكاملة.

ويغلب أن تدق الحكمة الإلهية فى الطريقة التى ظهرت بها الأديان الثلاثة، والسياق الذى أخذته فى حين أن إنعام النظر يمكن أن يكشف فى كل حركة منها حكمة فقد شاء الله تعالى أن يظهر إبراهيم فى الجناح الأيسر فى المنطقة العربية. ويغرس دينه فيها، ثم أراد الله أن يسكن أحفاده فى مصر ليظهر موسى ويعلن اليهودية ويقود بنى إسرائيل إلى فلسطين ليظهر فيها بعد عدة قرون المسيح ويعلن المسيحية.. وبعد عدة قرون أخرى أعلن محمد بن عبد الله – سليل إسماعيل الذى أبعد إلى الحجاز – الإسلام.

ولا جدال أن فى إرادة الله تعالى وجود الأديان الثلاثة جنباً إلى جنب حكمة كبيرة فقد أراد لها أن تتحد فى الأب وتختلف فى الأم فتكون "أبناء علات" كما قال الرسول ليتحقق فيها عنصر من الوحدة وعنصر أخر من التميز كما لم يشأ أن ينفرد واحد منها بالبشرية، فهذا يتعارض مع التعددية التى هى فى طبيعة المجتمع البشرى، وما لا يكون هناك مفر منه، وعادة ما يفضل الأب أن يكون لأبنه الواحد أخ يلاعبه ويكسر فيه حدة الاحتكار ويحقق كل ما فى "التجمع" من مزايا سواء كانت فى العاطفة أو فى الإضافة، التى يضعها الثانى إلى الأول والثالث إلى الثاني.

فوجود أديان ثلاثة التى هى الحد الأدنى للجمع، وأتصاف كل منها بمعالم مميزة يمثل تعددية "الأسرة" التى تُعَّرف أبناءها قواعد التعامل والأخذ والعطاء وما يكون لها وما يكون لغيرها. وأداب الائتلاف والاختلاف وأن يكمل ما لدى الواحد ما ينقص الآخر. فاليهودية بتوحيدها الصلد، والمسيحية بمحبتها والإسلام بعدله. كلها تمثل التكامل المطلوب فى عالم القيم.

إن التكييف الإسلامى لهذه الدرجة من تعدد الديانات على أساس التعايش والتسامح والتكامل لهو أفضل الخيارات فهو أفضل من وجود دين واحد فحسب لن يتجاوب مع الطبيعة البشرية، ويحرم من مزايا المنافسة ووشائج القربى فى وقت واحد. وهو أفضل من وجود عشرات الأديان الذى يؤدى إلى التفتت وقيام العلاقات التى توجدها التعددية على أساس السماحة تمثل العطاء والتكامل وهو الوضع الأصولى لأنها كلها تبتهل إلى إله واحد وتنادى بقيم الحب والخير والعدل وما الذى يدفع دينا منها لأن يتكاثر على حساب الآخر وفى كل دين مئات الملايين ولكل دين نكهته وضرورته وأضافته إلى الحضارة ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.

إن الدين هو البيت الكبير الذى يضم على الأقل وما نحن بصدده، الأديان الأخوة "اليهودية والمسيحية والإسلام" الثلاثة، وأن يكون لكل واحد منها دور فيه يمثل قدراً من استقلال داخل الإطار الواحد، وأن يحب كل واحد نفسه وأبناءه لا يعنى بالضرورة أن يكره أخويه وأبناءهما أو ألا يخصهم بجانب من الحب لأن الحب يتسع للجميع ويسعد به الجميع .

ووجود أخوة ثلاث فى البيت أفضل من أن يستأثر واحد فحسب بالبيت، لأنه وإن كان البيت سيصبح خالصاً له، فسيكون عليه مسئولية القيام بنفقاته وأعبائه ثم يمكن أن يقع فى مزالق "المنفرد" الذى تتملكه الأثرة والأنانية، ولا يجد شريكاً يكبح جماحه ويتحمل معه الخسارة. أما الربح فإن استخدام العقل واستلهام القلب يضاعفه ويجعله أكثر مما كان يمكن للفرد وحده أن يصل إليه.

f

هذا عن السبب التاريخى ..

أما السبب الموضوعى لتقرير الإسلام تعدّدية الأديان، فإنه يعود إلى تكييف الإسلام لفكرة "الله" باعتباره خالق الكون بأسره، والوجود كله. فى حين أنه فى الفلسفة كان مجرد "فرض لحل سلسلة الخلق" دون أن يتضمن هذا الفرض بالضرورة خصائص الحياة والفعالية والمقدرة الخ.. كما انه فى الأديان الأخرى كان إلها محليا، للمصريين أو البابليين أو بنى إسرائيل، بينما ألقت عليه الوثنية باوضار ولوثات تصوراتها الفجة والبدائية، إن "الله" فى الإسلام هو خالق الكون بأسره وجابل البشرية، وأصل القيم العليا من حكمة وقدرة وعدل وخير وسلام الخ.. وواضع النظم التى يسير عليها الكون كما يسير عليها المجتمع البشرى، وهو الذى أنزل الديانات كلها من لدن آدم حتى محمد، بما فى ذلك رسل وديانات لم يقصص علينا القرآن أنباءهم. فما دام الأمر كذلك فلا يفترض أن يكون فى تعددية الأديان تناقض أو تنافر لأنه تعالى هو الذى أنزلها ولأنه يرسل الرسل وينزل الديانات تبعاً لحاجات البشرية المتفاوتة والمتعددة حسب الأزمان والعصور والأجناس والملابسات التى تتحكم فى كل جنس وشعب. وهذه الأديان كلها تؤثر، وتتأثر بأوضاع مجتمعها، ولا يستشعر القرآن حرجاً أو حساسية فى ذلك لأن كل شئ من خلق الله.. فلن يكن فرار من قدر الله إلا إلى قدر الله، وعندما سئل الرسول "ارأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وثقاة ثقيها هل ترد من قدر الله فقال هى من قدر الله" ولأن الله تعالى وضع أصولاً ومبادئ تحكم المجتمع. وفى الوقت الذى لا يمكن أن يغيب مثقال ذرة فى هذا الكون اللانهائى عن علم الله. فإن الإنسان ليعطي نفسه أهمية قد لا تكون له إذا تصور أن الله تعالى ليس لديه عمل إلا متابعته، فأين هو من ملك الله..

من هنا فإن منطق الخطأ والصواب لا يمكن أن يطبق على الأديان. فكل دين يمثل إحدى احتياجات البشرية. واختلافها يعود إلى إختلاف الاحتياجات والملابسات والعصور والبيئات.

وليس هناك حساسية فى القول بأن الأديان، وأن كانت منزلة من الله فإنها تصبح "ظاهرة اجتماعية" عندما يتعامل الناس معها. الأمر الذى أشار إليه القرآن عندما تحدث عن غلبة الأهواء التى تحرف الكلم عن حقيقته وآثار مر الغداة وكر العشى وتوالى القرون وكيف تقسوا القلوب عندما يطول عليها الأمد وتتجمد المشاعر والعواطف أو تتقولب الخ..

يجب أذن التفريق بين ما جاء فى القرآن الكريم الذى هو التعبير الحقيقى عن الإسلام. وبين ما ينتهى إليه رجال الدين فى كل عصر وأوان من فهم لحقيقة الرسالات الإلهية لأن هذا الفهم لابد وأن يتأثر برواسب فكر هذه المجتمعات. وقصور الإدراك البشرى وغلبة المصلحة والذاتية على نفوس الذين يتحدثون باسم الأديان ويرون أنفسهم حراسها وحفظتها وما يسلك إليهم مع احتكارهم لتمثيل الدين من انحرافات.

وهذه الظواهر توجد فى كل المجتمعات ويتأثر بها رجال الدين من مسلمين أو مسيحيين أو بوذيين الخ.. وهى السر فيما يصدره رجال الدين من أحكام ينسبونها إلى الدين.

وموقف الإسلام الذى جلاه القرآن الكريم واضح دون خفاء، وقد كرره القرآن مراراً وتكراراً فى عديد من الآيات. أن الله تعالى أراد هذه التعددية الدينية، بما تتضمنه من اختلافات لا مناص عنها بحكم ما أرساه الله من أسس يسير عليها المجتمع. ولما كان الاختلاف ليس فحسب وارداً، بل هو مطلوب، فإن الله تعالى خص نفسه بالفصل فيما كانوا فيه يختلفون يوم القيامة.

وبهذا حسم القرآن شأفة الخلاف، وحرّم على كل فريق أن يدّعي الأفضلية وأن يرى أن الآخرين ليسوا على شيء، ولأن يدعى الجنة لنفسه والنار للمخالفين فهذا ليس من حقه، وفيه أفتيات وتألى على حق الله تعالى، وأن هذا كله "أمانى" يصدر عنها كل فريق من منطلق ذاتى والأمر ليس بأمانى المسلمين أو أهل الكتاب أو غيرهم ..

وحكمة الله تعالى فى هذا كله أن الأديان رغم اختلافها تنتهى كلها إلى حقيقة واحدة هى الألوهية فالاختلافات لا تنال الجوهر – كما يبدو لبعض الذين يحول استغراقهم فى أنفسهم دون فهم الآخرين. فالملايين فى أوربا وأمريكا الذين يقولون "أبانا الذى فى السماء" لا يفهمون منه إلا ما يفهمه المسلمون من حديث "الناس عيال الله" ومن المؤكد أنهم لا يفهمون، ولا يعنون بالأقانيم الثلاثة وعلاقة كل واحد بالآخر، أما التعميد فى المياه، أو تناول القربان فليس إلا طقوس وتقاليد لا تضر، وقد تفيد، وفى هذه الدول التى لا تؤمن بالإسلام يعمل الناس بجد وإخلاص ولديهم الصدق فى القول والإتقان فى الأداء والوفاء بالعهود والخلق الحسن، كما يعد كذب الساسة فيما يدلون به من وقائع أو بيانات أمام القضاء أو مؤسسات الدولة جريمة كبرى قد لا يكفر عنها إلا بالاستقالة كما حدث بالنسبة لنيكسون الذى أتهم بالتجسس على خصومه السياسيين وللرئيس كلينتون بالنسبة لعلاقته بإحدى موظفات البيت الأبيض، وقد تعرض للوم والتقريع ودفع غرامة كبيرة والحرمان من ممارسة المحاماة لمدة خمس سنوات فى حين أن معظم قادة الدول الإسلامية ليس لهم من كلام إلا الكذب والتزييف وليس لهم من عمل إلا الاستبداد والتحكم، وبهذا فإن المجتمعات الأوربية قد تكون أقرب إلى الله، وإلى المثل والقيم الإسلامية، من عديد من المجتمعات التى تدعى الإسلام.

أذكر أنى كنت فى شتاء عام 1948 فى معتقل الطور مع الإخوان المسلمين الذين اعتقلوا بعد الحل الأول للإخوان. وكان المعتقل الذى غرس وسط الصحراء القاحلة يبدو ليلاً متلألئ الأضواء بفضل المصابيح الكهربائية التى أقامتها إدارة المعتقل لفرض الحراسة وبفضل ما توصل إليه الإخوان خاصة الكهربائيين منهم من استخدامات للطاقة الكهربائية فى تسخين المياه للاستحمام والغسل والطهى الخ.. وكنت أقول للإخوان إلا تظنون أن الله تعالى سيدخل "أديسن" الجنة، بعد أن أتاح للبشرية كل هذه الأنوار فيردون بقوة "كلاً أنه لم يؤمن بالله ولا الرسول" وكأنهم تصوروا أن الإسلام ظهر فى أمريكا وأن الرسول دعا أديسن والأمريكيين إلى الإسلام فرفضوا.

وكنت أرد عليهم صدق الله ﴿قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا.

وقد آن للدعاة الإسلاميين أن يعلموا أنه ليس مطلوباً منهم، أن يكسبوا للإسلام مؤمنين بأديان أخرى، وليس من حقهم أن يحكموا على الآخرين بالنار كأن مفاتيح الجنة والنار فى أيديهم. أن هذا منتهى الأفتيات والتألى بل الوقاح، فى حق الله تعالى. أن كل ما طلبه القرآن بعد أن قال ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [2] هو أن يكونوا ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويقتضى هذا أن يعرفوهم على الإسلام ثم يتركوهم لأنفسهم لأن تغيير الدين ليس مسألة إيمان قلبى ونظرى فحسب، ولكنه يتطلب تعقيدات اجتماعية وترتيبات فى الميراث وغيره، ولأن الهداية من الله وليست من الرسول ..

ولكن يبدو أن كل هذا لم يفهم من المسلمين المعاصرين، ولم تؤثر فى أحكامهم وتصوراتهم أو فى النزعة الدفينة فى نفوس بعضهم، فقد قرأت عدداً خاصاً من مجلة التوحيد عن التعددية حاول أن يطرح هذه القضية بكل إخلاص وعمق ورغبة فى التوصل إلى الحقيقة، ومع هذا فإن التيار الفكرى الكاسح الذى يسيطر على الفكر الدينى جعل محور المعالجة يدور حول أمرين :

الأول : هل يمكن قبول تعدّد الأديان، وهلا يعني هذا خطأ البعض وصواب الآخر ..

والثاني : ما هو مصير الذين لا يؤمنون بالإسلام يوم القيامة وهل سيكون مصيرهم إلى النار[3] ..

ثم لا يقفون عند هذا، ولكنهم يقطعون بانهم فى الجنة وأن مخالفيهم فى النار.[4]

وأى جرأة على الله مثل هذه الجرأة وهل يملكون هم مفاتيح النار أو يقدرون على زج الناس فيها.. وعلى أى أساس بنوا هذه النتيجة الفاسدة وأين هم من رحمة الله التى لا تحد، والتى تثيب بسبعمائة ضعف ولا تعد رحمة الأم بأبنائها إلا جزء من مائة جزء هى رحمة الله.. وفى النهاية قد لا يزج فى النار إلا بالمارد المتمرد، كما جاء فى أثر كريم. سنشير إليه فى فقرة تالية ..

وقد عالج هذا الموضوع معالجة وافية فقيه أزهرى مجدد لم يظفر بالشهرة التى كان يستحقها هو الشيخ عبد المتعال الصعيدي رحمه الله فى كتابه "حرّية الفكر في الإسلام" الذى ظهر فى أربعينات القرن العشرين، وسنعرض هنا للفقرة التى كتبها على طولها لتتضح الصورة.

فتحت العنوان الفرعي "رأي الجاحظ والعنبري في عذر غير المعاند في الحق" قال الشيخ عبد المتعال الصعيدي ..

"وهناك فريق آخر على رأسه الجاحظ والعنبرى من أئمة المعتزلة يرى أنه لا إثم على المجتهد مطلقاً، وإنما الإثم على المعاند فقط، وهو الذى يعرف الحق ولا يؤمن به عناداً واستكباراً، فالمجتهد المخطئ عند هذا الفريق غير آثم، ولو أداه اجتهاده إلى الكفر الصريح، لأن تكليفه عندهم بنقيض اجتهاده تكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق ممتنع شرعاً وعقلاً، وقد أجاب الجمهور عن هذا بأن التكليف بما لا يطاق ممكن غير ممتنع عقلاً ولا عادة، فلا يكون من المستحيل فى شئ، وفى هذا الجواب من الضعف ما هو ظاهر، لأن الله تعالى يقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا {286 البقرة} فهو ممتنع شرعا وعقلاً.

ولا شك أن مذهب هذا الفريق ظاهر فى نفى الإثم مطلقاً عن المجتهد المخطئ بمقتضى دليلهم السابق، ولكن بعض المتكلفين رأى متطفلا عليه أن يقيده ببعض المسائل الخلافية بين الفرق الإسلامية، مثل نفى رؤية البارى تعالى، ومثل القول بخلق القرآن، فلا يدخل فيه ما هو من الكفر الصريح، ولكن هذا خلاف مذهب هذا الفريق كما هو ظاهر.

وقد استدل الجمهور لمذهبهم بإجماع المسلمين قبل ظهور هذا الفريق على وجوب قتال الكفار مطلقا، وعلى أنهم من أهل النار مطلقا، وهذا من غير فرق بين معاند منهم وغير معاند، ولو كانوا غير آثمين لما ساغ قتالهم، ولما كانوا من أهل النار أيضا.

والشق الأول من دليل الجمهور مبني على مذهبهم فى وجوب قتال الكفّار على كفرهم، وقد ثبت فى عصرنا بطلان هذا المذهب، لقوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ {256 البقرة} وكل آيات القتال فى القرآن ظاهر في أن قتالنا للكفّار مسبوق بقتالهم لنا، فنحن نقاتلهم على قتالهم لنا، لا على كفرهم، وقد بينت هذا فى بعض كتبى، وبينه السيد محمد رشيد رضا فى تفسير الآية السابقة من سورة البقرة، ولا داعى إلى ذكره الآن هنا، وسيأتى فى موضوعه من هذا الكتاب.

والشق الثانى من دليل الجمهور فيه مصادرة على المطلوب، لأن أصل النزاع بين الجمهور وهذا الفريق فى كون الكفّار غير المعاندين آثمين ومن أهل النار، أو غير آثمين ولا من أهل النار، ودعوى الإجماع فى ذلك لا قيمة لها، لأن الإجماع لابد له من دليل يستند عليه، والدليل قائم عند هذا الفريق على أن الكفار غير المعاندين غير آثمين، وهذا إلى إنكار بعضهم للاحتجاج به.

وقد ذهب الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" إلى مثل هذا، فذكر أن من لم يؤمن بالله ولا برسله ولا بنحو ذلك لا تجرى عليه أحكام المسلمين فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم بعضهم بعض، وليس معنى هذا أن من لم يؤمن بشئ من ذلك يكون كافراً عند الله يخلد فى النار، وإنما معناه أنه لا تجرى عليه فى الدنيا أحكام الإسلام، فلا يطالب بما فرضه الله على المسلمين من العبادات، ولا يمنع مما حرمه الإسلام كشرب الخمر وأكل الخنزير والاتجار بهما، ولا يغسله المسلمون إذا مات ولا يرثه قريبه المسلم فى ماله، كما لا يرث هو قريبه المسلم إذا مات.

أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقّف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشئ منها بعد أن بلغته الدعوة على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، ولكنه أبى أن يقنعها ويشهد بها عناداً واستكباراً، أو طمعاً فى مال زائل أو جاه زائف، أو خوفا من لوم فاسد، فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفرة، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طلبا للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافراً يستحق الخلود فى النار عند الله.

ثم قال : "ومن هنا كانت الشعوب النائية التى لم تصل إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم فى بحثها – بمنجاة من العقاب الأخروى للكافرين، ولا يطلق عليهم أسم الكفر. والشرك الذى جاء فى القرآن أن الله لا يغفره هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار، الذى قال الله في أصحابه ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا {14 النمل}."

وهذا صريح فى اختيار الشيخ محمود شلتوت لمذهب هذا الفريق، لولا أنه خلط بين مذهب هذا الفريق ومذهب الجمهور فيما رتبه على ما ذهب إليه من النتيجة المقصودة، وهو أن من كان من الكفار من أهل النظر وظل ينظر ويفكر طلباً للحق حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافراً يستحق الخلود فى النار عند الله.

فإن هذا ليس محل الخلاف بين مذهب الجمهور ومذهب هذا الفريق فى الكافر غير المعاند، بل هو محل اتفاق بين الجمهور وهذا الفريق، لأنه مات طالباً للحق ولم يصل إلى رأى قاطع، وليس هذا هو الذى يخالف فيه هذا الفريق مذهب الجمهور، وإنما الذى يخالف فيه الجمهور هو من نظر واجتهد فأداء اجتهاده فى حياته إلى الكفر الصريح، وهذا هو الذى لم يشر الشيخ محمود شلتوت إليه، مع أنه فيما نقلناه عنه يرى رأى هذا الفريق الذى يفرق بين الكافر المعاند وغير المعاند.

وللبحث بعد هذا كله مجال فيمن هو المعاند ؟ فهل هو الذى يعرف الحق ولا يؤمن به ولو أقتصر على نفسه، فلم يحاول منع غيره من الإيمان بوسيلة قهرية أو جدلية، أو الذي لا يقتصر على نفسه بل يحاول ذلك مع غيره ؟ ومما يفيد فى هذا البحث خلاف الجمهور فى أبى طالب عم النبي فقد ذهب بعضهم إلى أنه مات على شركه، ثم ذهب إلى أن حمايته للنبي من المشركين تنفعه فى أخراه، وتنجيه من عذاب النار إلى ما لا يذكر من العذاب، لأنه يبلغ فى خفته إلى أبعد حد.

ولا يفوتنى بعد هذا أن أضيف إلى نقدى السابق للشيخ شلتوت نقدا آخر لإخفائه نسبة ذلك الرأى إلى صاحبيه القديمين – الجاحظ والعنبرى – وهما من أعلامنا الأقدمين، ونسبته إليهما تجعل له قيمة أكثر من نسبته إلى الشيخ شلتوت، وما كان هذا ليخفى عليه وهو رأى مشهور درسه وهو طالب فى كتاب مشهور من كتب علم أصول الفقه. وإن كنا على عهد الطلب لم ندرك قيمة هذا الرأى فى عصرنا، لما كان يحيط بنا من الجمود الدينى والفكرى، فمر علينا فى ذلك الكتاب كما مر غيره من مسائل علم أصول الفقه، ولم ندرك مدى ما وصلت به سماحة الإسلام إلى حد لا يوجد فى غيره من الأديان، ولم ندرك أن الإسلام يصل به إلى أن يكون أسمح دين لبنى الإنسان" انتهى كلام الشيخ عبد المتعال الصعيدي.

وما يمكننا إضافته – على طريقتنا في تقديم الاستشهاد بالقرآن واستخلاص الأحكام منه، أن نقول أن القرآن يتضمن العديد من الآيات التى تؤيد حرية العقيدة وتتقبل الأديان وتدع الاختلاف فيها إلى الله.

من هــذه الآيات ...

  • ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {62 البقرة}

  • ﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {113 البقرة}

  • ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {84 آل عمران}

  • ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {118- 119 هود}

  • ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ {24 - 25 سبأ}

  • ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {1 – 6 الكافرون}

وتحدث القرآن الكريم عن اليهود والنصارى حديثاً منصفاً، يمثل الحياد والنزاهة التامة مما كان يمكن أن يكون درساً فى الموضوعية والأنصاف، ففى الوقت الذى ندد فيه بتعصب وإصرار اليهود، فإنه أعترف بما لدى البعض منهم من فضائل فقال ..

  • ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75 آل عمران}

  • ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَــرُوهُ وَاللَّـــهُ عَلِيــمٌ بِالْمُتَّقِيــنَ {113– 115 آل عمران}

  • ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {199 آل عمران}

  • ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {83-82 المائدة}

واستغرب القرآن أن يدعوا اليهود الرسول ليحكم بينهم فقال :

  • ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ...﴾ {43 المائدة}

وتحدث عن الإنجيل ..

  • ﴿.. فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ {46 المائدة}

  • ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ {47 المائدة}

وكان توجيه القرآن للحكم على الآخرين أولهم، أن يترك ذلك لله. وأنها أمم قد خلت لها ما كسبت "ولا تسألون عما كانوا يفعلون. وأن الله أعلم بمن يضل عن سبيله"...

وقال القرآن بصريح العبارة ..

  • ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ .. {105 المائدة}[5]

  • ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {134 البقرة}

  • ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ {25 سبأ}

  • ﴿.. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى {30 النجم}

  • ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {7 القلم}

ونحن لا نعلم على وجه القطع هل أرسل الله تعالى إلى أهل الصين والهند واليابان رسولاً أم لا، ولكننا نعلم يقيناً أن الله تعالى قال ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا { 15 الإسراء}، ومن ثم فإن من الخطأ الحكم بأن اتباع بوذا وكونفوشيوس وهم – أضعاف المسلمين والمسيحيين واليهود – فى النار.[6]

ولما كانت السنة مبينة للقرآن ومطبقة لتوجيهاته فإن الرسول ما أن وصل المدينة حتى وضع وثيقة وحد فيها بين كل من يسكن المدينة وأعتبرهم "أمة دون الناس" "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الآثم الخ..[7]

وهناك أثر له دلالة عميقة هو ما جاء فى "مشكاة المصابيح"، مرويّاً عن عبد الله بن عمر قال كنا نسير مع النبي r فى بعض غزواته، فمر بقوم فقال "من القوم" قالوا نحن المسلمون، وامرأة تحصب (أي توقد) بقدرها ومعها ابن لها فإذا ارتفع وهج تنحت به فأتت النبي r فقالت "أنت رسول الله؟" قال نعم قالت "بأبي أنت وأمي أليس الله أرحم الراحمين" قال "بلى" قالت "إن الأم لا تلقى ولدها فى النار" فأكب رسول الله r يبكي ثم رفع رأسه إليها فقال "إن الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذى يتمرد على الله وأبى أن يقول لا إله إلا الله" رواه ابن ماجة.[8]

فهل هناك تعددية دينية دون حساسية مثل هذه.. ولماذا لا يقبل المسلمون اليوم ما قبله الرسول نفسه عندما دخل المدينة، ولا يذهبون إلى ما ذهب إليه مما هو أقرب إلى رحمة الله؟ ..

f

ومنذ أن كتب الرسول وثيقة المدينة، وقال إن الأنبياء أخوة علات وأن الأديان هى "البيت الكبير" الجميل لولا ثغرة فيه، جاء الإسلام ليسدها، ومنذ أن قال "نحن أولى بموسى منهم" وقد نزل حبل صُرى من الرسول إلى أفراد من المسلمين آمنوا بتعددية الأديان وأخوة الأنبياء، ولعل أبرزهم هو أبن عربى فى أبياته المشهورة :

لقد كنتُ قبل اليوم أنكر صاحبى إذا لم يكن دينى إلى دينه دانى

وقد صار قلبى قابلاً كل صورة فمرعى لغزلان وبيـت لأوثان

وديـر لرهبان وكعبة طائـف وألواح تـوراة ومصحف قرآن

أديـن بدين الحـبّ أنىّ توجهت ركائبه فالحب ديـنى وإيمانى

ومن أبن عربى أنتقل الحبل إلى أبن الفارض الذى قال فى "تائيّة السلوك" :

وإن نـار بالقرآن محراب مسجـد فما بـار بالإنجيل هيكل بيـعة

وإن عبد النار المجوس وما أنطفت كما جاء فى الأخبار فى ألف حجة

فما قصدوا غيرى وإن كان قصدهم سواى وإن لم تكن أفعالهم بالسديدة

وظل هذا الحبل كامنا حتى بعثته يقظة الفكر الإسلامى فى العصر الحديث، فأعاد شوقى الفكرة فى ثوب قشيب :

رب شقت العبـاد أزمان لا كتب بها، يهتدى ولا أنبياء

ذهبوا فى الهوى مذاهب شتى جمعتها الحقيـقة الزهـراء

فـإذا لقبــــوا آلها قوياً فله بالقـوى إليـك انتهاء

وإذا آثـروا جميـلا بتنزيه فإن الجمال منـك حبــاء

وإذا انشأوا التـماثيل غـرا فأليـك الرمــوز والإيماء

وإذا قدروا الكواكب أرباباً فالمراد الجــلالة الشماء

وإذا يعبـد الملوك فإن الملك فضل تحبــو به من تشاء

وإذا تعبد البحار مع الأسماك والعاصفات والأنـــواء

وسباع السماء والأرض والأرحــــــــام والأمهات والآباء

لعلاك المذكــرات عبـيد خضـع والمؤنـثات إماء

جمع الخلق والفضيلة سر شـــــف عنه الحجاب فهـو ضياء

وقد لا تثير هذه الأبيات دهشة لشفافية روح الصوفى والشاعر، ولكن الذى يثير الدهشة أن يجدها بألفاظها تقريباً لدى فقيه يمثل الفقه الشيعى وهو أكبر وأشهر آيات الله فيه إلا وهو آية الله العظمى الإمام الخمينى الذى روى عنه ..

"على بـوابـة الخـان

والمعبد والمسجد والدير

وقعتُ منهاراً فى سجود
كأنك ترمقنى من هناك "
[9]

0 التعليقات:

إرسال تعليق