السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الثانى: الخلافة الراشدة برزخ بين رحمة الحكم النبوى وغشومة المُلك العضوض ..

- 1 -

المسلمون يواجهون المستقبل

وصف أحد الصحابة اللحظة المقبضة التى حرم فيها المسلمون من رؤية الرسول والحديث معه والاستماع إليه عندما صعدت روحه إلى باريها وقارن بينها وبين اللحظة المبهجة عندما دخل المدينة فقال "لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله r المدينة أضاء فيها كل شئ. فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم فيها كل شئ.. وما نفضنا أيدينا من التراب وأنا لفى دفنه حتى أنكرنا قلوبنا".

ولم يكن فى هذا مبالغة. فعندما كان الرسول بينهم فإنهم أمنوا العذاب.. )وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ(. وآمنوا الضلال لأن الوحى كان يتنزل عليه ويرسم له الطريق ويضع القواعد، وكانوا جميعاً يؤمنون كل الإيمان بالوحى ويسعدون كل السعادة بالرسول ويحبونه كأنفسهم أو أكثر ويفدونه بالأباء والأبناء، وكان هو كما قال الله تعالى )عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( {128 التوبة}..

فى وجود الرسول لم يكن الحكم مشكلة لأن وجوده كان يحلها أفضل حل.. ولكن الرسول انتقل إلى ربه، وهكذا جوبه المسلمون مرة واحدة، وبصورة مفاجئة بقضية الحكم.

لقد روى أن الرسول أراد أن يكتب لهم كتابا لا يضلون بعده، ولكنهم اختلفوا، فصرفهم الرسول وهى رواية لا تقدم ولا تؤخر لأنه لو كان فى هذا الموضوع وحى لما وسع النبى أن يكتمه. ولو لم يكن فيه وحى فقد يثير من الخلاف أكثر مما يؤدى إلى الاتفاق.

والشىء المحقق أن الرسول لم يعالج مع صحابته قضية الحكم بشىء من التفصيل الذى أبان به أركان الإسلام من صلاة أو صوم أو حج الخ… ودل ذلك على أن أمر الحكم، أو الخلافة. هو ما ينتهى إليه المسلمون فى ظل الظروف الخاصة بهم، وليس هو بأصل من أصول العقيدة. وإن كان من الممكن أن يدخل فى الشريعة التى مناطها العقل وهدفها العدل.. كما انتهى إليه تحقيقنا لها..[3]

وقيل إن هناك أحاديث تشير إلى "الخلافة" ونحن ننظر إليها بحذر ونعتقد أن معظمها منحول وضع بعد حياة الرسول لخدمة أغراض سياسية. وعندما نقرأ حديثا "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى" فنحن نقطع بأن الجزء الأخير منه موضوع وأن آثار الوضع ظاهرة "بالعين المجردة" دون تدقيق وتحقيق لأن طابع التحريض على اتباع "الخلفاء الراشدين المهديين" مما لا يمكن أن يقوله الرسول. فتعبير الخلفاء الراشدين تعبير متخلف عن عهد الرسول. وأقوى أحاديث الرسول عما يتبعه المسلمون هو ما جاء عن القرآن. ويقل عنه شيئاً ما أضيف إلى القرآن من سُنة النبى.." أما أن يضيف إلى إطار الالتزام سُنة الخلفاء الراشدين المهديين فهذا ما لا يمكن أن يقوله – حتى وإن زعموا أن الحديث حسن صحيح ..

وما يرويه الشيعة عنه أنه عهد إلى على فإنه لا يثبت حتى لو صدقت الأحاديث التى تعطى علياً فضلاً خاصاً كما فى حديث غدير خم والثقلين وغيرهما. ومن المسلم به أن عليا كرم الله وجهه كان أثيراً لدى الرسول، وكانت شجاعته ومواهبه محل تسليم من الجميع وحسبه أن الرسول عندما آخى ما بين المهاجرين والأنصار جعله أخاه.. وأنه عندما ولاه المدينة عندما خرج فى إحدى الغزوات وأراد على المشاركة فى الغزوة "قال له "أما ترضى أن تكون منى كما كان هارون من موسى غير أنه لا نبى بعدى" فالفضل الخاص لعلى لم يكن منكورا، ولكنه لا يعطى له حق الخلافة لأن الأحاديث لم تصرح بهذا، ولأن من المبادئ الرئيسية المقررة فى الإسلام أن النسب وحده لا يصلح مبرراً لتولية المناصب أو تقلد المسئوليات. وهو مبدأ نجده مكرراً فى القرآن وفى حديث الرسول.[4]

المشكلة ليست فحسب أن الصحابة وجدوا أمامهم مستقبلاً مجهولاً عليهم أن يستكشفوه. المشكلة أن حكم الرسول كان حكماً استثنائيا. فالرسول كان أصلاً رسولاً ونبياً، مهمته الدعوة إلى الإسلام والتعريف به، ووسيلته إلى ذلك هى أساساً الحكمة والموعظة الحسنة. ولكن التطورات فرضت عليه أن يلى الأمر وأن يصبح رأساً لتجربة فى الدولة فريدة[5] ولا تتكرر ولا يمكن لأحد بعده أن يقوم بها كما قام بها.

هذا المأزق كان أول ما فرضه عليهم موت الرسول.. وما كان بالنسبة لبعضهم – كالأنصار – ذو أهمية خاصة. لأن الرسول كان محباً للأنصار، مقدراً الدور العظيم الذى قاموا به، ولأن وضعهم كان آمنا ما ظل الرسول.. أما الآن ...

وعندما علموا بمرضه الأخير، جلسوا ببابه يبكون حتى خرج إليهم متوكئاً على على والعباس فدخل إلى المسجد واجتمع الناس وقال إنه لم يمت نبى قط إلا خلف وراءه تركة وإن تركتى فيكم الأنصار.. أوصيكم بتقوى الله والإحسان إليهم فقد علمتم أنهم شاطروكم وواسوكم فى العسر واليسر ونصروكم فى المنشط والمكره فاعرفوا لهم حقهم واقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم".

والآن وقد لحق الرسول بربه. فلا عجب إذا اجتمعوا ليدرسوا الموقف فى سقيفة بنى ساعدة، وهى دار ندوة الأنصار …

- 2 -

سقيفة بنى ساعدة، السجال الذى حدد مستقبل وطبيعة الدولة الإسلامية

أجتمع الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة التى كانت بمثابة دار الشورى للخزرج كبرى قبائل الأنصار ليتدارسوا الموقف وفى ذهنهم أن يولوا سعد بن عبادة – كبير الخزرج الأمر …

وتروى المصادر قصة هذا الاجتماع فتقول :

إن النبى r لما قبض اجتمعت الأنصار رضى الله عنهم إلى سعد بن عبادة فقالوا له إن رسول الله r قد قبض فقال سعد لابنه قيس رضى الله عنهما إنى لا أستطيع أن أسمع الناس كلاماً لمرضى ولكن تلقى منى قولى فأسمعهم. فكان سعد يتكلم ويحفظ ابنه رضى الله عنهما قوله فيرفع صوته لكى يسمع قومه. فكان مما قال رضى الله عنه بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: يا معشر الأنصار إن لكم سابقة فى الدين وفضيلة فى الإسلام ليست لقبيلة من العرب إن رسول الله r لبث فى قومه بضع عشر سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان فما آمن إلا القليل والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله r ولا يعرفوا دينه ولا يدفعوا عن أنفسهم حتى أراد الله تعالى لكم الفضيلة وساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة ورزقكم الإيمان به وبرسوله r والمنع له ولأصحابه والإعزاز لدينه والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه وأثقله على عدوكم من غيركم حتى استقاموا لأمر الله تعالى طوعاً وكرها وأعطى البعيد المقادة صاغراً داحراً حتى أثخن الله تعالى لنبيه بكم الأرض ودانت بأسيافكم له العرب توفاه الله تعالى وهو راض عنكم قرير العين فشدوا أيديكم بهذا الأمر فإنكم أحق الناس وأولاوهم به فأجابوه جميعاً أن قد وفقت فى الرأى وأصبت فى القول وكفى بعد ذلك ما رأيت بتوليتك هذا الأمر فأنت مقنع ولصالــح المؤمنين رضى.[6]

فى هذه اللحظة الحاسمة فوجئ الأنصار بدخول أبى بكر وعمر بن الخطاب وأبى عبيده بن الجراح …

لو لم يدخل أبو بكر فى هذه اللحظة بالذات، أو لو أنه تأخر بعض الشىء.. لقضى الأمر وتغير مستقبل الدولة الإسلامية تماماً ..

ولكن أبا بكر كان مسيراً إلى قدره.. كانت يد الله وراء دخوله …

دخل أبو بكر فتغير الموقف تماماً ..

تقول المصادر :

"أراد عمر رضى الله عنه أن يبدأ بالكلام وقال: خشيت أن يقصر أبو بكر رضى الله عنه عن بعض الكلام فلما تيسر عمر للكلام تجهز أبو بكر رضى الله عنه وقال له على رسلك فستكفى الكلام فتشهد أبو بكر رضى الله عنه وانتصب له الناس فقال إن الله جل ثناؤه بعث محمداً r بالهدى ودين الحق فدعا إلى الإسلام فأخذ الله تعالى بنواصينا وقلوبنا إلى ما دعا إليه فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما والناس لنا فيه تبع ونحن عشيرة رسول الله ونحن مع ذلك أوسط العرب أنساباً ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة وأنتم أيضاً والله الذين آووا ونصروا وأنتم وزراؤنا فى الدين ووزراء رسول الله وأنتم إخواننا فى كتاب الله تعالى وشركاؤنا فى دين الله عز وجل وفيما كنا فيه من سراء وضراء والله ما كنا فى خير قط إلا كنتم معنا فيه فأنتم أحب الناس إلينا وأكرمهم علينا. وأحق الناس بالرضى بقضاء الله تعالى والتسليم لأمر الله عز وجل لما ساق لكم ولإخوانكم المهاجرين رضى الله عنهم وأحق الناس فلا تحسدوهم وأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة والله ما زلتم تؤثرون إخوانكم من المهاجرين وأنتم أحق الناس أن لا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم وأبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم وإنما أدعوكم إلى أبى عبيدة أو عمر وكلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر وكلاهما له أهل. فقال عمر وأبو عبيدة رضى الله عنهما ما ينبغى لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر أنت صاحب الغار ثانى أثنين وأمرك رسول الله r بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر فقال الأنصار والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم وإنا لكم كما وصفت يا أبا بكر والحمد الله ولا أحد من خلق الله أحب ألينا منكم ولا أرضى عندنا ولا أيمن ولكننا نشفق مما بعد اليوم ونحذر أن يغلب هذا الأمر من ليس منا ولا منكم فلو جعلتم اليوم رجلاً منا ورجلا منكم بايعنا ورضينا على أنه إذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبداً ما بقيت من هذه الأمة كان ذلك أجدر أن يعدل فى أمة محمد r وأن يكون بعضنا يتبع بعض فيشفق القرشى أن يرفع فينقض عليه الأنصارى ويشفق الأنصارى أن يرفع فينقض عليه القرشى فقام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم فى الإسلام. رضيكم الله تعالى أنصاراً لدينه ولرسوله وجعل إليكم مهاجرته فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء لانفتات دونكم بمشورة ولا تنقضى دونكم الأمور. فقام الحباب بن المنذر بن زيد بن حرام رضى الله عنه فقال: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم فإنما الناس فى فيئكم وظلالكم ولن يجبر مجبر على خلافكم ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم. أنتم أهل العزو والثروة وأولوا العدد والنجدة وإنما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم وتقطعوا أموركم أنتم أهل الإيواء وإليكم كانت الهجرة ولكم فى السابقين الأولين مثل ما لهم وأنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم والله ما عبدوا الله علانية إلا فى بلادكم ولا جمعت الصلاة إلا فى مساجدكم ولا دانت العرب للإسلام إلا بأسيافكم فأنتم أعظم الناس نصيباً فى هذا الأمر وإن أبى القوم فمنا أمير ومنهم أمير. فقام عمر رضى الله عنه فقال: هيهات لا يجمع سيفان فى غمد واحد إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ولكن العرب لا ينبغى أن تولى هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم وأولى الأمر منهم. لنا بذلك على من خلفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا معتمد بباطل أو متجانف لأثم أو متورط فى هلكة. فقام الحباب بن المنذر رضى الله عنه فقال يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجلوهم عن بلادكم وولوا عليكم وعليهم من أردتم فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم فإنه دان لهذا الأمر من لم يكن يدين له بأسيافنا. أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة والله لا يرد على أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف قال عمر بن الخطاب: فلما كان الحباب هو الذى يجيبنى لم يكن لى معه كلام لأنه كان بينى وبينه منازعة فى حياة رسول الله r فنهانى عنه فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسوؤه أبداً. ثم قام أبو عبيده فقال: يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر وآوى فلا تكونوا أول من يبدل ويغير.

ثم إن أبا بكر قام على الأنصار فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم دعاهم إلى الجماعة ونهاهم عن الفرقة وقال إنى ناصح لكم فى هذين الرجلين أبى عبيدة بن الجراح أو عمر فبايعوا من شئتم منهما. فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا أنت أحقنا بهذا الأمر وأقدمنا صحبة لرسول الله r وأفضل منا فى المال وأنت أفضل المهاجرين وثانى أثنين وخليفته عليه السلام والصلاة أفضل دين الإسلام فمن ذا ينبغى أن يتقدمك ويتولى هذا الأمر عليك ابسط يدك أبايعك فلما ذهبا يبايعانه سبقهما إليه قيس الأنصارى فبايعه فناداه الحباب بن المنذر: يا قيس بن سعد عاقك عائق ما اضطرك إلى ما صنعت حسدت ابن عمك على الإمارة قال لا والله لكنى كرهت أن أنازع قوماً حقاً لهم فلما رأت الأوس ما صنع قيس بن سعد وهو من سادات الخزرج وما دعوا إليه من المهاجرين من قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن حضير رضى الله عنه لئن وليتموها سعداً عليكم مرة واحدة لازالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً فقوموا فبايعوا أبا بكر رضى الله عنه فقاموا إليه فبايعوه فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة فقال: فعلتموها يا معشر الأنصار أما والله لكأنى بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ولا يسقون الماء. قال أبو بكر: أمنا تخاف يا حباب قال ليس منك أخاف لكن ممن يجئ بعدك، قال أبو بكر: فإذا كان ذلك كذلك فالأمر إليك وإلى أصحابك ليس لنا عليكم طاعة. قال الحباب: هيهات يا أبا بكر إذا ذهبت أنا وأنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم.[7]

وهكذا انتهى سجال السقيفة. هذا السجال الذى وضع صورة مستقبل الدولة الإسلامية. فقد أخذ بمبدأ البيعة التى لم يكن لها معنى إلا سيادة الشعب، وأن الحاكم لا يكون حاكماً إلا عندما يقبله الشعب ويبايعه، وبذلك استبعد مبدأ الوراثة، ومع أن المبدأ لم يجر أصلاً فإن تجاهل سجال السقيفة له أثبت أنه غير مطروح للمناقشة لأن الجميع فهموا تماماً أن المبدأ يخالف روح وأساسيات الإسلام. وفى الوقت نفسه استبعدت فكرة منا أمير، ومنكم أمير.. لأنها تمثل ازدواجية وانقساما، بل حتى الفكرة التى عرضها أبو بكر نفسه نحن الأمراء.. وأنتم الوزراء.. لم يتمسك بها الأنصار أو يعرضونها للمناقشة – وهو تقصير منهم لعله لو استدرك لحال دون انفراد المهاجرين بالسلطة ولكن يبدو أنه – فى غياب التنهيج – لم يكن له محل كما يذكر أن أبا بكر لم يحتج بالحديث الذائع "الأئمة من قريش" لأنه كان أذكى من أن يدفع به – وأغلب الظن أن الحديث موضوع أو أنه إنما يعنى "أنهم أوسط العرب أنساباً" وليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولاده" وهو ما أبرزه بعد ذلك بوقت طويل ابن خلدون فى مناقشته لهذا الحديث.

كما يظهر السجال الصفتين البارزتين فى أبى بكر ألا وهما الكياسة والحزم، فإنه نوه بالأنصار أكثر من مرة واعترف لهم بسابقتهم وفضلهم وذكرهم بإيثارهم الذى شهد لهم به القرآن الكريم دون أن يزحزحه هذا عن موقفه. وكان هذا المسلك – بالإضافة إلى الخطوة الحاسمة التى قام بها عمر بن الخطاب عندما قال امدد يدك أبايعك.. وأنهى بذلك السجال القولى إلى الممارسة العملية.. هو الذى كسب الجولة فى النهاية.

إن من النادر أن نرى مثيلاً لسجال سقيفة بنى ساعدة فى طابعه المباشر والمركز الذى لم يستمر سوى ساعات وكان له مع هذا آثار بعيدة المدى على تاريخ الإسلام ومقومات الدولة الإسلامية. وهو بهذا يختلف تماماً عن "الجمعيات التأسيسيه" التى تتكون لوضع دستور ونظام الدولة، ويستمر عملها شهوراً ويستطيل فيها القيل والقال ثم لا تخرج بنتيجة حاسمة كالتى انتهت إليها السقيفة.

ويستشعر الإنسان الأسى لأن الأنصار ظلموا حقهم مع أن السقيفة سقيفتهم والكثرة والمنعة فيهم، وقد اجتمعوا أساساً لتولية سعد بن عبادة، فأفقدهم حضور أبى بكر وعمر وأبى عبيدة كل شئ. وعندما كشف لهم أبو بكر حقيقة أن العرب لا تسلم أمرها إلا لقريش، فإنهم عرضوا عرضاً وجيها كان جديراً بالنظر لأنه يحقق العدالة والإنصاف ويحقق توازنا كان كفيلاً بأن يكبح جماح الأرستقراطية القرشية التى استأثرت وأفسدت على الدول الإسلامية أثرها، وقد تحققت مخاوف الحباب بن المنذر التى أبداها لأبى بكر بصورة أسوأ مما كان يتخيل فى أحداث وقعة الحرة المشئومة التى استبيحت فيها المدينة وقتل رجالها وانتهك نساؤها وأجبر الباقون على أن يبايعوا "على أنهم خول يزيد" ..

ويحز فى النفس أن ذلك فات أبا بكر، وأنه وعمر أيضاً عندما انتهى إليهم الأمر لم يشركا الأنصار كوزراء أو مستشارين أو أعوانا، ويدل هذا على أن الحاكم مهما كان عبقريا ومخلصاً، فإنه يعجز عن أن يلم بكافة أبعاد وأقطار العملية السياسية لأن مشاغل الحكم العديدة لا تجعل يومه يتسع لكل المطالب، والشىء الوحيد الذى يعالج هذا النقص أن تكون بيئة الحكم حرة بحيث يمكن للآخرين أن يعرضوا وجهات النظر والجوانب التى شغل عنها الحاكم بالعديد من شواغله ..

وإذا جاز لنا أن نعتب على الشيخين، فإن الأنصار أولى بالعتاب لأنهم قصّروا فى حق أنفسهم ولم تكن تنقصهم القوة والمنعة ويبدو أن ما أشرنا إليه من تقصير فى حق الأنصار لم يفت تماماً الشيخين وإن شغلاً عنه، ولكنه فيما يبدو – كان هما من همومهم. وقد تمنى أبو بكر وهو يجود بنفسه لو أنه سأل الرسول عن الأنصار وهل لهم فى هذا الأمر نصيب فلا يظلمون نصيبهم. كما أن عمر قال فى آخر وصية له عندما طعنه أبو لؤلؤة للخليفة من بعده "وأوصيه بالأنصار خيراً – الذين تبوءا الدار والإيمان من قبلهم، وأن يقبُل من محسنهم وأن يعفى عن مسيئتهم" ..

ولعل الله تعالى أراد للأنصار أن يكونوا فى سقيفة بنى ساعدة ما كانوه عندما استقبلوا المهاجرين وآثروهم على أنفسهم فاستحقوا مدح الله لهم )وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ( {الحشر 9}..

- 3 -

انتهى الوحى وبدأ التاريخ

أبو بكر - المتبع الأمين - يسير فى أثر الرسول

من سعد الهيئات والدول أن يكون الرجل الذى يبدؤها رجلاً نابغاً توافرت فيه صفات "بناة الإمبراطوريات" كأفضل ما تكون. ومن نحسها أن يكون هذا الرجل هزيلاً اختير لجاه أو بفضل نسب أو لعصبية حمقاء جعلته مثل عيينة بن حصن سيد قومه.. لأن فترة التشكيل الأولى لها أهميتها الكبرى – وعلى حسنها أو سوئها تنعكس الآثار على الأجيال.

كان أبو بكر بلا جدال أفضل صحابة محمد، وأكفأ من يختار لشغل هذا المنصب الهام وتقلد تلك المسئولية الخطيرة، وقد أثرت فيه طول صحبته للرسول تأثيراً عميقاً، وطبعته بطابعها وجعلته يعلن أنه "متبع لا مبتدع" لأنه آمن أن اتباعه للرسول سيكفل له الهدى وسيؤمنه من الضلال، وكان هو نفسه ممتازاً توفرت له أهم صفتين لازمتين لمن يؤسس دولة، هما الكياسة والحزم. وقد توفرتا له بفضل الطبيعة التى جبله الله عليها وبفضل صحبته الطويلة للرسول عندما كان الإسلام بين أيدى ثلاثة هم محمد، وخديجة وأبو بكر. فكل واحد من الثلاثة كان له دور كبير فى نجاح دعوة الإسلام. للرسول لأنه ثبت على المبدأ ورفض المغريات وقال كلمته التاريخية "والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الدين ما تركته". وخديجة التى جعلت بيت الرسول بيت الدعوة ووفرت له الأمن والآمان والسكينة والحب الذى يغسل عن نفسه اضطهادات أعدائه. بينما يقوم أبو بكر باكتشاف العناصر الصالحة ويضم للدعوة الناشئة زهرة رجالاتها من مختلف القبائل، ومن العبيد والمستضعفين على سواء، ولو تقصينا لوجدنا أن أهم الشخصيات التى أدت أدواراً بارزة فى تاريخ الإسلام هم ممن كسبهم أبو بكر للإيمان بالإسلام "فقد كان منهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله وسعد بن أبى وقاص وأبو عبيده بن الجراح، وغيرهم وكان معظمهم شباباً فى مقتبل العمر وأتاح هذا لهم الفرصة ليؤدوا دوراً كبيراً فى مستقبل الدولة الإسلامية.

المسئولية الثقيلة التى كان على أبى بكر أن ينهض بها هى أنه كان الأول الذى وقع عليه أن يقيم "دولة إسلامية" بعد انقطاع الوحى الذى كان من أكبر عوامل نجاح تجربة "دولة المدينة" كان عليه أن يبدأ التاريخ، وما يعنيه هذا من احتمال الخطأ والقصور ومن حسن الحظ أنه هو الذى قام بهذه المهمة لأن صفاته الفريدة كانت كفيلة بنجاح تجربة تناقض مبدءاً أثبتت تجارب التاريخ كله صدقه وهو أن السلطة تفسد الأيدلوجيا. بمعنى أن من المستحيل أن يقيم دولة على أساس أيدلوجى أو قيمى – أى تكون القيم من خير، وحرية، وعدل ومساواة هى الأساس فيها. وقد قلنا إن تجربة المدينة قد نجحت لأن الذى قام بها رسول يوحى إليه من الله. ففرض ذلك على مبادئ الاجتماع السياسى. أو التفّ حول مبادئ الاجتماع السياسى بأن أوجد دولة تتجرد من أخص مقومات الدولة بالمعنى الاصطلاحى المعروف – ألا وهو جهاز القمع من جيش وبوليس الخ… بحيث يتضاءل مقوم السلطة أمام مقوم الإيمان المعزز بالوحى.

واستطاع أبو بكر أن يواصل قيام هذه المعادلة الصعبة – أو المستحيلة أولاً بفضل صفاته وخصائصه البارزة التى كانت تجعله من بناة الدول دون أن يتضمن ذلك عنصر السلطة والقمع الذى هو سوأة الدولة، وثانيا باتباعه الدقيق ومواصلته لسياسة الرسول، ودَعَمَهُ فى هذا أن أصداء الوحى كانت لا تزال تتردد حتى بعد أن انقطع الوحى نفسه، وكان القرآن الكريم غضا طريا لم تبتذله الأفواه ولم تشوهه التفسيرات، وصورة الرسول لا تزال ماثلة أمام المؤمنين. وبفضل هذه العوامل الاستثنائية استطاع أبو بكر أن يواصل "تجربة المدينة" كما استطاع ذلك عمر من بعده لتوافر العوامل نفسها، وإن كان بدرجة أقل، ولكن الأمر وقف عند هذا.إن أصداء الوحى قد خفتت بقدر ما تصاعدت نوازع السلطة، فضلاً عن أن الذى اختير للخلافة بعد عمر كان آخر واحد يصلح لها: عثمان، ولهذا فإن تجربة "دولة المدينة" التى أقامها الرسول واستطاع أبو بكر وعمر أن يمدا فيها وأن يعطياها ثلاثة عشر عاماً بعد وفاة الرسول.. إنتهت، ولم تتكرر أبداً، ولا يمكن أن تتكرر حتى الآن لأنه مع عدم وجود العوامل الاستثنائية التى أشرنا إليها فلابد أن تفسد السلطة الأيدلوجيا، لابد أن يفترس المُلك العقيدة ..

عندما نذكر إنجازات أبى بكر وهى عديدة رغم قصر مدة خلافته التى لم تستكمل سنوات ثلاث. فقد يكون أبرزها هو الخطاب الذى افتتح به عهده وأعلن فيه قواعد ومبادئ الحكم الإسلامى وواجبات وحقوق الحاكم وعلاقته بالشعب. وقد ألقى هذا الخطاب بعد أن أنتهى يوم السقيفة المشحون.

والخطاب موجز مركز ..

«أيها الناس :

قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى. الصدق أمانة. والكذب خيانة والضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ له حقه. والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل. أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لى عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله ...»

إن هذا الخطاب الذى يقرر صراحة حق المحكومين فى أن "يقوّمَوا" الحاكم، وأنه لا يكون له طاعة إذا خالف الدستور الذى انتخب على أساسه "وهو طاعة الله والرسول" كان جديراً بأن يحفظه عن ظهر قلب طلبة المدارس وأن يكتب بالذهب ويعلق فى البرلمان ورئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، وأن يفاخر به المشرعون الإسلاميون كل فلاسفة النظم السياسية فى العالم ..

ومما يزيد فى أهمية هذا الخطاب أن عمر بن الخطاب كاد أن يكرره فى خطابه الأول، وكذلك على ابن أبى طالب. وظلت فكرة مراقبة الحاكم وحق تقويمه، وأنه يفقد حقه فى طاعة الناس له إذا لم يحكم بالشرع من الأصول المقررة فى فقه الحكم الإسلامى حتى وإن طمستها الوقائع والأحداث العملية، وأهالت عليها الغبار، وجعلت كل التجارب التى خالفتها – من معاوية بن أبى سفيان حتى السلطان عبد الحميد – فاقدة للشرعية التى تقوم عليها خلافة، وأصبحت مُلكا عضوضا يعامل كما يعامل الملك …

f

كان أمام أبى بكر مشكلتان لم تدعا له وقتا يلتقط فيه أنفاسه… الأولى ما عرف باسم "حرب الردة" والثانية ابتداء الفتوح الإسلامية ..

لقد ظهرت المشكلة الأولى فى الأيام الأخيرة من حياة الرسول عندما تصور بعض المغامرين الطامحين من قادة قبائل عربية أنهم يمكن أن يدعوا النبوة فيصلوا إلى ما وصل إليه محمد وإذا كانت دعواهم زائفة وبضاعتهم خسيسة فإن العصبية القبلية تعوض ذلك، وعن هذا المنطلق أعلن مسيلمة نبوته وأرسل رسوله إلى الرسول فى أيامه الأخيرة. كما ثار الأسود العنسى فى اليمن، وادّعى طليحة النبوة ولم تكد هذه القبائل تعلم بوفاة الرسول حتى ظنت أن الأمر سيصفو لها. وعزز ذلك أن أبا بكر أرسل الجيش الذى كان الرسول قد عبأه للانطلاق إلى الشام ولم يستمع أبو بكر لرأى كل من نصحوه بالإبقاء على الجيش فى هذه الأيام العصيبة فقال لهم إنه لا يمكن أن يؤخر أمراً أمر به الرسول، كما رفض بفظاظة أن يغير أميره الشاب أسامة بن زيد. لأن الرسول هو الذى عينه وقصارى ما حدث هو أن أبا بكر استأذن أسامة أن يترك له عمر بن الخطاب وقد كان فى الجيش لأنه يحتاجه ..

وكان هناك فريق من العرب لم يرتد صراحة، أو يكفر بعد إسلامه ولكنه رفض دفع الزكاة.. التى كانت أمراً ثقيلاً على القبيلة العربية ليس فحسب لأنها تأخذ من مالها، ولكن أيضاً لأن العرب اعتبروا أن استقضاء أى مال منهم انتقاصاً لسيادتهم وإخضاعاً لهم، ونوعاً من "الإتاوة" وأرسل هؤلاء مندوبين لأبى بكر يسألونه إعفاءهم من الزكاة وكان من مهام هؤلاء استطلاع الوضع الأمنى ومدى حصانة المدينة من هجوم عليها الخ… ورفض أبو بكر بقوة "أن يفرق بين الصلاة والزكاة" وكان فى هذا يطبق مبدءاً من مبادئ الدولة من منطلق "الدعوة" إذ الحقيقة أن هذه القبائل، والقبائل المرتدة ضاقت بحكم الإسلام ورفضت أن تذعن لقيمه وأن تنتظم فى وحدته، كانت تريد أن تعود إلى حكم القبيلة القديم الذى يعطيها حقها فى حكم نفسها بنفسها وتطبيق أعرافها الموروثة. وعاد هؤلاء برفض أبى بكر، وبأن ليس فى المدينة من جيش يحميها. وفى الوقت نفسه فإن أبا بكر تنسم نياتهم فجمع البقية الباقية من المهاجرين والأنصار وجعلهم على "أنقاب" المدينة، وعبأ بقية الناس فى المسجد، وعندما هاجمت مقدمات القبائل الثائرة المدينة اصطدموا بحرسها الذى هزمهم فعادوا مدحورين إلى إخوانهم …

وبعد أربعين يوماً عاد جيش إسامة بعد أن أدى مهمته. وهنا شمر أبو بكر ليؤدب هؤلاء الثوار، سواء منهم من ارتدّ صراحة.. أو من رفض الزكاة. خاصة وأن بعضهم قتل المؤمنين بينهم فعقد أحد عشر لواء لأحد عشر أميراً وأمر كل واحد أن يسير ليقاتل إحدى القبائل المتمردة ..

وهؤلاء هم أمراء هذه الألوية :

1. خالد بن الوليد: وجهه إلى قتال طليحة بن خويلد الأسدى ببزاخة، فإذا فرغ من أمره قصد مالك بن نويرة بالبطاح.

2. عكرمة بن أبى جهل: بعث به إلى مسيلمة الكذاب باليمامة.

3. شرحبيل بن حسنة وجهه فى أثر عكرمة بن أبى جهل، فإذا فرغ من أمر مسيلمة قصد قضاعة.

4. المهاجر بن أبى أمية: وجه به إلى جنود الأسود العنسى بصنعاء اليمن ومعاونة الأبناء على قتالهم. والأبناء هم مولدة الفرس باليمن آمنوا وثبتوا على إيمانهم وذريتهم بها إلى اليوم.

5. حذيفة بن محصن: وجهه إلى أهل دبا بعمان.

6. عرفجة بن هرثمة: وجهه إلى أهل مهرة. وأمره هو وحذيفة أن يجتمعا وكل واحد منهما أمير على صاحبه فيما وجه إليه.

7. سويد بن مُقرن إلى تهامة اليمن.

8. العلاء بن الحضرمى ووجهه إلى البحرين.

9. طريفة بن حاجز ووجهه إلى بنى سليم ومن معهم من هوازن.

10. عمرو بن العاص ووجهه إلى قضاعة.

11. خالد بن سعيد ووجهه إلى مشارف الشام.

وأرسل مع كل واحد منهم نسخة من منشور جاء فيه :

"إنى بعثت إليكم فلانا فى جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وأمرته أن لا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتله وأن يسبى النساء والذرارى ولا يقبل من أحد إلا الإسلام. فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله. وقد أمرت رسولى أن يقرأ كتابى فى كل مجمع لكم والداعية الآذان. فإذا أذن المسلمون فأذَّنوا كف عنهم وأن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغى."

كما كتب إلى قواده عهداً من صورة واحدة وهى :

هذا عهد من أبى بكر خليفة رسول الله r لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام وعهد إليه أن يتق الله ما استطاع فى أمره كله سرّه وعلانيته وأمره بالجد فى أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أمانى الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ثم ينبئهم بالذى عليهم والذى لهم فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذى لهم لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم. فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف. وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب إلى الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به. ومن لم يجب داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغمه لا يقبل من أحد شيئاً أعطاه إلا الإسلام فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه. ومن أبى قاتله فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد وأن لا يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لا يكونوا عيونا ولئلاً يؤتى المسلمون من قبلهم. وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم فى السير والمنزل ويتفقدهم ولا يعجل بعضهم عن بعض ويستوصى بالمسلمين فى حسن الصحبة ولين القول.[8]

وقد سارت هذه الجيوش وأدت مهمتها بنجاح وإن كان مسيلمة وقواته وقبيلته التى تعصبت إليه على أساس أن "كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" هزموا جيش عكرمة وجيش شرحبيل بن حسنة – فوجه أبو بكر خالداً لحرب مسيلمة. واستطاع خالد الانتصار بعد معركة شديدة وقُتل مسيلمة – قتله وحشى الذى كان قد قتل حمزة فى أحد وشهدت أم عمارة – الصحابية الجليلة التى شهدت بدراً وأحداً – هذه الموقعة الحامية، وبترت فيها ذراعها.

ويوضح الصراع المرير ما بين الجيوش التى أرسلها أبو بكر إلى المرتدين أن معظم القبائل العربية كانت قد ارتدت أو على شفا الردة وأنه لولا عزيمة أبى بكر وتصميمه وعبقرية خالد واستماته القادة الآخرين لما استطاعوا الانتصار فى النهاية.

وهذا ما يلقى ضوءًا على السياسة التى اتبعها أبو بكر مع المرتدين واتسمت بقسوة غير عادية، وربما لم يكن لها ما يبررها إذا استلهمت قيم الدعوة، ولكن لها ما يبررها إذا استلهمت قيم الدولة، وقد كان أبو بكر محقاً فى حربهم جميعاً – سواء من ارتدّ، أو من رفض الزكاة لأنهم جميعاً ثاروا على الدولة. ولو لم يدفعوا بقوة لانتصروا ولقضى على الإسلام.. وقد أراد أبو بكر أن يلقنهم درساً يشفيهم من العصبية، والشرك وجذور الجاهلية، ويعيدهم إلى نطاق الطاعة، والجماعة وقيم الإسلام.

فحرب أبى بكر للردة مبررة على أساس الدولة، وعلى أساس الدعوة أيضاً لأن الدعوة تعرضت لهجوم عليها أريد به استئصالها وكان لابد أن ترد عن نفسها هذا الهجوم، والوقوف غير ذلك يعد انتحاراً.[9]

فى أسلوب هذه الحروب، ارتفع صوت الدولة على صوت الدعوة. وظهرت أولى سوءات السلطة، وشتان ما بين عنف، وقسوة، أبى بكر وبين "اذهبوا فأنتم الطلقاء" حتى وإن كانت الظروف مختلفة… وعلى كل حال فالمفروض أن يختلف مسلك رجل الدولة عن مسلك رجل الدعوة فى الحرب وإلا فأى فرق بينهما، وأن يكون مسلك الخليفة دون مسلك الرسول ..

f

والقضية الثانية التى كان على أبى بكر أن يحدد موقفه فيها هى قضية "الفتوح" ومدى تبريرها من منطلق الدولة، والدعوة. أما من منطلق الدولة فهذا ما لا يصعب إيضاحه. فمن طبائع المجتمع البشرى أن تأخذ العلاقات ما بين الدول التى تتلاقى حدودها إما طابع الحرب أو طابع السلم الذى تحدده معاهدات قد تكون نتيجة لحرب سابقة لأن الذى يحكم العلاقات ما بين الدول هو صراع البقاء.. الذى يدفع الدولة القوية إلى حرب الدولة الضعيفة واستلحاقها والذى يدفع الدولة الصغيرة إلى استرضاء جارتها القوية واكتساب أمنها منها لقاء مبلغ من المال أو إعطائها امتيازات أو غير ذلك فإذا كانت الدولتان متقاربتان فى الحجم والقوة فقد تربط بينهما عهود متكافئة حتى يظهر فى إحداها قائد طموح يعتدى على جارته المسالمة.

ومن ثم فإن غزو الدولة العربية الناشئة التى كانت تتمتع بطاقة كبيرة من الحيوية الحضارية. كان أمراً طبيعياً للغاية خاصة وأن الفساد كان قد ضرب الجارتين الكبيرتين الفرس والروم …

ولكن قد يختلف الأمر من منطق الدعوة ..

فإن الله تعالى أمر رسله بالدعوة وأن يقفوا عند البلاغ، ونهاهم عن أى محاولة لإجبار، أو إكراه أو سيطرة، وأوضح لهم مغبات ما ينشأ فى نفس الداعية من رغبة فى كسب الجموع والاستكثار من الأتباع. لأن هذا ينم عن عاطفة ذاتية (حتى ولو كانت لحساب الدعوة) فضلاً عن أنه يعرضها لمزالق التنازل والترخص والمساومة.. بل إن القرآن كان صريحاً كل الصراحة فى أن الهداية إنما هى من الله وحده. وأن الرسول لا يهدى من أحب وغيرها من نصوص أوردناها فى مستهل هذا البحث ..

وكان مما يتفق مع هذه الخطوط أن يرسل الرسول رسلاً ليبلغ الملوك والقادة دعوته، ويدعوهم إلى الإسلام ويحملهم مسئولية من قبلهم، إذا رفضوا، وقد فعل الرسول هذا، ولم يستوجب له أحد ..

كما ظهر عامل جديد ..

أن الدعوة وإن لم يكن لها أن تقاتل فى سبيل نشر دعوتها إلا أنها قد تتعرض هى نفسها لقتال الذين يريدون استئصالها.. ولابد عندئذ للدعوة من أن تدفع هذا العدوان وأن تقاتل من يقاتلها. وهذه هى الصورة التى أخذتها غزوات الرسول فى الجزيرة العربية، وكذلك حرب الردة التى اكسبت دولة "الدعوة" قدراً من القوة نتيجة لانتصارها على المرتدين ثم رأت أن من واجبها أن تبلغ رسالتها للدول المجاورة بعد أن فشلت محاولة الرسول تبليغهم عن طريق رسله ..

عندئذ ظهرت فكرة أن يصل جيش إسلامى إلى مشارف الحدود ليدعوا شعوب هذه الدول إلى الإسلام فإذا أسلموا عاد الجيش إلى قواعده.. بعد أن أصبحوا بإسلامهم جزءاً من دولة الدعوة …

ولكن ظهر ان هذه فكرة غير عمليه ..

فالجيش لا يمكن أن يتصل بالجماهير، لأن الجماهير فى قبضة قادته، والقادة رفضوا الإيمان بالدين الجديد الذى يدعو إلى مساواتهم بالجماهير، والحكم بالعدل ..

عندئذ ماذا يكون الموقف ..

هل ينسحب الجيش بعد أن رفض الحكام الدين الجديد. لما كان هذا أمراً شاذاً من كافة الوجوه، فقد اهتدى العرب إلى حل هو فرض الجزية عندما يرفض الدين.

وكانت مبررات ذلك عديدة ..

منها أن هذه الفتوحات لم تستهدف فرض الإسلام على الشعوب والجماهير بقوة السيف، ولو كانت هذه الفكرة قائمة فى ذهن المسلمين لكان قبولهم جزية من جماهير الدول المفتوحة لقاء احتفاظهم بدينهم – رشوة. ومما يؤيد أن الفكرة من الفتوح لم تكن أسلمة البلاد المفتوحة وصية أبى بكر – وفيما بعد عمر للجيش بأن يحافظ على الكنائس والأديرة، وأن لا يهاجم رجال الدين، فهنا يحافظ الغزاة على معاقل المسيحية ويحمون رجالها ..

مع هذا يمكن القول أن الجزية كانت تمثل عقوبة مادية ثقيلة على الذين يحتفظون بأديانهم.

ولكن هذا ليس إلا فرضاً نظرياً، لأنه لم يحدث وما كان ممكنا أن يقبل حكام بيزنطة والفرس أن يدفعوا جزية عن كل واحد من الشعب، ولهذا فلن يبق إلا البديل الثالث وهو الحرب. وهذا ما حدث بالفعل ..

فهل تكون هذه الحرب مبررة من دولة الدعوة ؟ سواء كانت مبررة أو لم يكن لها تبرير نظرى. فالأمر المحقق أنها كانت تتفق مع طبائع الأشياء ومع القوانين التى تحكم أوضاع المجتمع البشرى، والتى كانت تقوم على ما يشبه قوانين صراع الأنواع والأحياء الذى يبقى على الأقوى ويستبعد الأضعف والطالح والذى انتظم تاريخ البشرية منذ أن ظهرت.

الإضافة التى أضافتها دولة الدعوة على هذا الإجراء هو الطابع الرحيم فما أن تنتهى المعركة حتى يسود "السلام الإسلامى" وهو أرحم سلام عرفته البشرية لأنه لا يعطى الفاتح حقاً فى الأرض، أو الممتلكات ولا يجيز للجيش أن ينهب أو يسلب أو يحرق زرعاً أو يهدم بيتا ويكون عليه أن يشترى كل حاجاته وأن يدفع ثمنها، كما يحمى حرية العقيدة لجميع الناس. وإذا قارنا توصية أبى بكر التالية بما كان يجبر عليه المغلوبون للرومان لظهر الفرق وفيما يلى وصية أبى بكر لجيش أسامة.

"لا تخونوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخا كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم فى الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.."

أما ما كان يمليه الجيش الرومانى المنتصر على المهزومين فهو: "أنى أعطيت عن يد شخصى وطنى وأرضى والماء الذى يجرى خلالها وآلهة الحدود والمعابد وما ملكت يمينى، أعطيت ذلك كله للرومان" لأن القاعدة كانت أن الغالب له حق الحياة والموت على المغلوب.

بصفة عامة لا جدال أن حركة الفتوحات الإسلامية دفعت التقدم خطوات إلى الإمام. لأنها قضت على الحكم الطبقى الذى يقوم على الامتيازات والنبالة الموروثة التى حرمت جماهير الشعب من المشاركة فى السياسة العامة أو حرية العمل للانتصاف ونيل الحقوق إلى مجتمع تقوم مبادؤه على المساواة وأن لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى والعمل الصالح وحققت هذه الفتوح أكبر حركة انصهار ما بين الأجناس كان الإسلام هو المفاعل لها وحققت اللغة العربية – باعتبارها لغة القرآن – الوحدة بين الأجناس المختلفة. ولا يمكن أن تُعزى هذه المحاسن إلا لأن هذه الفتوح إنما تمت فى وقت كانت الدولة تعيش فى ظلال الوحى وبالذكرى القريبة من الرسول وسنرى بالطبع أن هذه المزايا ستتقلص مع تباعد الدولة الإسلامية من ذكرى رسولها.. ومع خفوت أصداء الوحى وتحول الخلافة الراشدة إلى مُلك عضوض.

ولكن يمكن القول بصفة عامة أن الدولة الإسلامية حتى فى عهد بنى أمية والعباسيين عندما تحولت تماماً إلى مُلك عضوض فإنها لم تتطور إلى ما تطورت إليه الإمبراطورية الرومانية بحيث لم تصل الدولة الإسلامية فى أسوأ حالاتها إلى ما وصلت إليه الإمبراطورية الرومانية فى أسوأ حالتها. وهذا بفضل الذكرى الوهنانة لدولة المدينة والخلفاء الراشدين. ولأن آيات القرآن الكريم الصادعة بالحرية والمساواة كانت على ما هى عندما نزل القرآن وكانت تلمع كالشهاب وسط الظلمات ..

f

عندما أحس أبو بكر بدنو أجله فإنه ختم حياته بشىء أشبه ما يكون بما بدأ به حياته فى الخلافة ..

إن يوم السقيفة كان ماثلاً فى مخيلة أبى بكر.. وكانت صورة هذا السجال الذى كاد أن يمزق الأمة حيا فى ذاكرته، وكان التوفيق فيه فلتة ..

لهذا لم يرد لها أن تتكرر لأن من طبيعة الفلتة أن لا تتكرر، وكان الالتجاء إليها مرة أخرى لا يضمن النجاح فى اجتيازها وكان هذا يعنى تمزق الأمة.

قرر أبو بكر أن يختار من يراه أصلح من يقود السفينة فى الفترة الحرجة التى تلاحقت فيها الأمواج. ولكنه لم يشأ أن يستأثر بالأمر – وفى الوقت نفسه فإنه لم يعلن عن نيته لأن الإعلان عنها قد يؤدى إلى استثارات تعرقلها، وربما تحول دونها – فاستشار على حدة عدداً من كبار الصحابة.. وكلهم أجمع على أن أصلح مرشح هو عمر بن الخطاب.

وهكذا أرسل فى أيامه الأخيرة – إلى عثمان بن عفان ليكتب وصيته وأملى عليه …

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافه إلى المسلمين أما بعد" ثم أغمى عليه فكتب عثمان "فإنى أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً" ثم أفاق أبو بكر فقال اقرأ على. فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال أراك خفت أن يختلف الناس أن افتلت فى غشيتى. قال نعم. قال جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

قال الطبرى ثم أشرف على الناس وزوجه أسماء بنت عميس ممسكته فقال لهم: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإنى والله ما ألوت من جهد الرأى ولا وليت ذا قرابة. وإنى قد وليت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا"..[10]

ثم دعا أبو بكر عمر خاليا وأوصاه وأطال ولما خرج عمر من عنده. رفع يديه وقال "اللهم إنى لم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيا فوليت عليهم خيرهم وأحرصهم على ما أرشدهم وقد حضر بى من أمرك ما حضر، فأخلفنى فيهم فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح اللهم لهم ولاتهم واجعله من خلفائك الراشدين وأصلح له رعيته."

أحسن أبو بكر فى النهاية، كما أحسن فى البداية ووقى الأمة فتنة التمزق فى الحالين، وكان فى اختياره عمر كالزوج الذى أحسن إلى أبنائه مقدماً عندما اختار أما لهم سيدة رصينة ممتازة.

وفيما بين هذه البداية الموفقة والخاتمة الحسنة، فإنه أنقذ الدولة الإسلامية من هلاك محقق عندما كادت الردة أن تذهب بها أشلاء ..

ولم يكن أبو بكر ملاكا، إن طبيعته التى تمتزج فيها الكياسة مع الحزم جعلته ينجو من كثير من المزالق. وصحبته الطويلة للرسول أعطته ملكة الهداية ولكنه كان بشراً دون وحى، وكان فيه من نقص البشر حدة تتملكه فى لحظات قليلة دعا المسلمين إلى تحملها منه.

- 4 -

المبتدع العظيم

عمر بن الخطاب يرسى دعائم الدولة الإسلامية

تولى عمر الأمر بتسليم من كل المسلمين ونجحت خطة أبى بكر فى تجنيب المسلمين تجربة كانت ستضعف وحدتهم ثم لا يمكن أن تصل إلى شخص أفضل من عمر ..

كان هناك على بن أبى طالب الذى فاته الدور والسياق، وكان هناك سعد بن عبادة كبير الأنصار الذى اعتزل المسلمين ولم يبايع أبا بكر، وكان هناك أبو عبيدة "أمين هذه الأمة" وكان لدى كل واحد من هؤلاء من المزايا والمؤهلات ما يجعله أهلاً.. ولكنهم ما كانوا ليصلوا إلى ما توافر لعمر من مزايا جعلته رجل الساعة الذى يقوم بدور "المبتدع" بعد أن قام أبو بكر بدور المتبع، وكان كل واحد منهما محقاً فى الدور الذى اختاره لنفسه. كان على أبى بكر أن يكون متبعاً لحداثة العهد بالرسول.. وليأمن الضلال أمام التجربة الجديدة، وكان على عمر أن يكون مبتدعاً بعد أن نجحت التجربة، وكبرت، وترامت حدودها ونشأت لها قضاياً لم يكن للعرب عهد بها. فكان من الضرورى أن "يبدع" حلاً …

والفقهاء يقولون إن البدعة السيئة إنما تكون فى مجال العبادات والشعائر وما تضمنه القرآن الكريم أما فى شئون الحياة الدنيا، فإن المضمون السيّء للبدعة لا يسرى عليها. وهذا كلام ما كان يمكن أن يقف عنده عمر، وسنرى أنه سيبتدع فى العبادات كما ابتدع فى الدنيويات. بحيث لا يقل ما ابتدعه فى مجال الأولى عما ابتدعه فى مجال الثانية، بل إنه أطلق "بدعة حسنة" على اجتهاده فى جمع الناس لصلاة التراويح، وكان كل ما ابتدعه فى المجالين أكبر وأعظم مما يطيق المسلمون بعده، وإن حضوره وشخصيته هو الذى كفل لهذه التجديدات الوجود، فلما استشهد أهال المسلمون عليها التراب وكأنهم دفنوها عندما دفنوا عمر …

ولعل أول هذه التجديدات مما لا يبدو ذا خطر وإن كان له آثاره الخطيرة، فقد أطلق المسلمون على أبى بكر خليفة رسول الله بتأثير اللحظة التى تمت فيها بيعته وكأنهم لا يريدون أن يهجروا ذكرى رسول الله وأحبوا أن يكون حيا على الشفاه كما هو حى فى القلوب.

ولكن التعبير لم يكن دقيقاً ولعلنا لا نخالف الحقيقة إذا قلنا إنه تعبير خاطئ. فقد كان الرسول خاتم الرسل ولا رسول ولا نبى بعده فكيف يمكن أن يقال خليفة رسول الله ؟ وكان للرسول منزلة خاصة، وله على المؤمنين طاعة وتسليم، لا يجوز أن يكونا لأحد، ولكن تعبير "خليفة رسول الله" قد يوحى بأن يكون له الطاعة التى كانت لرسول الله. وعمليا فإن المعنى قد يسمح بأن يتطور إلى "خليفة الله" وظل الله.. والحاكم الذى يحكم باسم الله. وفى هذا من الخطر ما فيه.

وكان من حظ عمر أن يتخلّص من هذا اللقب وأن يحمل لقبا عملياً وواقعياً "أمير المؤمنين" وكلمة أمير تقف ما بين "الإمام" و "الحاكم" ففيها نبرة من الإمامة دون أن يكون فيها بعض التداعيات السيئة لكلمة الحاكم. وبهذا انتفت أى صفة "نبوية" لمن يتولى الأمر.

ولا يتسع المجال للحديث عن كل تجديدات هذا المبتدع العظيم لأننا لا نقدم تاريخاً وإنما نتحدث عن حظ الدولة الإسلامية من النجاح، وأنها لا تنجح إلا عندما تكون عن كثب وقرب من الرسول. ثم ترزق شخصيات موهوبة مؤمنة مثل أبى بكر وعمر. أما إذا بعد العهد ولم ترزق هؤلاء الموهبين، أو حتى لو رزقتهم (كما كان الحال فى على بن أبى طالب وعمر بن عبد العزيز) بعد أن طال العهد فإن الأمر لا يصفو لهم ولا يستمر معهم.. فإننا إنما أبحنا لأنفسنا الحديث عن هذه التجديدات لا لعرضها كسرد تاريخى وإنما لنثير جوانب فيها لم تحظ بعناية المؤرخين، ومن الخير ونحن نعالج الموضوع أن يلم بها القارئ ..

لقد كانت الصورة التى وضع بها عمر "الديوان" تثير الدهشة وتظفر بالإعجاب والتقدير لأنها جاوزت أرقى ما ذهبت إليه "دولة الرعاية" فى العصر الحديث. وكان أبو بكر قد بدأ عملية "العطاء" عندما بدأت الفتوح وأرسلت إلى المدينة "خمس الغنائم" والجزية أو ما تبقى منها، وكانت هذه الأموال تحفظ فى المسجد فلما جاء عمر وتوالت الفتوح تضاعفت أضعافاً مضاعفة حتى أصبح من الضرورى أن يكون هناك "بيت مال" تودع فيه بدلاً من المسجد ثم بدأ عمر فى وضع الديوان وانتدب لذلك الذين يلمون بأنساب العرب ووضع الترتيب بادئاً بالقرابة من رسول الله – وأولهم زوجاته – ثم السبق والبلاء حتى يصل إلى عامة الناس دون أن يدع رجلاً أو امرأة صغيراً أو كبيراً. وكان يعطى للأطفال عند الفطام حتى علم بحالة أم تعلل أطفالها الذين لم يفطموا من الجوع. فأمر بأن يكون العطاء بمجرد الولادة …

ولفتت الطريقة التى وضع بها الديوان نظر طه حسين فى كتابه عن الشيخين فقال :

"ونظام العطاء هذا – كما فرضه عمر – جديد من جميع نواحيه، لا نعرف أن أمة من الأمم التى سبقت العرب إلى الحضارة عرفته أو عرفت شيئاً قريباً منه، وإنما نعرف أن بعض الأمم القديمة كانت تستأجر الجنود للحرب، ولا تحرمهم نصيباً من الغنائم قليلاً أو كثيراً، ونعرف أن بعض الحكومات القديمة كانت تقطع الجنود أجزاء من الأرض إذا تقدمت بهم السن يعيشون من غلاتها، فأما أن تكفل الدولة رزق المسلمين جميعاً على هذا النحو، فلسنا نعرفه فى التاريخ القديم، وما أظن أن الحضارة الحديثة، وفقت إليه".

وكل ما وصلت إليه الحضارة الحديثة فى بعض البلاد ووصلت إليه بآخرة، إنما هو التأمين الاجتماعى الذى تؤخذ نفقاته من الناس، فيرد عليهم بعد ذلك حين يحتاجون فى بعض الأمر إلى العلاج حين يمرضون، وإلى كفالة الحياة للشيوخ، والضعفاء، والعاجزين عن العمل لكسب القوت، وإلى تأمين العمال من أخطار العمل، وتأمين الذين يخدمون الدولة، والهيئة الاجتماعية على رزقهم حين تنقضى خدمتهم، فأما أن يكون لكل فرد من أفراد الأمة نصيب مقسوم من خزانة الدولة. فشئ لم يعرف إلا منذ عمر رحمه الله" انتهى.[11]

وكانت سياسة عمر لعماله – أو بالتعبير الحديث – الولاة الذين يرسلهم لحكم الأمصار العظيمة مثل الشام والكوفة والبصرة ومصر واليمن الخ… سياسة رجل دولة يعلم حق العلم أثر ما فى الحكم والسلطان من مغريات تضعف أمامها النفس البشرية ولا يستقيم حالها إلا بالمتابعة اليقظة والموالاة المستمرة. وكأنى بعمر يفترض أن كل وال لابد وأن يخضع بدرجة أو بأخرى لإغراء السلطة.

وكان إذا استعمل عاملاً كتب له عهداً وأشهد عليه رهطا من المهاجرين يشترط فيه أن لا يركب برذونا، ولا يأكل نقياً ولا يلبس رقيقاً ولا يغلق بابه دون ذوى الحاجات، فإن فعل شيئاً من ذلك حلت عليه العقوبة، وبناء على هذا كان يرسل مفتشين للتثبت من تطبيق هذه الشروط وفى كثير من الحالات كان هؤلاء المفتشون يقاسمون الولاة أموالهم وعندما علم بأن سعد بن أبى وقاص بنى لبيته باباً أرسل مندوبه "محمد بن مسلمة" وأمره بأن يحرق الباب فوراً وقبل أن يتكلم مع سعد بكلمة لأنه يكره أن يكون بين الحاكم وشعبه باباً يحتجب وراءه فأين هذا مما انتهت إليه الأمور فى العهد العباسى.

له حاجب دونه حاجب

وحاجب حاجبه يحتجب !!

وما كان يجوز عليه تعلات الحكام ولعل الوالى الوحيد الذى استطاع أن يخدعه بكياسة هو معاوية الذى عندما استقبله فى موكب يركب الجياد ويرتدى ثياباً قيمه وسأله عمر مستنكراً عن هذا قال له إننا فى بلد يوجد فيها جواسيس للعدو ولابد أن نظهر بمظهر القوة والبأس فقال عمر ما سألتك عن شئ إلا خرجت منه فإن كنت صادقاً فإنه رأى لبيب وإن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب لا آمرك ولا أنهاك ..

وكان يأمر ولاته جميعاً بالحضور فى موسم الحج مع حجاج ولاياتهم ويسأل الولاة ثم يسأل الناس عن الولاة ولم يكن يتردد فى أن يطبق القصاص إذا ثبتت مظلمة وما كان يمكن أن يفلت من رقابته أى وال مهما عظم قدره. وقد أرسل إلى خالد بن الوليد عندما علم أنه أعطى شاعراً مبلغاً جسيماً وأمر بلالاً وهو حبشى وقد كان عبداً اشتراه أبو بكر من سيده المشرك واعتقه ليعقله بعمامته فى المسجد ويسأله من أى مورد أعطى هذا المبلغ فإن كان من مال المسلمين فهى خيانة وإن كان من ماله فهو سرف ..

وكان يعتبر الولاة "معلمين" يعلمون المسلمين شئون دينهم وما أكثر ما أعلن للناس من أهل الأمصار إنى لم أرسل عمالى ليضربوا أبشار الناس ولا ليظلموهم وإنما أرسلتهم ليعلموا الناس دينهم وسُنة نبيهم ويقسموا بينهم فيأهم ويقيموا أمرهم كله على العدل.

وكان عمر يخشى على قادته النابغين أن يفتنوا بالناس أو أن يفتن الناس بهم. وكان هذا هو سبب عزل خالد بن الوليد وتشديد المراقبة على سعد ابن أبى وقاص وليس هناك شك فى صحة نظر عمر فى هذا وأنه كان يقدم تبريراً مرضيا لهؤلاء الولاة "كرهت أن أحمل الناس على فضل عقله" وكان الوحيد الذى أفلت من ذاكرة عمر فى هذا هو معاوية الذى خدعه بإجابة لبقة رغم أنه يعلم بالطبع سرائر وطباع الأمويين. وكان ذلك خليقا أن لا يبقيه فى منصبه هذه المدة الطويلة وليس من حل لهذا التصرف إلا أن الإنسان لا يبلغ الكمال، وأن التطور يفرض نفسه ويستطيع أن يخدع أذكى العقول وكان معاوية وتأسيسه "الشامى والبيزنطى" هو ممثل التطور.

f

وقد أراد أن يعلم عماله العفة عن المال العام، فأخذ نفسه بصور من التحوط. فقد أرسل أبو موسى الأشعرى واليه على البصرة إليه بمال مع أبنيه عبد الله وعبيد الله وصرح لهما بأن يشتريا من سلع البصرة ويبيعانها فى المدينة فيأخذا الربح ويؤديا المال. فلم يقبل عمر ذلك وطالب ولديه بما ربحاه فقال له ابنه عبيد الله "ما ينبغى لك يا أمير المؤمنين هذا. لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فأصر عمر حتى اقترح جلساؤه أن يأخذوا النصف ويضاف النصف الآخر لبيت المال. وهذا ما يسمونه قراضا وهو أول قراض فى الإسلام". وأهدت ملكة الروم زوجته أم كلثوم بهدايا منها عقد ثمين. فما انتهى به البريد إليه حتى أمر بإمساكه ودعا الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى بهم ركعتين وقال: إنه لا خير فى أمر أبرم عن غير شورى من أمورى. قولوا فى هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم فأهدت لها امرأة ملك الروم. فقال قائلون: هو لها بالذى أهدته وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به ولا تحت يدك فتتقيك. وقال آخرون قد كنا نهدى الثياب لنستثيب ونبعث بها لتباع ولنصيب شيئاً، فقال: ولكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم والمسلمون عظموها فى صدرها فأمر. بردها إلى بيت المال ورد عليها بقدر نفقتها.

وكان عمر إذا نهى الناس عن أمر من الأمور جمع أهله فقال إنى نهيت الناس عن كذا وكذا وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت له العقوبة. ولعله فى هذا كان يتأول الآية )يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا( {الأحزاب 30}.

وكان عمر – كما يقول الشيخ عبد الوهاب النجار فى كتابه "الخلفاء الراشدون". "لا يستأثر بالأمر دون المسلمين ولا يستبد عليهم فى شأن من الشئون العامة. فإذا نزل به أمر لا يبرمه حتى يجمع المسلمين ويجيل الرأى معهم فيه ويستشيرهم. ومن مأثور قوله لا خير فى أمر أبرم من غير شورى. وكان مسلكه فى الشورى جميلاً. فإنه كان يستشير العامة أول أمره فيسمع منهم، ثم يجمع مشايخ أصحاب رسول الله وأصحاب الرأى منهم ثم يفضى إليهم بالأمر ويسألهم أن يخلصوا فيه إلى رأى محمود، فما استقر عليه رأيهم أمضاه وعمله."

كان عمر يحب رعيته حباً جما ويحب ما يصلحها ويكره ما يفسدها ساسها بسياسة تقربه إلى القلوب فكان عفيفا عن أموالهم عادلاً بينهم مسويا بين الناس لم يكن قوى يطمع أن يأخذ أكثر مما له ولا ضعيف يخاف أن يضيع منه ماله كان حكيما يضع الشىء فى موضعه يشتد حينا ويلين حينا حسبما توحى إليه الأحوال التى هو فيها. عرف العرب معرفة تامة وعرف ما يصلح أنفسها فسيرها فى الطريق الذى لا تألم فيه فصيرها أمة حرة لا تستطيع أن تنظر إلى خسف يلحقها من أى إنسان.

وكان وهو فى المدينة يعلم بما يحدث فى الأمصار من ولاته حتى ما صغر. فكتب إلى أحد ولاته أن لا يتكئ فى جلسته ! وبلغه أن حرقوصاً عامله على الأهواز نزل جبلاً كؤوداً يشق على من رامه والناس يختلفون إليه فكتب إليه "أما بعد، بلغنى أنك نزلت منزلاً كؤوداً لا تؤتى فيه إلا على مشقة. فأسهل ولا تشق على مسلم ولا معاهد."

وجعله ذكاؤه واستغراقه وتفانيه فى القيام بمسوؤليته بصدق وورع وإستهدافه الخالص القربى لله والرسول يرى ويحس بما لا يراه أو يحسه الآخرون وأعطته فراسة تجعله يتغلغل فى أعماق النفوس – بل منحته قوة اتصال بما قد يحدث بعد مئات الأميال – كما حدث عندما نادى وهو يخطب بالمدينة "يا سارية الجبل" ودهش المسلمون لهذه الجملة ولكن عمر الذى كان فيما يبدو مستغرقا فى شأن معركة كانت تدور وقتئذ بين سارية بن حصن والفرس فرأى الفرس وهم يهاجمون سارية بأعداد كثيفة ووراءه جبل فنادى بأعلى صوته "يا سارية الجبل" ليلفته للاعتصام بالجبل وسمع سارية الصوت واعتصم بالجبل حتى أنقذ من هجوم الفرس وهى حالة يسمونها "التلباثى" بحيث ينفذ البصر عبر الأجواء، ولكن هذه حالة خاصة بالطبع، أما فراسة عمر التى تميز بها فهى التى كانت تمكنه من أن يتنسم واقعة حدثت بحكم نفسية صاحبها التى كان عمر يفهم دخائلها تماماً. وهناك حالتان تمثلان ذلك. فقد زار أبو سفيان ابنه معاوية وعندما عاد وقع فى ذهن عمر أن ابنه معاوية وصله فقال "اجزنا يا أبا سفيان" فقال ما أصبنا شيئاً فنجزيك" فمد عمر يده فأخذ خائماً بيد أبى سفيان وبعثه مع رسول إلى هند زوجة أبى سفيان وقال قل لها ابعثى الخرجين فبعثتهما. ووجد عمر فيهما عشرة آلاف درهم فطرحها فى بيت المال. أما الواقعة الثانية فقد هم عمر بعزل عامله على العراق المغيرة بن شعبة وتولية جبير بن مطعم مكانه. وشعر المغيرة بحاسته المرهفة بذلك فطلب من جليس له أن يدس امرأته وكانت معروفة بالتقاط الأخبار حتى سميت "لقاطة الحصى" لتعرف الحقيقة من زوجة جبير، فذهبت إليها وسألتها عن المكان الذى يقصده جبير فى سفره فأخبرتها أنه ينوى العمرة فقالت لقاطة الحصى إنه كتم عليك أمره ولو كانت لك منزلة عنده لأخبرك بالحقيقة فغضبت امرأة جبير ودخل عليها وهى مغضبة فلم تزل به حتى عرفت سر سفره وأخبرت به لقاطة الحصى وعرف المغيرة فذهب إلى عمر وفاتحه بما علم فقال له "كأنى بك يا مغيرة قد فعلت كيت وكيت، وأنشدك الله هل كان كذلك فقال المغيرة اللهم نعم. (عبقرية عمر للعقاد) ..

فهذه الحوادث وأمثالها تظهر لنا أنه قد صفت طبيعته وطهرت سريرته حتى أصبح يرى ما لا يراه الآخرون، كما أنها تبرز لنا جانبا من جوانب اهتماماته هو حرصه على الرجال الأكفاء الذين يجتمع لهم القوة والأمانة وعندما كان فى مجلس يذكر فيه كل واحد ما يتمنون قال عمر "ولكنى أتمنى بيتا مملوءاً بأمثال أبى عبيدة بن الجراح. وسألهم يوماً عمن مرشح يوليه فقالوا كيف تريده فقال "إذا كان فى القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم" ولعمرى إن هذا لخير ما يوصف به مرشح لولاية، وما ينم عن معرفة دقيقة بأقدار الرجال.

f

أما ابتداعاته فى المجال الدينى الخالص وبالذات طريقته فى فهم النصوص واستخلاص الحكم، فإنها كانت سابقة لوضع أصول الفقه الذى ظهر بعده بقرابة مائة عام، وكان أعمق فهما له، وقد شرح ذلك بإفاضة الدكتور محمد بلتاجى فى كتابه القيم "منهج عمر بن الخطاب فى التشريع" وقال إن الذى لفت نظره أول مرة إلى ذلك هو الشيخ على حسب الله وهو أحد الأساتذة الكبار فى أصول الفقه. إذ قال إن عمر – وإن سبق زمانه نشأة علم أصول الفقه بأكثر من قرن من الزمان – فإنه بصورة عملية عبقرية لا مثيل لها قد تجاوز مقولات هذا العلم ومقرراته التى انتهى إليها علماء الأصول بعده، لأن فهمه وتطبيقه لروح النصوص الشرعية ومقاصدها المبتغاة كان ذا طابع منفرد بحق. يحسبه الجاهل خروجاً على مضمون النص ومخالفتة له وإنما هو عند التحقيق الفهم العبقرى الذى يجمع بين المفهوم الصحيح للنصوص وتحقيق مقاصدها المبتغاة وتحقيق مصالح الناس المعتبرة فى الوقت نفسه. أو باختصار العمل بروح الشريعة لا بمنطوقها قط.. ولو أن أئمة الفقه الشافعى وأبو حنيفة الخ… بدءوا حيث انتهى عمر، وقد سبقهم بالطبع لأتجهوا بالفقه الوجهة المثلى. ولكن الذى حدث هو أنهم نكصوا على أعقابهم وشغلوا بقيل وقال واستعبدتهم النصوص آونة والسند آونة أخرى.

وكان عمر لا يقبل حديثاً إلا بشاهدين – باستثناء بعض كبار الصحابة الذين يوثق بهم كعبد الرحمن بن عوف أو أبو عبيدة الجراح أو سعد بن أبى وقاص، ولو أن علماء الحديث أخذوا بما كان عمر يأخذ به ولهم فيه أسوة حسنة – لخلصنا من مشكلة أحاديث الآحاد، وكان لهم سند قوى فى أن الإسلام لا يقبل إثبات واقعة إلا بشاهدين عدلين. وقد تكون بضعة جنيهات فكيف إذا كان الحديث يتضمن مبدءاً تقطع به أعناق وتطلق به نساء ويلزم الناس الطاعة للحكام الخ …

على أن عمر ما كان يتخذ قراراً إلا بعد الاطمئنان القلبى والتثبت العقلى. وما لم يتحقق فيه هذان فما كان يبت فيه وقد أشهد الناس بعد أن طعن أنه لم يقل فى الكلالة شيئاً. وهو ما يمثل تقديره لمسئوليته.

ولكن هذا لا ينفى أن عمر فى ثقته بنفسه وفى ملاحظته للظروف وتوخيه المصالح وبعد أن توفر له الاطمئنان القلبى والتثبت العقلى، لم يكن يلتزم دائماً بالنص فقد قال القرآن الكريم بصريح العبارة "الطلاق مرتان" فجاء هو وجعله مرة واحدة عندما رأى أن الناس قد أساءوا استخدام السعة والحرية التى أباحها لهم الشارع. وحرم المتعتين متعة الحج، ومتعة النساء ولا جدال أنه بنى هذا على مبررات وجيهة، ولكن هذا لا ينفى أنه قد تكون لهما مبررات – حتى متعة النساء التى تثير ليس فحسب الاستياء، بل الغثيان عند البعض – وعند التدقيق والتحقيق نجد أن الزواج المؤقت قد يكون له ضرورة بالنسبة للطلبة أو الجاليات الإسلامية فى الدول الأوربية، وفى قضية المؤلفة بين قلوبهم فإذا لم تكن هناك حاجة لإعطائهم وقت عمر، فقد يكون هناك حاجة بعده.. أما اعتباره الطلاق مرة واحدة. فحتى لو أنه جازى به سرف الرجال وإساءة استخدامهم للحق فما ذنب النساء؟

على أن هذه الجرأة التى جعلت اجتهادات عمر شجا فى حلق الفقهاء هى التى تثير فينا الإعجاب وتدفعنا إلى الإقدام. وأن نقتدى به فى الإقدام والاجتهاد لا أن نقلده فيما انتهى إليه بالفعل ...

f

كان كل شئ يسير بالتوازن ما بين قطبى الدعوة والدولة، وفى إطار التوجيهات الإسلامية فالجيوش الإسلامية تنطلق كل يوم لتكسب أرضاً جديدة ولتنتصر فى موقعة جديدة، وعمر بن الخطاب يسير فى طرقات المدينة "بمرقعته ودرته" ويجلس مع كبار الصحابة ويضع النظم والترتيبات التى تكفل النظام لهذا التضخم الكبير والسياق الحثيث للأحداث ..

ولكن كان هناك شئ ما يحيك فى نفس عمر.. شئ يثير فيه التوجس والخوف من المستقبل. فحتى هذه الفتوحات مع كل ما تعنيه من إعلاء لكلمة الإسلام، وإنقاذ الجماهير المستعبدة فى إسار الحكم الطبقى والإمبراطورى.. كانت لها مضاعفاتها. فقد جاءت بأفواج تلو أفواج من "الموالى" حتى سدت طرقات المدينة، وجعلته يستعيذ من سبى "جلولاء" كما كان خمس الغنائم يتكدس فى بيت المال. وقد جاءت الفتوح بسوارى كسرى. وألبسهما عمر بن الخطاب بنفسه فى يدى سراقه تحقيقا لوعد الرسول r وحصل "شويل"[12] على أسيرته التى كانت عندما رآها غادة فاتنة.. وكان عمر يتساءل فى نفسه إلى أين ستنتهى هذه التطورات التى فتحت أمام الناس أبواباً مغلقة وعوالم مجهولة ..

كان عمر قد أرسل الجنود ليكونوا رسل هداية وتعريف بالدين وإنقاذ للشعوب من الحكم الطبقى الجائر، ولكنه رأى هؤلاء الجنود وقد أتخموا بالغنائم.. فهل هذا نعمة أو هو نذير بخطر محيق… فى فترات كان يتمنى لو أن بينه وبين فارس سداً. ولم يكن يسعد بتوالى الفتوح. وقد رفض رفضاً باتا أن يركب العرب البحر وينطلقوا عبر أمواجه بعد أن وصف عمرو بن العاص البحر له وأن الناس فيه "دود على عود".

ولم يسعد بانهمار الأموال على المدينة. بل إنه بكى عندما رأى أكداساً منها تلمع وتبرق ولما سئل كيف يبكى والمناسبة مناسبة شكر وسرور قال "والله ما أعطى الله هذا أقواما إلا ألقى بأسهم بينهم" وجعلته هذه الثروات، وامتداد الفتوح يشك هل هو خليفة أم ملك – رغم كل ما كان يحذره وما كان يحرص عليه من اتّباع العدالة بين الناس وأخذه نفسه وأهله بصور بالغة من التقشف فكان يقول "والله لا أدرى أخليفة أنا أم ملك، فإن كنت ملكا فإن هذا أمر عظيم.. فقال قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقا قال ما هو قال الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا بضعه إلا فى حق وأنت بحمد الله كذلك والملك يعسف الناس بالناس فيأخذ من هذا ويعطى هذا فسكت عمر ولم يكن فى هذا ما يطمئن هواجسه ومخاوفه. وحكم بأن الدولة قد وصلت إلى أحد مفاصل التطور، أو كما قال هو "كالجمل البازل الذى لا يكون بعده إلا الضعف والتدهور."

كان يحس أن هناك أزمة تتجمع غيومها فى الأفق القريب وكان يقف بكل جهده حتى لا تتفاقم. ولكن لما كانت تعبيراً عن وصول المجتمع العربى إلى درجة من التطور لا تصلح معها سياسة "دولة المدينة" فقد ظل هاجس هذا التطور يقلقه، وكان يعلم أن كل ما يقوم به من متابعة ورقابة وملاحقة لعماله لا يكفى واعتزم أن يزور الأمصار مصراً مصراً ويقضى فى كل منها شهراً حتى يطمئن بنفسه على تحقيق العدالة "على الطبيعة" كما تبين أن طريقة أبى بكر فى تقسيم العطاء على أساس المساواة أفضل من تقسيمه على أساس الاستحقاق لأن الأخيرة أسفرت عن تضخم الثروات لدى البعض ..

وكان من الإجراءات الحاسمة التى أراد بها أن يحول دون حدوث الفتنة احتجازه لسروات قريش ومشيخة الصحابة ووجوه الناس بالمدينة. وعدم السماح لهم بالانسياب إلى الأمصار لأنه كان متأكداً أن ذلك سيحدث فتنة هؤلاء بما فى الأمصار من مَدنيّة ومتاع الخ… وفتنة أهل الأمصار بلقاء صحابة الرسول.. وقال "إن قريش يريدون أن يجعلوا مال الله دولة بينهم أما وابن الخطاب حى فلا. ألا وأنى قائم لهم بحرة المدينة فآخذ بحجزهم أن يتهافتوا فى النار"..

0 التعليقات:

إرسال تعليق