السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

التأثـيرات المتبادلة ما بين الشريعة والعقيدة

ليست الشريعة على أهميتها هي كل الإسلام، بل هي ليست الجزء الأعظم من الإسلام. الإسلام يقوم على عقيدة وشريعة، والعقيدة -كما ذهب إلى ذلك الشيخ شلتوت وكما تقتضى به طبائع الأشياء- هي الأصل أما الشريعة فهي الفرع. العقيدة تقوم على الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وهذه هي ما يميّز الأديان ويمثّل خصيصتها وجوهرها. ويمكن أن توجد أديان لا يوجد فيها إلا العقيدة. بل أن الإسلام نفسه ظلّ طوال ثلاثة عشر عاما -وهي الفترة المكّية- يقوم على عقيدة دون شريعة فإن الشريعة لم تبدأ فى الظهور إلا مع الهجرة وبعدها، وهو دليل آخر على أن الشريعة فرع -ومقتضى- من مقتضيات العقيدة.

وقد وصلت العقيدة الإسلامية فى صلبها -الإيمان بالله- وفي تصويرها لما يكون عليه الله تعالى، الغاية من الوضوح والعمق والبساطة بحيث تغلغلت فى القلوب، كما أن التركيز على اليوم الآخر هو في الإسلام أكثر منه فى أي دين آخر، وهذا أيضاً أعطى العقيدة عمقاً ومدى.

أما الشريعة فهي ما يتعلق بالدنيويات والعلاقات ما بين الأفراد والمجتمع، ما بين الغني والفقير، القوي والضعيف، الحاكم والمحكوم، الرجل والمرأة، الخ... وما يجعل القيمة الحاكمة للمجتمع هي العدل.

ومع أن العقيدة لها طبيعة، وآلية، وهدف غير طبيعة الشريعة، فإن العلاقات ما بينهما وثيقة لأنهما معاً يكوّنان جسماً واحداً. وفي الموضوع الذي نحن بصدده نجد أن العقيدة تؤثّر على الشريعة، كما نجد الشريعة أيضاً تؤثّـر على العقيدة ويكون القرار الأخير نتيجة لهذه التأثيرات المتبادلة.

ولكن أثر الشريعة على العقيدة أقل بكثير من تأثير العقيدة على الشريعة بحيث يعدل فى الشريعة تعديلاً كبيراً كما أنه من ناحية أخرى هو الذى يعطى الشريعة وقوانينها الطابع الدينى وما يصطحب به من إيمان.

v v
v

q أثر العقيدة على الشـريعــة:

___________________

من آثار العقيدة على الشريعة أنها تجعل للإنسان كرامة وقداسة وتحمي كيانه المادي والأدبي من المساس به وهذا يعود إلى أن الإسلام نفسه إنما أُنْزِلَ للناس وأن الإنسان هو الهدف والغاية أما الأديان فهي الوسيلة لهداية الإنسان ومقاومة الشرور[1]. وهذا يعني أن الشريعة -أي القانون، لا يجوز أن يمسّ أو يعدم شخصية الإنسان إلا فى الحدود التى تنصّ عليها العقيدة.. والتي تحمي ذلك ولا تسمح بالمساس به إلا عند اقترافه جريمة، وعندئذ يلحظ العدل عند تحديد الجريمة، إن لم يكن للإنسان الفرد فللإنسان المجتمع.

ويتجلّى أثر العقيدة على العقوبة في أنها تجعلها مكفّرة، ومطهّرة من قذارة الجريمة، وهذا هو ما فهمه الجناة فى عصر النبوّة خاصة فى جريمة الزنا ذات الحساسية الخاصة فهم جميعاً يأتون الرسول صائحين "طهّرنى" ويصرّون على ذلك.

ويلحظ أثر العقيدة فى تكييف الجريمة وعقابها فى جعل الإقرار هو وسيلة لإثبات الأولى لأن الإقرار (بعيداً عن أي إكراه أو ضغط أو تأثير) يقترن برغبة الجاني في التطهير بالعقاب من جريمته وهناك أحاديث عديدة أن الرسول اشترط الإقرار مرّتين، لا مرّة واحدة، قبل توقيع العقوبة كما يمكن للجاني.. النكول عن إقراره فلا يؤخذ به، ويمكن أن يتمّ هذا قبل صدور الحكم، وقبـل التنفيذ الفعلي، أو حتى خلاله لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه عندما نقلوا إليه فرار ماعز عندما استحدّ به الرجم ففرّ فلاحقوه "هلا تركتموه فيتوب ويتوب الله عليه".

ومحاولة الرسول إثناء ماعز والغامدية عن الإقرار -وهو ما سنلحظه أيضاً فى حالة السرقة- يثير قضية فى منتهى الأهمية، تلك هي أن من الممكن تلافي الرجم والقطع دون أن يكون فى ذلك مخالفة للسُنة، وأن الأمر ليس كما يحاول البعض إظهاره – أنه "حق الله" الذي لا يملك الإمام التصرف فيه. إن إلحاح الرسول عليه الصلاة والسلام في محاولة درء توقيع العقوبة المقدّرة -رجماً كانت أو قطعاً- يوضّح تماماً أن من سلطة القاضي أن يدرأ الحدّ بما يمكن أن يُثار من شبهات أو ما يلقيه في روع المتهم من الإنكار أو تلقينه الإنكار صراحة.

ومن آثار العقيدة على القاضي والجاني أن يحاول القاضي ثني الجاني عن الاعتراف، ويفسح له المجال لكي يلوذ بالمعاذير، أو بكيفيات أخرى خلاف الكيفية التي سنّ لها الحدّ العقوبة. والحالات التي حاول الرسول عليه الصلاة والسلام ثني المعترف عن اعترافه قد أصبحت من بدائه التقاليد القضائية. وقد اتّبعها الرسول في كل الحالات التى عُرِضَت عليه فى بعض حالات السرقة وفي حالات الزنا. خاصة حالتي ماعز والغامدية.

وفي مقابل هذه المحاولات لثني الجاني، نرى الجاني يتمسك باعترافه، ويستبعد أي شبهة ويصرّ على أن يبتطهّر بالحدّ.

وهذا هو أحد أسرار تعاطف الرسول مع هؤلاء الجناة، ولعلّ الرسول أيضاً قد لمس أن هؤلاء الجناة "الأبطال" جعلوا تطبيق الحدّ أمراً واقعاً يحقّق كل ما يمكن لهذا التطبيق أن يوحيه من ردع، ولولاهم لكان الحدّ نصاً أجوف "ميّتاً". فحرصهم على تطبيق الحدّ لم يكن "توبة" فحسب، ولكن مساهمة فى "تفعيل" الحدّ ومنحه الحياة بموتهم، وقد يفسّر هذا كله كلمة الرسول عن الغامدية أنها "جادت بنفسها لله تعالى".

وفي غير الزنا وجد الرجل الذي قُطِعَت يده في السرقة، فأخذ يده المقطوعة بيده السليمة وقال "الحمد لله الذي خلّصني منك أردت أن تدخلينى النار".

ويلحظ أن الرسول لم يسأل فى حالات الزنا التي عرضناها عن الشريك الآخر فى العملية الذي يفترض أنه يستحقّ العقوبة نفسها، مما يؤكد ما ذهبنا إليه من الزهد فى توقيع العقوبة، ولأن من المبادئ التي أرساها الرسول العظيم أن الحاكم ملزم بتطبيق عقوبات الحدود عندما تعرض عليه بالفعل، فإذا لم تعرض عليه فليس من دوره أن يبحث عن الجناة أو يتعقّبهم. وهذا هو معنى كلمته الخالدة "تعافوا الحدود" وقوله لمن ساق إليه مُتَّهَماً بالزنا.. "لو سترته بثوبك كان خيراً لك". وهذا التوجيه يفتح باباً واسعاً للتصرّف فى موضوعات الحدود ما بين الأطراف المشتركة دون الالتجاء إلى المحاكم، مما أوحى لنا بأن نطالب فى أكثر من كتاب من كتبنا بالأخذ بنظام محاكم الصلح التي تتكوّن تكوّناً اختيارياً تطوّعياً في الأحياء لتسوية المشكلات ودّياً، وتفادي الوصول بها للمحاكم الرسمية.

ويصل أثر العقيدة إلى غايته عندما لا يقف الأمر عند ثني المتهم عن الاعتراف، وقبول إنكاره حتى لو جاء هذا الإنكار بعد إصدار الحكم وقبل توقيع العقوبة بالفعل أو حتى خلالها، ولكن يصل إلى حدّ تلقين المُتَّهَم الإنكار.

جاء فى كتاب "فقه السُنة" للشيخ سيّد سابق تحت عنوان "تلقين السارق ما يُسْقِطُ الحدّ":

<<ويندب للقاضي أن يلقن السارق ما يسقط الحدّ.. روى أبو المخزومى أن النبي أتى بلصّ اعترف ولم يوجد معه متاع فقال رسول الله ما أخالك سرقت قال بلى مرتين أو ثلاثا رواه أحمد وأبـو داود والنسائي ورجال ثقات.

<<وقال عطاء كان من قضى (أي من تولى القضاء) يؤتى إليهم بالسارق فيقول أسرقت قل لا وسما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما (أى ذكر أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك حينما توليا القضاء).

<<وعن أبي الدرداء أنه أتى بجارية سرقت فقال لها أسرقت؟ قولي لا فقالت لا فخلى سبيلها.

<<وعن عمر أنه أتى برجل سرق فسأله أسرقت قل لا فقال لا فتركه>>474- 475) ج 3، طبعة دار الفتح.

ورُوِي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال شهدت عليّاً أتاه رجل إتهم بالسرقة فردّه، وفي لفظ فانتهره وفي لفظ فسكت عنه. وقال غير هؤلاء فطرده، ثم عاد بعد ذلك فأقرّ. فقال علي شهدت على نفسك مرتين وأمر به فقطع. قال أحمد لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره. وهذا قول عامة الفقهاء رُوى ذلك عن الخلفاء الراشدين (انظر ص288، 289، ج 10، "المغنى" لإبن قدامة).

وهذه معالجة لا نجد لها مثيلاً فى أي تشريع آخر يلحظ مصلحة المتهم أو يبني نظريته على أساس أن المجرم ضحية المجتمع، وقد رويت عن الرسول وأبي بكر وعمر وكفى هؤلاء ثبوتا، ومع هذا فيبدو أنها لم تُتابع في كل الحالات، وأن وقوعها من الرسول وأبي بكر وعمر إنما كان لأن هؤلاء وحدهم كانوا من الشجاعة، والعمق الإنسانى بحيث قاموا بذلك، أما من جاء بعدهم فلم تتوفّر لهم هذه الدرجة من أثر العقيدة ثم لما تدهورت أمور المسلمين جاء الدور على الشريعة أيضاً.

ولا نرى إشارة إلى تلقين القاضي المتهم الإنكار فى كتب الفقه الحديثة بوجه خاص، وإنما نرى هذه الإشارة فى كتب الحديث. كما أن كل "مشروعات القوانين" التى وُضِعَت في العصر الحديث تخلو من الإشارة إليها لأن ضحالة، أو قل إنعدام أثر العقيدة جعل الحصول على الإقرار نفسه صعباً، أو نادراً، فكيف إذا طُلِبَ إلى الجاني الإقرار مرّتين ثم سُمِحَ له بالنكول أو لُقِّنَ الإنكار.

بل إننا لا نرى إشارة إليها فى معظم كتابات "الإسلاميين" عن الشريعة، بما في ذلك العمل الضخم للقاضي الشهيد عبد القادر عودة "التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي".

وهذا ما يعطينا مؤشراً عن استحالة تحقيق أوضاع كانت موجودة أيام الرسول وأن تجربة الرسول في حكمه للمدينة المنورة أصبحت "يوتوبيا" بالنسبة للأجيال المعاصرة، حتى وإن كانت حقيقة عملية للذين عاصروا الرسول ولعلّ هذا هو سرّ أفضلية هذه الحقبة على بقية العصور.

ومن أبرز آثار العقيدة على الجريمة والعقاب اعتبار التوبة مزيلة للجريمة، مطهّرة منها، ويمكن أيضاً أن توقف العقوبة.

وآيات القرآن الكريم عن التوبة والترغيب فيها أكثر من أن تحصى ووصل استحثاث القرآن الناس عليها درجة يمكن فيها أن تبدّل سيئاتهم حسنات كما جاء فى الآية 70 من سورة "الفرقان" )إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا[. ولعل هذا الإحلال نتيجة للعمل الصالح بجانب التوبة لأن الحسنات تذهبن السيئات.. وهو ما يُعَدّ على كل حال ثمره للتوبة النصوح.

وقد اختلف الفقهاء في مدى أثر التوبة، ويمكننا القول أنه بالنسبة للعلاقة ما بين الجاني والله تعالى فإن التوبة النصوح تجبّ كل سيّئة وذنب وتطهره وتكفل له رحمة الله ومغفرته أما بالنسبة للناس، فإن من تمام التوبة أن يصلح ما أفسده وبالنسبة للعقوبة فإن التوبة مسقطة للعقوبة عندما تحدث قبل القدرة على الجاني بنصّ القرآن الكريم، ويمكن أيضاً أن يحدث هذا في حالات بعد القدرة..

وأخيراً جداً، فمن آثار العقيدة على تقرير العقوبة أنها تحل "بدائل" -إذا جاز التعبير- "عبادية" محل العقوبات "المادية" التي لا يستطيع الجاني الوفاء بها، وأغلبها الصيام أو عتق رقبة أو إطعام عدد من المساكين.

ونصّ القرآن على الصيام في حالات عديدة من المخالفات كالتي جاءت فى الآية 196 من سورة "البقرة" ]فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ[. وكما جاء فى حالة القتل الخطأ، الآية 92 من سورة "النساء" ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[.

وسن القرآن صيام ثلاثة أيام عند اللغو فى الإيمان كفارة لها ]لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[.. {المائدة 89}..

وكذلك أوجب القـرآن صيام شهرين تكفيراً لمن ظاهـر من امـرأته ]وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ[.. {المجادلة 4}..

وهذه البدائل من العقوبات المألوفة من جلد أو سجن أو غرامة ذات طابع عبادي خالص أفترض فيه أن يكون له أثره فى إصلاح حال الجانى وإبعاده عن الشر. ولحظ فيها حالة الجانى وأن يكون فيها بديل عند عدم الاستطاعة.

ومرة أخرى نلحظ استحالة تطبيق هذه البدائل أو تقنينها فى مواد فى المجتمع الحديث. لأن صفحة "تحرير رقبة" قد طويت، ولأن التثبت من الصيام أو طعام مساكين مما يخرج عن نطاق القانون.

وهذه الآثار للعقيدة على الشريعة فى إجمالها تعود إلى فهم القاضي أن الإنسان هو الغاية من الدين ولهذا، فهو يحاول أن يبقى عليه وينجيه من العقاب خاصة وأن هناك من البدائل ما تمحى جريمته كالتوبة أو عمل الحسنات، الخ...

v v
v

q أثر الشـريعــة على العقيدة:

___________________

الشريعة في جوهرها قانون يستهدف حماية المجتمع والمبادئ والأوضاع التي قام عليها ولا يجوز لها التفريط أو التهاون فى هذه الرسالة خاصة وأن العقيدة، كما قدّمنا، ستلحظ الجوانب الأخرى وسترتفق عليها بما لا تستطيع الشريعة دفعه، فإذا فرّطت ثم جاء تأثير العقيدة، تآكل دور الشريعة وعجزت عن القيام بواجبها.

وفي حقيقة الحال فإن وجود الشريعة جنباً إلى جنب العقيدة هو ما يفترضه تكامل العملية الإصلاحية لأن الاقتصار على إصلاح الفرد عن طريق العقيدة، وإن كان هو الذي تفضله الأديان، إلا أن إصلاح المجتمع هو الذي يُبْقي على إصلاح الفرد ويحول دون أن تنال منه قوى الشرّ والبغى وضراوة الشهوات. وقد لاحظ كبير إساقفة يورك -وليم تمبل William Temple- في محاضرة له عن "آداب الإجراء العقابي":

"إذا قلنا إنه لا يمكن أن نصلح الناس عن طريق إصدار قانون من البرلمان، فإن هذا يُعَدّ نصف حقيقة تحمل أخطار أنصاف الحقائق، فنحن لا يمكن أن نصلح الناس بقانون من البرلمان، ولكن قانون البرلمان يوفّر الظروف لنمو القِيَـم، ويبعد العقبات التي تسدّ الطريق أمامها"[2]. ولاحظت إحدى الكاتبات البريطانيات، في مقال لهـا ترجم في جريدة "الحياة" اليومية (28/10/1997 أن "الإجراء الذي اتخذه الرئيس أيزنهاور (Eisenhower) بإيفاد قوّة من الجيش الاتحادي لإرغام سلطات مدينة ليتل روك (Little Rock) على تسجيل الطلبة السود في المدرسة الثانوية اختصر العداوة لعدة سنوات على الأقل، ولو لم يقم ايزنهاور بهذا الإجراء لظلّ أهل ليتل روك على عداوتهم القديمة، ولكن فرضه القانون والقوة جعل الناس مع مرور الزمن يتقبلون السود".

من أجل هذا لا يجوز مطلقاً التقليل من أثر الإصلاح عن طريق القانون -أو كما نقول- بالشريعة لأنه جزء لا يتجزّأ من عملية الإصلاح وبدونه تتعرّض عملية إصلاح الفرد لكل عوادي التآكل.

ومن الواضح أن فعالية القانون إنما تكون لإتباع الناس له واحترامهم إياه، وأن بقاء المجتمع لا يتم إلا حيث يعمل كل فرد في المجتمع كعضو فى الجسم "يشدّ بعضه بعضا". فإذا انتُهِكَ القانون وإذا تمرّد عضو على الجسم فلا قيام، ولا قوام.. لقانون أو مجتمع.

لهذا اتّسم دور الشريعة بالصرامة والموضوعية واستهداف مصلحة المجتمع وسيادة القانون، وأخذت الجريمة على الحقّ المقرّر بالقانون لفرد ما طابع الجريمة على القانون نفسه فأخذت العقوبات الإسلامية قسمة الزجر والردع والوقائية لأن المجتمع لا يحتفظ بانتظامه إلا بوازع السلطان الذي يُمَثَّل في العقوبات الرادعة الزاجرة لكل من ينتهك القانون أو يتمرّد على المجتمع، ومن هنا كانت عقوبة السرقة هي القطع سواء كان المسروق مليوناً أو ربع دينار، لأن تكييف العقوبة هو انتهاك المبدأ وخرق النظام، وهذا يقع عندما تحدث السرقة بالفعل فضلاً عن أن التهاون في الجريمة الصغيرة يؤدّي إلى ارتكاب الجريمة الكبيرة. وهذا المبدأ وإن كان سليما من وجهة نظر الشريعة، فإن العقيدة كما رأينا، وكما سنرى في اجتهادات في حدّ السرقة، تلطّف من حدّته وتقدّم ضمانات بحيث لا تُسْتَخْدَم فكرة انتهاك الحقّ أو المجتمع المبرّرة للعقوبة الرادعة إلا حينما يكون ذلك واقعياً ومؤكداً.

والمجتمع الإسلامي كُلُُ واحد، يتردّد فى كل ناحية من نواحية نبض الروح الكلّية له، وهي "العدل"، وتتطابق أوامره ونواهيه، ولا يتعارض بعضها مع بعض. فالشريعة التي أوجبت القطع لسرقة ربع دينار هي نفسها التي أوجبت الزكاة لتقدّم للمحتاجين جميعاً كفايتهم كحقّ معلوم، وقد عبّر عمر بن الخطاب عن ذلك عندما سأل عاملاً من عمّاله "ماذا تفعل إذا أتيت بسارق قال أقطع يده قال إذن فإن جاءنى منهم جائع فسوف يقطع عمر يدك. إن الله يوصي بستر عوراتهم، وأن نوفّر لهم نفقاتهم فإذا أعطيناهم هذه النفقة أقمنا عليهم حدود الله".

ومن الواضح أن الشريعة ففي وضعها للعقوبات المقدّرة على الجرائم لاحظت مصلحة المجتمع قبل مصلحة الفرد. على أنها فى القسم الأعظم من الجرائم -جرائم التعزير- تركت للقاضي حرية تحديد العقاب، ومعنى هذا أن يلحظ القاضي طبيعة الجريمة وهل تقتضي عقاباً يُلْحَظ فيه الجاني أو عقاباً يُلْحَظ فيه المجتمع. وعندما أعطت الشريعة القاضي حرية تحديد التعزير فإنها فتحت الباب على مصراعيه لملاحظة حالة الجاني، لأنها لو أرادت ملاحظة حال المجتمع لحدّدت العقوبة – كما فعلت فى الحدود.

ومن هنا يمكن القول إنه في الوقت الذي لاحظ الإسلام مصلحة المجتمع عندما حدذد عقوبات مقدّرة لجرائم زاجرة قاسية، فإن تدخّل العقيدة من ناحية، وفتح الباب للقاضي فى كل جرائم التعزير، وهي أغلبية – يوضّح أن الإسلام أراد الجمع، بحيث لا تنفرد وجهة نظر واحدة فى تقرير العقوبة. وأنه لاحظ حالة الجاني عندما ترك للقاضي حرية تحديد العقوبات فى الجرائم الأخرى (غير المقدّرة) وهي أغلبية الجرائم.

فإذا أضفنا إلى هذا أن العقوبة سواء كانت حدّية أو تعزيرية فإنها توقع على شخص الجاني ولا تشرك أحداً آخر تطبيقاً للمبدأ القرآنى الأصولي ]وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[، لوجدنا أن الإسلام لاحظ مبدأ تفريد العقوبة أكثر مما يتصوّر معظم الذين كتبوا عن هذا الموضوع وقبل أن تعرفه الدولة الحديثة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق