السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

اجتهادات في حـدّ السرقة

إذا تقصّينا الحدود، أي العقوبات المقدّرة والمنصوص عليها في القرآن، والتي يفهم الكثيرون أنها أهمّ ما في الشريعة، لوجدنا أن الحدّ الحقيقي والفعّال في الشريعة هو حدّ السرقة -أي قطع اليد- وأن ما عداه لا يتوفّر له ما توفر لهذا الحدّ من خصائص. فالسرقة هي أمّ الجرائم وأكثرها إغراء وخطراً وحسمها يحقق للمجتمع السلام والطمأنينة كما أن تفشّيها يمثّل تهديداً خطيراً للمجتمع ويثقل عليه بأعباء باهظة لمقاومتها خاصة بعد أن أصبحت الجريمة "جريمة منظّمة" لها هياكل ونظم إدارية، كما اتّسع نطاق السرقة بحيث شمل جرائم لم تكن معروفة من قبل كالاحتيال.. والتزييف الخ...

وفيما يبدو فلم يكن مناص -إذا أريد حماية المجتمع وسيادة القانون- من أن تصل عقوبة السرقة إلى حدّ القطع. فالقطع في حد ذاته عمل بشع يثير الغثيان ولا يمكن أن يسعد به إنسان، وقد تغيّر وجه الرسول عندما شاهد هذه العملية "كأنما ذُرَّ عليه الرماد"، وفي حالة أخرى بكى، وفي الحالتين أبرز أن على الإمـام أن يقيم الحدّ ما دام قد رُفِعَ إليه وثبت على الجاني، وفي الوقت نفسه فمن الخير دائماً عفو المجني عليه والتصـالح بطـريقة ما قبل رفع الأمر إلى الإمـام [3].

يبدو أن ليس هناك من عقوبة أخرى تحقق معنى الزجر والردع سواء بمجرّد الإعلان عنها بحيث يرتدع من تسوّل له نفسه بالسرقة أو لمن سرق بالفعل وطبقت عليه هذه العقوبة الرهيبة بحيث تنحسم شأفة الذين يحترفون السرقة ولا يخرجون من سجن إلا للعودة إليه مرة أخرى وهلمّ جرا..

وأي عقوبة أخرى بديلة يمكن أن تحقق الزجر؟ السجن عقوبة عقيمة وهي تضع نفسها في مأزق. فإذا ساءت بيئة السجن لإيلام السجين، وإشعاره العذاب من نوم على "البرش" أو تقديم طعام تعافه النفوس أو قطعه عن المجتمع الخ... فإن هذا، مع استمراره فترة طويلة، تكون له آثار سيئة على السجين بعيدة كل البعد عن معنى الإصلاح والتهذيب. فكأننا في خلال دعوانا إصلاحه من داء أفسدناه بأدواء أخرى عديدة فضلاً عن أن خلطة المسجونين بعضهم ببعض يجعل السجن مدرسة للجريمة، وتصبح أداة الإصلاح هي أداة إفساد، وإذا كانت البيئة حسنة، أو حتى محتملة فإن السجن يفقد أثره كعقوبة ويصبح "نزلاً" يأكل فيه السجين ويشرب على حساب الحكومة!

هناك الغرامة المالية.. ومن الواضح أن الأغلبية العظمى من السارقين لا يملكون ما يمكن أن يدفعوا غرامة باهظة.. (لكي تكون زاجرة)، فإذا كانت غرامة تافهة فلن يكون لتوقيعها أثر.

وهناك الجلد، والجلد فيه المواصفات التى تتوخّى في العقوبة كان يقع على شخص الجاني دون الآخرين (من أفراد أسرته مثلاً كما يحدث فى السجن عندما يُحْرَم الأبناء والزوجة من عائلهم) كما أن فيه قدراً من الزجر، ولكن الشريعة أرادت للسرقة شيئاً أكثر من الجلد، لأن السرقة هي أكثر الجرائم شيوعاً ومن ثم تكون عقوبتها أكبر العقوبات زجراً، ومن هنا جاء القطع واحتفظت الشريعة بالجلد عقوبة لجريمة القذف والزنا.

إن الرسول الذي كان أشدّ الناس تأثّراً لمنظر القطع، وأشدّ الناس حثّا على العفو والمغفرة وتعافي الحدود، هو نفسه الذي قال "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، وما كان يمكن أن يقول هذا على إبنته الحبيبة لو لم تكن هناك ضرورات مؤلمة تفرض نفسها على المجتمع من انحراف أو شذوذ أو فساد الخ... وتجاهلها يفاقمها، كما أن الضعف أمامها، أو الاقتصار على علاج "الجاني" واعتباره ضحية لا يكفي، لأنه حتى لو كان ضحية، فإنه لم يكن الضحية المستسلمة فقد كان ضحية وجانياً. وإغفال هذه الصفة الأخيرة يجني على المجتمع ويجعله ضحية، ويظلمه حقه فى أن يعيش فى سلام.

من أجل هذا أخذت الشريعة بالقطع لأنه رغم كل بشاعته يحقق أهم المواصفات التي تلتمس في عقوبة وهي الزجر والردع، فمجرد الإعلان عن تطبيقه ستتوقف الأغلبية العظمى من جرائم السرقة، أما البقية الباقية فسيقضى عليها عند تطبيق الحدّ بالفعل.

وبشاعة القطع يجب أن لا تنسينا بشاعة السجن ووضع الناس فى أقفاص حديدية كالوحوش المفترسة وتكبيلهم بالقيود والأصفاد، وقد تكون عقوبة السجن فى التحليل الأخير أكثر بشاعة لأنها تقييد -أو سلب- للحرية، وكفى بذلك موبقة، ثم هي تعطّل إحدى الغرائز القويّة والملحّة في الإنسان -الغريزة الجنسية- فتدفع للانحراف، وهي مدرسة للإجرام يتعلم فيها المبتدئ على أيدي العتاة، ثم هي تترك الأبناء والزوجة دون عائل وتعرّضهم للتشرّد والضياع فضلاً عما تحمله الدولة من أعباء ثقيلة.

وعندما جوبهت الدولة الاشتراكية بمشكلة السرقة واكتشفت عقم عقوبة السجن، جعلت الإعدام عقوبة السرقة، وقد طُبِّقَت عقوبة القطع حينا ما في بريطانيا، وعندما أراد الأمريكيون الأول إستئصال جريمة سرقة الجياد -وكان الجواد الأمريكي هو رأسماله الثمين- فإنهم كانوا يعمدون إلى شنق كل من يثبت عليه سرقة جواد على أعلا شجرة، حتى يمكن أن يرى ذلك جمهور الناس، والخيار الحقيقى أمامنا للقضاء على جريمة السرقة هو القطع أو القتل.

من أجل هذا فنحن نؤيد عقوبة القطع ونلمس تماماً حكمة الشريعة فى سنها والأخذ بها ونرى أن من الخير أن تقطع بالفعل في بلد كمصر تضم سبعين مليونا بضعة أيدى كل عام، على أن يلحظ فى ذلك ما اشترطته الشريعة وما نراه نحن من اقتصار ذلك على عتاة السراق الذين تتضافر فيهم كل ما يدعو إلى الحزم والقسوة، وبذلك تتوفر العدالة إذ لا نكون قد ظلمنا المتهم، ويتوفر الزجر والردع المطلوبين للأمة والمجتمع.

بل إننا قد نسقط تحفظات الفقهاء التي كادت تشلّ الحد وسيأتى الحديث عنها ونضيف إلى حالات السرقة والغشّ فى المواد الغذائية ومواد البناء والمخدّرات لأنها جرائم تؤدّي إلى موت المئات. وليس لمن يتسبب فى الموت أن يشكو من قطع يده.

ولكن إذا لم يتحقق المجتمع الإسلامى الذي تتعانق فيه العقيدة والشريعة (بتعبير الشيخ شلتوت في كتابه "العقيدة والشريعة") فإن تطبيق القطع سيكون مجرد عقوبة رادعة لها أثرها في حماية المجتمع دون أن يكون هذا المجتمع -ضرورة- هو المجتمع الصالح الجدير بالحماية، وقد طبقت عقوبة القطع فى إنجلتراً فترة ما، كما كانت القوانين في بريطانيا وبقية الدول الأوروبية، صارمة، وكان الحكم بالموت عقوبة على ما يجاوز المائة من الجرائم. وقد خفضت حركة الإصلاح القانونى والقضائى هذا العدد حتى أودت به كلية أو كادت ولكن وجد من علماء الاجتماع من يعيد جزءاً كبيراً من احترام القانون لدى الأوروبيين إلى فترة هذه العقوبات الصارمة التي غرست عميقاً الخوف من مخالفة القوانين، وبالتالى إحترام القانون حتى أصبح طبيعة فيهم.

وهذا ما يبرز نقطة يسوقها بعض المفكرين، تلك هي أن الفضيلة التي تتحقق عن طريق الخوف والرهبة تفقد جوهرها، وهذا كلام يصحّ بالنسبة لضمير الفرد الذي يقوم على التقوى والإيمان وتكون العقيدة أساسه، أما الضمير الاجتماعي فإن تعقّد المجتمع يتطلب عنصراً من عناصر الثواب والعقاب، وإذا عجز المجتمع عن أن يكفل الثواب، فلا أقلّ من أن يتمسّك بالعقاب. والإنسان ليس ملاكاً، ولا هو معصوم من غلبة الجهل أو الأنانية أو الشرّ، وما أكثر العوامل التي تشوّه الطبيعة البشرية من وراثة أو بيئة بحيث تجعل صاحبها منحرفاً فضلاً عما يجب أن يحاط به سياج المجتمع من قوة تمنع المتطفلين من اختراقه.

إن العقوبة الزاجرة هي مما لا يمكن استبعادها كلّية لأنها تحول دون استشراء الجريمة، وبهذا تكون على قسوتها أرحم، وعندما يتعلق الأمر بالمجتمع، فلا يجوز أن نغفل مقتضيات سلامة هذا المجتمع.

ولابد أن نسمو فوق النفاق الاجتماعي ونعترف بأن مجال الجريمة قذر بطبيعته وأن هناك نفوساً فاسدة، فسدت حتى لم يعد الإجراء الأدبى يصلحها، وأصبحت في المجتمع أشبه بميكروب السرطان فى جسم الإنسان تفسد على المجتمع عمله، ويتعين إجراء عملية جراحية حتى لا يستشري ويقضي على حياة المريض بالموت مصطحباً بآلام قد تكون فظيعة لا تحتمل.

vvv

جعلت العوامل الخاصة بالسرقة التي أشرنا إليها إلى صور من الاجتهادات توصّل إليها الفقهاء القدامى وتضمنتها مراجعهم، ويمكن إذا طُبِّقَت أن تشلّ بالفعل تطبيق الحدّ وقد يصورها خير تصوير تعليق أحد قراء "الأهالي" في 25-12-1991 جاء فيه :

<< قرأت ما كتبه الأستاذ زكريا شلش القاضي بمحكمة الإسكندرية الابتدائية في "أخبار" الجمعة 8-11-1991تحت عنوان "فشلت القوانين فى مواجهة اللصوص فلماذا لا يطبق حدّ السرقة فى الشريعة الإسلامية ؟"

وليسمح لي الأستاذ زكريا أن أذكّره بما درسه في كلية الحقوق :

q شروط تطبيق الحدّ على السارق :

____________________

1. أن يكون مكلّفاً بالغاً عاقلاً.

2. أن يكون عالماً بأن ما سرقة يساوي نصاباً فلا قطع بسرقة جواهر يظن السارق أنها لا تساوي نصابا.. لقول عمر: "لا حدّ إلا على من علمه."

3. أن يكون مختارا، فلو كان مكرها على السرقة فلا تقطع يده للحديث: "عفى عن أمتى الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه."

4. انتفاء الشبهة بين السارق والمسروق منه: فلا قطع فى سرقة إبن لأبيه لوجوب نفقة الأب على إبنه، ولا سرقة الأب لإبنه، لحديث: "أنت ومالك لأبيك". ولا قطع بسرقة مال له فيه شرك، لقيام الشبهة فيه بملكه لبعضه.

5. ألا يكون مضطرّاً، ولعلنا نذكر العبدين اللذين سرقا ناقة، فهدد عمر مالكهما حاطب بن أبى بلتعة بقطع يده هو لا العبدين.

q شروط المسروق :

___________

يشترط في الشيء المسروق ما يأتي :

1. أن يكون مالاً، فلا قطع فى سرقة طفل لأنه ليس بمال، ولا سرقة مصحف، ولا بسرقة كتب بدعة وتصاوير، ولا بآلات لهو كالعود والمزمار، ولا بسرقة صنم من ذهب أو فضة للإجماع على تحريمه.

2. أن يكون قابلاً للنقل وإخراجه من حرزه: فلا قطع في سرقة من المحلات التجارية، والفنادق، والمطاعم أثناء العمل، فإذا سرقت ليلاً أو نهاراً أثناء إغلاقها وجب القطع.

3. ولا قطع فى سرقة المساجد من حصر وسجاد ونجف وستائر إلا إذا كان لها حافظ، كذا لا قطع فى سرقة أمتعة المصلين وأحذيتهم، إذا لم يكن لها حارس.

وحكم المعابد والكنائس والمدارس كحكم المساجد، كذا المعاهد والمقاهي ونحوها، لأنها لم تعدّ أصلاً لحفظ المال، فليست حرزاً بنفسها بل بالحافظ.

4. ألا يكون فى الأصل مباحاً كالصيد والسمك، ولا يتسارع إليه الفساد كاللحوم والفواكه والخضروات، ولا تافها كالحشيش والحطب، ولا في المحصولات الزراعية كالقمح والذرة قبل حصيدها، لا قطع فى كل هذه الأشياء.

q مسائل في السرقة :

____________
1. إذا دخل سارق، وجمع المتاع، ولم يخرجه حتى قبض عليه، لم يقطع لأن تمام السرقة يكون بإخراج المتاع من الحرز.

2. إذا ناول السارق المال المسروق لصاحب له على الباب، لم يقطع واحد منهما، لأن الأوّل لم يخرج المال من الحرز، والثاني لم يدخل الحرز.

3. إذا قال السارق: هذا متاعى كنت اشتريته أو استوْدعته عنده، دُرِئ الحدّ، لأن المسروق منه قد صار خصماً للسارق.

4. من سرق شاة من مرعاها لم يقطع لأنها غير محرزة.

5. إذا ثقب السارق الحائط، وأدخل يده أو مدّ عصا وأخذ المتاع، فلا قطع لأنه لم يدخل الحرز فتكون الجناية ناقصة.>> (انتهى)

وظهر في الفترة المعاصرة دعاة إسلاميون لهم اجتهادات في هذا المجال، لعل أقدمهم هو الشيخ عبد المتعال الصعيدي، وهو عالم أزهري عرف بكتاباته المتحرّرة قال :

<< قرأت في "السياسة الأسبوعية" الغرّاء مقالاً بهذا العنوان، حوى أفكاراً أثارت في نفسي من الرأي ما كنت أريد أو أرجئه إلى حين، فإن النفوس لم تتهيّـأ بعد لفتح باب الاجتهاد، حتى إذا ظهر المجتهد في عصرنا برأي جديد كتلك الآراء التي كان يذهب إليها الأئمة المجتهدون في عصور الاجتهاد قابله الناس بمثل ما كانت تقابل به تلك الآراء من الهدوء والسكون، وإن بدا عليها ما بدا من الغرابة والشذوذ، لأن الناس في تلك العصور كانوا يألفون الاجتهاد، وكانوا يألفون شذوذه وخطأه إلْفَهُم لما لا يشذّ منه، أما في عصرنا فإن الناس قد بعد بهم العهد بالاجتهاد، حتى صار كل جديد يظهر فيه شاذا في نظرهم، وإن كان هو الصواب في الواقع، وما أسرعهم في ذلك إلى التشنيع والطعن في الدين والمحاربة في الرزق، فلا يجد من يرى شيئاً في ذلك إلا أن يكتمه أو يظهره بين من يأمن شرّهم من أصدقائه، وبهذا يضيع على الأمة كثير من الآراء التي تنفعها فى دينها ودنياها.

<< ولكني سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين، وسأجتهد ما أمكنّي في ألا أدع لأحد مجالاً في ذلك التشنيع الذي يقف حجر عثرة في سبيل كل جديد، وهذا إلى أنّي لم أتمّم بعد بحث ما سأقدم عليه من ذلك. وإنما أعجلت إليه بمقال "السياسة الأسبوعية"، مما جعلنى ألجأ إلى عرضه على الناس رأياً لا يظهر فيه ترجيح لناحية إثباته أو نفيه، وأن أتركه لمن يتناوله بالبحث من أهله على صفحات "السياسة الأسبوعية"، وقد أخوض في ذلك مع من يخوضون فيه إذا رأيت ما يستدعي هذا منّي، وإنّي لا أريد من إثارة هذا الموضوع بهذا الشكل إلا عرض فكرة سنحت في النفس، لأعرف رأي الباحثين فيها، ويظهر لي صوابها أو خطؤها.

<< لقد ذكر في ذلك المقال ما يمنع من الأخذ بالتشريع الإسلامي من عدم إمكان الأخذ بما جاء فيه من الحدود المفروضة في القرآن الكريم، كقطع اليد في السرقة، والرجم في الزنا، والقصاص في الجروح، ثم ذكر فيه أن القوْل بأن هذه الحدود همجية حماقة لا يقول بها غير المقلّدين لكتّـاب الغرب في كل ما يقولونه من غير تمحيص، ومن غير علم، فالحدّ في جريمة إنما يُقْصَد به أقصى العقوبة التي توقع على من يرتكب هذه الجريمة، والعالم ما يزال يقرّ عقوبة القتل في جرائم عدّة، كالقتل العمد مع سبق الإصرار، والقتل العمد إذا اقترن بجريمة أخرى، وإفشاء أسرار الدولة، والقيام بالثورة المسلحة عليها، إلى آخر ما هنالك من الجرائم التي يقرّر القانون لها هذه العقوبة.

<< وهناك عقوبات أخرى معترف بها في التشريع الحديث لا تقلّ قسوة عن عقوبة القتل، كعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، فيقضي صاحبها حياته كلها أو قسماً طويلاً منها مقيّـداً بالحديد، يعمل طوال النهار في أشقّ الأعمال، كقطع الأحجار ونحوه مما هو أشقّ منه، وهو في أثناء ذلك يلبس أخشن ملبس ويغذّى أسوأ تغذية، ومن الحماقة أن تُعَدّ هذه الأشغال الشاقة إنسانية وقطع اليد همجيا، وإذا وصل المشرّع في العقوبة إلى القتل فيما يعدّه جريمة بالغة الضرر بالجماعة فإنه لا فرق بين أن يكون هذا القتل بالسيف أو الرجم أو غيرهما، فكله قتل على كل حال، والكلام في إنسانيته أو وحشيته وَهْم خيال قد يصحّ في الشعر والأدب، ولكنه لا قيمة له في التشريع وتنفيذه.

<< وهذا دفاع بديع حقاً عن الحدود الإسلامية، ولكن يبقى بعد هذا في تلك الحدود ذلك الذي سنثيره فيها ليبحث في هدوء وسكون فقد نصل فيه إلى تذليل تلك العقبة التي تقوم في سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامي من ناحية تلك الحدود بوجه آخر جديد.

<< وسيكون هذا بإعادة النظر في النصوص التي وردت في تلك الحدود لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة، وسأقتصر في ذلك الآن على ذكر ما ورد في تلك الحدود من النصوص القرآنية – وهو قوله تعالى في حدّ السرقة من سورة "المائدة" ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[. {المائدة 39}.. وقولـه تعالى في حدّ الزنا من سـورة "النور" ]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ[. {النور 2}

<< فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حدّ السرقة وهو قوله تعالى ( فَاقْطَعُوا) وفي الأمر الوارد في حدّ الزنا وهو قوله تعالى (فَاجْلِدُوا) فنجعل كلا منهما للإباحة لا للوجوب، وإن لم يقل بهذا أحد من المجتهدين السابقين، لأن الأمر كما يأتي للوجوب يأتي للإباحة، كما في قوله تعالى ]يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُـوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[. فإن الأمر في قوله ]خذوا وكُلُوا وَاشْرَبُوا[، للإباحة لا للوجوب كما هو ظاهر.

<< وعلى هذا لا يكون قطع يد السارق حدّاً مفروضاً وحده بحيث لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة، وفي كل الظروف والأحوال التي تتغير بغير الزمان والمكان، بل يكون القطع في السرقة أقصى عقوبة فيها فيكون الطرف الأعلى في حدّها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة وإن كانت أخفّ منه، من حبس أو نحوه من العقوبات، إذا طرأ ما يقتضي ذلك من أحوال السرقة ومن ظروف الزمان والمكان، ويكون شأنه في هذا شأن كل المباحثات التي تخضع لتصرّفات ولي الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان، وكذلك يكون الأمر في حدّ الزنا سواء أكان رجماً أم جلداً، مع مراعاة أن حدّ الزنا لم يتفق عليه كما اتفق على حدّ السرقة، بل ذهب بعض فقهاء الخوارج إلى إنكار الرجم في الزنا، لأنه لم يرد به نصّ في القرآن الكريم، بل نصّ فيه على الجلد فقط.

<< وهل لنا أن نذلّل أكبر عقبة تعترض العمل في عصرنا بالشريعة الإسلامية في أحكام المعاملات، وتحول دون الأخذ بالتشريع الإسلامي ذلك، مع أنا بذلك الاجتهاد الجديد لا نكون قد أبطلنا نصّـاً، ولا ألغينا حدّاً، وإنما نكون قد وسّعنا في تلك الحدود، وأدخلنا فيها من المرونة في أحكامها، ما صارت به صالحة لكل زمان ومكان، وكذلك يليق بما عرفت به من إيثار التيسير على التعسير، واختيار التخفيف على التشديد، فالدين فيها يُسْر لا عُسْر، وتسامح لا تشدّد>> (انتهى)

رغم أن الكاتب قد استشرف ما يمكن أن يثيره كلامه من معارضة، فصرّح أولاً أنه رأي أعجل فيه بحكم المقال في مجلة "السياسة" وأن لا يستبعد الحدّ ولكنه يجعله الحدّ الأعلى في العقوبة وأن هذا يتفق مع مرونة الشريعة ويُسْرَها، فإنها أثارت ضجة كبيرة لأن البعض فهم منها أنه يقصد إلى رأي جديد هو أن الحدود التي ورد النصّ القرآنى عنها هي حدود اختيارية يمكن عدم االتقيّد بها في باب المعاملات. وأنكر الشيخ هذا المعنى وقال إن العجب تملّكه ثلاث مرات، ووضّح هذا فقال :

<< أولها : أنه ليس في مقالي ما يفيد هذا، ولو كان فيه ما ربما يفيده، فأنا أقرّر الآن إنّي لا أقصده به من يوم أن خلقني الله إلى اليوم، وهناك مبدأ مقرّر، وهو أن صاحب الكلام لا يؤاخذ إلا بما يقصده من كلامه، لا بما يفهمه غيره منه، ولو كان ما يفهمه غيره أقرب إلى كلامه مما يفهمه هو.

<< وثانيها : أن الذي فهموه من كلامي ولا أقول به من أن هذه الحدود اختيارية قد نُسِبَ إلى بعض الأئمة الذين نجلّهم في كتب مطبوعة مقروءة للناس، وسأبيّن ذلك بعد، فأي معنى بعد هذا لهذه الضجة إذ فُرِضَ أني قلت بمثل ما ينسب إلى بعض الأئمة الذين نجلّهم ؟

<< وثالثها : أنه ليس كلامي هذا الذي يصحّ أن يثير هذه الضجة، بل الذي يصحّ أن يثيرها ما هو موجود في بعض كتب مقروءة ومطبوعة، وليس من شأني أن أدلّ عليها، ولا أن أذكر هنا ما ذُكِرَ فيها خاصاً ببعض هذه الحدود، وسأذكره بعد.

<< غرضي من المقال :

<< على أني لا أقصد من هذا المقال إلا حصر المواضع التي يجب فيها حدّ القطع وغيره في حالات قليلة جداً، وهي الحالات التي يثبت اتفاق الأئمة المجتهدين فيها على وجوب القطع مثلاً، أما الحالات التي يكون بينهم خلاف فيها فيكون من حقّ ولي الأمر في عصرنا ألا يفرض فيها عقوبة القطع، بل له أن يصير فيها إلى عقوبات أخرى رادعة، لأن الخلاف فيها يصحّ أن يكون عندي من الشبهة التي تُدْرأ بها الحدود.

<< وهذا هو الذي يُفْهَم من قولي في هذا المقال – فلا يكون قطع يد السارق حدّاً مفروضا لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة، بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة – فأنا لم أهمل حدّ القطع أبدا، وإنما نفيت أن يكون حدّاً مفروضاً في جميع حالات السرقة. الحدّ ليس بفرض في بعض حالات السرقة – وهذه القضية بشقّيْها محل إجماع عند الفقهاء، ينظر هنا قولهم – من سرق كذا لا يقطع – من سرق من مال قريب أو شبهة لا قطع فيه – من سرق من مكان كذا لا قطع فيه. وقد اختلف العلماء في تحديد المسروق الذي يثبت القطع على نحو عشرين قولا، وهي موجودة في كتب الفقه وكتب الحديث، وكما اختلفوا في هذا اختلفوا في المكان المسروق منه فبعضهم يشترط الحرز، وبعضهم لا يشترط، والذين يشترطونه مختلفون أيضاً فيما بينهم، وقد اختلفوا أيضاً في المسروق منه وغير ذلك، والخلاصة أنهم مجمعون على أنه ليس كل سارق تقطع يده، ومجمعون أيضاً على أن الإمام له ألاَّ يعاقب في السرقة في بعض أحوالها، وهذا هو ما قلته في مقالي، لأنه لم يمنع إلا تعميم الحدّ في كل ما يُطْلَق عليه اسم سرقة، ومن لوازم هذا أن توجد حوادث يطلق عليها اسم سرقة ولا يكون القطع لازما فيها، ولا أعني بالإباحة التي وردت في كلامي أكثر من عدم اللزوم، وقد يكون غير اللازم ممتنعا، وقد يكون غير ذلك.

<< وعلى هذا يُفْهَم سابق كلامي ولاحقه، فقولي - فنجعل كلا منهما للإبـاحـة لا للوجوب - معناه للإباحة في بعض الحالات لا للوجوب في جميع الحالات، ويكون الأمر مستعملاً في الوجوب والإباحة معاً، أي في حقيقته ومجازه، وقد قيل بصحة ذلك.

<< وقولي ويكون الأمر فيها مثل الأمر في قوله تعالى ]يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ( {الأعراف 31}، أعني به أن الأمر فيها في حالة الإباحة وهي حالة مجازة يكون مثل الأمر في ذلك.

<< وقولي ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة أريد بهذه الحالات ما اختلف فيه بين الفقهاء على ما سبق.

<< وقولي ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرّفات ولي الأمر أريد به أن العقاب في الحالة التي يعدِل فيها إلى غير القطع لولي الأمر أن يتصرف فيه بين تشديد وتخفيف وغير ذلك.

<< وقولي وتقبل التأثير بظروف كل زمان ومكان – أريد به أن يراعى حال الزمان في انتشار مجاعة مثلاً، فيكون ذلك ظرفاً مبيحاً للتخفيف في غير حالة القطع، وللرأي مجال في التخفيف بذلك في القطع أيضا، كما فعل عمر رضي الله عنه في عام المجاعة، وكذلك يراعى حال المكان، لأن دار الحرب ليست كدار الإسلام، فقد نصّوا على أن الحدود لا تُقام في دار الحرب.

<< وبعد هذا كله فلو فرض أن معنى عبارتي الأولى هكذا – فنجعل كلا منها للإباحة فى جميع الحالات فليس فى هذا إلا أني لا أزال على رأيي الذي أراه ويراه الناس أن الأمر في ذلك ظاهر في الوجوب إلى أن يتبين مقدار هذه الفكرة وحظها من الصواب أو الخطأ، فإن يكن فى عرض الفكرة على هذا النحو الذي أفرضه فرضاً مؤاخذة دينية فقد اخطأت الطريق، والعصمة لله وحده، وإن لم يكن فيه مؤاخذة دينية فإني واقف موقف المنتظر للرأي الصحيح في المسألة التي عرضتها للبحث.

<< وأين هذا الفرض الذي أفرضه من تلك التأويلات البعيدة التي ارتكبها غيري في آية السرقة بحمل السارق على من تكرّرت منه السرقة، أو حمل القطع على الإيذاء الشديد، أو غير ذلك من التأويلات التي يأباها النظم العربي، ومع ذلك قيلت هذه الاحتمالات في الآية [أي آية السرقة] ودُوِّنَت في كتب مطبوعة متناولة، ولم يشنّع عليها بجزء مما أحيط به ذلك المقال.

<< وهذه بعض النصوص والأقوال التي فيها ما يفيد ثبوت التخيير في بعض هذه الحدود:

q قال الإمام فخر الدين الرازي فى تفسيره – المسألة الخامسة – قال الشافعي: أغرم السارق ما سرق. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق: لا يجمع بين القطع والغرم، فإن غرم فلا قطع، وإن قطع فلا غرم، وفصل مالك بين الموسِر والمُعْسِر في الغرامة – ثم ساق الفخر حجج المذاهب، وذكر مذهب القائلين بأن التوبة قبل الحدّ تسقط الحدّ وذكر حجّته.

q وقال ابن العربي في كتاب "أحكام القرآن" – المسألة التاسعة عشر قال أبو حنيفة: إن شاء أغرم السارق ولم يقطعه، وإن شاء قطعه ولم يغرمه. فجعل الخيار إليه، والخيار إنما يكون بين حقين هما له، والقطع في السارق حقّ الله تعالى، فلم يجز أن يخيّر العبد فيه.

q وجاء فى "شرح الزيلعي" عند قول المتن – ولا يجتمع قطع وضمان وترد العين لو كان قائماً – وفي "الكافي" هذا أي عدم وجوب الضمان إذا كان بعد القطع، وإن كان قبل القطع فإن قال المالك أنا أضمنه لم يقطع عندنا، وإن قال أنا أختار القطع يقطع ولا يضمن، وهذا نصّ صريح في أن صاحب "الكافي" يرى تخيير المسروق منه بين القطع والتغريم، وهذا أبعد بكثير ممن يرى التخيير للإمام الذي يناط به تنفيذ الأحكام والسهر على حقوق الله تعالى.

q وجاء في "المغني والشرح الكبير" للحنابلة : وقال الثوري وأبو حنيفة لا يجتمع الغرم والقطع، إن غرمها قبل القطع سقط القطع، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم.

q فلو ذهب ذاهب أخذاً من هذه النصوص إلى أن الواجب الأصلي في السرقة إنما هو الغرم والقطع بدل عنه، ويكون حيث يراه الإمام مصلحة، لما كان بعيداً – وقد نسب ابن رشد فى كتاب "بداية المجتهد" إلى الكوفيين أن الواجب الأصلي عندهم هو الغرم، وأن القطع بدل عنه .>> (انتهى)

ولما قرّر الأزهر تكوين لجنة للتحقيق معه، وقدّمت تقريراً ردّ الشيخ الصعيدي على تقرير اللجنة بمقال مسهب ختمه بهذه الكلمات.

"فليشهد التاريخ بعد هذا أن السرقة يجب فيها القطع أو الغرم أو الحبس على التخيير لا القطع وحده، وليشهد التاريخ أن لوليّ الأمر أن يتصرّف في العقوبات الثلاث بحسب ظروف كل عصر، وليشهد التاريخ أني لم أخطئ حين قلت إن الأمر بالقطع وحده للإباحة لأنه شأن الواجب المخير."

vvv

ممن تعرّض لهذا الموضوع وأسيء فهمه أيضاً، الدكتور معروف الدواليبي، وقد روى هو نفسه قصة ذلك في مقال له بمجلة "العربي" (العدد 177، أغسطس 1973، ص99-101 فقال :

<< أخبرني منذ أيام بعض الأصدقاء من كبار هيئة العلماء في الرياض أن الدكتور أحمد عبيد الكبيسي، مدرس الشريعة الإسلامية بجامعة بغداد، قد نشر في مجلتكم الغراء في العدد 166 الصادر في شهر رجب 1392 – سبتمبر (أيلول) 1972، كلمة تحت عنوان "الحكم بقطع يد السارق في الشريعة الإسلامية" وأنه قد جاء فيها "إن بعض الباحثين، ومن هؤلاء معروف الدواليبي في كتابه: "المدخل إلى علم أصول الفقه الصفحة 321، قد ذهبوا إلى جواز إلغاء السرقة أو تبديلها بعقوبة أخرى تبعاً لتغيير الأزمان والأحوال وأن لولي الأمر الحقّ في تكييف عقوبة السرقة حسب الظروف والمقتضيات، وأن هؤلاء ومن وافقهم على أصل جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسُنة، وأنهم أخذوا بوقوع النسخ كدليل على جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها، وأنهم اعتبروا عدم قطع غلمان حاطب لما سرقوا "تصرّفاً في النص وتعطيلاً للحدّ" ثم أنهى هذا الكاتب كلمته بقوله "أما وقد تم التشريع الإسلامي وأكمل الله دينه، وعقوبة السرقة على حالها، فليس لأحد أن يدّعي أنه يعلم من وجوه المصلحة ما غاب عن علم الله تنزّه ذكره، ومن شقى بادّعاء ذلك اتّبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فليسمع قوله تعالى : ]فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[ {القصص 50}..".

<< وإنني أبدأ في الردّ على ما نسبه إلى كتابي من نقاط أساسية مرتبة كما جاءت في كتابي من أصول ثم من فروع، مع لفت نظر الكاتب أولاً إلى إنّني لست باحثاً في هذه الأمور ومبتدعاً، وإنما ناقلاً ومتمسكاً بما قرّره العلماء، وعاملاً بفهمهم لا بما نسبه الكاتب الكبيسي إليَّ من فهم ظالم.

<< ومن أولى هذه النقاط الأساسية زعم الكاتب بأننى "من هؤلاء الباحثين ومن وافقهم على أصل جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة، حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسُنة". وهذا بهتان عظيم أبرأ منه إلى الله وأستنكر نسبته إليَّ فيما يخصّني وذلك بدليل ما جاء في كتابي من نصوص واضحة صريحة ضدّ هذه المفاهيم الباطلة التي كان على الكاتب تصحيحها وتصحيح ما أبهم عليه من ألفاظ أحياناً وذلك بتحكيم تلك النصوص التي لا غموض فيها.

<< ومن هذه النصوص :

أولاً : إنّني كلما ذكرت المصلحة للعمل بها فذلك "في كل مسألة لم يرد في الشريعة نصّ عليها ولم يكن لها في الشريعة أمثال تقاس عليها".

ثانياً : "أن العبرة في المصلحة إنما هو لمقصود الشرع لا للأهواء، وأن كل مصلحة عُلِمَ أنها ليست من مقاصد الشرع كان الاعتماد عليها في الاجتهاد والحكم باطلاً لا يلحق الحكم بالشرع".

ثالثاً : "النسخ لا يصحّ إلا من قبل الشارع نفسه.. وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ للأحكام الشرعيّة حقاً خاصاً بمن له سلطة الاشتراع".

رابعاً : "وأما تغيير الحكم الذي لم ينسخ نصّه فهو عبارة عن العمل بنفس النصّ الثابت، ولكن بدليل مستوحى من ظروف النصّ تبعاً لمصلحة زمنية.."

خامساً : "أن العمل بمبدأ تغيير الأحكام بتغيّر الأزمان هو عمل اجتهادي جليل ودقيق، يتطلّب حساً مرهفاً في تلمّس المصلحة للأمة ودفع المفسدة عنها، وإلا فإن إطلاق العمل به للمجتهدين يكون مدعاة لفوضى في التشريع والقضاء."

سادساً : "أن الفقهاء اختلفوا في المصلحة تجاه النصوص على أربع طوائف: الشافعية، والحنابلة، والمالكية، والغلاة في المصالح المرسلة كـالطوفي." ثم قلت: "ونرى لزاماً علينا أن نشير إلى ما في مذهب الطوفي وأمثاله من خطر الغلو في الأخذ بالمصالح المرسلة، وأن في ذلك تعطيلاً للنصوص بما يبدو للمجتهد من المصلحة، ولو جاز لتعطّلت نصوص الشرائع، وسادت الفوضى فى العمل بالشريعة.. ولذلك وجدنا الأئمة الأربعة مجمعين على رفض هذا الغلو."

سابعاً : "أن الإسلام لما اشتدّ ساعده وتوطّد سلطانه، رأى عمر رضى الله عنه حرمان المؤلّفة قلوبهم من العطاء المفروض لهم بنصوص القرآن، وليس معنى ذلك أن عمر قد أبطل أو عطل نصاً قرآنيا، ولكنه نظر إلى علّة النصّ لا إلى ظاهره، واعتبر إعطاء المؤلفة قلوبهم معللاً بظروف زمنية تقتضى ذلك العطاء، وتلك هي تألفهم عندما كان الإسلام ضعيفا، فلما قويت شوكة الإسلام وتغيّرت الظروف الداعية للعطاء، كان من موجبات النصّ ومن العمل بعلّته أن يمنعوا من هذا العطاء". "ومن هذا القبيل أيضاً اجتهاد عمر رضي الله عنه عام المجاعة في وقف تنفيذ حدّ السرقة وهو قطع اليد، معتبراً أن السرقة ربما كان يندفع إليها السارقون بدافع الضرورة لا دافع الإجرام، وفي ذلك شبهة في الجرم على الأقلّ، والحدود تُدْرأ بالشبهات". ومن المعلوم أن عمر رضي الله عنه كان أمر أولاً بقطع أيدي غلمان حاطب لما سرقوا، ثم أمر بوقف القطع.

<< ويتضح من هذه النصوص الواردة فى كتابى "المدخل إلى علم أصول الفقه" إنني لم أقل قط "بجواز إلغاء عقوبة السرقة تبعاً لتغير الأزمان"، ولا قلت بالتصرّف بالنص وتعطيل الحدّ، وإنما نقلت الحكم بوقف تنفيذ القطع عام المجاعة بعد الأمر بالقطع، وذلك لأن الحدود تُدْرأ بالشبهات، ولم أقل قط "بجواز تغير النصوص أو تعطيلها إذا دعت إلى ذلك مصلحة". كما عرف ذلك عن الطوفي، والفرق خطير بين جواز تغير الأحكام الزمنية، وبين الزعم بجواز تغيير النصوص الثابتة وتعطيلها، وهذا ما رددته ردا صريحاً وحذّرت منه ودعوت إلى العمل بما أجمع عليه الأئمة الأربعة من رفض ذلك وعدم جواز الأخذ بالمصلحة "إذا تعارضت مع نصوص الكتاب والسُنة"، ولذلك لا يجوز للكاتب الأستاذ الكبيسي أن يأخذ بمفاهيمه المغلوطة وأن يهمل نصوصه الصريحة، وأن ينسب إليّ ظلماً ما قد صارحت بالتحذير منه، وخاصة ما نسبه إليّ من سوء فهم لما استشهدت به من كلام ابن القيم رحمه الله ظناً منه أنني استشهدت به لإسقاط النص أو للتصرف فيه وتعطيله مما أبرأ إلى الله منه ومن سوء فهمه. >>

vvv

ومن الكتاب المعاصرين الذين قدموا اجتهادا فى موضوع السرقة الأستاذ عبد الله العلايلي في كتابه "أين الخطأ" وخلاصة ما انتهى إليه في موضوع الحدود قوله "أن العقوبات المنصوصة ليست مقصودة بأعيانها حرفياً، بل بغاياتها."

ويستطرد :

<< وليس معنى هذا الرأي، أن عقوبة "القطع" في السرقة، ليست هي الأصل، وأنها لا تطبق، بل أعني أن العقوبة المذكورة غايتها الردع الحاسم، فكل ما أدّى مؤداها يكون بمثابتها، وتظل هي الحدّ "الأقصى، الأقسى" بعد أن لا تفي الروادع الأخرى وتستنفد، ومثلها "الجلد" في موجبه. ولا أذهب أبداً مذهب التأويل الموغل، الذي استبعدته وأسقطته من الاعتبار.. بمجازية تفسير ( فَاقْطَعُوا) ومجازية ( فَاجْلِدُوا) مشاكلاً تفسير النبي "أنصر أخاك ظالماً" الخ... أي خذوا هؤلاء وهؤلاء بالوازع الرادع، الذي هو "قطع وجلد" مجازيان، لا حسّيان.

<< ولأنتقل إلى تبيان رأيي، الذي ينهض على إقامة مطلق الردع مقام الحدّ عينه، إلا في حال الإصرار، أي المعاودة تكراراً ومراراً "فآخر الدواء الكي". وأستأنس بحديث: "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الإستغفار، وإن لم يخل سنده من مقال."

<< أما المبادرة إلى إنزال الحدّ عينه – فعدا عن أنه لا يتفق مع روح القرآن، الذي جعل القصاص صيانة للحياة وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة مشوّهين، هذا مقطوع اليد، والآخر الرجل، والآخر مفقوء العين أو مصلوم الأذن أو مجدوع الأنف الخ... لا يتفق مع القواعد النحوية فقد لحظه جيداً المبرد في كتابيه: "الكامل" و"المقتضب". فـالقرآن، إن في السرقة أو الزنى، عبر بصيغة اسم الفاعل (السارق والسارقة)، (الزانية والزاني)، ومعروف أن التحلية بأداة التعريف، في هذا المورد، تجعله أقرب إلى النسبة منه إلى مجرد التلبس بالحال الفعلية، فكثيراً ما دلّت صيغة اسم الفاعل عليها، مثل طالق، فارك الخ...

<< وعليه فالتبادر، الذي هو علامة الحقيقة فيهما، يحمل على أنه من باب النسبة إلى السرقة والزنا، أي من غدا هذا وهذا ديدنه، ويقوّي الفهم المذكور الآية اللاحقة لآية السرقة ]فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[. {المائدة 39}.. أي تترك له فرصة للاستتابة وإصلاح السلوك، وإلا كانت مقحمة إقحاماً في مجال حـكمي ولا معنى لهـا. ويقويه أكثر فأكثر الآيـة ]فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ[. {البقرة 178}..

<< وهذا التأكيد على "البعدية" بالنص الصريح، يقطع عرق النزاع، في أنه لا قطع ولا جلد ولا حدّ إلا بعد استتابة ونكول، وإصرار معاود للمعصية.>> (انتهى)

vvv

وقام الدكتور اسماعيل علي معتوق، عضو مجلس الشعب عن دائـرة قنا (1976/1977)، بشيء من الاجتهاد وفي مشروع قانونه الذي قدّمه إلى المجلس بتعديل قانون العقوبات تعديلاً يصبح بمقتضاه قانوناً إسلامياً كاملاً إذ جاء فيه:

<< المادة 312 : وقد لاحظ بعض الفقهاء والباحثون أن كلمة السارق وكلمة السارقة وصفان لا فعلان والوصف لا يتحقق في الشخص إلا بالتكرار فلا يقال لمن ظهر منه الجود مرة إنه جواد ولا لمن وقع منه الكذب مرة أنه كذاب ولا للفاسق الذي لا يقول الحق أو المنافق الذي لا يخفى ما لا بيديه إذا صدق مرة إنه صادق أو صدوق إنما تقال هذه الأوصاف لمن يتكرر منه فعلها حتى تكون اسما له وعنوانا يعرف به. وبتطبيق هذا على كلمة السارق والسارقة يكون المستحق للقطع هو من صار هذا وصفاً له، ولا يكون ذلك إلا بتكرار الارتكاب ولا يكون بالفعل مرة واحدة فلا تقطع إلا يد السارق العائد.

<< ومما يرشح لهذا الرأي ما ورد فى مؤخرة الآية ]فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[. ولا تكون التوبة النصوح في الغالب ممن يتكرر منه بالفعل بل إنها تكون لمن يرتكب الفعل بجهالة ثم يتوب من قريب ولذلك يقول الله تعالى ]إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ[. فضلاً عن أن المخزومية التي قطع الرسول يدها قد عرف عنها أنها معتاده السرقة فكانت لا تردّ الودائع التي تودعها ولا العواري التي تستعيرها وبالإضافة إلى ذلك فقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه لما أراد قطع يد شاب سرق قالت له أمه "أعف عنه يا أمير المؤمنين فإن هذه أول مرة" فقال لها عمر: "إن الله أرحم من أن يكشف ستر عبده لأول مرة."

<< والواقع أن الآثار الواردة لم يكن فيها ما يشير إلى وجوب التكرار لإقامة الحدّ وأن رسول الله قطع يد رجل سارق رداء آخر وضعه في مثل حرزه بالمسجد دون أن يسأله أسبق منه ذلك لم يسبق إلا أنه يقال إن السرقة في هذا المكان وفي مثل هذه الحال لا تكون إلا ممن تكرّرت منه السرقة. فضلا عما أجمع عليه الفقهاء من القطع لأول مرة لم يعرف مخالف لها إلا تلك الرواية عن عمر رضى الله عنه والتي لم يكن فيها تصريح باشتراط التكرار.

<< غير أن المشروع قد أخذ بهذا الرأي الذي جعل الحدّ في السارق العائد لأنه هو الأقرب إلى تفسير لفظي السارق والسارقة وأن الحالتين اللتين رويتا عن الرسول كانتا من شخصين عرفت أولاهما بأنها تجحد العواري ولا تردّ الودائع ففيها صفة الاعتداء على المال، والثاني مقتحم على مكان مقدّس لا يجرؤ على الاقتراب منه إلا من جبلت نفسه على الشرّ واستمرأت روحه الجريمة، وذلك شأن المعتاد. وذلك بالإضافة إلى أن هذا الرأي وإن كان حديثا إلاّ أنه خلق شبهة قوية لها سندها من اللغة والتطبيق تعين بها درء الحدّ على نحو ما درج عليه المشروع عند كل اختلاف بين الفقهاء – فلا يجوز تطبيقه على من سرق لأول مرة وهذا ما نصت عليه المادة 311 من المشروع بل يتعين أخذه بالتعزير، ثم أن هذا المشروع يتعرض لوقت اعتاد فيه الكثير الاعتداء على الأموال لوهن العقوبات الحالية وعدم جدواها فى الصدّ عن هذا النوع من الجرائم فأصبح من المتعين التدرّج معهم كنوع من التربية على الحياة الطاهرة الجديدة وضرب من تورّط في السرقة للمرة الأولى مع تنبيهه بأن يده ستقطع إن عاد إلى السرقة فإن عاد فلا يلومنّ إلا نفسه وهذا التدرّج له ما يسوّغه فهو لا يصطدم بالنصّ: صريحه أو فحواه. >>

vvv

نقول لو أن السادة الذين اجتهدوا في موضوع السرقة بدءاً من الشيخ عبد المتعال الصعيدى حتى الأستاذ معتوق راجعوا تفسير الآية 31 من سورة النجم ]الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ[، لوجدوا فيها ما يؤيّد اجتهاداتهم فقد جاء في تفسير ابن كثير عن أبي هريرة أن اللمّة من الزنا ثم يتوب ولا يعود وعن الحسن أنه قال اللمم من الزنا والسرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود وتكرر إيراد روايتي أبى هريرة والحسن اللتين أوردهما ابن كثير في تفسير الطبري وجاء في تفسير الطبري عن عبد الله بن عمرو قال اللمم ما دون الشرك.

كما جاءت هذه الروايات أيضاً في تفسير القرطبي.

ولا شكّ أن الرسول وأبا بكر وعمر وغيرهم من الصحابة استظهروا هذه الآية عندما كانوا يلقنون المتهم الإنكار ويدفعون عنه الحدّ بكل الوسائل على نقيض الفقهاء الذين أعملوا النصّ دون أن يعودوا به إلى مثل هذه الآية بحيث يكون حكمهم جامعاً ما بين نصّ الحكم والنصّ القرآنى الذي يرتفق على نصّ الحكم، وبهذا يسقط الحدّ في الحالات الأولى، لأن الله تعالى سبق بالعفو عنها أو أسقطها من كبائر الآثم والفواحش.

0 التعليقات:

إرسال تعليق