الجمعة، ٢٨ أغسطس ٢٠٠٩

حكاية المادة الثانية من الدستور «٢-٢» بقلم جمال البنا

في المقال السابق أشرت إلي تاريخ مادة «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية»، في دساتير مصر من دستور ١٩٢٣ حتي الآن، وقلت إنني غير متحمس لوجودها،
 أولاً: لأنها يمكن أن تؤدي لاستغلال الدين أو إفساده، لأن السلطة مفسدة.
 وثانياً: لأنها لن تقدم شيئاً للدين، الذي هو أصلا «رسالة هداية». وثالثاً: لأن من الممكن لبعض الفئات المهووسة أو المتشددة في فهم الإسلام أن تحملها ما يشاء لها تعصبها.
 وأخيراً: فلأنني أعتقد أن وضعها كان من باب المجاملة والمراعاة، لفكرة مترسبة لدي معظم الناس، ولهذا لم يكن لها تأثير عملي، ففي عهد دستور ١٩٢٣، كان هناك بغاء علني مرخص، وكانت الخمور تباع لدي البقالين، وكان المرابون الأجانب يستغلون الفلاحين أسوأ استغلال، فكان النص علي أن الإسلام دين الدولة، هو كالنص علي عرض أوراق الذين يحكم بإعدامهم علي المفتي، مجرد إجراء شكلي.

ومعروف بالطبع أن الزيادة الأخيرة في المادة، إنما وضعت جنباً إلي جنب تغيير المادة ٧٧ الخاصة بمدة حكم رئيس الجمهورية من «ويجوز إعادة انتخابه لمدة تالية متصلة»، إلي «ويجوز إعادة انتخابه إلي مدد متصلة أخري»، مدد بدلاً من مدة، ولما كان الشعب كارهاً لذلك، فقد وضعت الزيادة التي جعلت مبادئ الشريعة «الأصل الرئيسي للتشريع»، لضمان الموافقة علي التعديلات، فلم يكن الهدف منها تقرير الشريعة، ولكن رشوة الجمهور لقبول نص آخر كان سيرفضه قطعاً.

فإذا كنت زاهداً في هذه المادة «الإسلام دين الدولة»، ولعلي أفضل استبعادها، فمن باب أولي أرفض النص أن «مبادئ الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع»، لأنه يمكن أن يوقعنا في متاهات لا تنتهي، فما هي أولاً «مبادئ الشريعة»؟، بل ما هي الشريعة نفسها؟ هذه مجالات جدلية تجعلنا نعود إلي أقوال متعددة، متناقضة قالها الفقهاء من ألف عام، مثل قضية الولاء والبراء، التي يؤمن بها الكثيرون، وضللت معظم شباب الجماعات الإسلامية،
 وهي تقسم الناس إلي مسلمين وكفار، والمسلمون يجب موالاتهم، والكفار يجب التبرؤ منهم، والمسلمون عندهم هم الذين يلتزمون بشروط معينة متعسفة، والكفار هم المسلمون الذين لا يلتزمون بالشروط التي وضعوها، وهي أخيراً تكفير من لا يكفرهم!

ولعل أبرز التعريفات الشائعة للشريعة هي الحدود، وهي أقلها شأناً، كما أنها مجال اجتهادات قد تجمدها.
في الحقيقة فإن هذه المادة تضع الأمر في يد الإسلاميين، وكيف يعقل أن يحال دون تكوين حزب إسلامي يقوم لتطبيق مبادئ الشريعة، التي يدعو إليها الدستور.

الشريعة في رأيي هي العدل، وقد سبقني إلي هذا بأصرح لغة وأحكم تحديد الإمام ابن القيم الذي يأتي مباشرة في الفقه الإسلامي، بعد ابن تيمية فقال في مناسبتين: الأولي قال: «إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت إمارات الحق وقامت أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كانت فثم شرع الدين ودينه ورضاه وأمره، والله تعالي لم يحصر طرق العدل وأدلته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوي منه، وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها وبمقتضاها».

والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذاتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق علي أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق، إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها.

وفي المناسبة الثانية قال تحت عنوان: «بناء الشريعة علي مصالح العباد في المعاش والمعاد»، فإن الشريعة٠ بناها وأساسها علي الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلي الجور وعن الرحمة إلي ضدها وعن المصلحة إلي المفسدة وعن الحكمة إلي العبث فليست من الشريعة، وأن أدخلت فيها بالتأويل.

فإذا كانوا يفهمون الشريعة هذا الفهم، فالأولي أن يقولوا: «إن مبادئ العدل هي المصدر الرئيسي للتشريع، وبذلك يحققون جوهر الشريعة، ويتفادون كل المماحكات المذهبية وكل المفاهيم المغلوطة التي تصل إلي حد تكفير المخالف، ولها سند من أقوال كثير من الفقهاء بحيث تصبح القضية جدلية تثير الخلافات والعداوات، وكل واحد يدعي تطبيق الشريعة.

وفي إحدي المناسبات قلت أن الشريعة قد تكون مطبقة في دولة ترفع علماً نقش عليه الصليب أكثر مما تكون مطبقة في دولة نقش علي علمها «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، لأن الشريعة الحق هي العدل، والعدل مطبق في سويسرا أكثر مما هو مطبق في السعودية.
***
إن ما يستحق أهمية خاصة أن هذا التعديل جعل إخواننا الأقباط يعترضون بشدة، ولما رأوا أن اقتراح إلغائه قد يثير حساسيات أو يأول تأويلا سيئا، فقد اقترحوا إضافات أري أنها تعمق الطائفية وتحول دون الوحدة ودون حقيقة المواطنة التي يريدونها، وهذا ما يظهر من الاقتراح الذي تقدم به الأستاذ كمال سعد في رسالة مفتوحة إلي السيد الرئيس حسني مبارك، ونشر كموضوع تسجيلي في الأهالي «٧/٢/٢٠٠٧» وجاء فيه:

بكل صراحة ووضوح يا سيادة الرئيس لنا مطلب واحد نعتقد أنه عادل وهو أنه كما جاء ذكر الإسلام والمسلمين والشريعة الإسلامية في الدستور في كلمات صريحة قاطعة واضحة، وهذه الكلمات باقية كما هي دون تعديل، فإن الأمر يتطلب الموازنة، ولو في أخف صورها بذكر المسيحية والمسيحيين بكلمات صريحة أيضاً «وليس ضمنية» في الدستور ليكون تعبيرا حقيقيا عن تشكيل أمتنا الواحدة. إن أقل ما يمكن هو أن يتم- علي سبيل المثال- تعديل المادة الأولي لتصير واحدة من الاقتراحات الثلاثة التالية:

اقتراح أول: جمهورية مصر العربية دولة مدنية ديمقراطية تقوم علي وحدة شعبها، بمسلميه ومسيحييه «أو أقباطه».
اقتراح ثان: جمهورية مصر العربية دولة مدنية ديمقراطية تقوم علي قيم المواطنة وإعلاء قيمة المواطن، سواء مسلماً أو مسيحياً أو غير ذلك.

اقتراح ثالث: جمهورية مصر العربية دولة تؤمن بالمواطنة المبنية علي الديمقراطية الكاملة للمواطنين مسلمين أو مسيحيين أو غيرهم.

أقول للأخوة الأقباط إن أي ذكر للمصريين باعتبارهم مسلمين وأقباطاً يبرز تفرقة، ويعد لعباً بالورقة القبطية، في حين أن اللعب السليم هو بالورقة المصرية دون إشارة إلي إسلام ومسيحية، وأي اقتراح من الاقتراحات الثلاثة يمكن أن يؤدي دوره المطلوب دون الإشارة إلي مسلمين ومسيحيين، ولماذا يقتصر الأمر علي مسلمين ومسيحيين؟ فإذا وجد بهائيون أو بوذيون أو يهود فهل نجردهم من صفة المواطنة؟

علي كل حال، لقد خلصنا الأقباط من المأزق باقتراح ألا توجد المادة أصلا، ومع هذا فأعتقد أنني أغضبت الإسلاميين، ولم أرض الأقباط، وليس ذلك ذنبي، ولكنها قسمة الذين يصرون علي قول الحقيقة كاملة وبصراحة..

ملاحظة:
يا حبذا لو خلصتمونا في التعديلات الدستورية من المقدمة العنترية للدستور، فمصر شبت عن الطوق.

0 التعليقات:

إرسال تعليق