الخميس، ٢٠ أغسطس ٢٠٠٩

مقدمات لازمة لفهم الإسلام

قبل أن نتطرق إلى قضية الحجاب، من المهم أن يكون لدينا فكرة كاملة عن بعض المقدمات اللازمة لفهم الإسلام بحيث يمكن فى ضوئها التوصل إلى الأحكام سواء كان عن الحجاب أو السياسة أو الاقتصاد.

وبدون فهم هذه المقدمات يكون من العسير التوصل إلى الحقيقة. لأنها ستكون ملتبسة بالباطل، ولأن هناك عوامل عديدة بعضها عرضى، وبعضها يعود إلى الوقت أو المكان أو الظروف الخاصة بمجتمع ما.. كلها تؤثر على الأحكام بصور متفاوتة، ويكون من المهم تمييز العنصر الإسلامى عن بقية العناصر التى امتزجت به.. والمفكر الإسلامى يقوم هنا بما يقوم به الباحث الكيميائى الذى يريد أن يتوصل إلى العنصر الفعال فى مادة ما بعزله عن العناصر الأخرى التى تختلط به، من هنا فإن هذه المقدمات ليست محاولات أكاديمية لإشباع الفضول ومعرفة المجهول أو رياضة وتنمية المهارات. إن الغرض منها فى منتهى الأهمية وهو أن يتمكن المفكر من التمييز بين ما هو من الإسلام أصلاً، وما يكون منسوبا إليه ومحسوبا عليه فى حين أنه ليس من صميم الدين. وعندما نصل إلى هذا يمكن أن نقول فى عزم وتصميم "هذا من الإسلام" أو "هذا ليس من الإسلام."

ولما لم يكن لدى معظم الناس فكرة دقيقة عن هذه المقدمات وآثارها. فإن الكثير من الأحكام التى توصف بأنها "حكم الشرع" أو رأى الدين.. ليست فى الحقيقة كذلك، وإنما ظن ذلك لأنها التبست بشىء من الدين، أو حتى تزيت بزى الدين.

وهذا ما يظهر – بوجه خاص فى موضوع المرأة وما يتصل بها من جوانب أو قضاياً.

وفيما يلى هذه المقدمات:

_______________

المقدمة الأولى: إرث الوثنية..

ظهرت الأديان مع ظهور الإنسان، وكانت تبلور فى أعماق نفسه بذرة صغيرة غير محسوسة أودعها الله فى أعماقه وكان وجودها يجعل الإنسان مهيئاً بطريقة ما للإيمان، وكان شأنها شأن الغرائز المغروسة فى الإنسان، ولكن الإنسان جسداً وروحاً كان فى مرحلته البدائية ضعيفاً، أعزل أمام قوى الطبيعة، وكانت ظواهر هذه القوى من أمطار تنهمر، أو رياح تزمجر أو بحار تتلاطم أمواجها أو جبال شاهقة تثير فى نفسه الرعب والخوف والرهبة. بل كانت الكثير من ظواهر حياته اليومية تبدو غير مفهومه، كالنوم وما يخالطه من أحلام، وكالميلاد، وكالموت.

كانت القوى الطبيعية، كما كانت الظواهر البيولوجية والنفسية تدفع الإنسان لتصور ساذج يتفق مع مرحلة تطوره. فتصور أن الشمس والقمر والأنهار والبحار والجبال والرياح آلهة لها قوة تفوق قوة البشر، كما تصور فى النوم والأحلام والميلاد عمليات سحرية لا يفهمها أو يتعامل معها إلا أناس متخصصون فى ذلك لديهم معرفة لا تتيسر لعامة الناس.

إذا قدرنا أن هذا الإنسان قد ظهر منذ عشرة آلاف سنة، فيمكن القول أنه أمضى سبعة آلاف سنة من هذه المدة متخبطاً، يؤمن بآلهة الطبيعة، أو يتخذ من بعض الحيوانات رموزاً للقوة والخير كالثور والبقرة وساد ذلك العالم بأسره من أيام قدماء المصريين حتى اليونان والرومان وغيرهم.

فى دياجير هذا الظلام كان يلمع كالشمس فلاسفة وأنبياء من غير المعروفين لنا، يعرضون فكرة "الله" الخالق الوحيد، ولكن مستوى الجماهير وقتئذٍ ما كان يسمح باستيعاب ذلك. وكان على البشرية أن تمضى سبعة آلاف سنة قبل أن تظهر الأديان السماوية التى قدر لها البقاء مع ظهور اليهودية، ودعوتها إلى الإيمان بالله الخالق والكفر بالأوثان. ثم بعد ذلك بأكثر من ألف عام ظهرت المسيحية، وبعد المسيحية ببضعة قرون ظهر الإسلام.

وحدث هذا كله فى الثلاثة آلاف سنة الأخيرة من العشرة آلاف سنة من بدء ظهور الإنسان البدائى.

وقدم كل دين من هذه الأديان السماوية الثلاثة إضافته، وكانت فى مجموعها تمثل مسيرة نحو الكمال، ولكن كان من العسير على الإنسان أن يتخلص من رواسب السبع آلاف سنة من الديانات الوثنية وما اكتنفها من خرافة وسحر وشعوذة، فهذه قد تغلغلت فى أعماق النفس البشرية بحيث لم تستطع الأديان العظمى – رغم كل قوتها – اقتلاع هذه الرواسب فعاد بنو إسرائيل لعبادة العجل وحنوا إلى فول مصر وعدسها وبصلها برغم أنها بيت العبودية، وانتقل الثالوث القديم إلى المسيحية، وقال المسلمون للرسول "اجعل لنا ذات أنواط"، وغطت رواسب الوثنية الأديان السماوية وأقحمت فيها عناصر أصبحت لدى الكثيرين من خصائص الأديان. فى حين أن الأديان السماوية، بريئة منها. من هذه الخصائص التخويف وإشاعة الرهبة، ومنها التوثين الذى لا يتأثر بعقلانية، ومنها القابلية للاستغلال، ومنها أساطير فلكلورية وجدت فى مختلف العصور ..

فهذه كلها أصبحت تعد جزءاً من "بنية" الدين ونجدها فى اليهودية، والمسيحية كما نجدها فى الإسلام رغم الحرب الشعواء التى أعلنها الإسلام على مختلف صور الوثنيات..

إننا نجد بقايا التوثين، والتخويف، والقابلية للاستغلال والأساطير الفولكرورية وقد تطرقت إلى الأديان بنسب متفاوتة وبطرق مختلفة وأساءت إلى روح الأديان السماوية واصبح استنقاذ روح الدين وجوهره من هذه الرواسب الموروثة صعباً لأننا قد لا نتوصل إلى مفرداتها لامتزاج هذه المفردات فى بعض الحالات ِببنْيَةِ الدين وطبيعته ويصبح الذين ينادون بإبعادها محلاً للاتهام بأنهم ينتقصون الدين ويحيفون عليه.

المفارقة أن الأديان الإبراهيمية الثلاثة إنما جاءت لتقضى على عناصر الخرافة والأسطورة فى الأديان الوثنية. فقد جاءت اليهودية لتقضى على عبادة المصريين للأوثان.. وجاءت المسيحية لتخلص اليهود مما أصابها من طقوسيه تطرقت إليها بعد أن طال عليها الأمد بين الأديان الوثنية. ثم جاء الإسلام يعلن التوحيد وليقدم أكمل صورة لله تعالى. ومراجعة الكتب المقدسة الثلاثة تكشف عن تنديدها بالخرافة والأسطورة والوثنية واستغلال الدين كما يكشف أن جوهرها دعوة للناس لعبادة الله وحده والتحرر من التقاليد والطقوس والمضامين التى وضعتها الوثنيات.

ولكن الطبيعة البشرية من ناحية، والعوامل التى تحكم التطور الاجتماعى من ناحية أخرى كانت تفقد الأديان السماوية المحررة، الثائرة على الوثنية، معظم حماستها الإيمانية خلال فترة من الزمن تزحف فيها قوى الحفاظ وتقاليد الماضى عليها بحيث تقلد الديانات التى سبقتها والتى قامت لإصلاحها. وتحدّث الرسولُ عن المسلمين وأنهم "سيتبعون سنن من كان قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا "جحر ضب لدخلتموه" ومن هنا كانت الحاجة مأسة إلى من يجدد فى الدين حيناً بعد حين فينفض من الإسلام ما علق به من خرافة ومن غشاوات.

ومن العوامل التى عززت الخلط ما بين أديان السبعة آلاف سنة، وما قامت عليه من وثنية وأديان الثلاثة آلاف سنة التى جاءت بعدها لتخلص الدين من هذه الوثنية. أن البُحاث الأوربيين يعالجون الدين تحت مسمى واحد وهم لا يفرقون ما بين الأديان الهندية والصينية وما وجد فى أفريقيا، أو أمريكا اللاتينية واستراليا، والأديان الإبراهيمية الثلاثة، فكلها تخضع فى الدراسة والتحليل لمضمون "دين" وتدخل خصائص كل منها فى خصائص الأديان. وهذا بالطبع يعود إلى أن المعرفة الأوربية التى تبدأ من أثينا، وروما كانت وثنية وأن المسيحية التى تدعيها أوربا هى فى حقيقة الحال "كاموفلاج" رقيق للتمويه والإدعاء، وهى على كل حال خارج المجتمع – محبوسة فى الكنيسة لا تمارس نشاطاً إلا أياماً معدودة وفى مناسبات الميلاد والوفاة والزواج حيث تأخذ شكلاً طقوسياً تقليديا فيه الكثير من رواسب الوثنية القديمة..

وقد سرت الوثنيات إلى اليهودية لأنها كانت أقرب الأديان إليها. فقد نشأت اليهودية فى مصر، ثم انتقلت إلى أقوام وثنيين تأثرت بهم وما أكثر الصفحات التى تندد فيها التوراة بتأثر اليهود بجيرانهم الوثنيين، وعندما قدر لهم السبى إلى بابل عاشوا قرونا فى مجتمع وثنى فتأثرت اليهودية بالطقوس والتقاليد الوثنية، ثم نشأت المسيحية ما بين روما الوثنية وإسكندرية ذات الثقافة المصرية الوثنية والفلسفة اليونانية ولعلها أخذت عنها فكرة الثالوث. وعندما انتقلت إلى روما تأثرت حتى النخاع برواسب الحضارة الرومانية. وكان عهد الإحياء أو النهضة بعثاً لحضارة اليونان والرومان على حساب المسيحية لتأثر الفكر والمزاج الأوربى بالأصول اليونانية / الرومانية. وعندما ظهر الإسلام، كان للجاهلية وثنيتها، ثم عندما حملت الفتوح الإسلام إلى ديار المسيحية البيزنطية، والزرداشتية الفارسية زحفت آثار ذلك على الإسلام وتجلت آثار ذلك فى عشرات الألوف من الأحاديث الموضوعة وفى تفسيرات القرآن التى حفلت بصفحات كاملة من التوراة وغيرها، كما تأثرت العقيدة بالفلسفة اليونانية وقام علم جديد على أساسها هو - ويا للعجب - علم التوحيد !! وخصص الغزالى فصلاً فى أول كتابه "المستصفى" عن المنطق اليونانى واعتبر أن من يجهله لا يوثق بكلامه أصلاً..

خلاصة القول: أن الأديان الوثنية التى صاحبت البشرية البدائية منذ سبعة آلاف عام رشحت بعض مضامينها الأسطورية فى بنية الأديان السماوية التى جاءت بعدها، وخالطت لحمها ودمها، مع أن هذه الأديان إنما جاءت لتنقذ الدين من المضامين الوثنية / الأسطورية وأبرزها التوثين، والتخويف، وقابلية الاستغلال، والسحر، والشعوذة.. وقد قضت الأديان السماوية على معظم هذه اللوثات. ولكن من المؤسف أن بعض هذه المضامين تسللت إلى الأديان السماوية نفسها وأقحمت نفسها فى بنية الدين، وطبيعته.

من هنا فإن من المهم عندما يقدم إلينا حكم ينسب إلى الإسلام أن نتثبت هل هذا من الإسلام حقا، أم قد شابته شوائب الوثنية، وما ينقذنا هنا هو القرآن الكريم، فما اتفق مع القرآن يعد من الدين. أما ما يجافى القرآن أو يخالفه فلا يجوز قبوله. كما يجب استنقاذ الطبيعة الدينية من طبيعة الاستخذاء والاستسلام والسلبية والحفاظ التى كانت خصائص الأديان الوثنية إلى الفعالية والإيجابية والإقدام وإعادتها إلى الروح التى بدأت بها الأديان السماوية عندما قاد موسى المستعبدين الأذلاء لمسيرة التحرير وعندما قضت المسيحية على الجبروت الرومانى، وعندما ارتفعت صيحة القرآن ]إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا[.

المقدمة الثانية: "الدين بين الماضى والحاضر" ..

هذه أيضاً قضية قريبة من القضية الأولى من ناحية أنها تدور حول الزمن، ولكن ما يميزها هو أثر الزمان على كل دين من الأديان السماوية نفسها، والأديان ظهرت منذ أوقات سحيقة، فقد سلخت اليهودية قرابة ثلاثة آلاف سنة والمسيحية قرابة ألفين. وأكثرهاً شباباً هو الإسلام وقد مضى عليه ألف وأربعمائة عام. وطبيعى أن الأديان عندما ظهرت كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مختلفة تماماً عما هى الآن.

ولما كانت الأديان تظهر عند فساد الأوضاع وتهدف لإصلاحها فقد كان عليها أن تتعامل مع ظروفها طبقاً للأصول التى وضعها الله تعالى لتطور المجتمعات والتى بالنسبة للإسلام لا تؤدى المعجزة دوراً فيها، وكان عليه أن يتبع الوسائل التى تؤدى عملياً إلى تحقيق أهدافه. وباستثناء العقيدة التى كانت قضية حياة أو موت، ولا يملك الإسلام فيها ترخصاً أو تحللاً أو تنازلاً، فإنه فى كل ما عداها تقريباً سلك سياسة التدرج، لأن الرفض البات الكامل قد لا يكون مستطاعاً، وقد اتبع الإسلام التدرج فى الصلاة، والصيام، والربا، والخمر إلخ ...

ومع مرور القرون يصبح الثوب الذى فصل لطفل صغير.. غير مناسب، بعد أن أصبح هذا الطفل رجلاً كبيراً طويلاُ عريضاً ممتلئ الجسم وهكذا تختلف الشكليات التى جاء بها الدين عندما ظهر أول مرة عما وصل إليه التطور. ويحكم عليها التطور بأن تكون عملة أثرية أو قطعة من التراث القديم الذى يكون مكانة المتاحف.. وليس مجالات الحياة الدنيا.

وكما قلنا، فإن هذا لا يحدث بالنسبة لجوهر الأديان – العقيدة – فالأديان جميعاً تقوم على أمرين لا ينالهما التغيير والتبديل وهما يكسبان قوتهما من ذلك. ومن طبيعتهما "المبدئية" التى تستعصى على الاغراض "أولهما الإيمان بالله وإسلام النفس له" وثانيهما "حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس والبعد عن الشرور" الأول يحقق الرضا النفسى والثانى يحقق السلام الاجتماعى. وتجد هذين فى الوصايا العشر، وفى خطبة الجبل للمسيح وفى خطبة الوداع للرسول أمـا مـا عدا هذين فإنما أدخل فى باب الشعائر والقوالب والشكليات وما يضيفه الذين يتولون أمر الدين من تحريمات أو تحليلات تعود بالدرجة الأولى إلى الظروف وإلى القدرة على الاجتهـاد.. وهى وإن استحقت الاتباع حيناً فإن هذا لا يغير من حقيقتها أو يزكى طبيعتها، فهى فرعيات لا يضير الاختلاف فيها أصل الأديان.

وما يوجد الشبهة لدى الناس أن تقوى القلوب ليست من الظـواهـر المعلنة التى يعلمها النـاس ولكنها من السرائر التى تكتنفها الصدور ولا يطلع عليها النـاس. كما أن مظاهر حسن الخلق والتعامل هو مما لا تختص به الأديان عـادة، إذ تشـاركها فيه الآداب، ومن هنا يلتبس على النـاس الحكـم بهذيـن المعياريـن. في حين أن الطقوس الظـاهرة والشعـائر هى مما لا يخفى على النـاس، وما تتصور أنه الدين. ومن ثم تحكم على الديـن بهـا، وينسحب على الدين كل ما ينسحب على هذه الطقوس والشعائر من مدح أو قدح..

على أن الإسلام هو أقل الأديان خضوعا للتأثر بهذه الظاهرة، لأن القرآن قلما يتحدث من التفاصيل، والشكليات. ولو تصفحنا القرآن لوجدنا أن تسعة أعشاره حثت على التقوى وسلامة القلوب وفتح العقول، ولن تجد فيه من الأمور المحددة إلا القلة النادرة. فالقرآن لا يذكر أسماء، ولا تواريخ، ولا عناوين، ولا تفاصيل وإنما يعنيه التذكير والهداية. بل حتى فى الصلاة والزكاة والحج لم يعُن بأن يحدد تفاصيل هذه الشعائر المقدسة. وبقدر ما أمر بها وحث عليها فإنه لم يحدد ركعات الصلاة، ولا مناسك الحج ولا نسب الزكاة إلخ... وترك هذا كله للرسول ليوضحها لأن من مهام الرسول بجانب "البلاغ" "البيان" أيضاً.

والسؤال الذى يرد على الذهن هو لماذا لم يقم القرآن بالتحديد ؟ والرد الوحيد هو أنه أراد التأييد للكليات وحدها. ولم يشأ أن يشرك بها التفاصيل. وترك هذه المهمة للرسول.

وقد قام الرسول بهذه المهمة فبين طريقة الصلاة وركعات كل صلاة وما يُتلىَ فيها.. كما عين نسب الزكاة وذكر بالتفصيل مناسك الحج وكل خطوة منذ أن يسافر الحاج حتى يعود.

ولكن الرسول لم يشأ لهذه التفاصيل التى قررها شفاها أن تكتب أو تسجل بل أمر من كتب شيئاً أن يمحوه. ولم يسجل أبو بكر هذه التعليمات النبوية، مع أنه حرص على جمع القرآن ولم يفعل ذلك عمر أو عثمان أو على ولم تدون السُنة إلا على رأس المائة الأولى بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز.

والدلالة التى يوحى بها رفض الرسول تدوين كلامه هو أنه لم يشأ لكلامه أن يكون له صفة "التأبيد" القرآنى، لأنه وهو الرسول الأمين يعلم أن القرآن لم يشأ لهذه التفاصيل التأبيد.

وليس معنى هذا أنه لا يؤخذ بالسُنة، فلم يكن هناك من هو أحرص من الخلفاء الراشدين على تطبيق السُنة فيما لم يجدوه فى القرآن، ولكن معناه أن السُنة تطبق ما ظلت صالحة، كما كان الحال فى القرون التى تلت المرحلة النبوية – فإذا أظهر التطور فى بعض ما جاءت به قصوراً، فعندئذ يعاد إلى القرآن لاستلهام الحل من روحه وجوهره..

وليس تخلف بعض النصوص النبوية عن التطور أمراً يعيبها، فقد كانت صالحة ردحاً طويلاً وأن تختلف عن التطور لا يمس صلاحيتها عندما وضعت. وقد قال النبى نفسه أنتم أعلم بأمور دنياكم أما التأبيد فإنه يستعصى على البشر. ولا يتولاه إلا الله تعالى ولأن الفقهاء أنفسهم لم يعتبروا السُنة كلها "تشريعاً" كما أن الكثير من الأحاديث إنما أريد بها تعميق الحاسة الإيمانية، أو كما روى عن ابن مسعود "كان النبى يتخولنا بالموعظة فى الأيام كراهه السآمة علينا" البخاري.

وفى معركة التطور الذى لا مناص عنه، ولا مفر منه يكون علينا أن نقبل التضحية بكثير من الطقوس والشكليات التى التصقت بالدين حتى عدت منه، حتى يمكن مساجلة التطور، لأن التخلف عنه يعنى – فى النهاية خسارة ما هو أهم من هذه الطقوس والشكليات.

بل إننا أمام النص القرآنى نفسه يجب أن نفكر ولا يجوز أن نخر أمامه صما وعميانا، فقد تكون العلة التى من أجلها أصدر القرآن حكما قد انتفت، وبالتالى لم يعد من مبرر لإعمالها وهذا ما فعله عمر بن الخطاب فى اجتهاداته المشهورة، أو أن نعتمد على آليات القرآن الكريم نفسه التى تسمح بمخالفة مثل هذه الشكليات إما على أساس أنها من اللمم أو ما يتجاوز الله تعالى عنه يوم القيامة، أو أن ما يقوم به الإنسان من صالحات تجبّ ما فعله من سيئات (إن الحسنات يذهبن السيئات) أو لمجاوزة الوسع الذى يتقيد به التشريع إلخ...

المقدمة الثالثة: إسلام الله والرسول وليس إسلام الفقهاء والمذاهـــــب ..

وهذه قضية لم يكيفها المفكرون الإسلاميون أو يضعوها فى الصيغة المناسبة. كما لم يمنحوها الأهمية التى تستحقها فى حين أنها أكبر عامل من عوامل تخلف الفكر الإسلامى والمجتمع الإسلامى. فالإسلام الذى يتعبد به المسلمون اليوم فى أربعة أقطار الأرض ليس هو إسلام الله والرسول ولكنه إسلام الفقهاء والمذاهب التى وضعت منذ أكثر من ألف عام وبلورت فهم الفقهاء، والمحدثين، والمفسرين فى هذه الآماد القديمة عن القرآن والسُنة. وهو فهم تأثر بروح العصر المغلقة ووسائل البحث والمعرفة المحدودة وصعوبات الاتصال. فضلاً عن أنه بعد كل شىء فكر رجال مهما كانوا عباقرة، ومهما كانوا مخلصين، فأنهم بشر معرضون للخطأ وليس لديهم مناعة من القصور البشرى. وكانت النتيجة أن تطرق إلى التفسير استشهادات واقتباسات مسهبة من التوراة وعلم أهل الكتاب. وأن دخل حظيرة الكلمة المقدسة للرسول آلاف من أحاديث موضوعه لا عداد لها دسها الكيد للإسلام آونة، والحرص على ترهيب الناس وترغيبهم آونة أخرى بينما تحكمت فى الفقه طبيعة المنطق الأرسطى الشكلى البعيد عن الحياة والناس وقامت مذاهب على أساس لم تعد ذات موضوع. وأصبح المرجع لها هو أقوال الأئمة والشراح التى أشبهت شبكة شديدة التعقيد، أو قميص كتاف يقيد حرية الفكر والعقل أو جلمود صخر حطه الماضى فى طريق المستقبل فسده.

إن التحدى الحقيقى الذى يجابه المفكر المسلم اليوم هو أن جل ما قدمه الفقهاء والمفسرون والمحدثون لم يعد صالحاً لاختلاف المنهج. وبهذا لم تصبح القضية تعديلاً أو تطويراً أو تنقية للتراث. لقد أصبح من الضرورى إقامة الفكر الإسلامى على منهج جديد يعود رأساً إلى القرآن الكريم، ويفهمه كما أراد الله له. فقد أنزله الله للناس وسيلة لهدايتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور. فالغاية هى الإنسان والوسيلة هى القرآن. والرسول كذلك يقول "أمتى أمتى" وهذا شىء لا نجد له أثراً فى منهج الفقهاء لأنهم عكفوا على معالجة النصوص كنصوص منبتة عن غاياتها. والقرآن يقرر الحرية، والعدالة والسماحة، والفقهاء يقررون التكفير، ويحلون دماء المخالفين، ولا تعنيهم العدالة بوجه خاص.. والقرآن يتقبل الخطأ والضعف من الإنسان ما لم يصر عليه، ويجعل له سبيلاً فى التوبة وعمل الصالحات.

لقد ترك الفقهاء القرآن وراء ظهورهم وعمدوا إلى السُنة التى اتسعت أبوابها بحكم ألوف الأحاديث الموضوعة فاعملوها وأغفلوا القرآن. وكان عليهم أن يعلموا أن السُنة حتى لو كانت صحيحة فإنها لا تماثل القرآن، وليس لها تأبيد القرآن. بعد أن نهى الرسول عن كتابة حديثه وأمر من كتب شيئاً أن يمحه.

وما ظل المسلمون يستلهمون أحكامهم من فقهائهم فلن يكون هناك تقدم، لأنهم اشتروا الذى أدنى بالذى هو خير. وتركوا القرآن وراء ظهورهم. وقد كانت مصادر التوصل إلى الحكم كما وضعها الرسول لمعاذ: القرآن، فإن لم يجد فالسُنة، فإن لم يجد فالاجتهاد وهى مرجعيات لا تجد فيها ذكراً لفقهاء ولا لمذاهب، والقرآن موجود والسُنة موجودة فلماذا يحيد المسلمون عنهما ويأخذون بأقوال رجال..

لقد وصل العجز والكلل وسقوط الهمم وتراخى العزائم وصدأ العقول أن تصور المسلمون اليوم أنهم لا يستطيعون أن يفهموا القرآن إلا عبر التفاسير ولديهم من مفاتيح المعرفة ووسائل البحث ما لم يكن يحلم به المفسرون القدامى فضلاً عن أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وروحه تحكم أسلوبه، ومعانيه تحكم كلماته.

وثمة مرجع آخر يكون علينا أن نستشيره ونرجع إليه هو "الحكمة" التى أنزلها الله تعالى مع الكتاب. وهى باختصار حكم العقل السليم وهى ما يجب أن نستصحبه دائماً ونحن ننظر فى القرآن الكريم حتى تكون نظرتنا رشيدة، وحتى نتوصل إلى فهم المراد القرآنى ونحن فى هذا نعمل النص القرآنى ]وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[.

المقدمة الرابعة: التمسح بالدين..

التمسح بالدين ظاهرة من الظواهر التى تشيع فى الجو الدينى وتلتصق بالإسلام فى حين أنها ليست من الإسلام فى شىء ، بل يمكن أن تكون مما جاء الإسلام للقضاء عليه.. ومن مظاهر التمسح بالدين أننا نجد من يقول عند البيع والشراء "وحد الله" "صلّ على النبى" و "لا إله إلا الله" إلخ... وقد تجد فى مكتب التاجر يافطة "هذا من فضل ربى" أو يتناقل الأثرياء..

ملك الملوك إذ وهب

لا تسألن عن السبب

الله يعطى من يشاء

فقف على حد الأدب

وما أكثر ما استغلت جملة "وأطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم" أو "الرجال قوامون على النساء" أو "إن كيدهن عظيم"..

ويكاد يكون التصوف كله تمسحاً بالإسلام، وأنظر إلى شهر الصيام وكيف استحال إلى شهر "الطعام" وإلى الذين يقومون بالعمرة كل عام.. وهذه كلها صور من التمسح بالإسلام..

على أن موضوع المرأة وبوجه خاص الحجاب هو أكثر الموضوعات التى يُتمَسّح فيها بالإسلام، وتعطى باسم الإسلام أهمية ومنزلة وقداسة بحيث تعد أصلاً من أصول الدين.

وأصول الإسلام معلومة وهى الإيمان بالله والرسول وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً..

وجوهر الإسلام التقوى وأن يأتى الإنسان ربه بقلب سليم، وأن يكـون مفتاحاً للخيـر مغلاقاً للشر، كـريمـاً، عادلاً يرفض الظلـم فى كـل صـوره.. ويقرأ القرآن ويتدبره ويكون له فى الرسول أسوة حسنة.

فما علاقة هذا كله بالحجاب والطلاق والاختلاط إلخ... هذه مجالات هامة ولا شك ولكن ليس لها الأولوية، ولا القداسة التى يلصقونها بها إذ هى ليست من أصول الإسلام ولا تمس العقيدة فى شىء.

إن التمسح بالدين ضاعف الأحاديث والأحكام عن المرأة أضعافاً مضاعفة بحيث تضخمت وتناولت كل صغيرة وكبيرة ثم أضفت عليها من الأهمية والقداسة ما أعطاها طابعاً جعـل الحجـاب من "المعلوم من الدين بالضرورة". وهو ما تضمنته فتوى المحكمة السودانية التى حكمت منذ عشرين عاماً على محمود طه بالإعدام. وما كررته حديثاً فتوى أزهرية أنكرت على وزير التربية والتعليم أن يصدر زياً موحداً لمدارس البنات لا يتضمن الحجاب، مع أن الحجاب "من المعلوم من الدين بالضرورة!!" وأضافت إحدى فصائل المجاهدين فى الأفغان إلى شعاراتها التى أشبهت شعارات الإخوان المسلمين "الله غايتنا والرسول زعيمنا" "والحجاب رمز عفتنا" إلخ...

وقد استجازوا بدعوى الحرص على الإسلام ورعاية مقدسات الإسلام كل صور التحريض على المرأة كأن المرأة عدو الإسلام اللدود، وليست هى خديجة التى آوت ولا عائشة التى قادت ولا أم سلمة التى أشارت.. ولا هى التى أوصى بها الرسول فى آخر كلماته ولسانه يتلجلج.

ومع هذا فما أبعد دعاويهم عن الإسلام الذى يتمسحون به.

إن الإسلام يستهدف العدالة والموضوعية وهؤلاء الناس يفرضون تقاليدهم الجاهلية ويدّعون أنها الإسلام.

فأين ما يطبق حالياً، وما يطالب به المتحمسون بالدين من مهر باهظ "وجهاز" ثمين وشقة من كذا غرفة. وهو بالإضافة إلى مخالفته لتوجيهات الإسلام أوجد أزمة فى الزواج وقضى على الشباب المصرى بأن يبيع نفسه فى أسواق النخاسة العربية أو الأجنبية حتى يوفر ثمن شقة وبقية المطالب فلماذا لم يطبق الذين يتمسحون بالدين على بناتهم ما طبقه الرسول على ابنته فاطمة التى جهزها بمرتبة ووسادة من ليف.

وانظر إلى ما يتبع فى الزواج. وكيف أن الإسلام يرى أفضل الزيجات أيسرها، وأن المهم بالنسبة للرجل والمرأة ه الدين أما الجاه والغنى والنسب والحسب فما لا يعطيه الإسلام أهمية كبيرة..

على أن كل هذه الصور من التمسح بالإسلام تهون أمام دعوى "الشرف" التى تلصق بالمرأة باسم الإسلام وتجعل أى تصرف يخالف المألوف، أو أى شائعة بالحق أو بالباطل تعد تلويثا لشرف الزوج أو الأب يجب غسلها ولا غسل لها إلا بالدم...

إن هذه النبرة هى مما يستهجنه الإسلام، وإن الأخذ بالشائعات مما اعتبره الإسلام قذفا وإشاعة للفحشاء، وحذرت آيات سورة النور من تقبلها أو الاستمتاع إليها ووجهت المسلمين بـأن يظنّـوا بأنفسهم خيـراً ومـا أجمل هذه الآيـات ]لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ[ (النور 12) ما أبعد هذه الآيات عن تلك الصيحات المجنونة، المسعورة، التى تتعالى إثر كل شائعة طالبة: الدم الدم !..

لقد حما الإسلام اسم المرأة وسمعتها من الشائعات وجعل هذا الشائعات إفكا وقذفا يعاقب من يجرؤ عليه دون دليل بالجلد ثمانين جلدة، ولكن الغيرة الحمقاء والحمية الجاهلية تجعل الأب والأخ ما إن يسمع شائعة عن بنته أو أخته أو زوجته حتى يهرع إليها بالسكين، بدلاً من أن يلاحق المفترى ويطالبه بالدليل أو أن يوقع عليه العقاب.

لما جوبه الفقه الإسلامى بمأزق هو إدعاء الزوج على زوجته بالزنا، دون أن يكون له شاهد فإنه ضرب المثل الأعلى فى الالتزام بالعدالة والموضوعية وضبط النفس فعندما جاء للرسول أحد صحابته وقال "سمعت بأذنى ورأيت بعينى" لم ير الرسول أن هذا يعفيه من إحضار شهود، لأنه لا يجوز أن يكون مدعيا وشاهداً ولما كان إحضار شهود فى مثل هذه المشكلة الحساسة المعقدة عسيراً أو مستحيلاً، فقد أوجب القرآن على من يدعى على زوجة بالزنا – دون أن يكون له شاهد سوى نفسه أن يشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وتشهد المرأة أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين والخامسة أن لعنة الله عليها إن كان من الصادقين.. ثم يفرق بينهما. وهذه هى آيات الملاعنة 6 – 10 سورة النور.

وبهذا حلت المشكلة حلاً حضارياً، قد لا يكون هناك بديل عنه ..

وقد تقبل الصحابى هذا الحل... وعندما ولدت المرأة بعد ذلك ولداً أشبه الرجل الذى اتهمت به، لم يتخذ زوجها ولم يتخذ الرسول معها إجراء فقد انبتت العلاقة وأصبح أمرها إلى الله ..

قارن هذا التصرف المنضبط بجنون ما يسمونه القتل للشرف وما يشيع فى الكثير من الدول الإسلامية ويبرر قتل الرجل لزوجته إذا ضبطها فى اتصال جنسى بآخر أو حتى إذا أشيع عنها هذا.. وما أكثر ما يتضح أن الشائعات كاذبة أو كيدية.. بعد أن تكون الضحية البريئة قد قتلت.

وتنشر هذه الظاهرة فى عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، وقد كسبت شهرة كبيرة عندما قتلت سامية عمران فى باكستان فى أبريل سنة 1999 بتدبير من والديها بسبب مضيها فى إجراءات الطلاق من زوجها دون رغبة والديها فاغتيلت علنا فى مكتب محاميتها "اسما جهانجير" وقد ألقت هذه الواقعة الضوء على الجرائم التى ترتكب باسم الشرف فسجلت التقارير ارتفاعاً فى معدلات ارتكاب تلك الجريمة بنسبة 90% فى باكستان كما تشكل هذه الوقائع نسبة 25% من إجمالى الجرائم فى الأردن ورصدت بعض التقارير أن عدداً كبيراً من الضحاياً هن من المغتصبات عنوة.

هذا وتعطى المادة 340 من قانون العقوبات الأردنى العذر المحل أو المخفف لعقوبة من يقتل زوجته أو إحدى محارمه فى حالة المفاجأة بالتلبس بالزنا أو الفراش غير المشروع وقد طالب الكثير من المصلحين بإلغاء هذه المادة. ونظمت فى فبراير عام 2000 مظاهرة كبيرة ضمت بعض أفراد الأسرة المالكة ورؤساء العشائر تحمل يافتات تقول " لا لجرائم الشرف" و "لا لقتل البريئات" و "المادة 340 مخالفة للشريعة الإسلامية" ومع هذا فلم يكن لها من أثر فى الدوائر الإسلامية، بل لقد نقلت مجلة الوسط (العدد 42 فى 21/2/2000 الصفحة 16). تحت عنوان "الإشاعة الكاذبة تكفى للقتل. نساء بريئات فى جرائم الشرف" إن هذه الدوائر طلبت الترخيص بمظاهرة لتأييد المادة 340 ورفض محافظ العاصمة. خوفاً من اصطدام المتظاهرين ببعضهم بعض. وأصدرت جبهة العمل الإسلامى فتوى تطلب بالإبقاء على المادة 340، علما بأن جبهة العمل لم تصدر فتوى عندما أقر مجلس الأمة لعام 1994 مشروع قانون معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية.

وأوردت مجلة البيان التى تصدر فى لندن (عدد غرة المحرم 1421 – أبريل / مايو 2000 ص15). نبأ آنسة أردنية هربت إلى أمريكاً مع صديقها الذى أقام معها علاقة جنسية. وطلب الاقتران بها فرفض أبوها وأصر على قتلها. فهربت وطلبت حق اللجوء السياسى خاصة بعدما جاءتها رسالة من إحدى شقيقاتها تخبرها بأن والدها أمر الذكور من أفراد العائلة بقتلها. وأنه يريد أن يتم هذا قبل وفاته حتى ترقد روحه فى سلام !!

ولا يقتصر وباء "جريمة الشرف" على الأردن أو مصر أو الباكستان أو بنجلاديش، لقد وجدت فى السويد حيث تقطن جالية كردية، ففى مارس سنة 2002 أطلق رحمى والد فاديما شاهنداك البالغة من العمر 26 سنة النار على رأسها فقتلت لأنها كانت تتصرف كما يتصرف النساء السويدات مما دفع الجالية الكردية التى يصل تعدادها فى السويد لأربعين ألفا لأن تضغط على أبيها بضرورة التخلص من هذا العار وقال الوالد الذى قام بقتلها وهو فى السجن أنه لم يكن لديه من خيار سوى تنفيذ وعده بقتلها .

وذكر شقيقها لسلطات التحقيق "أقتل الشرف هو جزء من حضارتنا."

وقالت إحدى الكرديات من أصل عراقى التى غيرت اسمها لتجنيب أسرتها فى العراق المشاكل أن هناك ما بين 30 و40 شاب يختبئون من أقارب ذكور أقسموا على قتلهن كما جاء فى جريدة الشرق الأوسط عدد 9 مارس سنة 2002 ص5.

وقد أقيمت جنازة مؤثرة للقتيلة التى كانت محبوبة لدى كثير من السويديات حضرها معظم أصدقائها وكذلك إحدى أميرات الأسرة المالكة.

ويماثل هذا فى المأساوية ما عمدت إليه أسرة سوري زوجت فتاتها من شاب يختلف دينه عن دينها أذ أرسلت إليها أخاها الصغير الذى يبلغ أثنى عشر عاماً لزيارتها، فلم تكد تفتح له الباب حتى أفرغ فى جسدها رصاصة بندقية كان يحملها. ولما كان حدثا فإنه لم يحاكم وإنما زج به فى مؤسسة الأحداث، كما اعتبرت الجريمة فى إطار جرائم الشرف (جريدة الحياة اليومية اللندنية – 23 أبريل سنة 2002 ص19).

وحتى فى مصر، وبالنسبة لأسرة يفترض أن يكون مستواها الفكرى مرتفعاً نجد طبيباً مصرياً يقتل زوجته الألمانية لأنها تورطت فى علاقات غرامية مع آخر ويقول والد الطبيب القاتل.. "عزائى الوحيد أن أبنى دافع عن شرفه."

ونجد التمييز الذى فى الأردن فى مصر أيضا. فإن المادة 337 من قانون العقوبات تنزل بالعقوبة التى توقع على الزوج الذى يفاجئ زوجته متلبسة بالزنا، وقتلها فى الحال من عقوبة القتل العمد وهى الأشغال الشاقة المؤبدة – أو المؤقتة – إلى عقوبة الحبس أقصاها ثلاث سنوات وحدها الأدنى أربع وعشرون ساعة وللمحكمة أن توقف تنفيذ العقوبة إذا قلت مدتها عن عام. فى حين أن الزوجة إذا ضبطت زوجها متلبساً بالزنا فإن القانون (المادة 75) ينص على أن يكون الضبط داخل مسكن الزوجية. فإذا تم ذلك وقتله فى الحال، فنها تعاقب طبقاً للمواد 234 و236 بعقوبة القتل العمد والتى تتراوح عقوبتها ما بين الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة والتى تتراوح عقوبتها ما بين 15 و3 سنوات. وترجع هذه التفرقة الظالمة إلى أن القانون المصرى استمد أساساً من القانون الفرنسى الذى تأثر بقانون نابليون وأشرنا إلى تحيزه ضد المرأة.

وآخر ما وافتنا به الأنباء، ونحن نعد هذا الكتاب للطبع ما نشرته جريدة الشرق الأوسط يوم 27/5/2002 ص22 تحت عنوان الأزهر يرفض مشروع قانون يساوى بين الزوج وزوجته فى عقوبة الزنا "وجاء فى الخبر رفض مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر برئاسة الدكتور شيخ الأزهر مشروع القانون المقترح من أحد أعضاء البرلمان المصرى باعتبار المرأة التى تقتل زوجها عند ارتكابه جريمة الزنا مدافعة عن شرفها، ومن هنا تستحق الرأفة أسوة بالرجل الذى يقتل زوجته عند ضبطها متلبسة بجريمة الزنا.

وقال قرار الرفض: أن الرجل فى هذه الحالة يدافع عن عرضه وشرفه الذى لا يشاركه فيه أحد بينما الموقف مختلف بالنسبة للمرأة التى تقتل زوجها عند ارتكابه هذه الجريمة."

نقول إن مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة لم يشأ أن يكون أقل تعصباً من منظمة العمل الإسلامى بالأردن. وان هذين معاً سلكا مسلكاً أسوأ مما يسلكه الغوغاء الذين تتغلب عليهم العواطف والشائعات والتقاليد، لأنها أقامت حكمها على أساس منطق "ذكورى" بحت قد يمت إلى قانون نابليون بصله، ولكنه لا يمت إلى القرآن والإسلام.

فإذا بحثنا عن الأساس والدعائم لهذه التصرفات فإننا نجده فى "التقاليد"..

وليست التقاليد فى حقيقتها إلا صورة من صور الوثنية لأنها هى ما فعله الآباء والأجداد واعتباره تشريعاً، وتحليلاً وتحريماً.. وليس هناك فرق بين هؤلاء وبين الذين انتقدهم القرآن لأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله..

ولكى نوضح للقراء مدى عمق التقاليد وتمسك الناس بها. ننقل هنا ما قالته إحدى الآنسات فى محاضرة لها عن أن لدى إحدى الدول العربية تقليداً يفرض على المرأة أن تلبس العباءة التى تغطيها من رأسها إلى أخمص قدميها. فإذا كشفت عن وجهها أمام رجل من غير محارمها جلدت وهى موضوعة فى كيس مغلق عليها..

وتستطرد المحاضرة :

وفى بلد عربى آخر تفخر المرأة الشريفة بأنها لم تخرج من بيتها كل حياتها حتى إلى بيت أهلها مهما عمهم من مصائب أو أفراح إذ أن مصطلح الشريفة عندهم أن لا تخرج من بيتها كل حياتها سوى مرتين الأولى لبيت زوجها والثانية لقبرها.. هذا مع العلم بأن المرأة هناك على العموم تلبس ما يشبه الإحرام تلف به كل جسدها بما فيه رأسها ووجهها عدا ثقب صغير لعين واحدة تتبين منه طريقها، إذا خرجت مضطرة ولم تتمسك بقانون الشرف ‍!

وتحدثت عن زوجة اضطرت لأن تطلب الطلاق لأنه كان عليها أن تقبل يدى أم زوجها وأبيه كل يوم ولا تخرج إلا بإذن ذلك الأب ومعها رقيب خاص.

ولما كانت المحاضرة تلقى على مجموعة من المفكرين والعلماء وتتعرض للتعقيب فقد عقب عليها الدكتور على عبد الواحد وافى – وهو أستاذ اجتماع تعلم فى فرنسا وألم بالطبع بالجوانب المتعددة والمختلفة لقضية المرأة. فانتقد عليها.

أولا نقمتها على العادات والتقاليد الموروثة عند المسلمين فى تحجيب المرأة. وفرض الطاعة عليها لزوجها ولأهله إلى حد تقبيل اليدين والرقابة عليها إذا خرجت، والحياة معهم كما تقتضيه العادات المتبعة وماذا علينا من هذه التقاليد إذا كانت تراثا لنا مشى عليه آباؤنا منذ قرون أفلا يجمل بنا أن نفتخر بها ؟

ثم قال: وهكذا نستطيع أن ننكر على الآنسة زعمها أن من المنكر حجب المرأة حتى لا تخرج من بيتها طوال حياتها إلا مرتين إحداهما عند الزواج إذ تغادره إلى بيت زوجها والثانية إلى القبر، وماذا على المرأة من هذا إذا كانت هذه الخطة مرسومة فى سجل تقاليدنا الموروثة، فأين مشاكل المرأة هنا!! أرى أن ليس فيما قدمته الآنسة المحاضرة لنا أية مشكلة من مشاكلها.

ولاحظ الشيخ أحمد الشرباصى أن المرأة فى الكويت إنما توضع فى كيس يقفل عليها، قبل أن تجلد، خشية أن يظهر جسمها وهى تجلد، وليس للمبالغة فى التعذيب.

فهل يتصور الإنسان أستاذاً محنكاً فى علم الاجتماع درس فى فرنسا وغيرها يمكن أن يقول مثل ما قاله الدكتور عبد الواحد وافى ويرتضى تقليداً يحول دون أن تخرج المرأة من بيت أبيها إلا مرة واحدة لزوجها، ومرة لقبرها. فأى استعباد للتقاليد يماثل هذا.

أن دلالة هذا كله هى أننا فى موضوع المرأة تحكمنا التقاليد وليس الإسلام.

0 التعليقات:

إرسال تعليق