الخميس، ٢٠ أغسطس ٢٠٠٩

الحجاب كميراث تاريخى

تتملك الإنسان الدهشة، بل الذهول، عندما يستعيد التاريخ الاجتماعى للبشرية وموقفه من المرأة، وما نصت عليه القوانين والدساتير والنظم التى حكمت البشرية من أقدم العصور، لأنه يرى قلعة ممردة، بدأت مع بداية التاريخ، وزادها كل نظام، فى الشرق، والغرب، دروعاً وسدوداً وأسواراً... وكلها تستهدف الهيمنة على المرأة بمختلف التعلات. وليس الإنسان بمحتاج لأن يأخذ بنظرية "المؤامرة فى التاريخ" لأنه يرى تحت باصريه مؤامرة بالفعل، إن فقدت شكلها التآمرى، فإن مضمونها التأمرى هو كأشد ما تعرضه المؤامرات. فكلها على اختلاف أزمنتها وأمكنتها أرادت تدمير إرادة المرأة وإذلالها واستلحاقها بمختلف الطرق. وعندئذ يتفهم الإنسان الصعوبات والعراقيل والحواجز والموانع التى وقفت فى سبيل دعاة تحرير المرأة وعوقت مسيرتها، وكانت أداة هذه المؤامرة الحجاب الذى كان يغطى الوجه، ويحجب المرأة عن المجتمع، ولهذا ظلت منبتة عن المجتمع ألوف السنين.

ولن يكون المرء مغاليا إذا قال إن أقدم الحروب هى الحرب التى قامت بين الرجال والنساء وأنها سبقت "صراع الطبقات" والحروب الدينية ولكن لما كان الطرفان فى بيت واحد، ويربط بينهما أبناء فلم تأخذ شكل الجيوش أو التكتلات. وإنما تمثلت فى سن القوانين واللوائح ووضع التقاليد التى ترسخ استعباد المرأة وجعلها دائماً فى وضع التبعية أو الأسيرة أو "العوان" كما أطلق عليها العرب.

وما الذى أدى هذا هذا، أهى عداوة مغروسة من الرجل للمرأة ؟ والمرأة بعد هى التى حملت الرجل وأرضعته على صدرها وتفانت فى رعايته حتى شب ولولا هذه الرعاية لما ظل بقيد الحياة ولمات قبل أن يفطم!

كلا، ليست القضية عداوة من الرجال للنساء.. إنها أعقد من هذا وفى نظرنا أنها تعود إلى عدد من الأمور:

الأول: أن الاعتراف بكرامة الإنسان الذكر لم يأت سهلاً أو صفوا وتطلب كفاح ثلاثة أو أربعة قرون قبل أن يظفر الرجل به. وكان على المرأة أن تكافح كالرجل لتكتسب الاعتراف بصفتها الإنسانية شأنها فى هذا شأن الرجل سواءً بسواء.. وقد أشرنا إلى هذه النقطة فى مستهل حديثنا فى الفصل الأول من هذا الكتاب...

والثانى: أن مطلب المرأة الاعتراف بها كإنسان، ارتفق عليه واقترن به صفتها كأنثى فعّوق سيره.. وحاف عليه..

والثالث: ما طبعت عليه النفس الإنسانية من استسهال الظلم إذا قدرت عليه "من يطيق التماس شىء غلاباً واغتصاباً لم يلتمسه سؤالاً.." كما قال المتنبى. وهذا الظلم الذى هو من شيم النفوس يغرى كل قوى بالهيمنة على كل ضعيف وإخضاعه لإرادته وهو أمر مشهود منذ أن قتل قابيل هابيل.. ومنذ أن استولت الدول القوية على الدول الضعيفة منذ بدء التاريخ وكان العالم الوحشى القديم، يقوم على قوة العضل واستمرارية العمل، وقد أراد الله تعالى للمرأة أن تكون أقل قوة وعنفا، وأن يشغلها الحمل والرضاعة عن مواصلة العمل فكانت كجنس أضعف من الرجل، ولهذا كان موقف كل النظم منها واحداً، موقف الاستبداد والاستغلال، ولم تستطع الأديان أن تغير فى هذه الوقائع، رغم سمو تعاليمها، وأنها ضد هذا الاستغلال، لأن رجال الدين – كانوا رجالاً – قبل أن يكونوا دعاة، فعطلوا توجيهات الأديان السامية ضد الظلم والاستبداد واستغلوا أيضاً أوضاعهم لتشديد القبضة على المرأة، بحيث تكون محكومة باسم الله وباسم السلطان معا.

ففى الصين كانت القاعدة "ليس فى العالم كله شىء أقل قيمة من المرأة" و "النساء آخر مكان فى الجنس البشرى ويجب أن يكون من نصيبهن أحقر الأعمال.[4]

وفى الهند حدد قانون (مانو) وضع المرأة فى عدة نصوص نكتفى منها الآتى :

1. المادة 147 ونصها لا يحق للمرأة فى أى مرحلة من مراحل حياتها أن تجرى أى أمر وفق مشيئتها ورغبتها، حتى ولو كان ذلك الأمر من الأمور الداخلية لمنزلها" .

2. المادة 148 ونصها "المرأة فى مراحل طفولتها تتبع والدها، وفى مراحل شبابها تتبع زوجها فإذا مات تنتقل الولاية إلى أبنائه أو رجال عشيرته الأقربين فإن لم يكن له أقرباء، تنتقل الولاية إلى عمومتها فإذا لم يوجد لها أعمام تنتقل إلى الحاكم" .

والسبب فى ذلك قد أشار إليه قانون مانو الذى زعم "أن مانو عندما خلق النساء فرض عليهن حب الفراش والشهوات الدنسة والتجرد من الشرف وسوء السلوك فالنساء دنسات وهذه قاعدة ثابتة".

وقد ظلت عادات الهند حتى القرن السابع عشر هى حرق الزوجة إذا مات زوجها لتصبح رماداً مع جثته التى تقضى شرائعهم بحرقها.[5]

وطبقا لقانون حمورابى[6] (حوالى 1752 ق م) كانت الفترة الزمنية التى يمكن للرجل فيها رهن زوجته أو أطفاله لا تتعدى الثلاث سنوات، وحرم القانون ضرب أو قهر هؤلاء الزوجات والأطفال من رهائن الديون، وسمح القانون الآشورى (حوالى 1200 ق. م) بضرب رهائن الديون من الزوجات والأطفال، وخرم آذانهم وشدهم من شعرهم. كما سمح القانون الآشورى للزوج بمعاقبة زوجته بأن "يشد (شعر) زوجته، ويشوه (أو) يلوى أذنيها، دون أن يقع عليه أى جرم". وإذا عدنا ثانية إلى قانون حمورابى فنجد أنه كان يحق للرجال أن يطلقوا زوجاتهم ببساطة وخاصة فى حالة عدم إنجابهن الأطفال، إلا أنه كان مطلوباً من الرجال دفع غرامات "نفقه الطلاق" كما كان عليهم إعادة أموال وممتلكات الزوجة إليها. فى حين يبدو أن القانون الآشورى ترك للرجل فيما بعد حق تقرير ما إذا كان لزوجته أن تحصل على أى شىء بعد الطلاق: "إذا رغب سيد فى تطليق زوجته بمحض إرادته، فيمكنه أن يمنحها شيئاً، أما إذا كان ذلك بغير إرادته فلا يجب عليه أن يمنحها شيئاً، ولتخرج هى خالية الوفاض."[7]

"وعلى أى حال، وعلى مدى عصر الدول – المدن المتتابعة، كانت السلطة والهيمنة تقتصر على الزوج والأب الذى كانت الزوجة والأطفال يدينون له بالطاعة المطلقة. ويرد فى نص ينتمى إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد أنه يحل استخدام الطوب المحروق فى تكسير أسنان المرأة التى تعارض زوجها، كما يذكر قانون حمورابى أنه يجب قطع يد الابن الذى يضرب أباه. وقد كان يحق لرب الأسرة ترتيب الزيجات لأبنائه وأن يهب ابنته للآلهة حيث تصبح كاهنة تعيش فى المعبد مع غيرها من الكاهنات. وكما سبق القول، فقد كان يتمتع بحق رهن أو بيع زوجته أو أطفاله تسديداً لديونه، وفى حالة عجزة عن تسديد دينه كانوا يتحولون إلى عبيد الدّين."

"وقد وردت القواعد الخاصة بحجاب النساء مفصلة فى القانون الآشورى، من حيث تحديد النساء المفروض عليهن الحجاب ومن لا يحق لهن الحجاب. فكان الحجاب فرضاً على زوجات وبنات كل "سيد"، وكذلك بالنسبة للجاريات المرافقات لسيداتهن، كما كان الحجاب مفروضاً على "الغوانى المقدسات" بعد زواجهن، أما العاهرات والإماء فقد كان الحجاب محرماً عليهن، والمرأة التى كان يتم القبض عليها وهى مرتدية الحجاب بدون حق فكانت تخضع للعقاب بالجلد وصب القار على رأسها وقطع أذنيها. (القوانين 183)، وتقدم جيردا ليرنر تحليلاً مفصلاً لهذه القوانين فى دراستها التى ندين لها بما قدمته من رؤية توضح أن الحجاب لم يكن يستخدم فقط لتميز الطبقات العليا، وإنما كانت وظيفته الأساسية هى التفرقة ما بين النساء "المحترمات" والنساء المتاحات للعامة. أى استخدام الحجاب كان يلعب دوراً فى تصنيف النساء تبعاً لنشاطهن الجنسى، فكان ارتداؤه مؤشراً للرجال من حيث تمييز النساء الواقعات تحت الحماية الذكورية عن غيرهن من المتاحات مشاعاً.

وعندما تدهورت المجتمعات الآشورية والبابلية وظهرت فارس حضارتها الساسانية، كانت الإضافة التى أضافتها ظهور "الحريم" الذى ألحق بحاشية الحاكم وأفرد له جناح خاص، فانتشر الحجاب وخاصته عزل النساء على مدى المنطقة بأكملها ليأخذ شكل الممارسة الاجتماعية العامة.

وكانت الديانة الزرادتشتية تطالب المرأة بالطاعة التامة لزوجها، فكان على الزوجة أن تعلن ذلك قائلة "لن أتوقف أبداً مدى حياتى عن طاعة زوجى"، وكانت مهددة بالطلاق إن لم تحقق ذلك. كما كانت الزوجة مطالبة "عند استيقاظها صباح كل يوم... أن تقف أمام زوجها وتنحنى له تسع مرات... مادة ذراعها... تحيه له، مثلما يفعل الرجال فى صلاتهم إلى أوهرمازد Ohrmazd". وقد كان إنجاب الوريث الذكر فريضة دينية، كما كانت كافة الزيجات التى يتم الاتفاق عليها تعكس أهمية إنجاب الرجال لورثة من الذكور، وحتى إن لم يتخذ ذلك صورته من خلال الابن فإنه كان يتم بشكل غير مباشر عن طريق تزويج البنات وغيرهن من الإناث فى العائلة. وفى حالة الرجل الذى لم ينجب أى أبناء من الذكور، كان يتم تزويج ابنته على أن ينسب أبناؤها من الذكور إلى والدها هى أو إلى عائلتها الأبوية فى حالة وفاة والدها. وقد كانت الزوجة فى مثل هذه الحالات تنال حقوقاً أقل من الزواج "البتاخاشاى" Patahashae الذى ينتمى فيه الأبناء إلى زوجها لا والدها. وهو ما يشابه وضع الأرملة ممن لم تنجب أى أبناء (بما فى ذلك هؤلاء اللاتى تم الاتفاق على تزويجهن منذ الطفولة ومات أزواجهن قبل إتمام الزواج) حيث كان يتم تزويجها ثانية على أن ينسب أبناؤها إلى عائلة زوجها المتوفى، وكانت مثل هذه الزوجة محرومة من حقوق الزوجة "البتاخاشاى" التى كانت الوحيدة التى تتمتع بمكانة سيدة البيت. كما كان من المباح للرجل أن يعير زوجته لرجل آخر دون موافقتها، على أن يتم تحديد شروط تلك الاستعارة فى عقد بين الرجلين، وهى ممارسة كان المجتمع يحبذها بالنسبة للأرمل الذى لا يملك ما يكفى متطلبات الزواج بينما يظل فى حاجة للمرأة كأداة لإشباع حاجاته الجنسية ولتربية أبنائه. وكان الأبناء والبنات دائما ملكاً للزوج طبقاً لاعتقادهم أن "المرأة هى الحقل... كل ما ينمو فيه يكون ملكاً لصاحبه حتى إن لم يقم هو بزراعته". وتشير بعض عناصر هذه القواعد الزراشتية إلى أن المرأة كانت تحتل موقعاً ما بين الإنسان والمتاع، وهو ما يستدل عليه من إمكانية إعارة الزوجة لتؤدى خدمات جنسية وغيرها للآخرين بصورة مشروعة.[8]

واعتبرت الديانات الفارسية والزرادشنية والمزدكية المرأة كائناً غير مقدس، عليها أن تربط عصابة على فمها وأنفها كيلاً تدنس أنفاسها النار المقدسة، ثم تحولت عصابة الأنف والفم فى المجتمعات الفارسية إلى جلباب تلبسه المرأة من رأسها إلى قدميها، ولكنه كان خاصاً بالحرائر ونساء علية القوم ولا يجوز للإماء ونساء العوام ارتداءه.[9]

وفى أثينا فى العصر القديم (500 – 323 ق. م) يتم عادة عزل النساء لكى لا يراهُنَّ الرجال من غير أقربائهن المقربين. وكان الخطيب العام يجزم بأن بعض النساء كن على درجة من الاحتشام تبعدهن عن أنظار الرجال من أقربائهن، وكان اقتحام الرجل الغريب حرمة المرأة الحرة فى بيت رجل آخر يبلغ مرتبة الفعل الإجرامى. "كان لكل من الرجال والنساء حياة منفصلة، حيث يقضى الرجال معظم أوقاتهم فى الأماكن العامة كالسوق وحلبات الرياضة بينما تظل النساء "المحترمات" فى البيت. وعلى النساء الالتزام بحدود حجراتهن وسكنهن وإدارة شئون بيوتهن ورعاية الأطفال الصغار ومتابعة الخدم والإشراف على أعمال النسيج وإعداد الطعام. وعلى مستوى البناء العمرانى كان يتم عزل الجنسين فى أقسام منفصلة للسكن، بحيث تقيم النساء فى حجرات تقع بعيداً عن الشارع وعن الأجواء العامة من البيت. وكانت ملابسهن تخفيهن عن أنظار الرجال الأغراب، حيث كن يرتدين شالا يمكنهن رفعه فوق رءوسهن كغطاء للرأس. وكانت صفات الفتيات مثار الإعجاب هى الصمت والاستكانة. وكان الخطباء يثنون على النساء ممن يتصفن بالسكوت والاحتجاب كما كانوا يتجنبون الإجهار بأسماء النساء "المحترمات" ممن هن على قيد الحياة. وقد كان وأد البنات يمارس فى بعض الحالات.

وكان كثير من الإغريق يحبسون نساءهم فى "الجيتايكونيتس" أو الحريم فى غرفة موصدة الباب محكمة الحراسة يقف على مدخلها كلب ضخم شرس وإذا اضطرت إلى الخروج وجب أن يكون فى صحبتها رجل مسن من السرة أهل للثقة بل أن يوربيديس (الذى يعد نصيراً للمرأة) كان ينصح بتجنيب السماح لزوجاتهم باستقبال نساء أخريات فى بيوتهن لأن "بين النساء معلمات لتلقين كل سوء وشر". وفى إسبرطة لم يكن من غير المألوف – كما ذكر بلوتاخ – أن يحول الزوج حقوقه الزوجية لرجل أقوى منه فحوله – يستطيع أن ينجب أطفالاً يمتازون بالجمال والقوة دون أن يؤثر هذا على الزواج (وهو نوع من الزواج ذكرته السيدة عائشة من أنماط الزواج التى كانت معروفة فى الجاهلية).

وكان الغرض من الزواج ووظيفة النساء طبقاً لأرسطوطاليس تتمثل فى إنجاب الورثة، وكانت "الوريثة" طبقاً للقانون الأثينى مطالبة بالزواج من أقرب أقربائها من جهة الأب، حتى إذا كانت متزوجة بالفعل، وذلك لتنجب وريثاً لبيت أو عائلة والدها. وكان القانون الأثينى يعتبر الزوجة "طفلة حقيقية" وضعها القانون يماثل وضع أى من أقرباء زوجها القصر. وكان الولد يبلغ سن الرشد ببلوغه الثامنة عشر من عمره، أما الفتاة فلم يكن يتم الاعتراف ببلوغها سن الرشد أبداً. فلم يكن يحق لهن بيع الأراضى أو شرائها، وإنما كان بوسعهن الحصول على الأملاك بطريق الهبة أو الوراثة مع قيام الأوصياء من الذكور بإدارة شئون تلك الأملاك. ولم يكن بوسعهن الذهاب إلى السوق طلباً للطعام لسيادة الاعتقاد فى أن "البيع والمقايضة هى عمليات مالية أعقد من أن تتمكن النساء من التعامل معها" وكذلك بسبب "الرغبة فى حماية النساء من أعين الأغراب".

"وقد قامت نظريات أرسطوطاليس بتصوير المرأة لا على أنها مجرد تابعة كضرورة اجتماعية وإنما بوصفها أدنى فطرياً وبيولوجياً من حيث قدرتها العقلية والبدنية، ومن هنا تصبح فى وضع الخضوع والخنوع "بطبيعتها". وقد شبه حكم الرجل على المرأة بحكم "الروح على الجسد، والعقل والعقلانية على العاطفة". وقد قال أن الذكر "بطبعه أعلى مرتبة والمرأة أدنى مكانة، وأحدهما هو الحاكم والآخر هو المحكوم". فطبيعة الرجل هى "الأكمل والأكثر اكتمالاً" أما المرأة فهى الأكثر حناناً ولكنها هى أيضاً "الأكثر غيرة، والأكثر ضجراً، والأكثر ميلاً إلى التأنيب والضرب... هى الأكثر افتقاداً إلى الحياء واحترام الذات، الأكثر كذباً وخديعة" وقد تمت موازاة هذه الاختلافات الخلقية والعقلية بالخلافات البيولوجية، ومن هنا كان أرسطو يرى الجسد الأنثوى ناقصاً ومعيباً، كما لو كانت المرأة "رجلاً عاجزاً، فالأنثى هى أنثى لوجود عجز ما فى قدرتها". وكان إسهام الأنثى فى عملية حمل الجنين ينظر إليها نظرة أقل من الرجل، فالذكر يساهم بروحه وبشكل إفرازات المرأة التى لا تقدم شيئاً سوى الكتلة المادية. وقد كان تأثير أرسطو واسع الانتشار وشديد المفعول، فقد عملت نظرياته على تجميع وتنظيم القيم والممارسات الاجتماعية الخاصة بمجتمعه. وقد تم تقديمها على أنها ملاحظات علمية موضوعية وتقبلتها الحضارتان العربية والأوربية (أو فلنقل الشخصيات البارزة فى هاتين الحضارتين) على أنها تعبير عن ضروب من الحقائق العلمية والفلسفية."[10]

وكان وأد البنات معروفاً لدى اليونان والرومان، وكان التخلص من البنات (عن طريق تركهن للموت فى الخلاء) معروفاً لدى الرومان بل ويقره القانون بصورة غير مباشرة: حيث كان القانون يوجب على الأباء تربية كل أبنائهم من الذكور مع الاكتفاء بابنه واحدة فقط. ونظراً لشيوع وأد البنات فى طبقة الأرستقراطية الرومانية فيتضح أنه لم يكن مرتبطاً بالفقر.

f

وفى تاريخ المرأة شرعتان بارزتان كان لهما تأثير كبير حكماً وضع المرأة عندما ظهرا، ثم انسحبت أثارهما وألقت بظلال كثيفة على العصور الحديثة.

هما الشرعة الرومانية والشرعة اليهودية ..

ففى روما كانت سلطة الأب مطلقة على أولاده وأولاد أولاده وزوجته.

ويذكر الدكتور محمد عبد المنعم بدر فى كتابه عن القانون الرومانى "إذا بلغ الصبى سن البلوغ الطبيعى (14 سنة) تحرر من الوصاية بخلاف الأنثى فهى تستمر خاضعة لنظام الوصاية مدة حياتها. وليس نظام الوصاية على النساء خاصاً بالقانون الرومانى بل نجده فى نعظم الشرائع القديمة ولكن مما أمتاز به القانون الرومانى عن الشرائع الأخرى هو أنه فى الوقت الذى يقرر فيه عدم أهلية المرأة لاستعمالها حقوقها فإنه يقرر مساواتها بالرجل فى الإرث.

والوصاية على النساء نتيجة من نتائج نظام العائلة الرومانية القائمة على السلطة الأبوية فهى مقررة بمقتضى القانون والعرف لأقارب المرأة من الذكور لمصلحة العائلة بقصد المحافظة على أموال الأسرة داخل العائلة وعدم تسربها وضياعها بسبب ضعف المرأة وقلة خبرتها. فقد خشى الرومان فى العصر القديم أن تسئ المرأة التصرف فى الأموال التى آلت إليها من العائلة أو أن تنقل هذه الأموال إلى عائلة أخرى بزواجها إلى أحد أفراد أسرة أخرى فهى كالوصاية على الصبى فى القديم تقررت للمحافظة على أموال الأسرة لا لحماية مصالح الموصى عليه نفسه فهى فى الأصل سلطة أو سيطرة كما يسميها وهى تشمل جميع النساء حكمتها منذ أواخر الجمهورية وصار من الصعب تبرير مشروعيتها فشيشرون يعللها بضعف المرأة وقصورها العقلى وليس كما فى القديم بضعفها الجسمانى ويفسر جايوس عدم أهلية المرأة بضعف خلقها ولو أنه لا يرى فى ذلك سباً كافياً لتبرير إخضاعها للوصاية الدائمة.

ويستطرد الدكتور محمد عبد المنعم بدر فيقول عن الوصاية الشرعية "هذه تكون للأقرب فالأقرب من الأعصاب[11] ثم لأعضاء العشيرة عند عدم وجود أحد من الأعصاب" فالبنت عند موت أبيها تخضع لوصاية إخوتها أو أعمامها. وتخضع الزوجة تحت السيادة عند موت زوجها لوصاية أولادها الذكور أو أخوة زوجها أو أعمامه وتكون للمعتق على معتوقته أما البنت المحررة فتخضع لوصاية من تحررت من سلطته سواء كان أبيها الطبيعى أو شخصاً أجنبياً على حسب الأحوال.[12]

وكانت المرأة فى بعض البلدان الإيطالية تعد خادمة فى المنزل وعليها أن تجلس على الأرض بينما يجلس الرجل على المقاعد وخارج البيت إذا ركب زوجها الحصان فلابد أن تسير على قدميها خلفه مهما كان بعد المسافة.

وقد حصر الفقيه Ulpion التصرفات التى لا يجوز للمرأة مباشرتها بدون إجازة وصيها فيما يأتى:

رفع الدعاوى أو مباشرة التصرفات التى تصاغ فى صورة دعوى كنقل الملكية بطرق الدعوى الصورية وكالتحرير بدعوى استرداد الحرية الصورية.

عقد الديون.

مباشرة تصرف من تصرفات القانون المدنى القديم تركة أو تقرير دوطة أو التنازل عن دين بطريق رسمى.

نقل ملكية الأموال النفيسة.

فمن دراسة التصرفات المذكورة نجد بأنها شاملة لجميع التصرفات القانونية للعهد القديم الأمر الذى يرجح الاعتقاد بأن المرأة كانت عديمة الأهلية فى القانون القديم.

الزواج بالشراء.

"كانت المرأة تدخل فى سلطة الرجل قديما بصيغة من ثلاث: الأولى المعاشرة، والثانية البيعة، والثالثة الزواج الدينى. أما المعاشرة فهى أن تمكث المرأة عاماً كاملاً من دون انقطاع فى منزل زوجها كالملكية التى تتم بحيازة عام، وكذلك تدخل المرأة فى أسرة زوجها، ويبين قانون الاثنتى عشر لوحة أن المرأة التى لا تحب أن تدخل فى سلطان رجلها بهذه الطريقة عليها أن تتغيب ثلاث ليال عن منزل زوجها خلال ذلك العام فتقطع بذلك المعاشرة وقد عفى ذلك الحق فمحت بعضه القوانين وسقط بعضه من عدم الاستعمال أما الزواج الدينى فيتم بقربان يقرب لجوبيتر وهو قربان من خبز من قمح خاص ولذلك سمى باسم ذلك الخبز ثم تتلى صيغ رسمية معينة يحضرها عشرة شهود وهذا الحق ما يزال قائماً فى زماننا أى فى القرن الثانى بعد المسيح فالسدنة الأعلون وملوك الطقوس لا ينتخبون إلا ممن ولدوا من زواج دينى أما البيعة فإنها تدخل المرأة فى سلطان الرجل بوضع اليد أى بشىء كأنه البيع فهو يتم بحضور خمسة شهود رومانيين بالغين راشدين وميزان ووزان ثم يشترى الرجل المرأة فتدخل فى سلطته."[13]

وهذا تصوير آخر لنظام الزواج بالشراء "كان هذا النظام يستلزم حضور أشخاص معينين هما العروسان وخمسة شهود رومانيين بالغين من الذكور يمثلون طبقات الشعب الخمس – كما قسمها الملك سرفيوس توليوس – وحامل الميزان والولى أو القيم على المرأة الذى تشترط موافقته بعد رضائها.. وكذلك يستلزم وجود أشياء معينة كميزان من البرونز وسبيكة من البرونز ترمز لثمن الشراء.. ثم يقول الرجل بعض عبارات معينة دون المرأة.. "أقرر أن هذه المرأة مملوكة لى طبقاً للقانون الرومانى وقد اكتسبها عن طريق هذه السبيكة البرونزية وهذا الميزان "ثم يؤدى حركات مرسومة بأن يضرب الميزان بقطعة البرونز ثم يسلمها إلى والد الزوجة أو القيم عليها.[14]

ولما كانت الحضارة الرومانية أكبر مصادر الحضارات الأوربية، فإن هذه الأخيرة تأثرت بها، وسنجد هذا التأثير فى قانون نابليون..

والشرعة الثانية هى الشرعة اليهودية التى نسبت إلى حواء مسئولية إغواء آدم. الذى أدى إلى خروجه من الجنة، وأن الله تعالى أوقع عليها اللعنة. وكذلك خلق المرأة من ضلع آدم وما يوجبه هذا من تبعية المرأة للرجل. فضلاً عن "عوجها" الموروث من الضلع. ثم تضمنت اليهودية بدءاً من الوصايا العشر حتى شروح الأحبار توجيهات عديدة تجعل المرأة تبيعة للرجل وتقنن سلطان رب الأسرة.[15]

كانت الوصية الخامسة من الوصايا العشر التى أنزلت على موسى، وهى الخاصة بالأسرة تعطى الأب على أفراد أسرته سلطاناً لا يكاد يُحَدّ، فكانت الأرض ملكا له، ولم يكن فى وسع أبنائه أن يبقوا على قيد الحياة إلا إذا أطاعوا أمره، فقد كان هو الدولة وكان فى وسعه إن كان فقيراً أن يبيع ابنته قبل أن تبلغ الحلم لتكون جارية، كما كان له الحق المطلق فى أن يزوجها من يشاء، وإن كان فى بعض الأحيان ينزل عن بعض حقه فيطلب إليها أن ترضى بهذا الزواج.

وكان فى وسع الرجل أن يطلق زوجته إذا عصت أوامر الشريعة اليهودية بأن سارت أمام الناس عارية الرأس أو تحدثت إلى مختلف أصناف الناس.[16]

"وتعترف المشنا للرجل – دون المرأة – بالحق أن يبيع ابنته القاصرة أمة، كما تسمح للرجل – دون المرأة – بأن يزوج ابنته لمن يشاء. وترد الجمره هذه الأحكام إلى سفر الخروج، وسفر التثنية باعتبارها من المسلمات. على أى حال يستطيع الأب تزويج ابنته غير البالغة، ويعتبر الزواج صحيحاً فى نظر الشريعة التلمودية ولازما بالنسبة إلى الصبية رضيت به أم لم ترض. بيد أنها تسترد حريتها إذا طلقها زوجها، وتفترض نصوص التلمود أن الرجل يتزوج مثنى وثلاث ورباع، جاء ذلك بصدد تنظيم حقوق الزوجات الأربع فى مؤخر الصداق فتفضل الأولى على الثانية، والثانية على الثالثة، وهذه الرابعة فإذا أبرمت عقودهن جميعاً فى يوم واحد تزاحمن على التركة قسمة غرماء.

"يقصر التلمود إذن الزواج على أربع. وقد أصدر أحد العلماء فتوى صريحة فى هذا المعنى، وذهب حاخام ثان على عدم وجود حدود، واتجه عالم ثالث إلى إلزام الرجل بطلاق الزوجة الأولى بناء على طلبها، فى حالة زواجه بامرأة أخرى."

"وكانت رابطة الزوجية رخوة يمكن فصمها فى أى وقت، تنشا بلا مراسم ولا مقدمات، وتنقضى بلا مراسم ولا مقدمات. فالطلاق بيد الرجل يخضع لمطلق مشيئته، هو القاضى الأعلى الذى لا راد لعدالته، يحدد مصير "بيته" بكلمة تصدر من فمه. أما المرأة فجزء من هذا "البيت"، اشتراها الرجل بماله وأضافها إلى ثروته وأمست فى مستوى "العبد والأمة والثور والحمار والأشياء الأخرى" فهى كالسلعة لا تستطيع الخلاص من حائزها.[17]

"وإذا اشتبه الرجل فى خيانة امرأته ولم يستطع التأكد من مسلكها تعرضت لتجربة التعذيب بالماء المر. تذهب الزوجة إلى المعبد، ويأخذ الكاهن ماء مقدسا فى إناء من خزف ويمزجه بقليل من تراب المعبد، ويكتب على ورقة لعنة بالحبر. "ويستحلف الكاهن المرأة ويقول لها إن لم يضطجع معك رجل وإن كنت لم تزيغى إلى نجاسة من تحت رجلك فكونى بريئة من ماء اللعنة هذا المر. ولكن إن كنت قد زغت من تحت رجلك وتنجست ودخل معك رجل غير رجلك مضجعه. يجعلك الرب لعنة وحلفا بين شعبك. ويدخل ماء اللعنة هذا فى أحشائك لورم البطن ولإسقاط الفخذ". ثم يذيب الكاهن مداد اللعنة فى الماء المقدس المخلوط بتراب المعبد ويقدم الكأس المرة إلى المرأة المشتبه فى زناها، فإذا لم تتورم بطنها ولم يسقط فخذها اعتبرت بريئة".[18]

وعززت اليهودية فكرة الحجاب إلى درجة أن نساء بعض الطوائف يلتزمن به حتى وهن فى المطبخ فى بيوتهن تطبيقاً لما جاء فى العهد القديم "لهذا ينبغى أن يكون للمرأة سلطان على رأسها من أجل الملائكة" سفر كورنثوس الإصحاح 11/10 العهد القديم .

وكان من مقتضى تبعية الزوجة لزوجها أن تقول – كما قالت روث لزوجها "بلادك بلادى وإلهك إلهى."

ونقلت عنها المسيحية هذا التقليد فيما نقلته، وإن تخلصت منه فما بعد ولم يبق له إلا وجود رمزى عندما تدخل العروس الكنيسة لعقد القران إذ تسدل على وجهها قطعة من الحرير أو الدانتيل الهفهاف يتولى العريس رفعها عندما يقفا أمام الكاهن ..

وليس من الغريب أن تتأثر المسيحية بالفكر اليهودى فإنها نشأت فى مهادها، وكسبت أعوانها الأولين منهم وحتى بعد أن أخذت طابعها الأوربى، فقد ظل العهد القديم شديد التأثير على المثقفين الأوربيين، وطبع بطابعه الفنون والآداب والقيم والنظم الاجتماعية وإذا كان المفسرون الإسلاميون للقرآن وبعض الفقهاء قد تأثروا بما جاء فى التوراة. فلا عجب أن يتأثر بها أباء الكنيسة لقرب العهد والمكان.. وأضافت إليها تلك الحساسية الجنسية المنبعثة من ارتباط الجنس بالخطيئة، وأنها سبب الغواية الجنسية ومصدر الشر والفساد، فيذكر أوجستين مثلاً حين يتأمل سر خلق الله للمرأة أنها لم تخلق لتكون عوناً للرجل، لأن الرجل أقدر على تقديم العون للرجل، فيخلص أوجستين قائلاً: "لقد فشلت فى التوصل إلى فائدة المرأة للرجل... إذا استثنينا وظيفة إنجاب الأطفال". كما يذكر أن المرأة هى مصدر الغواية الجنسية. وقد عبر ترتليان عن وجهة نظر أكثر تحيزاً ضد المرأة حين قال: "إنك أنت باب الشيطان. أنت هاتكة الشجرة المحرمة. أنت التى أقنعت ذلك الذى لم يجرؤ الشيطان على مهاجمته. أنت التى دمرت بمنتهى البساطة الرجل – صورة الإله. وبسبب جزائك أنت أى الموت، كان على ابن الله أن يموت."[19]

وجاء فى كتاب "حقوق المرأة بين المواثيق والإسلام السياسى" عن أثر المسيحية على المرأة: أما ظهور المسيحية فلم يحمل معه أى تغيير لوضعية المرأة. فقد كان لآباء الكنيسة الأوائل أفكار تحط من قدر المرأة، حيث كانوا يصفونها بأنها "شر لابد منه"، وإغراء طبيعى، وكارثة مرغوب فيها، وخطر مقيم، وسحر قاتل، مرض جذاب". وكان من ضمن وصاياهم لها أن تطيع زوجها كما تطيع ربها لأن طريق خضوع المرأة لربها هو خضوعها لزوجها، وللزوج أن يؤدب زوجته، حتى عن طريق الضرب بالعصا، كآخر الدواء، والذى يجب أن تعتبره المرأة علامة حقيقية لحب زوجها لها، وأن تقبله بعرفان شديد وحتى إنكار فردية الرقيق وشخصيته المستقلة عن سيده، والتى فلسفها أرسطو فى نظريته القائلة بأن الرقيق إنما هو "تجسيد لإرادة سيده" أو "امتداد طبيعى لقواه الجسمانية" تجد مقابلها فى الفلسفة المسيحية التى تقول "إن الزوج والزوجة كلُ واحد وهذا الكل هو الزوج" فكأن الوحدة بين الزوجين لا تتحقق إلا بإذابة الزوجة فى الزوج.

أما مساهمة المسيحية الكبرى فى اضطهاد المرأة فهى فكرة الخطيئة الأولى التى ابتدعها القديس أوغستين والتى يحمّل فيها المرأة مسئولية إدخال الخطيئة فى الأرض وإيقاع الرجل فيها. فبالنسبة له إن هناك حلفا طبيعياً بين المرأة والشيطان، يجعل للمرأة استعداداً فطريا للشر والإغواء. ويرتبط بمبدأ الخطيئة الأولى فكرة دونية المرأة ونقصانها، وفكرة أن الله خلق حواء من ضلع آدم، ولأجله. وبحسب قول القديس بول أريدك أن تعلم أن على رأس كل امرأة رجل، وعلى كل رأس رجل المسيح وعلى رأس المسيح الله. فخضوع المرأة للرجل جزء من الترتيب الإلهى للكون والذى يجلس على قمته الله وعلى قاعدته المرأة. فالمرأة فى نظر القديس تومـاس الأكـوينـي Thomas d’Aquin أى مجرد ذكر فاسد النمو، وكائن ناقص ومشوه ومختل.

على ضوء هذه المبادئ جاءت القوانين الكنسية لتأسس التفرقة، ولتحرم المرأة من حقوق كثيرة. فضمن إجراءات الزواج، تطلب الكنيسة من المرأة أن تتنازل عن أسمها، وممتلكاتها وشخصها، وفرديتها وأن تنمحق فى رجلها تماماً، وأن تطيعه فى كل شىء كل الوقت، وأن من حقه أن يؤدبها. وليس من شىء يفعله الرجل فى امرأته يمكن أن يبرر عصيانها له، أو تركها بيته دون موافقته، وإن فعلت فهو يملك سلطة إرجاعها. والزوجة التى تترك بيت زوجها تعتبر فى مقام الخارج على القانون، وتدمغ بالهاربة التى هجرت فراش سيدها، كل من يؤويها يحاكم بتهمة استلام المال المسروق.

ولقد استمرت معظم هذه القوانين فى سائر الدول الأوربية، منذ القرون الأولى للكنيسة مروراً بالقرون الوسطى وحتى القرن العشرين. وقد ظلت فلسفة أرسطو بشأن المرأة تشكل رؤية الثقافة الغربية وتتحكم فى الوجدان الغربى لقرون عديدة، لا يستثنى من ذلك حتى فلاسفة عهد التنوير فى القرن الثامن عشر. فجان جاك روسو لم يخرج من عباءة أرسطو بشأن موقفه من المرأة، ولم يكن يرى العلاقة بين الجنسين إلا علاقة السيد بالعبد. يقول روسو وهو يكاد يعيد كلمات أرسطو: "إن على الرجل أن يكون قويا ومبادراً، وعلى المرأة أن تكون ضعيفة وسلبية الرجل يجب أن يملك القوة والإرادة ويكفى المرأة قدراً قليلاً من المقاومة.. عندما نعترف بهذا المبدأ، سيتبع ذلك أن نعلم أن المرأة قد خلقت من أجل إبهاج الرجل.. ولذلك فإن تعليم المرأة يجب أن يكون ذا علاقة بالرجل.. أى لجعلهن قادرات على إسعادنا.. على أن يكن مفيدات لنا.. ليجعلننا نحبهن ونعزهن.. ليربيننا صغاراً.. وليعتنين بنا كباراً.. لينصحننا.. ويجعلن حياتنا سهلة ومتوافقة.. هذه واجبات المرأة فى جميع الأوقات، وهذا ما يجب أن يعلمن منذ طفولتهن."

ومن ضمن ما استمر حتى العهود الحديثة مثلا حرمان المرأة من الحق فى الشهادة ومن الحق فى الميراث. فالميراث وفق القانون الإكليركى يجب أن يذهب "لأنبل الدماء، التى لا يمكن أن تكون دماء امرأة". ولقد استمر هذا القانون حتى العصر الحديث حيث تم إلغاءه من إحدى الكانتونات السويسرية فى أواخر القرن التاسع عشر. أما حرمانها من التصويت فقد استمر حتى أواخر القرن التاسع عشر. وفى القرن العشرين كان لفلندة قصب السبق فى إعطاء المرة حق التصويت عام 1906، ولحقت بها النرويج فى عام 1913، والدنمرك وأيسلندة عام 1915 وروسيا عام 17 وبريطانيا 1918 وأمريكا عام 1930، وإسبانيا عام 1931، أما فرنسا مهد الثورة وإعلان ميثاق حقوق الفرد والمواطن، فلم تحصل المرأة فيها على حق التصويت إلا عام 1944، وقد لحقت بها بلجيكا وإيطاليا ولكسمبرج عام 1964 أما آخر بلدان أوربا فقد كانت سويسراً، حيث انتظرت المرأة إلى عام 1971 لكيما تمارس حق التصويت، أى بعد المرأة السودانية بسبع سنوات. وعلى ذلك فإن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عام 1948 لابد من أن يُرى فى هذا السياق، فهو يمثل محصلة نهائية لهذا التطور، وخطوة فيه. وقد جاءت هذه المكاسب نتيجة نضال المرأة، وساعدت عليه أحداث عظام مثل الثورتين الفرنسية والأمريكية، والحربين العالميتين الأولى والثانية. أما الثورتان فقد وفرتا الأساس الفلسفى للمساواة بين البشر، وإن عجزتا عن تحقيق مكاسب عملية ومباشرة للمرأة. فقد كانت المفارقة بين النظرية والتطبيق التى تميزت بها هاتان الثورتان، والمعيار المزدوج لآباء الثورتين الذى يكيل بمعيار للأبيض ومعيار للأسود، ومعيار للرجل وآخر للمرأة، وهى الثغرات التى استغلتها حركة تحرير المرأة، والتى تسربت منها حقوقها. أما الحربان العالميتان الأولى والثانية، فقد أتاحتا فرص العمل للمرأة، عندما ذهب الرجال للحرب، حيث أثبتت ذاتها، وبرهنت على قدرتها على الإنتاج ونفعها للمجتمع. وهكذا انطلقت حركة تحرير المرأة فى الغرب، تنتزع الحقوق حقا إثر حق، وترفع معها المجتمع إلى درجة أعلى من التحضر، مما بلغ مداه فى إعلان إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، وعلى ذلك يمكن القول أن المرأة قد حققت المساواة الكاملة مع الرجل، على مستوى التشريع، وكادت تحققها على مستوى الواقع الاجتماعى الموضوعى. وعندما هبت رياح حركة تحرير المرأة على عالمنا الإسلامى، مع بقية التأثيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية الأخرى، وجدت مجتمعاً تقليدياً تسيطر عليه أفكار وتصورات تنتمى إلى القرون الوسطى، وضمن هذه الأفكار، بل وربما أساسها، الفقه الإسلامى التقليدى.[20]

وهذا الفهم المسيحى والكنسى للمرأة أدى لأن يطبق فى بيزنطة ما مطبقاً فى أثينا وفارس "فكان يتم استقبال خبر ميلاد الأطفال بالأفراح حينما يكون الوليد ولداً لا بنتاً. وكان من الممكن الاتفاق على تزويج البنات (بل الصبيان) منذ طفولتهم، وكان يتم تزويج البنات ببلوغهن الثانية أو الثالثة عشرة من أعمارهن. وقد كان يتم تعليم بنات الطبقتين العليا والوسطى القراءة والكتابة والرقص والغناء، إلا أن تعليمهن كان بسيطا بشكل عام مقارنة بتعليم إخوانهن من الذكور. وكانت مبادئ آداب السلوك بالنسبة للبنات تتطلب ألا يمكن رؤيتهن أو سماع أصواتهن خارج بيوتهن، فلم يكن يسمح للنساء أن يتواجدن على الملأ، وإنما كان يتم الاحتفاظ بهن "محتجبات عن الأنظار كالسجناء". مع أنه كان يسمح للنساء والفتيات الخروج من بيوتهن لحضور مناسبات الزواج والميلاد والأعياد الدينية والذهاب إلى الحمامات العامة، وهكذا فى محاولة دائمة لتجنب حدوث كارثة ماحقة، كان يفترض من النساء الالتزام بالحجاب، بحيث كان الحجاب فى وجوده أو غيابه يشير إلى الحد الفاصل بين المرأة "الشريفة" من ناحية والعاهرة من ناحية أخرى. وفى سبيل تقديم مثال على تشدد المجتمع البيزنطى فيما يتعلق بنظرته للحجاب وعزل النساء، تستشهد جروسديديير دى ماتون مرة أخرى ببسيللوس الذى لاحظ فى محض ثنائه على والدته أنها – أى والدته – رفعت الحجاب عن وجهها أمام الرجال لأول مرة فى حياتها أثناء جنازة ابنتها حيث كانت على درجة من الحزن منعتها من الانتباه لأفعالها. كم أثنى بسيللوس أيضاً على الملكة أيرين Caesarissa lrene لالتزامها الشديد والدقيق بضرورة إخفاء جسدها إلى درجة أنها كانت تخفى كفيها (مثلما تصنع بعض المسلمات المتشددات هذه الأيام بارتدائهن القفازات). وهناك نموذج آخر حيث قام أحد أشراف البيزنطيين فى القرن العاشر مدافعاً عن اعتياد ابنته ارتياد الحمام العام فوضح أنه كان يتأكد أن ابنته كانت تخرج "محجبة وفى صحبة موثوق بها". فقد كان نظام الاستعانة بالغلمان سائداً لفرض الفصل التام بين الجنسين ولحراسة حدود عالم النساء. وكان العمل الوحيد الذى يعتبر ملائماً للمرأة هو ما تقوم به داخل بيتها – الغزل والنسيج وغيرها من الأعمال المتعلقة بصناعة الأقمشة.

وهناك تناقض أشارت إليه باحثة فى المجتمع البيزنطى يتمثل فى أن الفصل التام بين الجنسين الذى كان بالفعل يعزل النساء تماماً عن الرجال من غير أفراد عائلاتهن المقربين قد أدى فى نفس الوقت إلى خلق مجالات عمل للنساء. فقد كانت كل مؤسسة خاصة بالنساء – مثل الحمامات العامة على سبيل المثال – تتطلب خادمات من النساء أيضاً، كما أن وجود القابلات والطبيبات حينذاك يعكس إيمان المجتمع بعدم جواز قيام الرجال على شئون النساء البدنية."[21]

f

وطوال القرون الوسطى كان وضع الطبقة الدنيا، أى الفلاحين هو وضع القنانة التى كانت تجعل الرجل والمرأة تحت رحمة النبيل أو اللورد أو مالك الأرض، بحيث لا يستطيع الفلاح أن يخرج من القرية إلا بأذن اللورد وعليه أن يعمل فى أرضه، ويطحن غلاله فى طاحونته، وكان من تقاليد هذا العهد المظلم ما أطلق عليه "حق الليلة الأولى" التى كانت تجيز للورد أن يضاجع العروس قبل دخولها لزوجها، وظلت فى بافاريا حتى القرن الثامن عشر.

وعندما قامت الحروب الصليبية كان من الدأب الممارس أن يطوق الفارس الصليبى المسافر خصر زوجته بما يسمى "حزام العفة" الذى كان يغلق فرج المرأة باستثناء فتحة ضيقة لخروج البول بقفل يحتفظ الزوج بمفتاحه معه.

"وكان كوخ الفلاح يقام من الخشب الهش الرقيق، ويسقف عادة بالقش والعشب المتلبد، وأحياناً بالحصباء. ولم نسمع قط عن نظام لمقاومة الحريق قبل عام 1205 ومن أجل هذا كانت النار إذا اشتعلت فى أحد هذه الأكواخ أتت عليه وعلى كل ما فيه. وكان الكوخ فى كثير من الأحيان يتكون من حجرة واحدة ولا يزيد قط على حجرتين، وبه مدفأة يحرق فيها الخشب، وتنور، ووعاء للعجين، ومنضدة، وبضعة مقاعد، وصوان، وصحاف، وآنية، ومجمرة، ومرجل، وحمالة لتعليق الأوعية، وحشية كبيرة من الريش أو القش قرب التنور مبسوطة على الأرض ينام عليها الفلاح، وزوجته، وأبناؤهما، وطارق الليل من الضيوف مختلطين بعضهم بعض يدفئ بعضهم بعضاً. وكان فناء البيت مأوى الخنازير والدواجن، وكانت النساء يعنين بنظافة البيت بقدر ما تسمح به الظروف، ولكن الفلاحين الكادحين كانوا يجدون فى تنظيف البيت مشقة كبيرة. وتحدثنا الأقاصيص أن الشيطان لا يقبل أرقاء الأرض فى الجحيم لأنه لا يطيق رائحتهم، وكان بالقرب من الدار فضاء مسور للحصان والأبقار، وقد يكون فيه أحياناً خلايا للنحل وخن للدجاج، وبالقرب منه كوم الروث يتكون من فضلات الحيوانات وأفراد الأسرة. وكان حول هذا كله أدوات الزرع والصناعات المنزلية، وكان قط يحرس البيت من الفيران وكلب يشرف على هذا كله".[22]

وقد قرأت فى إحدى المجلات الإنجليزية عن الإنجليزى الذى باع زوجته فى القرن الرابع عشر، وعن آخر رهن زوجته فى القمار. وجاء فى كتاب الدكتور مصطفى السباعى عن المرأة أن هربرت سبنسر ذكر فى كتابه علم الاجتماع. "أن أوربا حتى فى القرن الحادى عشر الميلادى كانت تعطى الزوج الحق فى أن يبيع زوجته فجعلت حق الزوج قاصراً على الإعارة والإجارة وما دونها."

ولكن إنجلتراً ظلت تسمح ببيع الزوجة حتى سنة 1805م بل حدد ثمن الزوجة بستة بنسات آنذاك ثم حدث أن باع إنجليزى زوجته سنة 1931م بخمسمائة جنية، وقال محاميه فى الدفاع عنه أن القانون الإنجليزى قبل مائة عام كان يبيح للزوج أن يبيع زوجته وكان سنة 1801م يحدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغى سنة 1805م بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن وبعد المداولة حكمت المحكمة على الزوج بالحبس عشرة أشهر.

وظلت روح القرون الوسطى لعدة قرون فى أوربا ولم يُحَرّر الأقنان فى روسيا إلا فى القرن التاسع عشر (1861).

فإذا كانت الشكوك تحيط بهذه الوقائع، فإنى قد قرأت فى الصفحة الأخيرة من جريدة الشرق الأوسط أن زوجاً يعانى من ضائقة مالية أعار زوجته لمدة سنة إلى آخر لقاء ثلاثين ألف دولار. وكانت الصفقة مربحة للجميع فالزوج قد شبع من الزوجة والحياة الزوجية فلن يحس بنقص، وفى الوقت نفسه فسيحل أزمته المالية. أما المستعير فهو يريد حياة شبة زوجية، ولكن دون الالتزام بمستويات الزواج (وأولها استمرار هذه الحياة وحقوق الزوجة إلخ...) وسيحقق هذا بتكلفة زهيدة أما الزوجة فإنها كسبت زوجاً إضافيا، إلى جانب زوجها الأول الذى ستعود إليه، وكسبت نصف المبلغ!

وبالنسبة لطبقة النبلاء واللوردات، والبورجوازية التى خلفت الإقطاع وكانوا يعيشون فى رغد من العيش بما فرضوه من ضرائب أثقلت كاهل الشعب أو من الصفقات التجارية أو استغلال العمال والحرفيين. فقد كانت المرأة بالنسبة لهم وسيلة للاستمتاع ولإشاعة حاسمة الجمال والحب وما يعلق بهما من فنون. وكان من المفروض أن تلم السيدة من صغرها بالموسيقى والرقص وآداب السلوك وأن تعنى بزينتها وزيها بحيث تملأ مكانها فى "السهرة" أو "الصالون" وفتح هذا لها منفذاً قد لا يكون الأمثل إلى المجتمع، وعالم الرجال، وقد تكفلت هى بالباقى بفضل حواسها وذكائها ومواهبها الجمالية بحيث نال بعض النساء حظوة من الملوك والأمراء، بما مكنهم من نيل نصيب من السلطة والنفوذ فى البلاط، ولكن المعول فى هذا هو جمالها وملكاتها الأنثوية ولا يدخل فيها تحصيلها لعلوم أو فنون.

ونشأت عن ذلك فنون "الإتيكيت" بما فيها من آداب وفروسية ونفاق ومنحت المرأة مظاهر احترام خاصة. وبلغت هذه النزعات غايتها فى أوربا، وفى فرنسا بوجه خاص أيام الملك لويس الرابع عشر "إذ كان لكل قادر عشيقة، وكان الرجال يفتخرون بعشيقاتهم كما يفتخر القواد بفتوحاتهم."

لقد وجدت المرأة فى الفن حليفا، وفتحت فنون الموسيقى، والغناء والتمثيل والرقص الأوبرالى أو البالية أمام المرأة أفاقا لم تكن مفتوحة من قبل ومكنت الكثيرات من أن يخرجن من عالم النكر والتبعية إلى الشهرة والأضواء كما أظهرت مئات الألوف من النساء فى المهن الفنية ما بين النجومية للقلة القليلة.. "والكمبارس" للكثرة وما بين ذلك من صلات وارتباطات يمكن أن تصل إلى حد البغاء المقنع.

ومع أن هذا ليس هو السبيل الأمثل لتحرير المرأة فإنه كان نافذة فى الجدار المسدود وسمح بخروج المرأة إلى المجتمع بطريقة أو بأخرى وساعد بطرق غير مباشرة فى قضية تحريرها، إذ لم يعد مكان لأى صورة من صور الحجاب التى كانت فى أثينا وأورثتها الكثير من دول العالم.

ولا يفهم الموضوع على حقيقته إلا بمعرفة الفكر الذى ساد أوربا عندما بدأت انطلاقتها من عالم القرون الوسطى عن حرية السلوك والتصرف الذى أصاب الأخلاقيات المسيحية فى الصميم. فيلحظ أحد الكتاب عند حديثه عن عصر النهضة والقرن الخامس عشر أن "من المظاهر الواضحة فى أخلاق أهل العصر عدم التقيد بالروابط الزوجية، فلم تكن تهمل الحقوق الزوجية فى عصر كما أهملت فى عصر النهضة. وليس معنى ذلك أن الناس انصرفوا عن حياة الأسرة نهائياً، بل احتفظوا بها كعنصر تقليدى فى حياة المجتمع، ولكنهم إلى جانب ذلك أرادوا أن يعيشوا أحراراً يمتعون أنفسهم بالحياة إلى أكبر حد مستطاع. فوجد الحب الجنسى كما وجد الحب العاطفى، وربما اجتمعنا جنباً إلى جنب فى شخص واحد. وأصبح من الأمور المألوفة أن يتطلع كلا الزوجين إلى حياة العشق والهوى بعد الزواج. وكانت تحدث أحيانا فواجع ومآسى وقتل وغدر وانتقام عنيف."[23]

وفى منتصف القرن الخامس عشر أصدر أرازمس وهو من كبار رواد الفكرة الإنسانية مقالات عن آداب السلوك والعلاقات الجنسية صارح فيها الشباب بالكثير من أسرار وفنون العلاقات الجنسية ولا يعنى هذا أن "أرازمس" يحرض الشباب على التحرر الجنسى، بل معناه أن مستوى الاحتشام وآداب السلوك واللياقة تختلف وتتطور على مر العصور.

"ويظهر هذا التطور أو الاختلاف واضحاً من تفحصنا للدور الذى قامت به بنات الهوى أو الداعرات فى المدن الوسيطة، فبعض المدن كانت تنظم لهن مسابقات للجرى أثناء الأعياد. وغالبا ما كن يتقدمن المواكب للترحيب بكبار الضيوف. وليس من النادر أن يدعو شيخ البلدة أو حاكمها أولئك الضيوف الأجلاء لقضاء الوقت فى المواخير.

وهكذا امتدح الإمبراطور "سيجموند" سنة 1434 علنا، حكام مقاطعة "بيرن" لأنهم وضعوا تحت تصرفه هو وحاشيته، ماخور مدينتهم مدة ثلاثة أيام. وهذا التصرف نحو كبار الضيوف يساوى إقامة المآدب لهم.

وكان للداعرات (اللاتى يدعون بالألمانية: النساء الجميلات) داخل الإطار التنظيمى للمدينة "تعاونيات" لها حقوقها وعليها واجباتها كما بقية الهيئات الأخرى."[24]

وتحدث مؤلف قصة الحضارة عند حديثه فى عصر فولتير "وانتشر البغاء بين الفقراء والأغنياء. وفى المدن الصغيرة كان أصحاب الأعمال ينقدون مستخدماتهم الإناث مبالغ لا تفى بنفقاتهن الضرورية وأجازوا لهن أن يكملن أجورهن اليومية بالاستجداء وممارسة الدعارة ليلاً. وقدر كاتب معاصر عدد البغايا فى باريس بأربعين ألفا. وهناك تقدير آخر بأنهن ستون ألفاً. وكان الرأى العام – فيما عدا الطبقة الوسطى متسامحاً مترفقاً بأمثال هؤلاء النسوة، حيث أدرك أن كثيراً من النبلاء ورجال الدين ووجوه المجتمع ساعدوا على خلق هذا الطلب الذى أدى إلى هذا العرض، وتذرع الرأى العام بشىء من اللياقة، فأدان الفقيرات اللاتى يبعن أعراضهن أقل مما أدان الذين يشترون المتعة، مع أن مسئولية هؤلاء عن هذا العمل الشائن أكبر. وكانت نظرة رجال الشرطة إلى هذا الأمر تختلف عن ذلك اللهم إلا إذا قدمت شكوى خاصة أو عامة ضد هؤلاء "البنات" وهنا يتم الاعتقال بالجملة. تبرئة لساحة الحكومة. وعندئذ يساق النساء للمثول أمام القضاة، وقد يحكم القاضى بإبداعهن فى السجن أو المستشفى، حيث تحلق رءوسهن بالموس ويعاقبن ويوضعون تحت المراقبة ثم يطلق سراحهن، وتنمو شعورهن من جديد. وإذا خلقن متاعب جمة لأحد ذوى النفوذ والسلطان أو أساء إليه، فيمكن إرسالهن إلى لويزيانا وعرضت محظيات الحاشية أو المومسات اللاتى يتردد عليهن الأغنياء، مركباتهن وحليهن ومجوهراتهن فى طريق "بور-لا-رين" فى باريس، أو فى متنزه "لونجشامب". وإذا حصلن على عضوية الكوميدى فرانسيز أو الأوبرا، حتى لتمثيل الأدوار القصيرة، اكتسبن الحصانة ضد الاعتقال بتهمة بيع مفاتنهن أو أعراضهن. وارتفع بعضهن ليكن نماذج للفنانين (لرسم الصور العارية) أو يتخذن النبلاء ورجال المال أخداناً لهن خاصة. واقتنصن بعضهن أزواجاً، وحصلن على ألقاب وثروات، وأصبحت واحدة منهن بارونة سانت شاموند.

ولم يوصم الزنا بأية وصمة عار اجتماعى، فى البيئة الأرستقراطية بل كان أمراً مقبولاً باعتباره بديلاً ساراً عن الطلاق الذى حرمته الديانة الوطنية. وقد يتخذ الزوج الذى يخدم فى الجيش أو فى الأقاليم له خليلة، دون أن يبدى لزوجته سبباً مقبولاً للشكوى. وقد يفترقان الواحد منهما عن الآخر، بالخدمة فى الحاشية أو فى الضيعة، وهنا أيضا قد يتخذ خليلة. ومنذ كان عقد الزواج يتم دون الزعم بأن العاطفة يمكن أن تتجاوز عن الثراء فإن كثيراً من الزوجين من النبلاء عاشا فترة طويلة من حياتهما منفصلين، وأباح كل منهما للآخر زلاته، شريطة أن تكون هذه الزلات مستورة بلباقة، كما تكون فى حالة المرأة مقصورة على رجل واحد فى نفس الوقت وأجرى مونتسكيو على لسان سائحه الفارسى قوله: "إن الرجل الذى يريد أن يستحوذ على زوجته له هو وحده يعتبر معكراً لصفو السعادة العامة، غبياً يريد أن يستأثر بالاستمتاع بضوء الشمس، ويحجبها عن سائر الناس". وسئل يوماً دوق دى لوزون الذى لم يكن رأى زوجته طيلة عشر سنين، ماذا يقول لو أن زوجته أرسلت إليه تنبئه بأنها حامل، فأجاب، مثل أى سيد ماجد فى القرن الثامن عشر: "أكتب إليها لأقول إنى مبتهج فرح لأن الله بارك زواجنا، اعتن بصحتك، سأحضر لأقدم لك احتراماتى هذا المساء. فالغيرة كانت أمراً مرذولاً."[25]

ورافق ذلك تغيير طفيف فى الفكر المسيحى يمكن ملاحظته بمقارنة أراء آباء الكنيسة الأول التى عرضنا نموذجاً لها. وما بين اتجاهات مارتن لوثر. فقد كان يؤمن أن الله قد خلق المرأة للحمل والطهى والصلاة لا لأى شىء آخر فهو القائل "انتزع النساء من تدبير شئون المنزل تجدهن لا يصلحن لشىء" وإذا أنهك الحمل النساء ولقين حتفهم فليس فى هذا شر دعهن يلاقين حتفهن ما دمن يحملن فقد خلقن لهذا، ويجب على المرأة أن تمنح زوجها الحب وأن يحافظ على شرفها وعليه أن يحكمها ولكن برفق لأن المرأة قارورة هشة ويجب عليها أن تلزم مجالها وهو البيت. وبين الرجل والزوجة لا يكون هناك ملكى وملكك لأن كل الممتلكات يجب أن تكون على المشاع."

ولكنه لما كان له ميول دنيوية قوية فإنه اعترف بجماليات المرأة فقال عن شعر المرأة "إن الشعر أجمل زينة للمرأة وقد اعتادت العذارى قديما أن يرسلن شعورهن حتى يسقط على ظهورهن فهو منظر من أروع المناظر"، وكان إحساسه القوى بالملاذ الدنيوية بدفعه للإقبال على الطعام والشراب، ويقول "إن مشيئة الله الحبيب هى أن نأكل ونشرب ونمزح" ويقول "إنى أنشد المتعة وأتقبلها حيثما أجدها ونحن نعلم الآن ولله الحمد أننا نستطيع أن نكون سعداء وضمائرنا مرتاحة. ونصح أتباعه بأن يحتفلوا ويرقصوا يوم الأحد ألعاب التسلية ولعب الشطرنج ووصف اللهو بورق اللعب بأنه تحويل لا ضرر منه للعقول التى لم تتضح بعد وقال كلمة حكمة عن الرقص "أن الرقصات أعدت لكى تعلم الدماثة بين الصحبة وتعقد الصداقة والتعارف بين الشباب والفتيات. وهى يمكن ملاحظة صلاتهم وترتيب لقاء شريف عابر بينهم."[26]

ولم تستطع الثورة الفرنسية أن تقوم بتحرير المرأة، على العكس إن ثمرتها – نابليون – وضع قانونه الذى أثرَّ فى معظم القوانين الأوربية (وقوانين الدول الأسيوية أو العربية الأخرى) فهذا القانون قدم الصياغة القانونية لتبعية المرأة، للرجل ودونيتها عنه، وقد كان نابليون المفتون بالحضارة الرومانية يرى أن للرجل القوامة التامة على المرأة بما فى ذلك خروجها للمسرح، أو الزيارة أو غير ذلك. وأوصى بأن تتضمن خطبة الكاهن الذى يتولى العقد أن على الزوجة أن تطيع زوجها وأن تتبعه حيث ذهب ولو كان فى أقصى الأرض.

وكان قانون العقوبات يقضى بسجن الزوجة الزانية من شهرين إلى ثلاثة سنين، بينما لا يوقع على الزوج الزانى إلا غرامة إذا احتفظ بعشيقته تحت سقف الزوجية وكان يمكن للزوج أن يشكو زوجته الزانية بينما لا يمكن للزوجة أن تحاكمه جنائيا، ولكن أن تطلب الطلاق كما كان يتسامح مع الزوج الذى يقتل زوجته الزانية أو شريكها ولكن لا يتسامح مع الزوجة إذا قامت بذلك [27] (وإن كان المحلفون عادة ينتصرون للمرأة).

وكان يمكن للابن الغير شرعى أن يقاضى أمه فى حقه الإيواء والنفقه كما لو كان ابنا شرعيا، ولكن لا يمكن أن يطالب به الأب.

أما بالنسبة للذمة المالية فكان القانون يضع المرأة تحت وصاية زوجها تماماً، وقيل إن القانون قرر ذلك حماية للمرأة من التصرفات الحمقاء والشفهية للمرأة (وكأن المشرع الفرنسى يشارك المفسر الإسلامى فى نسبته السفاهة للمرأة). وحرم عليها القانون أى تصرف مالى أو رفع قضية إلا بعد إذن زوجها وبموافقته ولا يمكنها أن تقوم برهن أو تأجير أو اقتناء ممتلكات، ولا أن تتلقى خطاب اعتماد بنكى أو حوالة بريدية، بل لا يمكن أن تتقبل هدايا، ما لم يأذن زوجها بهذا، كل حالة بموافقة خاصة. ولا يجوز للزوج أن يثبت موافقة عامة أو مطلقة على تصرفات زوجته المالية فى عقد الزواج وإذا حدث هذا فإنه يعد منعدما ولاغيا nil and void ويظل ساريا بعد وفاة الزوج ويكون على المرأة أن تطلب إلى المحكمة إعفاءها من سلطة الزوج.

ورغم قسوة هذا القانون الذى كان الأصل فى معظم القوانين الأوربية التى حرمت المرأة من حرية التصرف المالى وظل ذلك قائماً حتى عهد قريب جداً، فإن قوى عديدة كانت تناصر المرأة لعل أبرزها ظهور الصناعة الآلية وإقبال أصحاب الأعمال على تشغيل النساء فى مصانع الغزل والنسيج التى كانت أول ما طبق الأسلوب الآلى.. وإن لم يكن هذا الإقبال تقديراً للمرأة، ولكن كان استغلالاً لها. على أن هذا الاستغلال لم يحرمها من أن تنال قسطاً من الحرية والاستقلالية. وعندما تقدم التصنيع وظهرت الآلة الكاتبة، والتليفونات كان معظم العاملين فى هاتين الحرفتين من النساء حتى كاد أن يكونا مقصورين عليهن وأدى إصلاح نظم التمريض وظهور المستشفيات الحديثة لأن يفتح باب جديد لتشغيل المرأة حتى كاد التمريض أن يكون وقفا عليها.

ومع هذا كله، فقد كان على المرأة فى أوربا أن تحارب طويلاً، كان على مارى ولسونكرافت أن تكتب كتابها "دفاع عن حقوق النساء" وكان على جون ستيوارت ميل أن يكتب "إخضاع النساء، وكان على مئات الدارسات اللاتى استطعن بوسائل خارقة أن يتهيئن لدراسة عالية أن يكافحن طويلاً وكان على المرأة البريطانية أن تخوض معركة "المصوتات" Suffragettes وأن يمارسن وسائل ما بين التضحية والإرهاب لنيل الحقوق السياسية، وفيما بعد كان لازما أن تقوم حربان عالميتان طاحنتان أودتا بزهرة الشباب وزجت بملايين النساء إلى الوظائف والأعمال فى المجهود الحربى..

كان على هؤلاء جميعاً أن يكافحن قبل أن تطوى أثار الأوضاع التاريخية التى فرضت الحجاب على المرأة فى كل العالم وعزلت ما بينهن وبين الرجال، وإن كانت الحقيقة أن هذا الماضى الذى استمر عشرات القرون قد ترك آثاره ورواسبه فى الأعماق الخافية للمجتمع.

إن هذا الكفاح الطويل العنيف الذى كان على المرأة أن تقوم به قبل أن تظفر بحقوقها يوضح لنا مدى عمق التراث التاريخى الذى فرضته العصور القديمة على المرأة وهو يوضح كيف عجزت المجتمعات الشرقية التى لم ترزق التطور الذى انتاب المجتمع الأوربى عن الانعتاق منه بحيث ظلت آثاره حتى الوقت الراهن.

واستعراض الفصل يوضح بجلاء واختصار :

أولا: أن كل النظم الاجتماعية فى مختلف حضارات العالم بما فى ذلك الهند والصين والآشوريين، واليونان. والرومان، وفارس وبيزنطة. كلها عملت على تغييب المرأة عن المجتمع وقصر دورها على البيت وكانت أداة ذلك هى الحجاب.

ثانيا: أن النظم الاجتماعية، والقوانين والتقاليد كلها من فجر البشرية حتى مشارف العصر، واليهودية والمسيحية تحالفت على تأخير المرأة، وإعطائها صفة دونيه وحرمتها من الحقوق والاستقلال بشئونها كاملة وفرضت عليها وصاية الأب، وحدث هذا قبل ظهور الإسلام بوقت طويل بحيث يمكن القول إن الحجاب فرض نفسه على الإسلام لا أن الإسلام فرض الحجاب على المرأة.

ثالثا: إن هذه القضية وإن التبست فى الأذهان بالشرف فلم يكن الشرف هو العنصر الحاسم. ولكن "الحاسة الذكورية" لأنه بقدر تشديد الحجاب على الحرائر بقدر ما كان الإنكار على الإماء أن يتحجبن. ولوحظ هذا فى كل الحضارات القديمة كالحضارة الأشورية حيث كانت الإماء تجلد إذا تحجبت، وفى بيزنطة حيث كان الحجاب هو الحائل بين المرأة الشريفة والعاهرة.. حتى وصل إلى العرب فى عهد الرسالة. عندما كان عمر بن الخطاب يزجر الإماء لتحجبهن لأنهن يتشبهن بالحرائر فالحاسة الذكورية كانت وراء الحجاب، وليس الشرف الموضوعى أو الاحتشام للنساء جميعاً فكان الرجل يحرص على الحجاب بالنسبة لزوجته وبناته، أما الإماء والجوارى، فقد كان يحرص على أن لا يتحجبن.

0 التعليقات:

إرسال تعليق