السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

تعميق العقيدة قبل تطبـيق الشريعة

لا ريب أن القارئ قد تكوَّن لديه فكرة عن الطبيعة الخاصة للشريعة نتيجة تفرّعها من العقيدة وأن هذه الحقيقة هي التي تعطي الشريعة طبيعتها الخاصة التي تميزها عن منظومة القوانين التي تضعها الدول الأوروبية أو غيرها، أعني دون الاعتماد على أساس ديني، والتي يفترض بالطبع أن تكون محلّ التقدير باعتبارها القانون. ولكن هذا قلّما يتحقق بالقدر اللازم إذ كثيراً ما لا تثق الجماهير في بعض نصوص قانون ما وترى أنه قد وُضِعَ لغاية خاصة وليس لمصلحة عامة وقد يصل امتهان القانون إلى إطلاق تعبير "القانون حمار" في بعض الكتابات، وهذا أمر لا يُتَصَوَّر بالنسبة للشريعة إذ أن جذرها الديني يضفي عليها حصانة وقداسة ويعطي الالتزام بها طابعاً إيمانياً..

ومع أن الفضل في هذا كله يعود إلى العقيدة إلا أن كثيراً من المفكرين الإسلاميين فُتِنوا بالشريعة وما توحي به بفضل كمالها من تكوين مجتمع أمثل تنتفي فيه المنازعات والمصارعات التي تمزّق المجتمعات الأخرى.

وشيئاً فشيئاً يتحوّل هذا الإعجاب إلى إيمان بأهمية الشريعة.. وشيئاً فشيئاً يكبر هذا الإيمان ليطغى على العقيدة فلا تُذْكَر إلا لماماً، وكأن الشريعة، بحكم نصوصها، يمكن أن تؤدّي وظيفتها في تكوين المجتمع الأمثل.

ولما كانت الفكرة لدى هؤلاء عن تطبيق الشريعة يأخذ صورة تقنين الشريعة أي إصدار القوانين التي تبلور نصوصها في مواد قانونية بهدف التطبيق، ولما كان إصدار القوانين هو حكر الدولة الذي لا ينازعها فيه جهاز آخر فإن أمل هؤلاء كله تمحور حول تكوين الدولة التي تصدر قوانين الشريعة..

ومع أن هذا السياق من مقدّمات لنتائج يبدو طبيعياً وسليماً، فالأمر المحقق أن نصوص قوانين الشريعة ما لم تصطحب الطبيعة الإيمانية لها فإنها لن تعد إلا نصوصاً جوفاء يمكن استغلالها وتحريفها، أو على أحسن تقدير تفقد حرارة الإيمان.

وما لم تكن هناك عقيدة، فلن تكون هناك شريعة، وإنما سيكون هناك نظم مدنية تمثلها القوانين الوضعية.

لقد قلنا إن العقيدة هي الأصل.. ويكون طبيعياً أن يأتي تعميق العقيدة قبل تطبيق الشريعة، ليس فحسب لأن هذا هو ما تقتضيه العلاقة ما بين الأصل والفرع، ولكن أيضاً لأنه هو التطوّر الذي أخذه تاريخ الإسلام. فقد ظهرت العقيدة، وظلت وحدها هي التي تمثل الإسلام طوال سنوات مكّـة، أي ثلاثة عشر عاماً من ثلاثة وعشرين عاما هي مدة البعثة، ولم يكن للإسلام طوال الفترة من حدود أو شريعة أو جهاد إلا بمعنى تكوين النفس تكويناً إيمانياً يقوم على جهاد النفس، ولو مات أحد المسلمين في هذه الفترة وهو يعب الخمر عياراً لما جوزي على ذلك في الآخرة. وبعد أن انتهت هذه المرحلة وظهر مجتمع المدينة (لأن كلمة دولة المدينة ليست دقيقة تماماً لاعتبارات عديدة أشرنا إليها فى مناسبات سابقة عديدة) ظهرت الشريعة.

فالترتيب الطبيعى للأمور أن تظهر العقيدة أولاً.. وتتعمق في النفوس حتى يمكن تطبيق الشريعة. لأن تطبيق الشريعة لابدّ وأن يرتكز على أساس إيمانى (وهو ما تقدمه العقيدة).

إن الإيمان ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه لأنه :

_______________________________

أ. هو الذي يجعل الناس تتقبل موجبات ومحرّمات الشريعة، إذ ليس من السهل منع الناس من الاكتساب عن طريق الربا، أو البيوع الفاسدة أو الالتزام بعدم شرب الخمر أو عدم الانسياق مع ما تهوى الأنفس وكذلك الإيمان بضوابط الحكم الإسلامي ما لم يؤمن بها الناس إيماناً قلبياً طوعياً.

ب. إن فهم الشريعة -في ضوء العقيدة- سيحسم الاختلافات في تحديد المشكلات، وأولوياتها، وطرق علاجها وسلامة التطبيق وعدم الانحراف وتحقيق التكامل ما بين الشريعة والعقيدة وسيصهرها جميعاً في بوتقة واحدة بحيث تكون الثمرة (الشريعة) مرتبطة بالجذر (وهو العقيدة) ومرتكزة عليه.

ج. إن الإيمان، وهو ثمرة العقيدة، هو الذي يختصر الوقت، ويوفر قوة الدفع اللازمة لتحقيق التغيير وتحويله من إرادة إلى فعل وعمل، وبقدر قوة الإيمان بقدر ما تكون قوة الدفع، وبقدر ما يختصر الوقت ويحقق النجاح.

فالإيمان هو الطاقة، أو الوقود المجاني المستكنّ في النفوس والذي يؤدّي تفجيره إلى توليد قوة الدفع التي بدورها تحوّل الخطة المرسومة من كلمات وأرقام إلى وقائع وأفعال. كما يفعل البنزين في الطائرة إذ يدفع بها للأمام بسرعة ويمكّنها من الارتفاع عن الأرض.

وهكذا تتضح أهمية العقيدة التي تولد الإيمان الذي يولد القوة الدافعة.

ومن هنا فإن العقيدة لازمة لأنها هي التي توفر الإيمان أي القوة الدافعة، ولتوضيح الصورة، أي سلامة التطبيق وعدم الانحراف. وكثيراً ما يخطر للإنسان أن هذه الفكرة هي مما لا يختلف عليه اثنان، ومما تؤدي إليه البديهة والترتيب المنطقى للأولويات، ولكن ما جعل البعض يتحمس لأولوية الشريعة هي الفكرة الخادعة عن قدرة "السلطة" على تحقيق الإنجازات الكبرى. إن السلطة يمكن بالفعل أن تقيم مشاريع عمرانية مثل "السد العالى" ولكنها تعجز تماما عن بناء إنسان أو بثّ إيمان أو حتى إصلاح إدارة القصر العيني.

وقد استهوت هذه الفكرة وضللت أذكياء الدعاة بحيث آمن بها المعسكران اللذان -على تناقضهما- يمثلان "دعوة" إلا وهما الهيئات الإسلامية، والأحزاب الاشتراكية. وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله حذراً في هذه الناحية، وخلص من أن يؤخذ بها عندما قال "إن الإخوان لا يسعون للحكم ولكن الحكم هو الذي يسعى إليهم"، وكذلك تفرقته الحكيمة ما بين القوة.. والثورة، وترحيبه بالأولى وعزوفه عن الثانية، وتركيزه على البناء النفسي والعمق العقيدى والأساليب التربوية، ولكن هذا لم يستمر حتى في الإخوان المسلمين كما لم يوجد أصلاً لدعاة الاشتراكية وعلى رأسهم لينين، الذي جعل هدفه الأول هو "السلطة" وتصوّر أنه عن طريق السلطة يمكن أن يبني الاشتراكية، ولما نجح في الاستيلاء على السلطة عمل جاهداً بكل ما فيه من تصميم وإرادة وعبقرية لإقامة بناء الاشتراكية وإرساء قواعدها، وبدا أنه نجح في هذا، ولكن سبعين سنة من السلطة لم تكف لتحقيق الاشتراكية وتهاوت أخيراً عندما تعرّضت للاختبارات، ويمكن القطع بأن عشر سنوات من الرسول كانت أبقى أثراً من سبعين سنة من لينين وخلفائه لأن الرسول عنى أولا بتعميق العقيدة خلال ثلاثة عشرة سنة قبل أن يتقلّد سلطة. كما أن خمسين سنة من نشاط الجمعية الفابية فى بريطانيا لإدراج الفكر الاشتراكي بالنشر والدعوة السلمية بين النقابات والجماهير كُلِّـلَت بالنجاح عندما بدأ حزب العمال ثورته الاجتماعية سنة 45 عندما تقلد الحكم، وحقق أكثر ما تطلبه الجماهير من الاشتراكية. دون أن يقع فى سوءة السلطة أو يرتكب ما ارتكبه لينين وستالين وماوتسي تونج من سفك الدماء أنهاراً والقضاء على الحرية وغيرها من الموبقات التي لوّثت الحكم الاشتراكي وجعلته نقمة بدلاً من أن يكون نعمة.

وهذه التجربة المُرَّة المكلّلة بالدماء، والآلام والفظائع إنما كانت لإيمان لينين -الذي وصل إلى حدّ الهوس- بالسلطة -ولك أن تقول الثورة- وأنها قادرة على تحقيق العقيدة الاشتراكية، في حين أن السلطة هي سمّ العقائد وما أن تدخل السلطة حتى تخرج العقيدة.

وأنه لمن أهم الأمور أن يؤمن قادة الدعوات الإسلامية أن وازع السلطان لا قيمة له ما لم يقم على أساس وازع القرآن، وأنهم ما لم يقيموا بناءهم على أساس من العمق الإيمانى، فإنه لا بد سينهار.

وما يفسر هذه النقطة -أي عقم السلطة- أنه ما لم يتوصل الدعاة إلى إشاعة العقيدة بحيث تتأصل وتتعمق في مجموعة -حتى ولو كانت أولا محدودة ثم تشيع وتصبح محل تسليم من القاعدة العريضة- نقول إن لم يتحقق هذا فإن السلطة تصبح فى أيدي "أقلّية"، وعندما تريد هذه الأقلّية أن تحكم فإنها لا تجد الآذان الصاغية، أو القلوب المتجاوبة بل تجد الشك الذي يقترن في أذهان الكثيرين بالسلطة ولا تجد الأعوان المؤمنين الذين ينشرون عقيدتها بالحكمة والإقناع والأسوة، وتضطر عندئذ إما أن تحكم بالديكتاتورية فيفسد كل شئ فوراً، أو تلجأ إلى تكوين حزب يهرع إليه المنافقون والانتهازيون لأنه حزب السلطة، فيقوم البناء على أساس هشّ لا يلبث أن ينهار، كما لا يفيد أن يكون لدى الهيئة حزب قوي مؤمن ولكنه قليل العدد لأنها ستضطر إلى الحكم بديكتاتورية هذا الحزب الذي لا يلبث أن يتآكل أو تفسده السلطة والنفوذ والبيروقراطية، وهذا هو المأزق الذي وقع فيه لينين، وجمال عبد الناصر، وما أخطأه الشهيد سيد قطب الذي يُعَدّ فكره صورة إسلامية من الحزب اللينينى.

وما لم يفهمه قادة الدعوات الإسلامية المعاصرة هو أنه ما لم تكن هناك قاعدة عريضة بحجم الأغلبية، مؤمنة بالشريعة، فإن أي محاولة لتطبيقها لن تكون ناجحة وستنتهي إلى الفشل وتكون لها انعكاساتها السيئة على الدعوة الإسلامية.

فإذا كان تعميق العقيدة هو الشرط الأوّل لنجاح تطبيق الشريعة، فهناك مشكلة كأداء تقابلنا. تلك المشكلة هي..

أي عقيدة.. ؟

- 2 -

يبدو أن هذا سوآل لا محل له، وأن مجرّد إيراده يثير الدهشة، فنحن لم يكن لدينا ما نتكلم عنه إلا العقيدة وأهميتها، ثم تأتى الآن ونقول أي عقيدة ؟

هذا يعود إلى حقيقة لم ينفسح السياق السابق للإشارة إليها على أهميتها.

تلك الحقيقة أن فهم الإسلام كله، وليس العقيدة والشريعة بل أيضاً الروافد الهامة من تفسير وحديث وفقه السائد الآن والمسلّم به والذي تدعو إليه المؤسسة الدينية والذي يؤمن به المصلحون وتنادي به الدعوات الإسلامية على اختلافها، المتشددة والمعتدلة، بل والتي تفخر بها كل هؤلاء من دعاة، أو هيئات، أو أزهر أو فقهاء، هو الفهم السلفي للعقيدة.

وهو فهم يختلف عن الفهم القرآنى، كما يختلف عن الفهم النبوي.

إنه باختصار فهم الأسلاف...

وإذا أردنا محدّدات لهذا الفهم لقلنا إنه يشترط :

1. إتباع المذاهب السُنية الأربعة.

2. قبول ما تعرضه التفاسير المعتمدة مثل الطبري والقرطبي وابن كثير، الخ... واستمداد الأحكام منها وكذلك قبول كل "علوم القرآن" من ناسخ ومنسوخ وأسباب النزول الخ...

3. قبول ما قرّره المحدثون فى "علوم الحديث"، رواية ودراية والتسليم على الأقل بصحة أحاديث البخاري ومسلم.

4. توقير السلف الصالح وعدم المساس بهم واستلهامهم إن لم يكن فى الأحكام، فعلى سبيل الأسوة..

وفى الوقت الذي تعتزّ فيه الدعوات الإسلامية على الساحة بهذا الميراث السلفى، ويؤمن به الكتاب والدعاة الإسلاميون، ويُعَدّ كل خارج على هذه الضوابط الأربعة شاذاً، أو منحرفاً أو مائلاً عن الخط المستقيم ويتعرض للاتهام بشتى التهم، فإن دعوة الإحياء الإسلامي[4] ترى أن لا تَقَدُّم إلا بعد مجاوزة هذه السلفية، وأن التمسّك بها لن يسمح بأي تقدّم وإنما يعني الجمود وبالتالي التخلف..

وهذا ما يتطلب إعادة كتابة منظومة المعرفة الإسلامية بفروعها الثلاث التفسير والحديث والفقه وهذا الأمر على جسامته، وعلى أنه يصدم الكثيرين، فلا مفرّ منه.

لا الترقيع يصلح، ولا التجزيئيّة تصلح، ولا التدريج يصلح. هذه كلها مسكّنات وعلاجات وقتية لا تلبث أن تتبدّد.

ولماذا يكون لا مفرّ منه...؟

الردّ : لأن الالتزام به يعني التخلف..

وما الدليل على ذلك...؟

الدليل على ذلك واقع المسلمين المتمسكين بهذا الفهم السلفي والملتزمين به. فالواقع المتخلف المتدهور يضعنا أمام سؤال إما أن هذا التدهور والتخلف يعود إلى هذا الإسلام الذي يلتزم به المسلمون خاصة وإننا نجده (أي التخلف) حيثما وُجِدَ المسلمون، في الشرق والغرب والشمال والجنوب.. وإما أن هذا الذي يؤمن به المسلمون ليس هو الإسلام الحقّ لأن الإسلام الحقّ نهض بالمسلمين ولم ينزل بهم.

وهذا التحليل الأخير هو الحقيقة والصواب وأمامه لا يكون مفرّ..

ولماذا ننزعج، ونندهش، ونخاف، ونحجم... هل الذي وضع هذا التراث ملائكة نزلوا من السماء؟ هل هم أناس لهم عصمة ووُصِفوا بالكمال دون الناس؟ ألم يقل أبو حنيفة منذ أكثر من ألف وثلثمائة عام "هم رجال.. ونحن رجال"؟ أفلا يحق لنا أن نقول إننا اليوم أقدر من أسلافنا على العمل بفضل ما توافر لنا من أدوات ومعدّات البحث وبفضل الثورة الثقافية التي جعلت المعارف تنهمر كسيل جارف..؟

وإذا كان الشاعر القديم قد قال :

إنا وإن أحسابنا كرمت

لسنا على الآبـاء نتـكل

نبني كما كانت أوائلنا

تبني ونعمل مثلما عملوا

فما أحقّ أن ينطبق علينا هذا القول...

نحن لا نحسّ عجزاً، ولا يتملكنا خوف، بل إننا بالفعل قد وضعنا الخطوط الأولية لإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية وشرحنا هذا بنوع من التفصيل فى كتاب "تجديد الإسلام" ويمكن تلخيصه كالآتي :

أولاً : إثبات أن الإسلام إنما أنزل للإنسان وليس العكس، ذلك أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يجعل الإنسان خليفة له على الأرض فخلقه في أحسن تقويم، وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وهذه وقائع لها مدلولاتها بالطبع. وحرصاً على هداية الإنسان وتسليحه ضدّ الغوايات، ولدعمه عندما تعرّضه أوضاع ما للإذلال والاستغلال. أنـزل الله الإسـلام )لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[ ولـ )يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[. فالإسلام في جوهره رسالة تحرير والرسول في حقيقته زعيم جماهير والغرض من وراء كل هذا هو الإنسان وإعداده ليكون أهلاً لما أراده الله له خليفة على الأرض.

وقد أثبت كتاب "تجديد الإسلام" كيف أن الديانات كلها كانت هي التي أنقذت الجماهير المستَعْبَدَة من إسار الجبروت: اليهود في مواجهة الفراعنة، الأرقاء والمستضعفين في مواجهة روما. وأخيراً القبائل العربية المتنازعة لتكون أمة تحمل الكتاب والميزان ولم تكن هناك قوّة أخرى غير الأديان تعني بالجماهير ولا تقوى على صدّ جبروت الأباطرة والفراعنة والقياصرة.

وأثبت الكتاب أن المجتمع النبوي في المدينة، وهو الوحيد الذي يمثل الإسلام ويحسب عليه، كان مجتمعاً إنسانياً بمعنى الكلمة، يوفّر الكرامة والأمن للإنسان من واقع فهم المسلمين وقتئذ لدينهم وأن شرعة المساواة كانت هي القانون الأعظم في مجتمع المدينة وأن سلطة الحكومة كانت مقيدة من البداية بقبول الجماهير وفي النهاية بحقّ الجماهير في تقويمها وعزلها.. ولا يؤثر على هذا أن لم نجد كلمات "الحرية" أو "حقوق الإنسان"، لأن للأديان تعبيراتها الخاصة التي تعبر بها عن هذا المضمون نفسه. فالبراءة الأصلية وفكرة أن الحرام هو ما جاء نصّ صريح بتحريمه في القرآن يحقق الحرية بأوسع معانيها ومجالاتها، وحقّ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" يحقق التكافل الاجتماعي، وفرض الزكاة التي تؤخذ من الأغنياء لتعطى للفقراء يحقق التكافل الاقتصادي. وكان الإنسان في المدينة عهد الرسول آمنا فى سربه، لا يتصور أن يهجم عليه بوليس ويزجه فى السجن، فالمدينة لم يكن لها بوليس ولم يكن فيها سجون.

ثانياً : إن هذه الفترة التي حققت "اليوتوبيا" التي تمناها الفلاسفة انتهت سريعاً، ربما بمجرّد أن طُعِنَ عمر بن الخطاب، وربما طالت شيئاً ما ولكنها انتهت نهاية مأساوية ومؤسفة سنة 40 هجرية عندما أحلّ معاوية بن أبي سفيان الحكم العضوض محلّ الخلافة الراشدة ونقل العاصمة من المدينة إلى دمشق..

من هذه اللحظة بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الدولة الإسلامية، مرحلة حافلة بالحكم المطلق، وإهدار كل الحقوق والحريات ووصلت هذه المرحلة إلى قمتها فى القرنين الثاني والثالث للهجرة – عندما بلغت المرحلة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس أو "لا يتجاوزها السحاب."[5]

ولا تقتصر طبيعة هذه المرحلة على الحكم المطلق، إذ إنها اتسمت بظهور مِلَل ونِحَل شاذة، منحرفة، من آثار الوراثات القديمة لحضارات الشعوب التي فتح الإسلام بلادها كما دخلها أجناس من ترك، وفارسيين، وديلم، وكرد الخ... وتأثر فِقْهُها وفكرها بآثار الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو..

في هذه الفترة بالذات وضع الأسلاف منظومة المعرفة الإسلامية (لاحظ أن أحمد بن حنبل الممثل الأول للسلفية عاصر حكم المأمون والمعتصم أي القمة التى بلغتها الإمبراطورية وبدأت بعدها في النزول).. وتحتّم على الفقهاء سياسياً، وسيكولوجياً وعملياً، شاعرين أو غير شاعرين، راغبين أو غير راغبين، أن تصدر أحكامهم بما يتفق مع طبيعة المرحلة الإمبراطورية للدولة وليس بما يتفق مع الأصول التي قررها القرآن وطبقها الرسول. لقد انتهى عهد الإنسان وبدأ عهد السلطان، انتهت الأوضاع القرآنية النبوية الإنسانية وجاءت الأحكام السلطانية السلطوية المستبدّة، وظهر هذا في أحكام تأمر بطاعة الأمير وإن جلد ظهرك وغصب مالك، وتغفّل الزكاة بينما تُوَثَّن الصلاة، وتُصْطَنَع صيغة "من جهل معلوماً من الدين بالضرورة" فهو مرتدّ، وتُقَنَّن دونيّة المرأة وهذه كلها تناقض مع ما كان قائماً في المرحلة النبويّة والخلافة الراشدة بقدر ما تتفق مع مقتضيات الدولة الإمبراطورية.

ثالثاً : كشفت دعوة الإحياء عن مأخذ خطير، في منظومة المعرفة الإسلامية دقّ على القائمين عليها – ذلك هو وجود كيد قديم للإسلام ظهر من أيام الرسول وعبّرت عن الآية ]وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ[. {فصلت 26}.. ولما كان القرآن محفوظاً في الصدور، مثبتا في الرقاع فإن اللغو فيه إنما يكون ممكنا بوضع أحاديث تشكك فيه وتشوّه صفحته وتتضمن أحكاماً مناقضة له، وقد قام المشركون والمنافقون بهذا، ولكن لم تُعْرَف هذه الأحاديث أو لم يؤخذ بها إلا مع بداية المرحلة الإمبراطورية ومع وضع المفسرين تفسيراتهم إذ دقّ عليهم تبيّن وضعها لأن الذين وضعوها جعلوا لها سنداً ينتهي إلى عمر بن الخطاب أو عائشة أو ابن مسعود أو غيره من الصحابة.. وكان المحدّثون قد أصبحوا أسرى الإسناد وأصابهم ذلك بنوع من الغفلة فضلاً عن أن هذا التشويه أو المسخ كان يتلاءم مع طبيعة المرحلة الإمبراطورية ويحلّ لها مشكلتها. ولا يخالج دعوة الإحياء شكّ أن كل الأحاديث عن الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وكل ما حفلت به كتب السيوطي والزركشي عن آيات أو سور منسية أو أخطاء في الآيات، يضاف إليها الأحاديث التى تقيّد حرّية الاعتقاد وتقرّر دونيّة المرأة.. وتأمر بطاعة الحاكم.. كل هذا من وضع الذين أرادوا أن يلغوا في القرآن، ودعوة الإحياء، دون أي تردّد، تستبعدها جميعاً. إننا لا نرى عملياً أثراً لهذه الأحاديث في عهد الرسول. لأنها تسلّلت واندسّت وبدأ الأخذ بها في المرحلة الإمبراطورية للدولة الإسلامية. أما في عهد الرسول فما كانت تسمح الأوضاع الإنسانية/النبوية بها.

رابعاً : وأخيراً فقد كان لدى دعوة الإحياء الشجاعة لتعلن أن الأسلاف، مع الاعتراف بنبوغهم وإخلاصهم وتفانيهم، فإنهم ليسوا معصومين ولا يمكن الإدّعاء بأن كل ما توصّلوا إليه يتحتم الأخذ به وأنه حتى لو كانت هذه المنظومة سليمة عندما وُضِعَت، فإنها الآن، وبعد ألف عام من وضعها لا يمكن أن تجابه مشكلات العصر أو تحقق نوعاً من التعايش معه، وأن الالتزام باتّباعها هو كإلزامنا أن نلبس عند رجولتنا ما كنا نلبسه في طفولتنا.. هذا شيء مرفوض ولا يمكن عملياً.. خاصة إذا وضعنا في تقديرنا ما اتّسم به العصر الحديث من سياق حثيث وثورة في المعرفة والاكتشاف والاختراع نتيجة لثلاثة قرون متوالية من التراكم المعرفي والتواصل ما بين دول أوروبا سمح في النهاية بالوصول إلى الإنجازات المذهلة التي غيرت تماماً صورة الأوضاع عما كانت عليه من مائة سنة، دع عنك ألف عام..

وهكذا انتهت دعوة الإحياء الإسلامي إلى عدم الالتزام بمنظومة المعرفة الإسلامية التي وضعها الأسلاف وضرورة إعادة تأسيسها بطريقة مختلفة.

إن دعوة الإحياء الإسلامي لم تأت بشيء من عندها أو من غير الإسلام لأن القرآن – وهو عماد الإسلام – أرشدنا إلى المصادر الأخرى التي كانت من فكرها، لهذا فإنها اعتمدت القرآن.. والسُنة، ولكن برؤية جديدة. ثم الأساس الثالث الذي توصّلت إليه – وهو الحكمة – وهو مما نصّ عليه القرآن الكريم أيضاً.

إن الرؤية الجديدة للقرآن تستبعد التفاسير كافة – من بن عباس حتى سيد قطب وترى أن هذه التفاسير فرضت رؤية مضلّلة للقرآن. لأنها اعتمدت على أحاديث موضوعة أو ركيكة – فضلاً عن أن المفسّر لا يمكن أن يتجرّد من نفسه التي بين جنبيه، وما تكنه وراثات واتجاهات وتيارات ثقافية ومذهبية وروح العصر الخ... إن دعوة الإحياء الإسلامي تقول: ارفعوا أيديكم عن القرآن.. دعوه يعبّر عن نفسه بنفسه ولا تضعوا وصيّاً عليه أو ترجمانا له..

أما السُنّة فقد ارتأت الدعوة ضرورة ضبطها بمعايير قرآنية فأي حديث لا يخالف هذه المعايير فيمكن أن يُنْسَب إلى الرسول، أما ما يخالفه فلا بد فيه علة، ولا يؤخذ به لأنه لا يعقل أن نأخذ برواية مشكوك فيها وننبذ النصّ القرآنى المحكم والمقدّس والقطعي الثبوت.

فضلاً عن أنه ليس كل ما جاء فى السُنة يُعَدّ تشريعاً وأن السُنة لا تستقل بالتحريم والتحليل وأن ليس لها التأبيد الذي أنفرد به القرآن.

على أن دعوة الإحياء تؤمن أن القرآن والرسول هما المكوّنان الأساسيان اللذان يجمعان ويوحّدان أمة الإسلام على اختلاف لغاتها وأجناسها، وهي تخصّ الرسول بأنه الأسوة والقدوة والمثل الأعلى للمسلمين جميعاً..

وأخيراً فإن دعوة الإحياء الإسلامي تدفع بالحكمة لتأتي بعد القرآن والسُنة. لقد استخرجتها دعوة الإحياء من آيات القرآن الكريم الذى قرنها بالكتاب فى آيات عديدة وأبرزت أن الحكمة هي الباب المفتوح للإسلام على عالم العصر.

لقد حرر هذا التأسيس الجديد القرآن من أوزار المفسرين وحرّر السُنة من لوثات الوضاعين وغفلة المحدّثين، فأصبح القرآن قوّة تعمل لتحقيق ثورة الكلمة. وعاد الرسول مبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. ثم فتح باب الحكمة حتى لا يكون الإسلام كتلة جامدة أو صندوقاً مغلقاً ولكن سبيلاً مفتوحاً على كل الثقافات في كل أنحاء العالم ووضع الإنسان في صدارة هذه المنظومة باعتباره الهدف الذي من أجله جاء الإسلام، فلم يعد الإسلام مشكلة ولكن وجدانا حيّاً ونشوة متجدّدة وإضافة للبشريّة تستكمل بها نقص الحضارة الحديث

0 التعليقات:

إرسال تعليق