الجمعة، ٢٨ أغسطس ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية .. لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ بقلم جمال البنا

فى آية رائعة من آيات سورة البقرة يعلمنا القرآن درسًا عميقاً من أسرار الإيمان فيقول: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ» (البقرة: ١٧٧).
الذى فهمته من الآية، وأنا هنا لا أقدم تفسيرًا للقرآن، ولا أقول إن هذا هو ما أراده القرآن على سبيل القطع، إنما أقول إن هذا هو ما فهمته، وقد يكون خطأ، وأكون أنا المسؤول عنه، أما القرآن فلا يمكن أن ينسب إليه أى كلام.
أقول إن الذى عبر عنه القرآن بأن «تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»، إنما رمز به «للشكل» ويريد أن يقول لنا إنه ليس هذا هو المهم، إن المهم هو ما أشارت إليه الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وأن يصدق هذا الإيمان بالإنفاق على «ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ» (أى الأرقاء والعبيد).
ثم أضاف إلى ذلك أن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة، «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ».
أمامنا إذن قائمة من الفضائل هى التى تمثل «البر»، وأنها تقوم على إيمان، وعمل، لأن الإيمان لا يمكن التثبت منه إلا بدليل العمل، فما أسهل أن يدعى أحد الناس أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، فإذا كان مع هذا الادعاء لا ينفق على الخير، ولا يؤتى الزكاة، ولا يفى بالعهد، ولا يصبر على البأساء، فإن إيمان هذا إيمان مدخول يقوم على الادعاء، ولا يثبت بالعمل.
ويلحظ أن جزءًا من هذه الفضائل لا يتسم بصفة دينية مميزة، وإنما هى الفضائل لدى الناس جميعًا من كل الأديان، ومن غير الأديان أيضًا، لأن مفردات التكافل الاجتماعى لا تتوقف على دين، ولا تتغير ما بين دين وآخر، فالإيثار والإنفاق والشجاعة والوفاء بالعهد، كلها فضائل بحكم ذاتها يهدى إليها العقل كما يهدى إليها النقل وتدعو إليها كل النظم «العلمانية» كما تدعو إليها النظم الإيمانية، وأن ما أراده القرآن عندما صدر الآية بأنه «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»
إنما أرادت أنهم إذا صفوا الصفوف، واستقبلوا القبلة وأقاموا الصلاة فلا عليهم بعد أن ينافقوا، وأن يكذبوا، وأن تغلب عليهم الأثرة.. إلخ، فشتان ما بين الاصطفاف وتولى «القبلة».. من ناحية.. وإساءة الخلق، وغلبة الأنانية.. إن هذه الأخيرة تذهب الأولى، وقد ضرب الرسول المثل بالذى يأتى بصلاة وصيام وحج يوم القيامة وقد ضرب هذا، وشتم هذا، واغتصب مال هذا فيؤخذ من حسناته بما يوازى ما فعل، فإن زادت أعماله السيئة أخذ من سيئات خصومه فطرحت عليه، كما أنه تحدث عن الجسد، فقال: «إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب».
باختصار، تريد الآية منا أن نعطى الأهمية الكبرى للب والجوهر، وليس للشكل والصورة، وأن نعلم أن أى ترخص فى الشكل بحكم الضرورة أو أى ملابسة أخرى لا يفسد العمل متى كان القلب حاضرًا والنية منعقدة، فإذا كان هناك حرص فليكن للخير، والعمل، وليس للشكل أو الصورة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق