الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الرابع أصل مسكوت عنه من أصول الإسلام يقرّر الانفتاح والتعدّدية

يعجب الإنسان كيف فات على الأئمة الأعلام أن يجعلوا من الحكمة أصلاً من أصول الإسلام ومصدراً من مصادر الفقه. بعد أن ذكر القرآن الكريم الحكمة مراراً وتكراراً، وقرنها بالكتاب.

أغلب الظن أنهم عزفوا عن الاعتراف بأصل ومصدر مفتوح غير محدد أو منضبط، يسمح بالانفتاح والتعددية، وهى صفات يضيق بها الفقهاء عادة، لأنها تفتح عليهم بابا لا يمكنهم التحكم فيه.

وقد ذكر القرآن الكريم الحكمة فى آيات عديدة منسوبة إلى الرسول ومقترنة بالكتاب مثل :

  • ﴿وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ {129 البقرة}

  • ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ {151 البقرة}

  • ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ {123 البقرة}

  • ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا {34 الأحزاب}

  • ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ {2 الجمعة}

وكان إيراد القرآن للحكمة بهذه الصفة مما دفع بالشافعى لأن يذهب إلى أن الحكمة هى السُنة، لأنه ليس للآيات من تأويل إلا هذا، وهو أمر كان يمكن قبوله لولا أن القرآن الكريم استخدم كلمة الحكمة فى آيات أخرى كثيرة بمعنى ينفى أن يكون المقصود بها السُنة. فقد آتى الله داود الحكمة.

  • ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251 البقرة}

  • ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ {20 ص}

كما آتى "الحكمة" لقمان :

  • ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {12 لقمان}

كما آتاها عيسى :

  • ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ {48 آل عمران}

  • ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي {63 الزخرف}

بل آتاها النبيين :

  • ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ {81 آل عمران}

كما تكلم عن الحكمة بصفة مجرد :

  • ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ {269 البقرة}

  • ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ {125 النحل}

  • ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ {5 القمر}


f

إزاء هذه الآيات التى تجعل الحكمة جزءاً من رسالة الرسل وشريكة للكتاب، يكون علينا أن نرد على سؤال ذى شقين: الشق الأول هو ماذا يعنيه القرآن بتعبير "الحكمة" ؟ والثانى هو لماذا ذكر الحكمة جنبا إلى جنب الكتاب ولم يقتصر على الكتاب وحده ..

لعل أقرب تعيين لـ معنى الحكمة فى القرآن هو العقل الخّير والقيم العليا، والعلم الهادي الذي يستبعد الخرافة ويحول دون أن يضل المؤمنون ..

وقد يلقى بضوء على هذا أن الله تعالى وصف نفسه فى آيات كثيرة بأنه "حكيم" أو عزيز، وفي مواضع قليلة " خبيراً ".

كما قد يعنينا أن نعلم أن "الحكم" وليس هو ببعيد فى الاشتقاق اللغوى من كلمة "حكمة" يراد به "القضاء" أو سياسة أمور الناس، وهى كلها تحتاج أول ما تحتاج إلى الفطنة والكياسة ومعرفة طبائع الأشياء وأصول الشريعة. والسنن التى يسير عليها المجتمع.. وهى فى إجمالها لا تخرج عما أشرنا إليه من المعرفة، والعلم والخبرة.

يعزّز هذا أيضا النصوص المتواترة والمتعددة فى القرآن عن الحث على التفكير وإعمال العقول والتدبر فيما خلق الله وأوجده من آيات وسنن والتعرف على آثار الحضارات القديمة وما تركوه من جنات وعيون الخ.. وأدل على هذا ما جاءت به الآية 37 من سورة الرعد ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ. فنجد هنا الجمع ما بين القرآن والحكم والعلم فى سياق واحد.

ومن ناحية أخرى، فمن المعروف أن الحكمة ترادف كلمة "الفلسفة" وأن "الفيلسوف" إنما هو "محب الحكمة" وقد فهم أبن رشد الحكمة التى ذكرها القرآن بمعنى الفلسفة.

وجاء فى مقال لأحد الباحثين عن معنى الحكمة ..

إن معانى الحكمة التى حددها اللغويون والمفسرون الإصابة فى القول والفعل، ومعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، أو هى العقل، والعلم والفهم، والمصلحة، والموعظة، والفلسفة، أو المعرفة بالدين والفهم فيه، والنبوة، والفقه، أو هى بحسب الطبرسى فى كتابه "مجمع البيان فى تفسير القرآن" العلم الذى تعظم منفعته وتجل فائدته، وإنما قيل للعلم حكمة لأنه يمتنع به عن القبيح لما فيه من الدعاء إلى الحسن والزجر عن القبيح.[10]

ومهما قيل أو يقال فإن الحكمة لا تخرج أبداً عن معنى السداد والصواب، ووضع الشىء فى موضعه قولاً وعملاً فالحكيم هو الذى يحكم الشىء، ويأتى به على مقتضى العقل الواقع لا بحسب الميول والرغبات ولا يستعجله قبل أوانه أو يمسك عنه فى زمانه أو ينحرف به عن حدوده وقيوده كما يذكر محمد جواد مغنية فى كتابه "التفسير الكاشف".

والتعريفات التى قدمها فلاسفة الإسلام للحكمة لا تختلف فى جوهرها عما سبق ذكره، فهى عند الكندي "علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأن غرض الفيلسوف فى عمله إصابة الحق، وفى عمله العمل بالحق" (راجع رسائل الكندي الفلسفية)، والأمر نفسه نجده عند الفارابى وابن سينا.

أما ابن رشد فلعله خير من فصَّل العلاقة بين الحكمة والشريعة، وأثبت بما لا يقبل الشك أن الحكمة واجبة شرعاً وعقلاً. فهو يرى ابتداء فى كتابه "فصل المقال" أن الحكمة أو الفلسفة لو تعمقنا معناها فهى ليست شيئاً أكثر من "النظر فى الموجودات من حيث دلالتها على الصانع، أعنى من جهة ما هى مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم" وهذا توجيه واضح إلى أن غاية الفلسفة في النهاية الوصول إلى حقيقة وجود خالق لهذا الكون، ولا أدري هل توجد للدين عموماً، وللإسلام خصوصاً، غاية أجل وأسمى من ذلك " أ هـ .

نقول إننا وإن كنا نتفهم تفسير ابن رشد للحكمة فإننا نؤثر التعريف العام – أى العقل والعلم والفهم وإدراك روح الإسلام ومقاصده وقيمه. لأن الفلسفة قد تثير معنى اصطلاحيا يحصر الحكمة فى متاهات علم الكلام ويركز الاهتمام على ذات الله تعالى – كما عند المعتزلة – وكان أحرى بهم أن يستخدموا الحكمة فيما يحقق الخير للمجتمع والناس وما يصلح الأوضاع الاقتصادية والسياسية وينقلها إلى عالم الحياة الدنيا الذى تكون مفيدة وفعاله فيه، وليس إلى عالم الغيب وذات الله تعالى فضلاً عن أننا نهينا عن تقصيه وعمليا فإن اعتبار الحكمة هى الفلسفة وعكوف الفقهاء عليها أدى إلى إفساد الفلسفة، وإفساد الدين معاً.

إن هذا التفسير لمعنى كلمة "الحكمة" التى ترددت فى القرآن الكريم كأصل من أصول رسالة الأنبياء يعيننا فى الرد على الشق الثانى من السؤال، وهو لماذا ذكر القرآن الحكمة جنباً إلى جنب القرآن ولم يقتصر على الكتاب وحده ؟ الرد أن الكتب السماوية سواء كانت قرآناً أو إنجيلاً أو توراة هى بالدرجة الأولى كتب هداية، وقد تضمنت أصول وقواعد ومبادئ هذه الهداية، ولكنها لم تتضمن تفاصيل وجزئيات ذلك. كما لم تتناول جوانب أخرى عديدة تزهر بها الحياة الإنسانية، ولا يمكن أن يتضمنها كتاب واحد، وفى الوقت نفسه فلا يمكن تجاهلها أو إغفالها، فهناك الآداب من شعر أو نثر أو رواية، وهناك الفنون من تمثيل وموسيقى ورقص، وهذه الآداب والفنون تبلور العواطف والأحاسيس وما يجيش به القلب، وهناك الفلسفة وطرائقها فى البحث وهناك قبل هذا كله، العقل الإنسانى الذى يستبد به الفضول والاستشراف للمعرفة ونشوة الكشف عن الأفاق المجهولة، والتجربة.. بحيث يغير، ويبدل فى حياة الناس وأوضاع المجتمع، ويكون ما أراده الله له وحيا ذاتيا فى نفس كل فرد يحمل النفثة الإلهية فى الإنسان، ويبدع نماذج وتجليات للحكمة التى تعزز الدين وتستكمل نقصه، وتحقق للحياة الإنسانية الثراء، والوفرة، والتعددية، وتربط ما بين القديم والجديد، الشرق والغرب اللغة العربية وغيرها من اللغات.

ولعل الله تعالى وهو العليم بذات النفوس لم يشأ للمسلمين أن يوغلوا فيما وجههم إليه القرآن من تقوى وورع بحيث يحيف هذا على حق الحياة الدنيا وما تتطلبه من مقتضيات فتذهب حياتهم الدنيا بدعوى الحرص على الحياة الآخرة والله تعالى يريد التوازن وأن لا يفقد المسلمون حياتهم ووجودهم الدنيوى فنص على الحكمة بجانب الكتاب وأورد ذلك فى الكتاب نفسه حتى لا يظن ظان أن الأخذ بها (أى الحكمة) يخالف الكتاب. لأن الله تعالى أراد بجانب التدين الأخروى نوعاً من التدين الدنيوى، بل أنه أعترف بما تنزع إليه النفوس بحكم طبيعتها، ولم يأت الإسلام لقمع الميول والعواطف، ولكن للحيلولة دون أن تستبد الشهوات بالناس فلا يعنوا إلا بها.

ونحن لا نستبعد أن ينتهى هذا المنهج إلى ما قد يجافى الحكمة نفسها، والميل إلى بعض ما "تهوى إليه الأنفس"، ولكن لا يدق على من يتعمق فى الأمور أن يرى أن هذا إنما أريد به توقى شر أعظم. ونحن نرى فى حياتنا اليومية أن الإغراق فى العبادة وشدة الحرص على تجنب صغائر الذنوب قد أضاع على المسلمين حياتهم الدنيوية، وجعلهم يشقون على أنفسهم ويلزمونها بما لا يلزم، ويهدرون فى سبيل ذلك ما هو أجدى. وأنه أفقد فيهم حاسة الأولويات وواقع التعدديات. هذا كله فضلاً عن أن معالجة الأوضاع لا يمكن أن تتم بتجاهل ما تتضمنه من جوانب قد لا تروق لنا.. إذ لابد من الاعتراف بها والتعامل معها تعاملاً موضوعياً علمياً، أى بالحكمة، وليس بالتجاهل أو بالقمع.

ولو أقتصر الله تعالى على ذكر الكتاب دون ذكر الحكمة لكان من المحتمل أن يتعسف فهمه وتفسيره فئات من الناس أو أن يتخذوا منه أداة تحقق مآرب خاصة، واتجاهات معينة ولضاقت مجالات الحياة بالإنسان ووقعوا فى قبضة "كهنوت" يعسر لا ييسر ويغلق لا يفتح ويضيق لا يوسع، وهذا هو ما حدث للأسف الشديد، عندما تجاهل العلماء "الحكمة" فحرموا الفكر الإسلامى الإفادة من ثمار الحضارات البشرية، قديمة وجديدة شرقية، وغربية. فحجروا واسعا، وحبسوا أنفسهم – والإسلام – فى دائرة مغلقة.

إن "ثورة المعرفة" فى العصر الحديث وتدفقها من أربعة أركان العالم ووصولها عبر المطابع والقنوات الفضائية والإنترنت وخدمات التصنيف وضع تحت أيدى البحاث كل كنوز العالم القديم، وكل مستجدات العصر الحديث بحيث أصبح "الكتاب" أى القرآن يمثل دليل العمل والإطار العريض للخطوط الرئيسية، أما ما يملأ الحياة فهى هذه العلوم والفنون والمعارف التى تتدفق فيما يشبه الفيضان من كل الدول المتقدمة. وأصبحت رمز ثروة وقوة العصر الحديث. ومن هنا تتضح حكمة الله تعالى فى النص عليها مرجعاً وأصلاً من أصول الإسلام لأنها هى أداة التعددية والانفتاح والإفادة من كل معارف العالم وهى بعد، ما يحقق العزة والمنعة والقوة للمسلمين.

وقد طبق الرسول توجيه القرآن عندما قال "الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق بها"، وقال "اطلبوا العلم ولو فى الصين"، ووجه أصحابه لتعلم اللغات وأخذ باقتراح سلمان شق الخندق الخ ..

واليوم تنفض دعوة الإحياء الإسلامى الغبار من على الحكمة، وتعيدها إلى ما أرادها الله تعالى شريكة للكتاب فى الرسالة.. وتنهل من كل معين للحكمة. من علوم، وفلسفة، وآداب وفنون دون حرج لأنها أصل نص عليه الكتاب كمصدر للإسلام، كما أنها ليست إلا تجليات للفكر الإنسانى وما أودعه الله فيه من قوى تتوصل بها إلى الحقائق، وتصول، وتجول فى مجالات الإبداع الإلهى المعجز وتفيد منه وتثرى الحياة به، وتسعد القلوب والعقول، وتسد الحاجات – فلا تكون فاقة مادية ونفسية – ولا احتكار للمعارف ولا سدود قائمة تحول دون الإفادة من ذخائر الحضارة الإنسانية ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق