السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الثامن : السلطة تفسد الاشتراكية وتجعلها دولة الحكم الشمولي

لم ترزق دعوة من الدعوات – باستثناء الأديان – ما رزقته الاشتراكية من الذيوع والانتشار والتأثير، وقد ظهر ذلك بمجرد أن صدر فى عام 1844 المانيفستو الشيوعى الذى صاغه ماركس وأنجلز فى عبارات كالرصاص المصهور، وتبنى دعوة المظلومين والمستغلين وتنبأ بخراب بيوت الرأسماليين، وانهيارها وقيام دولة العمال ..

كان سر قوة الاشتراكية أنها قدمت تنظيراً يتزيا بالعلم، ويتقدم بأسلوب أشد الدعوات حرارة وعاطفية، وأنها رفعت راية العدل ضد الاستغلال وجاء هذا فى وقت كانت الكنيسة – الممثلة للضمير المسيحى – قد تحجرت وتقولبت وانحصرت رسالتها فى الطقوس فآمن بالاشتراكية كل ذوى القلوب الطيبة والضمائر الحية وانتشرت أكثر من أى نظرية سياسية فى العصر الحديث وتأثر بها الفكر السياسى حتى فى الولايات المتحدة ومن يقرأ كتاب فوكوياما عن "نهاية التاريخ" يجد أنه متأثر بمنطق وجدلية ماركس أكثر من قواعد آدم سميث رسول الرأسمالية ومنظرها.

وعندما ظهرت الاشتراكية فى أسبانيا فى ثلاثينات القرن الماضى وأرادت إيطاليا الفاشية قهرها تقاطر على مدريد قوافل من المتطوعين والمفكرين من كل دول القارة الأوربية للدفاع عن الجمهورية الاشتراكية الأسبانية – مما يذكرنا بتقاطر المتطوعين الإسلاميين على أفغانستان والبوسنة والهرسك، وقد لاقى معظم المتطوعين الأوربيين ما لاقاه "الأفغان العرب" أو المتطوعون فى البوسنة …

ولأن الاشتراكية – حتى عند ماركس – كانت نظرية أكثر مما هى عقيدة – وبوجه خاص فى مرحلته الأولى – فإنها كانت كتابا مفتوحاً أمام المفكرين فظهرت فيها من التيارات ما يفوق ألوان الطيف وتحت معطفها الواسع ظهر الفوضويون، والفابيون والبرلمانيون والثوريون الخ …

لقد آمن الملايين من الرجال والنساء من عمال ونقابيين وفنانين وأدباء الخ… فى أربعة أركان الأرض بالمثاليات التى تصوروها فى الاشتراكية: العدل، المساواة، التحرر من الفاقة، كرامة الإنسان، حكم الجماهير، مقاومة الاستغلال الرأسمالى والاستعباد الإمبريالى الخ… وتعرضوا فى سبيل هذا – على مدار قرابة قرن – من منتصف القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين لكل صور الاضطهاد والترهيب. وضحوا بحياتهم فى السجون المظلمة أو تحت وطأة التعذيب فما استسلموا ولا استكانوا حتى نجحوا أخيراً وبصورة فاقت أحلامهم عندما قامت "دولة العمال والفلاحين" فى روسيا – على سدس العالم ورمز الرجعية والأتوقراطية، وبزعامة شخصية أسطورية بلورت كل أحلام البطولة ومثاليات الكفاح والتضحية ووصلت الثقة فيها والإيمان بها درجة التقديس.

ولنا أن نتصور الفجيعة التى أطبقت على الأجيال التى قدر لها البقاء عندما رأت أن الأمل الوردى الذى كافحت فى سبيله وضحى الآباء والأجداد لتحقيقه أصبح كابوساً رهيباً أفظع وأشنع من الرأسمالية المستغلة، ومن يد هذا المنقذ نفسه نبى الماركسية المعصوم تجرعوا كؤوس السم وغصص العذاب وزج بهم فى السجون …

فهل هناك "دراما" أشد مأساوية من هذه… وما عسى أن تبلغ أى تراجيديا عن رجل وامرأة – حبيب وعشيقة أمام هذه الجائحة التى اجتاحت الملايين وقضت على آمال الأجيال.

لقد ظن العمال – ولهم الحق – أن قد آن الأوان لكى يتحرروا من التبعية المهينة للقيصر، والكنيسة، والنبلاء، والإقطاعيين، والرأسماليين، وأن يتخلصوا من عبودية الأجور. وكل صور الاستغلال الرأسمالى وما تؤدى إليه من قضاء على الشخصية وإصابة بالاغتراب.. وظنوا أنهم إذا لم يتولوا بأنفسهم إدارة الدولة، فلا أقل من الاقتصاد بعد استئصال الرأسمالية والرأسماليين وتحل نقاباتهم المحبوبة محل الرأسماليين ..

ولكن من كانوا فى السلطة. وعلقوا عليهم الآمال كان لهم رأى آخر.. يختلف عن أراء العمال من الألف للياء ..

هيمن لينين وتروتسكى على الثورة وكانا فى حقيقة الحال من بناة الإمبراطوريات وليسا من دعاة الاشتراكيات وكان لديهما من الحسم والإرادة والعزيمة والمقدرة والذكاء ما يجعلهما أمثال إيفان الرهيب أو بطرس الأكبر. وكان فى لينين عرق تترى يقربه من جنكيزخان. كما كان لتروتسكى جذر توراتى يجعله يوشع العصر. يفعل كما فعل يوشع التوراتى من تدمير وتقتيل وتذبيح …

وكان كل منهما يؤمن بالثورة إيمانا ملأ جنبيه ولم يدع مكانا لأى شئ آخر. وآمنا أن الثورة هى وسيلة السلطة، وأن السلطة هى وسيلة القضاء على الرأسمالية، وإقامة الاشتراكية، ولكنهما نسيا أن بلاء الرأسمالية جاء من المُلْكيّة الفردية لوسائل الإنتاج وهذه المُلْكيّة ليست إلا جزءًا صغيراً من السلطة، التى أفسدت الرأسمالية، لأن السلطة مفسدة، وأثبتت تجربة التاريخ أن كل واحد يستخدم السلطة لتحقيق أغراض – مهما كانت نبيلة – فإن السلطة تستخدمه وتخضعه لإفسادها.. وكل واحد يريد أن يصبح سيدها لا يلبث أن يصبح عبدها لأن السلطة هى المصدر الأكبر للشرور ومن يتحراها فإنه يضع نفسه تحت رحمة هذه الشرور، بل ويعمل تبعاً لها.

ومما ضاعف، وفاقم، فى شر السلطة اللينينة/التروتسكية أنها كانت مطلقة لأن فكرة الثورة جعلت لينين يبدع نظريته فى الحزب ودفعت تروتسكى لأن يقحم نظريته فى عسكرة العمل.

والحزب اللينينى هو الحزب الثورى، أى الحزب الذى يتكون من ثوريين محترفين يعملون تحت قيادة منظرين اشتراكيين ويختلف هذا الحزب عن الأحزاب الاشتراكية التى كانت سائدة طوال الدولية الثانية، وكانت تحمل اسم الحزب الاشتراكى الديمقراطى وتعمل بوسائل إصلاحية وتساهم فى الانتخابات البرلمانية وينخرط فيها كل من يدفع اشتراكا. كان حزب لينين شيئاً مختلفاً، إنه لا يقوم على هواة أو يضم كل من يدفع اشتراكاً شهرياً أو يحضر اجتماعاً. إنه يقوم على ثوار محترفين يجعلون الثورة حرفتهم الأساسية، والسلطة هدفهم الوحيد ويصبح هذا الحزب هو "دينامو" الثورة الذى يجذب إليه الهيئات الجماهيرية كالنقابات واتحادات الطلبة الخ… وتكون هذه منه بمثابة "السير ناقل القوى" من الحزب الذى هو الدينامو والمحرك إلى الجماهير ..

وتقتضى طبيعة هذا الحزب أن يكون محدود العدد لأنه لا يأخذ كل من هب ودب وإنما يأخذ أصلح وأصلب العناصر فى الهيئات الجماهيرية ويعد طليعة لها. ويستطيع – وإن كان أقلية – بفضل تنظيمه وضبطه أن يهيمن على المجتمع ويكفل السيطرة على الهيئات الجماهيرية، ومن ثم على الشعب ..

وكانت هذه الفكرة عن الحزب من أكبر أسباب ثورة لينين على الدولية الثانية وأحزابها ولم يسترح إلا بعد أن توصل بعد نجاح ثورة أكتوبر – إلى تحويل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية التقليدية إلى النمط الذى اختاره وكانت الخطوة الأولى هى تحويل اسم "الاشتراكى الديمقراطى" إلى "الشيوعى"، ثم وضعت الدولية الثالثة 21 شرطاً لمن تنضم إليها.. كانت تجعلها على غرار الحزب اللينينى وتجعل ولاءها كله للاتحاد السوفيتى.

فإذا كانت الفكرة فى الحزب هى التوصل إلى السلطة، فإن فكرة لينين تعد إبداعاً فقد أحل محل الجيش الذى كان يقوم بالانقلابات العسكرية جيشاً مدنياً يستطيع السيطرة على المجتمع بحكم تنظيمه حتى وإن لم يستخدم المدافع والقنابل. وإنما الإرادة الثورية والتنظيم الدقيق.

ولما كان هدف لينين من الثورة هو السلطة، فإن الحزب هو الأداة المناسبة. وقد نجح بالفعل فى أن يصل إلى السلطة، وأن يحافظ عليها بضعة عقود من السنين ..

ولكن هذه الفكرة كانت تتضمن عديداً من المخاطر لم ينتبه لها لينين لاستغراقه فى الممارسات الثورية – أولها: وأهمها ما أشرنا إليه آنفاً من إفساد السلطة لكل من يستخدمها وليست المُلْكيّة التى أفسدت الرأسمالية إلا نوعاً من السلطة. وثانيا: لأن حزباً بهذا الشكل – يمكن أن يكون نواة لطبقة جديدة تظهر فى المجتمع، نواة محدودة العدد وفى يدها أزمة السلطة، وبهذا يظهر المجتمع الطبقى ويحل أعضاء الحزب محل الرأسماليين أو الإقطاعيين وأن يكون هؤلاء من العمال أو أنهم يستهدفون الثورة لا يغنى فتيلاً لأن نجاح الثورة يعنى استحوازهم على السلطة، وتحولهم من ثوريين إلى حكام والنتيجة هى غرس طبقة جديدة فى مجتمع أريد من ثورته القضاء على الطبقات. وهذه ولا شك واحدة من أكبر المفارقات السيئة التى لوثت النظام رغم كل محاولات لينين إيجاد ضمانات لكى لا يفسد هؤلاء الأعضاء.. إلا أن السلطة فى النهاية انتصرت فظهرت الطبقة التى تحدث عنها اليوجوسلافى ميلوفان دجيلاس ..

وثالثا: لأن تكوين حزب محدود العدد بهذا الشكل لابد وأن يكون أقليه بالنسبة للهيئات الجماهيرية لأن الحزب لا يضم كل العناصر، ولكن أذكى وأقوى العناصر – وهؤلاء قلة بالنسبة للباقين. فضلاً عن أن تدريب أعضاء هذا الحزب لا يتأتى إذا كان عدده جسيماً. فقلة عدد الحزب الذى يلى السلطة لا يعنى إلا أمراً واحداً: الديكتاتورية، التى لابد منها ليمكن للأقلية أن تحكم الأكثرية" ومن هنا جاءت فكرة الإرهاب بالجملة Wholesale Terror كما ذكر صراحة فى الجلسة السرية للحزب فى بتروجراد قبيل الثورة.[31]

ولكن لينين كان متقبلاً لهذه الديكتاتورية على أساس أن ديكتاتورية البلورتاريا ليست ديكتاتورية عسكرية أو إقطاعية. وما فاته هو أن الديكتاتورية واحدة ولا علاقة لها بطبيعة الأشخاص لأنها ممارسات. وإذا اقترنت بنظام سياسى فلا مفر من سقوطه فى النهاية مهما طال الأمد فضلاً عن أنها تفضى إلى ارتكاب ويلات لا عداد لها لأفراد لا عداد لهم والوقوع فى أخطاء لا تجد من ينبه عليها ويحذر منها حتى تتفاقم ويأتى السقوط والموت فى النهاية – كما حدث فعلاً للهرم الذى أقامه لينين فإنه أنهار كبيت من ورق بعد سبعين عاماً وانهارت معه كل "إنجازات" لينين ..

وأخيراً فإن الحزب الذى يقوم على الاحتراف الثورى يجد نفسه فى مأزق عند النجاح فى الثورة والاستحواز على السلطة لأن هذا يعنى نهاية المرحلة الثورية وبدء مرحلة الاستحواز على السلطة. وهما مختلفتان تماماً فى الأولى الجهاد والتضحية والتعرض للسجون الخ… وفى الثانية إغراء السلطة من مال وكبرياء أو استمتاع. وكان من المآزق التى تعرض لها الحزب أنه إذا كان من العمال فقلما يتوفر فيهم المهارات الفنية ويصبح من الضرورى استقطاب جموع من الطبقة الوسطى يحملون – رغم أنفهم – رواسب طبقتهم وسيكولوجيتها، ولا يكون الحزب عندئذ عمالياً أو بروليتاريا ولكن بورجوازيا ..

f

لم تكن هذه المخاطر ماثلة فى ذهن لينين لأن فكرته كانت من البساطة والوضوح بحيث لا تفسح مجالاً للتفصيل. فالثورة هى الطريقة إلى السلطة والسلطة هى وسيلة تحقيق الاشتراكية.. والحزب البلوريتارى هو الذى سيمارسها. أما من لم يصل به الإيمان بالسلطة إلى حد الهوس مثل روزا لوكسمبرج وبليخانوف وكاوتسكى وكانوا من أساطين الاشتراكية وأطلق فيما أطلق عليهم لينين الانتهازيين والهراطقة والمنشفيك – فإنهم تبينوا هذه المخاطر وكان ذلك فى أساس معارضتهم له، والسبب الذى من أجله صب عليهم جام غضبه.

ومن الإنصاف للينيين أن نقول إنه لم يتردد فى إعلان آرائه والدفاع عنها، ففى وقت مبكر (1905) فى كتابه الهام جداً "ما العمل" صارح العمال بفظاظة أنهم لا يستطيعون تكوين حزب، وإنما يستطيع ذلك الانتلجنسيا المتعاطفة مع العمال من الطبقة الوسطى وأن ماركس وإنجلز لم يكونا من العمال وأن قصارى ما يستطيعه العمال هو تكوين النقابات التى قد تستطيع رفع الأجور شيئاً ما.

ولكن أراء لينين لم تكن تصل إلى القاعدة العريضة من العمال أو الملايين منهم الذين لم يعرفوا عنه إلا الصلابة والتفانى والحسم والبساطة فى المظهر والبعد عن كل مظاهر التميز والترف والترفع. وأنه ليس من النوع الذى يتأثر بالمديح أو يخدع بالإطراء… فهذه الخلائق التى كانت تقربه من العمال هى ما كان العمال يعرفونه عنه. أما آراؤه النظرية فهذه كانت تثار فى دوائر الحزب، وكان لدى لينين مقدرة فذه على انتزاع الموافقة على أرائه. وكان يبذل فى هذا جهداً جباراً ويستخدم كل الوسائل فيلوث خصومه ويصفهم بأقذع الصفات.[32] ويخلط الأوراق ويستعين بمزيج من السفسطة والشواهد التاريخية.. باختصار لا ينثنى فى النهاية حتى "ينتزع" موافقة المجتمعين. وبهذه الطريقة حول مجموعته من "منشفيك" أى أقلية إلى "بولشفيك" أى أغلبية.

f

بالإضافة إلى نظرية الحزب، فإن لينين أبدع قاعدة المركزية الديمقراطية كأساس للأداء وهى 90% مركزية و10% ديمقراطية أريد بها تحقيق المركزية تحت غطاء ديمقراطى لأنها تقتضى :

أ- كل الهيئات الجماهيرية تنتخب من القاعدة بواسطة الأعضاء وُتسأل أمامهم.

ب- تتبع الهيئات الجماهيرية فى إدارتها لنشاطاتها القواعد التى تقررها الهيئات الأعلى.

ج- يبتّ فى القرارات بمقتضى أغلبية الأصوات.

د- تتبع الهيئات الدنيا الهيئات الأعلى منها.

ولم يكن النظام الحديدى للحزب يسمح بأى درجة من الحرية خارج الإطار المقرر ويعتبر ذلك "فوضوية" "إنحراف" "انتهازية" ويتعرض من يتهم بها ليس فحسب للطرد من الحزب بل وفقد مركزه فى المجتمع.

لا جدال أن رجلاً بمثل صفات لينين ما كان يؤمن أبداً بديمقراطية أو حرية.. ولا يعرف إلا الحسم وعندما تولى السلطة وجد أمامه أكداساً من المشاكل وأعداء عديدين ينفسون عليه الانتصار السهل الذى حصل عليه فى أكتوبر… لم يكن لديه وقت لفك العقد.. وكان يجب قطعها ولم يكن هناك وقت لتأجيل أو إرجاء خاصة وأن العالم الرأسمالى بدأ المقاومة.. ولما كان لا يؤمن بحرية أو ديمقراطية بل يرى فيها أكاذيب وتحايلات من البورجوازية، ولما كان لا يمثل إلا أقلية، فلم يكن هناك مناص من أن يفرض القرارات بالقوة ولتامين ذلك أسس أكبر جهاز مخابرات عرف حتى ذلك الوقت فى العالم بأسره وسماه "درع الثورة" وأطلق له الحرية فى ملاحقة "أعداء الثورة " ..

وكانت آراؤه فى إدارة العمل والاقتصاد والإنتاج مما يتفق مع هذا المجرى الرئيسى، وكان كثورى لا يثق فى النقابات وكرجل "محترف" لا يؤمن بالهواية وكان يرى أن الإنتاج معركة كبيرة صعبة، ومعقدة، وتتطلب خبرات ومهارات وقدرات لا تتوفر للعمال …

فى الوقت نفسه، فإن العمال ما إن بدأت الثورة حتى أخذوا زمام الأمور فى أيديهم فتكونت فى المصانع لجان تولت إدارتها كما قامت النقابات بدور فى ذلك.

وهكذا ظهر فى الأيام الأولى للثورة نوع من التقطب ما بين لينين وآرائه عن الإدارة وأنها يجب أن تقوم على فرد واحد مسؤول يصدر الأوامر التى يطبقها العمال، وما بين رأى القاعدة عن الإدارة العمالية التى تقوم بها لجان من العمال أو مسئولون نقابيون.

وشاهدت الفترة ما بين مار س ونوفمبر سنة 1917 نموا ملحوظاً للجان المصانع وفى أبريل سنة 1917 أعلن اجتماع لجان المصانع فى بتروجراد "أن كل التعليمات الخاصة بالإدارة الصناعية فى المصنع مثل طول عمل اليوم، الأجور، تعيين وفصل العمال، الإجازات الغياب الخ… يجب أن تصدر عن لجنة المصنع" كما عقد مؤتمر آخر للجان المصانع فى بتروجراد أيضاً (يونيو سنة 1917) سيطر فيه الشيوعيون. ودعا إلى تنظيم دقيق لرقابة العمال على الإنتاج والتوزيع "وإلى وجود أغلبية بلوريتارية فى أجهزة السلطة التنفيذية" ..

لقد ظن العمال أن الفرصة التاريخية لتحقيق علاقات العمل الاشتراكية قد حانت. ولكن لينين لم يكن يؤمن بهذا. إن الخيانة التاريخية التى لا تغتفر أبداً للينيين هى أنه أجهض فرصة الجماهير الاشتراكية لتقوم بإرساء علاقات عمل تخلص بها من سياسة الرأسمالية البغيضة وعبودية الأجور، كأن تقوم إدارة ينتخبها العمال بدلاً من الرأسمالى. وأن يحل وازع الإيمان الاشتراكى محل وازع الربح. وكان هذا ممكنا للمرة الأولى فى التاريخ الاقتصادى بعد القضاء على الملكية الفردية للمصانع وانتفاء التناقض ما بين العمال والرأسماليين. تلك كانت اللحظة التاريخية التى أضاعها لينين على التجربة الاشتراكية فى العالم أجمع واستحق بذلك سخط بل، لعنة العمال الاشتراكيين حقاً.

ولم يكن لدى لينين إيمان خاص بأساس اشتراكى فى العمل مع أن قطار التطور كان مستعداً ليبدأ مسيرة علاقات العمل الاشتراكية البديلة عن الرأسمالية البغيضة، ولكن سائق القطار لينين غَّير مسار القطار بحيث يسير فى الطريق الرأسمالى نفسه.

كان لينين قد قال أن "كهربة" الاتحاد الاشتراكى هى أهم شىء ورأى أن الكهربة + الاتحاد السوفيتى = الاشتراكية، ولكن الولايات المتحدة كهربت بلادها دون حاجة إلى اشتراكية، وعندما تم هذا لم تصبح اشتراكية. والنقطة الهامة التى فاتت لينين – وكان لابد أن تفوته لما سنعرضه من أسباب – أنه من الممكن للاتحاد السوفيتى رغم تخلفه أن يصل إلى الكهرباء بفضل إيمان عمال الاتحاد السوفيتى. وقد كانوا يؤمنون بذلك ولكن لينين لم يثق بهذا النوع من الإيمان لأنه يقوم على النفس الإنسانية، وهو كالرأسماليين لا يؤمن بالنفس الإنسانية وإنما يؤمن بالمادية التاريخية وبالتالى بالوسائل العملية، وفى سباقات العربات فى العصور القديمة كان كل سائق يلهب خيوله أكثر من غيره ليستخلص منها كل ما يمكن أن تقدمه. وكان هذا الأسلوب أحد الضرورات البغيضة لأن الخيل لا تبذل أقصى الجهد إلا عندما تتعرض لأقصى ألم مادى. ولكن الإنسان يختلف عن الخيول. وفيه طاقة إيمانية يمكن أن تفعل المعجزات، ولكن الالتجاء إلى هذا كان التجاء إلى "الإيمان" ويمكن أن يجعل الاشتراكية "دعوة" ولينين لا يرى فيها سوى أنها أداة المادة التاريخية ومن ثم فإنه لجأ – كأصحاب السباق القديم – لإلهاب ظهور العمال ليستخرجوا آخر قطرة عرق، وكانت هذه صورة بدائية من صور الاستغلال تجاوزتها الرأسمالية نفسها التى لجأت إلى وسائل "المحفزات" فى الأجور، بل وبعض صور "العلاقات الإنسانية".

كان لينين يؤمن "بالإنتاج" أكثر مما يؤمن "بالإنسان" يؤمن بفاعلية الثواب والعقاب أكثر مما يؤمن بفعالية الإيمان الاشتراكى، وكان ككبار الرأسماليين الذين أقاموا صناعات الحديد والصلب والبترول والسيارات الخ... وإن كان أسرع تطبيقاً للإدارة العلمية من هؤلاء العباقرة الرأسماليين.

وبهذا فوت على التطور العالمى الفرصة الفريدة لإمكان وضع علاقات عمل اشتراكية محل الرأسمالية. وهذا الخطأ، وهذا الانحراف وهذه الخيانة.. مما لا يمكن على الأقل من وجهة النظر الاشتراكية أن يغتفر ..

ووصل الصراع ما بين العمال الذين كانوا يريدون إقامة علاقات عمل اشتراكية وبين لينين الذى آمن بالإدارة العلمية إلى قمته خلال مايو ويونيو 1918 فى المؤتمر الأول للمجالس الاقتصادية فتحدث لينين بقوة مؤيداً "انضباط العمل" وإدارة الفرد الواحد، والحاجة إلى استخدام الخبراء البورجوازيين، بينما طالب العمال بإدارة عمالية لا تكون من أعلى فحسب، ولكن من أسفل أيضاً، وأن يكون ثلثا أعضاء مجلس الإدارة من العمال المنتخبين ونجحوا فى أن يحملوا المؤتمر على تعيين لجنة فرعية تمهيداً لقبول هذا الاقتراح، وغضب لينين غضباً شديداً لهذا "القرار الغبى" وبتوجيهه عقدت جلسة كاملة للمؤتمر "صححت" القرار وذلك بأن نصت بأن لا يزيد المنتخبون من العمال عن الثلث، ووضعت بنيانا هرميا معقداً يعطى حق "الفيتو" للمجلس الاقتصادى الأعلى. وهو قمة الهرم الإدارى.

وخلال سنة 1919 والشهور الأولى من سنة 1920 ظفرت المعارضة ضد لينين وأفكاره عن "إدارة الفرد الواحد فى الصناعة" بتأييد النقابات. فقد دعا لينين وتروتسكى معاً المجلس التنفيذى للنقابات يوم 12 يناير سنة 1920 لقبول فكرة "عسكرة العمل" فلم يؤيدها سوى اثنين من ما يزيد على ستين من المندوبين الشيوعيين وعلق "دوتشر": "لم يسبق أن قوبل تروتسكى ولينين بمثل هذا الصد العنيف."

وفى أبريل سنة 1918 نشرت "ازفستيا" مقال لينين عن "المهام العاجلة للحكومة السوفيتية اليوم"، وجاء فيه إن الثورة تطلب، لمصلحة الاشتراكية، أن تطيع الجماهير بدون مناقشة الإرادة الفردية لقادة العمل Unquestionably obey the single will of the leaders of labor process.

وكتب لينين: "إن الإدارة الجماعية تمثل شكلاً بدائيا rudimentary لازماً للمرحلة الأدنى - عندما يكون من الضرورى البناء الجديد. ولكن التحول إلى العمل الفعال practical work يرتبط بالسلطة الفردية. فهذا هو النظام الذى يضمن أكثر من أى نظام آخر الانتفاع الأمثل بالموارد البشرية. وفى افتراضاته إلى المؤتمر التاسع (مارس سنة 1920) كتب: "إن المبدأ الانتخابى يجب أن لا يحل محل الانتقاء selective ورفض الإدارة الجماعية باعتبارها "يوتوبيا" وغير عملية وضارة."

وتوضح هذه العبارات أن لينين لم يتصور أن وجود العمال فى مجتمع اشتراكى لا يغير من سلوكهم كما لو كانوا فى مجتمع رأسمالى. وهذا أمر غريب. إذ ما الفرق إذن ما بين الاشتراكية والرأسمالية. إذا كان سلوك العمال فى المجتمع الاشتراكى لا يختلف عن سلوكهم فى المجتمع الرأسمالى؟ ففيم إذن كانت الاشتراكية، إن الاشتراكية الحقه تعنى مبادءة العمال وأن إيمانهم بالاشتراكية سيكون أفضل من الحوافز والضوابط التى تلجأ إليها الرأسمالية لعدم إيمان العمال بها (أى بالرأسمالية).

ووصلت أراء لينين إلى غايتها عندما طالب صراحة بالأخذ بوسائل الإدارة العلمية التى أبدعها المهندس الأمريكى فردريك تيلور بعد دراسات طويلة للوقت والحركة ودراسة الطرق المختلفة للأداء بحيث توصل إلى الاستغلال الأمثل لكل حركة وسكنة يقوم بها العامل.

ولم يتردد لينين فى أن يدعو للأخذ بها ففى رسالة "المهام المباشرة لسلطة السوفيت 1918" قال: علينا إدخال نظام تيلور إلى كل روسيا ورفع إنتاجية العمل حسب الطرق العلمية وحسب الخط الأمريكى.

وفى "الدولة والثورة" قال :

" لا يمكننا خلق أو إقامة الاشتراكية دون اللجوء إلى مدرسة منظمى الترستات إن الاشتراكية ليست ابتكاراً. بل هى أن تفهم طليعة البروليتاريا التى استولت على السلطة ما ابتكرته الترستات وتطبقه.

"نحن لا نخترع شكلاً لتنظيم العمل بل نأخذه كما هو من الرأسمالية.." ورأى لينين أن النظام الذى وضعه تيلور يجمع "الاكتشافات العملية الأكثر أهمية فيما يخص تحليل الحركات التى يقوم بها العامل أثناء العمل والقضاء على الحركات غير المجدية وغير الماهرة وابتكار طرائق العمل الأكثر عقلانية وإدخال أفضل نظم الإحصاء والرقابة".

وكان تيلور يرى أن ليس للعمال أن يفكروا، فهناك من يفكر لهم، ومن هو أقدر منهم على ذلك وأن المطلوب منهم أن يطبقوا الأفكار والخطط التى توضع لهم. وهذا هو ما كان يؤمن به لينين، ربما أكثر من تيلور.

وهذه من وجهة النظر الاشتراكية، ردة تكرر دفاع الرأسمالى عن أساليبه، أما الاشتراكية فيفترض أن يكون لديها نظام آخر وجهاز آخر، وأساس آخر لدفع الانتاج غير "السوط" الذى ظل من العهود القديمة حتى الرأسمالية الأسلوب المفضل. إن إيمان العمال بالاشتراكية أفضل وأدق من ساعات تيلور الكرونومترية ودراسات الوقت والحركة. وكان يمكن أن ينهض بالإنتاج ويحسم مفارقات علاقات "الإدارة - العمال" ويحمل عن أجهزة الدولة عبأ ثقيلاً ..

وكلام لينين يدل على أن السلطة قد مسخته تماماً. ومحت كل القيم وأحلت محلها ضرورات تحقيق الخطة المقدسة كأنما خلق الناس للخطة، ولم توضج الخطة للناس. كان أحد بناة الأمبراطورية، وكان بين جنبيه "إيفان رهيب" وبطرس الأكبر.. وكذلك باتو الشنيع سليل جنكيزخان والذى اكتسح أوربا ولم يوقفه إلا موت جنكيزخان. وبهذه الروح كان يريد أن يقيم "روسيا العظمى" التى أطلق عليها مجازاً "الاتحاد السوفيتى".

f

هذا عن لينين الذى قدم الإضافة الهامة عن الحزب الشيوعى باعتباره حزبا من ثوريين محترفين، وقدم المركزية الديمقراطية كقاعدة تنظيم العمل فى كل الهيئات.. ودعا جهرة إلى التيلورية التى اعتبرها عمال الولايات المتحدة أداة استغلال العمال على أسس علمية وعملية.

فماذا عن تروتسكى ؟

كان تروتسكى قد شغل وزارة الدفاع فجال وصال فى روسيا من شرقها لغربها فى قطاره المشهور الذى كان يضم فيما يضم مطبعة ولاحق كل أعداء الثورة.. كما شغل حينا وزارة الخارجية وهو صاحب شعار "لا حرب ولا سلم" الذى أراد به أن يخلص من مأزق مقاومة الجيوش الألمانية أو الصلح معها.. وأخيراً ضمت إليه وزارة النقل ..

كانت الفكرة التى قدمها تروتسكى هى "عسكرة العمل" أى "تطبيق وسائل الضبط والربط التى تمارس فى الجيش على العمال" وقد كان تروتسكى قد ألف كتاباً بعنوان "دفاعاً عن الإرهاب[33] دافع فيه دفاعاً مستميتا عن الإرهاب وأنه جزء لا يتجزأ من كيان الدولة الشيوعية وشن هجوماً كاسحاً على كاوتسكى لأنه انتقد إرهاب السوفييت وعدم وجود الحرية أو الديمقراطية فى الممارسات السوفيتية، وأفرد باباً من أهم أبوابه عن عسكرة العمل.

والفكرة الرئيسية فى عسكرة العمل أن الإنسان حيوان كسول وأنه ما لم يدفع دفعا إلى العمل فإنه لا يعمل.. والصورة الوحيدة للدفع المنظم هى فى الجيش، إذا كان الجيش لم يستخدم فى العمل فذاك لأن العمل كان واقعاً فى يد الملكية الفردية. أما وقد تحررنا من الملكية الفردية فيمكن ممارسته، وإن الإلزام، وبالتالى الإكراه هو الشرط الضرورى لضبط الفوضى البورجوازية وتشريك وسائل العمل والإنتاج ولإعادة بناء النظام الاقتصادى حسب خطة موحدة وأنه لا توجد لدينا وسيلة أخرى للانتقال إلى الاشتراكية غير القيادة الحازمة للقوى والموارد الاقتصادية فى البلاد، وغير التوزيع المركزى للقوة العاملة حسب الخطة الحكومية العامة. إن الدولة العمالية تعتبر أن لها الحق فى أن ترسل كل شغيل إلى المكان الذى يحتاج عمله. وأنه ما من اشتراكى جاد ينكر على الحكومة العمالية حقها فى وضع يدها على الشغيل الذى قد يرفض تنفيذ المهمة التى أوكلت إليه.

فى كتابه "دفاع عن الإرهاب" كتب تروتسكى :

"لا مجال للانتقال من الفوضى البورجوازية إلى الاقتصاد الاشتراكى دون اللجوء إلى الديكتاتورية الثورية وإلى طرائق التنظيم القائمة على الإكراه." ص206 من الترجمة العربية.

"إن عنصر الإكراه المادى الفيزيائى يمكن أن يكون كبيراً أو صغيراً فهذا يتعلق بالكثير من الشروط وبدرجة غنى البلاد أو فقرها الخ... لكن الإلزام وبالتالى الإكراه هو الشرط الضرورى لضبط الفوضى البورجوازية ولتشريك وسائل الإنتاج والعمل ولإعادة بناء النظام الاقتصادى حسب خطة موحدة.

"إن الجيش وحده – على وجه التحديد، لأنه حسم بطريقته الخاصة مسائل حياة وموت الأمم والدول والطبقات الحاكمة وقد اكتسب الحق بأن يتطلب من كل فرد خضوعاً تاماً للمهام والأهداف والتعليمات والأوامر. لقد توصل إلى ذلك لأن مهام التنظيم العسكرى بوجه خاص، كانت تتفق مع ضرورات التطور الاجتماعى." ص208.

وتصور أن الحرب الإمبريالية والنتائج التى نجمت عنها جعلت من المستحيل وجود مجتمع قائم على العمل الحر !![34]

وعرض تصوره الاشتراكى للنقابات :

"فالنقابات، بدون إلزامية العمل وبدون الحق فى إصدار الأوامر، وطلب تنفيذها، تفقد مقوماتها، ذلك أنها ضرورية للدولة الاشتراكية التى فى طريق البناء، لا لتناضل من أجل شروط أفضل للعمل – فهذه مهمة مجموع التنظيم الاجتماعى الحكومى – بل من أجل تنظيم الطبقة العاملة بهدف الإنتاج، ومن أجل ضبطها وتوزيعها وتثقيفها وتعيين بعض الفئات وبعض العمال فى مراكزهم لمدة معينة من الزمن، وبكلمة واحدة من أجل تنظيم الشغيلة بحزم، وباتفاق تام مع السلطة، فى إطارات الخطة الاقتصادية الموحدة."

ولجأ إلى النقطة الممجوجة نقطة "إن المسألة تكمن فى أن نعرف من يمارس الإكراه وضد من ولماذا.." !! كأن هذا يمكن أن يغير طبيعة الإكراه ولم يكن عجيبا أن يدافع عن نظام الرق، وأنه كان فى بعض الشروط تقدما وأدى إلى زيادة الإنتاج.

"إن كل تاريخ الإنسانية هو تاريخ تنظيم وتربية الإنسان الاجتماعى بالعمل، بهدف الحصول منه على إنتاجية أكبر. إن الإنسان فى الحقيقة – كما سمحت لنفسى آنفاً أن أعبر – كسول، أى يحاول بالغريزة أن يحصل بأقل جهد ممكن على أكبر حد ممكن من المنتجات. وبدون هذا الميل، لن يكون ثمة وجود للتطور الاقتصادى. إن نمو الحضارة يقاس بإنتاجية الإنسان، وكل شكل جديد من أشكال العلاقات الاجتماعية ينبغى أن يمتحن على حجر المحك هذا."

f

كان طبيعياً أن ينشأ خلاف حاد بين القواعد العمالية وما بين القيادة السوفيتية بزعامة لينين وتروتسكى. وقد ظهر هذا الخلاف ودخل فى مرحلة جديدة بظهور "المعارضة العمالية" التى رأسها زعيم عمال الصناعات المعدنية شليابنكوف ورفعت لوائها مدام كولونتاى. وعندما عقد المؤتمر العاشر للحزب الشيوعى 8 – 16 مارس 21 تقطبت المعسكرات وكانت قضية إدارة العمل وعلاقة النقابات بالدولة والبيروقراطية الحزبية هى المواضيع الرئيسية التى احتدم فيها الحوار.

فى هذا المؤتمر قدم لينين بيانا حمل اسم بيان العشرة وقدم تروتسكى بيانا آخر، بينما قدمت مدام كولونتاى بيان المعارضة العمالية وشرحت الفكرة فيها فى رسالة بأسم المعارضة العمالية تحت ثلاثة عناوين أساسية الأول (جذور المعارضة العمالية) شرحت فيه الملابسات السياسية والاقتصادية التى تحكمت فى الاتحاد السوفيتى وقضت على الحزب الشيوعى بانتهاج سياسة معينة. والفصل التالى عن (النقابات ودورها ومشكلاتها) وعرضت فيه انعكاسات السياسة التى انتهجها الحزب على الحركة النقابية باعتبارها أكبر حركة تضم الطبقة العاملة وانتقدت – بالطبع – وبقدر من الصراحة سياسات لينين وتروتسكى وزينوفيف وبوخارين وبقية قيادات الحزب وهذا الفصل على أنه الذى يمثل فى الأذهان الموضوع الرئيسى، ليس هو أكبر الفصول الثلاثة. إن أكبرها هو الفصل الثالث الذى جاء بعنوان (البيروقراطية والنشاط الذاتى للجماهير) فهذا الفصل يتضمن أقسى نقد للبيروقراطية والمركزية وما يمكن أن تجره على الحزب وعلى البلاد بأسرها.[35]

وافتتح لينين المؤتمر فوصم المعارضة العمالية بأنها "تهديد للثورة". وأنها فوضوية وسينديكالية وأنثال الآخرون وسادت هستيرية لم تعرف من قبل فى مؤتمرات الحزب، بينما نددت المعارضة العمالية بالبيروقراطية داخل الحزب باعتبارها سبب الفجوة ما بين القيادات والجماهير، وطالبت أعضاء الحزب بأن يقوموا بممارسة العمل اليدوى لفترات منتظمة من الوقت لجعلهم على صلة مباشرة بظروف عمل العمال. ووصف ميلنوف – وهو أحد قيادات المعارضة العمالية لينين بأنه "القمة العظمى للهرمية البيروقراطية القيصرية". بينما ذكر إجناتوف المجتمعين أن أساس الحزب يتغير ولم يعد بروليتاريا، وطالب بأن يكون ثلثا لجان الحزب من العمال. وانفجر الغيظ المكبوت، ولكن المجموعة اللينينية التى كانت تسيطر على جهاز الحزب، وبمساعدة التروتسكيين نجحت فى النهاية فى إجازة بيان العشرة الذى قدمه لينين، وكذلك إجازة "قرار الوحدة" الذى يحرم تكوين الخلايا، وطالب كل المجموعات التى تتمحور حول مشروعات واحدة بأن تحل نفسها فوراً ودون استثناء وهدد بأن الإهمال فى تنفيذ ذلك يؤدى إلى الفصل من الحزب بصورة عاجلة وغير مشروطة، وأعطى القرار اللجنة المركزية سلطة تأديب مطلق "إن المؤتمر يعطى اللجنة المركزية السلطة التامة فى مواجهة حالات التشرذم وانتهاك الضبط وتقرير العقوبات حتى الفصل من الحزب" وإذا جاءت المخالفة من أعضاء اللجنة المركزية فاقترح القرار تنزيلهم إلى مرتبة مرشحين وفى الحالات الخطيرة فصلهم من الحزب وأعلن القرار أن المهمة العاجلة للجنة المركزية هى تحقيق وحدة وفعالية بنيان لجان الحزب، وخصص خمسة من أعضاء اللجنة للتفرغ لزيارة اللجان الإقليمية وحضور الاجتماعات الإقليمية للحزب.

وقام تروتسكى بقسط كبير فى مهاجمة المعارضة العمالية وقال: "إنها جاءت بشعارات خطيرة، وجعلت من المبادئ الديمقراطية وثناً ووضعت مبدأ حق العمال فى انتخاب ممثليهم فوق الحزب، كما لو لم يكن من حق الحزب أن يوطد ديكتاتوريته – حتى لو تصادمت هذه الديكتاتورية مؤقتا مع الاتجاهات المعارضة للديمقراطية العمالية" وتحدث عن حق الميلاد التاريخى والثورى للحزب قائلاً: "إن الحزب مجبر على الحفاظ على ديكتاتوريته بصرف النظر عن التذبذبات فى الطبقة العاملة، فإن الديكتاتورية لا تقيم نفسها فى كل لحظة معينة، على الأساس الصورى لمبدأ الديمقراطية العمالية."

وفى أعقاب المؤتمر العاشر أخضعت المعارضة العمالية لسلسلة من الاضطهادات. وكان على الحزب أن يقضى على نفوذ المعارضة فى نقابة الصناعات المعدنية التى يتزعمها مدفدوف Medvedov وفى مؤتمر النقابة العامة الذى عقد فى مايو سنة 1921 قدمت اللجنة المركزية للحزب قائمة بأسماء المرشحين الذين تزكيهم لقيادة النقابة. وصوت العمال ضد قائمة الحزب. ولكن هذا الأمر كان عقيماً، فقد عين الحزب رجاله فى مناصب القيادة وفشلت المعارضة. وفى مارس سنة 1922 عقد مؤتمر آخر للنقابة نفذت فيه سياسة الحزب عن طريق "خلية الحزب" التى حضر اجتماعاتها شخصيات بارزة من الحزب مثل : زينوفيف، لينين، ستالين، مولوتوف، كامنيف وكلارا زتكين.

وبعد بضعة شهور أسس المؤتمر الحادى عشر للحزب الذى عقد فى 27 مارس – 2 أبريل سنة 1922 لجنة خاصة لتقصى نشاط "المعارضة العمالية" وأعلنت أن كل صور المعارضة المنظمة خلال السوفيتات تعد غير مشروعة.

وعين المؤتمر الحادى عشر ستالين سكرتيراً عاماً للحزب …

f

إن استعراض ما جاء فى هذا الفصل يوضح كيف أن السلطة أفسدت أعظم أمل للعمال فى بناء مجمع اشتراكى وجعلت الاتحاد السوفيتى بؤرة للإرهاب الحكومى والتسلط وأن رجال الحزب ومن حولهم كونوا طبقة استحوزت على السلطة واحتكرت المناصب وقتلت كل مبادءة الخلاقة. وأن البيروقراطية وما يتصف به التخطيط المركزى من جمود جعل الأداء الاشتراكى عقيما متخلفاً.

f

لن يغفر التاريخ للينين وتروتسكى أنهما عندما ظفرا بثقة العمال وطاعتهم وعندما دعم العمال بكل قوة الثورة الناشئة والسلطة التى تمخضت عنها.. لم يحاولا الإفادة من هذا الجمهور وهذا التأييد لإبداع خطط للإدارة: إدارة الإنتاج أو إدارة الدولة.. تقوم على إيمان الجمهور وتجاوبه مع قادته، وما يتفرع عنه من أساليب تختلف عن الأساليب التى وضعتها النظم الرأسمالية والعسكرية، والتى – لما كانت لا تتمتع بمحبة العمال أو تجاوبهم، بل تقوم على استغلالهم، لم يكن أمامها إلا سبيل الإجبار والإرهاب والضبط والربط والتسيير من أعلى.. ولكن لينين وتروتسكى ظفراً بما لم يظفر به أى حاكم، عندما رفعا الشعار الذى استحوز على قلوب العمال شعار العدالة، شعار إسقاط الرأسمالية وعبودية الأجور واستغلال النفوس فظفرا بأعظم رأس مال إيمانى يمكن لحاكم أن يتمتع به. ويبدع منه وسائل جديدة للعمل. فأهدرا رأس المال الإنسانى الاشتراكى الذى تراكم عبر القرون كأن لم يكن. وسلكا سبيل الرأسماليين والطغاة والظلمة، وفجعا البشرية فى أجمل آمالها وجعلا من ثوب زفافها قميص كتافها. وقابلاً العمال بسوط العذاب وعسكرة العمل.

لقد كانت محاولة لينين وتروتسكى إرغام العمال على الإنتاج، وعسكرة العمل أسوأ من الرأسمالية أنها رأسمالية الدولة التى جعلت العمل سخرة وعندئذ يكون كل كلام لينين وتروتسكى مكابرة، بل نوعاً من التشنج المذهبى وهذا فى الحقيقة هو شأن معظم كتابات لينين وتروتسكى. ومما يفاقم فى مسئولياتهما أن أسلوبهما الفج اعتبُر هو الأسلوب الاشتراكى الذى أبدعه منظرا الاشتراكية وطبق هذا الأسلوب فى آسيا وأفريقيا وأمريكا وجر أنهاراً من الدماء.. وأقام جبالاً من الأخطاء.. ظلمات بعضها فوق بعض وعوالم من الزيف والضلال والتعصب.

وبدلا من أن يدفن الاتحاد السوفيتى الرأسمالية فإنه تهاوى بحكم فساد العوامل الداخلية التى كان يخفيها النظام ودعايته حتى أودت به دون أن تطلق الرأسمالية عليه طلقة واحدة ..

f

إذا كانت هذه هى سطوة الدولة على العمال – شعب الاشتراكية الأثير، فلنا أن نتصور ماذا تكون سطوه الدولة على غيرهم؟ لم يتسع الوقت للينين لأن يطبق سياسته الاقتصادية الاشتراكية، بل إنه اضطر لأن يقلع عنها فيما سمى بالسياسة الاقتصادية الجديدة NEP ووقع تطبيق التصور الاشتراكى للزراعة على ستالين الذى طبقه بكل ما عهد فيه من فظاظة وفجاجة ووحشية إذ أراد أن يطبق المزارع الجماعية. والزراعة هى آخر مجال يمكن أن يصبح جماعياً. فالفلاح فردى بالطبيعة، ولا يمكن للتخطيط أن يفرض نفسه على ملايين الفلاحين الذين لا يعلمون إلا ما ورثوه عن أبائهم. وكان يمكن وضع سياسة لتحديث الزراعة. مع منح كل فلاح قطعة أرض صغيرة. فهذا كان متاحاً، وكان يرضى الفلاحين جميعاً وينهض بالزراعة ويؤدى إلى تحسين الحال الذى سيعود على الدولة فى النهاية، ولكن هذا الجورجى المتوحش ستالين، أراد بجدع الأنف أن يحقق سياسة المزارع الجماعية فأوفد فيالق الحزب والجيش لمصادرة كل ما لدى الفلاحين من أقوات وأطلق على هؤلاء البؤساء اسم "الكولاك" أى الملاك وترك هؤلاء الملاك ليموتوا جوعاً فى برد وصقيع سيبرياً ويقدّر أن ما لا يقل عن عشرة ملايين فلاح مات فى معركة الزراعة الجماعية الفاشلة.

وأصبحت الفنون والآداب ملك للدولة. وصودرت كل الصحف باستثناء صحيفتين يوميتين إحداهما تحمل اسم الأخبار والأخرى اسم الحقيقة وقال معلق "ليس فى الأخبار حقيقة. وليس فى الحقيقة أخبار".

أما النقابات فإنها اعتبرت "السير ناقل القوى" من الحزب للجماهير ويعنى هذا أنه ليس لديها حرية أو استقلال أو مبادئ لأنها ليست إلا سيراً ينقل عن الحزب الذى اعتبر هو مصدر الحركة والطاقة ووصلت المأساة درجة أقامت فيها النقابات سجوناً للعمال المقصرين !!

لقد أثبتت نظرية الحزب التى أبدعها لينين قوتها وفعاليتها. وأصبحت هى التى تربط الاتحاد السوفيتى رغم أن هذا الاسم لا يمثل حقيقة لأنه ليس اتحاداً إذ كلمة اتحاد توحى بوجود وحدات لها قدر من الحرية قبلت أن تتحد مع غيرها. وقد أجبرت إجباراً كل ولايات ومقاطعات القارة الروسية على الاندماج وأن تكون كتلة واحدة بفضل حزم الحزب لها وربطه إياها برباط وثيق. وليس "سوفيتياً" لأن السوفيتات كانت من خلق ثورة مارس الديمقراطية. وما أن تمكن لينين من السلطة حتى وأدها وأصبح الحزب – وليس السوفيتات هو الحاكم.

ولعل الإنجاز الحقيقى للينين أنه حيد الجيش فلم يتحرك الجيش طوال سنوات ستالين الطائشة، لأن الحزب كان قابضاً على الزمام بصورة فاقت كل ما يمكن أن يصل إليه الجيش. لأنه كما قلنا كان جيشاً مدنياً يحكم البلاد من داخلها.

فى النهاية نجد أن السلطة أفسدت الاشتراكية وحولتها إلى المدرسة الأم للحكم الشمولى تعلم على يدها وفيها هتلر وموسولينى وبقية الطغاة. وطبقت الأحزاب الاشتراكية أساليبها الشنيعة القاتلة على العالم بأسره فى أفغانستان وكمبوديا والحبشة والبلقان وأقامت أهرامات من الجماجم أكبر من أهرامات مصر.

f

وهناك جنابة أخرى ارتكبها لينين فى حق التطور السياسى العالمى هى شل حركة الاشتراكية الديمقراطية التى كانت قد ازدهرت فى السنوات الأولى للقرن العشرين تحت قيادة سدنة الماركسية وحملة وصية ماركس كاوتسكى وبيرنشتين الألمانيين اللذين قادا الحزب الديمقراطى الألمانى. وعندما ظهر لينين أعلن حرباً شعواء على كاوتسكى وبيرنشتين وأطلق عليهما كل ما فى قاموسه من بذاءات واتهامات بالعمالة، والانتهازية والهرطقة والانحراف الخ... ولم يسترح إلا بعد أن شطب كلمتى الاشتراكى الديمقراطى من الأحزاب الاشتراكية الأوربية. وكانت الضحية الأولى لهذه الحملة هـى جمهورية فايمار التى قامت فى أعقاب الحـرب العالمية الأولى (1919) بقيادة الحزب الاشتراكى الديمقراطى فقد قاوم الشيوعيون بكل قوة وعرامة هذه الجمهورية وأطلقوا على الاشتراكيين الألمان لفظ الفاشية وناصروا هتلر بفكرة أنه ما إن يقضى عليهم حتى يأتى دورهم هم (أى الشيوعيين) فى الحكم. ومن سخريات الأقدار أن هذه الحرب على فايمار هى التى مكنت هتلر من الصعود وهى التى جعلته يقضى على الحزب الشيوعى الألمانى قضاء مبرماً ثم يتحول إلى الاتحاد السوفيتى ويحاربه حرباً ضروساً مدمرة أوقفته على شفا الهزيمة لولا مساعدة الحلفاء وقضت على قرابة عشرين مليونا من شباب الاتحاد السوفيتى.

ونتيجة للحرب الشعواء التى شنها لينين على الاشتراكية الديمقراطية، تقهقرت، وفقدت صدارتها للحركة الاشتراكية حتى تهاوى الاتحاد السوفيتى أخيراً، وعادت الديمقراطية الاشتراكية، بعد أن حجبها لينين قرابة خمسين عاماً كان يمكن أن توفر فيها التخبط السياسى والمأساة الدموية: مأساة الحرب العالمية الثانية.

f

ولاقى لينين الذى فعل كل هذه الأفاعيل نهاية غير متوقعة أشار إليها دوتشر فى كتابه "سخريات التاريخ" ففى المؤتمر الأخير الذى حضره (أبريل 1922) عبر عن أنه يحس بما يحس به السائق عندما يرى العربة تسير فى غير الطريق التى وجهها له. وأن قوى كبيرة حولت الدولة السوفيتية عن هدفها السليم. وعندما أقعده الشلل وانفسح المجال لستالين ليمارس فظاظته حتى مع زوجة لينين ورفيقة كفاحه "كروبسكايا" تبين لينين خطأه الفظيع عندما حطم المعارضة العمالية التى كانت تندد ببيروقراطية المركزية الديمقراطية" وسيطرة الحزب والقضاء على كل صور الديمقراطية وفى 30 ديسمبر سنة 1922 غافل أطباءه وممرضاته وبدأ ما عرف بوصيته التى بدأها "إنه ليبدو أننى مذنب للغاية أمام عمال روسيا" (l am, it seems, strongly guilty before the workers of Russia .. )

لم يقرأ الشعب الروسى هذه الكلمات وما تلاها فقد تكتم عليها ستالين وزملاؤه لمدة ثلاث وثلاثين سنة. قبل أن يعلنها خروشوف فى المؤتمر العشرين..[36]

إنها إحدى سخريات التاريخ، ولكنها سخرية تراجيدية محزنة تعرض لنا فرعوناً آخر غير فرعون مصر يتوب عند الغرغرة، قبل أن تبتلعه الأمواج ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق