السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الحادى عشر: منظرو الدولة الإسلامية

كيف حدث أن تطورت فكرة الدولة الإسلامية من التصور الفضفاض لدى جمال الأفغانى وحسن البنا إلى قميص الكتاف المتصلب على يد منظرى الدولة الإسلامية المودودى وسيد قطب والخمينى.

أولى الملابسات التى أدت إلى ذلك اقتران صدور فكرة كل منظر من هؤلاء الثلاثة بحدث تاريخى يعد هو الذى دفع بصاحبه للاتجاه المعين الذى أخذته تلك الملابسة وكانت بالنسبة للمودودى هى انشطار الهند وظهور باكستان كدولة مسلمة، وهى بالنسبة لسيد قطب العداوة المريرة التى أعلنها عبد الناصر للتيار الإسلامى وموجة الاعتقالات الوبائية وشيوع التعذيب الوحشى وهى بالنسبة لإيران الثورة على حكم الشاه وإعلان جمهورية إسلامية بقيادة الإمام الخومينى. وكل حدث من هذه الأحداث صاحبته تداعيات دراماتيكية أدت بالمنظرين الثلاثة لأن يسلكوا المسلك الذى يتفق معها، ونتيجة لاقتران هذه الأحداث بالنصوص والآيات كان لابد لهؤلاء المنظرين من أن يصلوا إلى ما انتهوا إليه بالفعل.

- 1 -

المودودى

أول هؤلاء المنظرين ظهوراً هو السيد أبو الأعلى المودودى الذى اصطحب ظهوره بالتطورات التى جعلت القارة الهندية تكسب استقلالها من الاستعمار البريطانى وتقف على شفا مستقبل مجهول متفجر بالمخاطر. فهناك أغلبية هندوسية تريد أن تبنى هنداً "هندية" تعود إلى أصول وجذور الحضارة الهندية قبل أن يدهمها الإسلام وهذه الأغلبية تستشعر كراهية عميقة للمسلمين الذى جاءوها فاتحين وغرسوا فيها بذور الإسلام وحكموها قرونا متوالية، ولم يكن حكمهم ممتازاً، ولكنه كان بمعايير الحكم وقتئذ حسنا وكفلوا للأغلبية الهندوستيه حرية العبادة، بل وفتحوا أمامهم باب الوظائف وفكر بعضهم مثل السلطان أكبر فى إيجاد دين يمزج ما بين الإسلام والهندوكية، ولكن هذا لم يشف معظم الهنادكة من غيظهم القديم. وكان هناك الأقلية المسلمة (قرابة 30 أو 35% من مجموع السكان) استشرفوا ما ينتظرهم من اضطهاد تحت حكم الأغلبية الهندوسية. وكان على رأس الحزب الهندى الأكبر حزب المؤتمر ثلاثة من أكابر السياسيين الذين عرفتهم الهند. أولهم غاندى الذى قاد حملة المقاومة المدنية التى كانت من أكبر الوسائل التى ظفرت للهند باستقلالها. فضلاً عن أنه كان بصفة عامة إنسانى النزعة، وكان الثانى هو نهرو السياسى المثقف المعتدل وأخيراً مولانا أبو الكلام آزاد وهو عالم مسلم درس الفقه والتفسير وكان نفوذه فى المؤتمر لا يقل عن سابقيه.. ولكن هذه القيادة الموهوبة لم ترض جماهير المسلمين الهنود وتجعلها تأتمن مشاعر الشعب الهندوسى، وقدرتها على كبح جماح جماهيره. وظهر بينهم وقتئذ قائدان بارزان أولهما محمد على جنه وثانيهما الدكتور محمد إقبال. وكان معا مثقفين ثقافة أوربية رفيعة ولهما مشاعر إسلامية قوية. ولكن هذه المشاعر كانت تأخذ لدى جنه طابعاً قومياً. فالإسلام هو جنسية المسلمين الهنود ولابد من إقامة دولة إسلامية بينما كان إيمان الدكتور إقبال إيماناً روحياً عاطفياً صوفياً عميقاً. وتمتعا معاً باحترام وتقدير شعب الهند المسلم. وكان جنه يرأس حزب "الرابطة الإسلامية" بينما يعد إقبال المرشد الروحى فيه. وكان جنه بالمهنة محام ومستشاراً قانونيا سياسياً ضليعا ومفاوضاً ذكيا واستبعد كل المساومات أو أنصاف الحلول مع قادة حزب المؤتمر، وعارض غاندى ونهرو "وأبو" الكلام آزاد الذين أرادوا بكل الطرق الحيلولة دون انقسام الهند، وأصبح من الضرورى إقامة الدولة الإسلامية الهندية فى المناطق التى تسكنها أغلبية مسلمة.

وسبق ميلاد باكستان مخاض دموى رهيب إذ تطلب الأمر هجرة مئات الألوف من مسلمى شرقى البنجاب حيث سادت الأغلبية الهندوسية، بينما هاجر الهندوس من البنجاب الغربية التى اعتبرت صميم باكستان، وتعرض المهاجرون من هذه المناطق أو تلك لاضطهادات الأغلبية هندوسا كانوا أو مسلمين.

وعندما تكونت الدولة بالفعل ظهر الطابع "العلمانى" لقادتها – وعلى رأسهم جنه – لأن حماستهم للإسلام كانت نوعاً من العصبية، أو القومية. أما الانصياع إلى "الشريعة" أو حتى "المُثل" والقيم الإسلامية فى الحكم فإنها كانت بعيدة عنهم. وقد ظفر جنه باحترام وتقدير الجميع لأنه قاد الشعب وسط الأنواء والعواصف ووصل بها إلى بر السلامة. أما ما بعد ذلك فقد كان محل اختلاف يعكسه تكوين وإيمان شعب باكستان.

هذه الملابسات هى التى أدت إلى ظهور المودودى وإلى اتخاذه اتجاهه الخاص. ولم يكن لديه فى شبابه ما يدل على الفكرة التى انتهى إليها مما يدل على أن سير الأحداث هى التى قادته، فى الوقت الذى أخذ يتعمق فى الفقه الإسلامى وساعده على ذلك علمه باللغة العربية الذى مكنه من الرجوع إلى مصادرها ..

كان المودودى يرى أن الدولة الوليدة ليس فيها من الإسلام إلا الاسم، ولما كان الإسلام هو مبرر وجودها فيفترض أن يقوم هذا الوجود على أصول إسلامية لم تتوفر لدى قادة الرابطة الإسلامية لأن ثقافاتهم كانت أوربية.

وأخذ المودودى يتوغل فى العلوم الإسلامية التقليدية من حديث أو تفسير أو فقه وكلما يتوغل كلما كانت تأخذه إلى عالم الأسلاف وإلى ما وضعوه من ضوابط وقواعد تكوِّن فى مجموعها الفهم السلفى.. وكان دوره هو أن يقدم ترجمة "أورديه" سهلة لهذا الفهم السلفى.. وأن يضعه فى إطار الدولة الحديثة وكان حرصه على سلامة وقوة الدولة يرتبط بقيامها على الأسس الإسلامية السليمة التى استخلصها فإذا لم تقم على ذلك فإنها تفقد صفتها المميزة وتصبح دولة كبقية الدول.

وكان المودودى يؤمن بفكرة أن الفاتحين المسلمين للهند سلكوا مسلك الملوك الذين يستكثرون من الأموال ويستجيبون للشهوات، ويقيمون القصور الخ... ولو أنهم سلكوا مسلك السياسة الإسلامية التى وضع أسسها الرسول والخلفاء الراشدون لكانت الهند قد أصبحت أمة مسلمة. ولهذا كان تركيزه على السلوك الإسلامى سواء من الفرد أو المجتمع، فى الاقتصاد أو السياسة.

وقبل استقلال باكستان بست سنوات، فى 26 أغسطس سنة 1941 أسس الجماعة الإسلامية من 75 رجلاً اجتمعوا من مختلف بقاع الهند بناء على دعوة وجهها المودودى عن طريق مجلته "ترجمان القرآن" وانتخبوا المودودى أميراً لها.

وفى نوفمبر 1972 وبعد واحد وثلاثين عاماً من الكفاح قدم الإمام المودودى طلبا إلى الجماعة بإعفائه من منصبه كأمير لها لأسباب صحية وعكف على البحث والقراءة حتى وافته المنية فى سبتمبر سنة 1979.

وأراد المودودى لجماعته أن تكون جمعية تطبق المثال على الواقع وتكون مجتمعاً إسلامياً حقيقياً يتوفر لأعضائه الإيمان والعمل، أو ما أطلق عليه المودودى الشهادة القوليه والفعلية، ويخضع لمعايير صارمة هى التى رأى المودودى أنها تتفق مع متطلبات الإسلام.

وأقامت الجماعة فى قرية عمرتها بنفسها، واستوطنها صفوة من أعضائها كما لو كانت مدرسة للكبار، وكان من واجبات كل عضو أن يأخذ نفسه بآداب الإسلام وأوامره "فلا يعامل أحداً إلا على الصدق، ولا يعاقد قريباً أو أجنبيا إلا على ما جاءت به الشريعة من شروط ولا يرضى بالعقود الفاسدة المحرمة فى الشريعة، ولو كلفه ذلك قناطير مقنطرة من الذهب والفضة.

فاستقال أعضاؤها من وظائف الحكومة الكافرة – البريطانية – وانقطع المحامون من رجالها عن المحاماة أمام المحاكم التى تحكم بغير ما أنزل الله، وأبوا أن يتعاطوا بالربا فتوقفوا عن التعامل مع البنوك (المصارف).

وتعرض أعضاؤها لكثير من العنت والاضطهاد :

فمن الشبان – وهم الأغلبية العظمى – من طرده أبوه وأخرجه من داره وحرم عليه أرضه ومتاعه.. ومنهم من أبى ذوو قرباه أن يزوجوه ابنتهم لأنه عمل بسُنة النبى r وأعفى لحيته التى طالما تعود على حلقها من قبل.

ومن الشيوخ من ضربه ابنه وأهانه لأنه تخلى عن حياة الجاهلية فى شيخوخته الخ...[49]

وتوضح نشأة الجماعة الإسلامية وتطورها أن من الخطأ الاعتقاد أنه من الممكن إضرام نار الإيمان فى صدور المجموعات لسنوات طوال، وأن الإيمان الذى يحكم الخُلُق والتصرفات وتخضع الحياة له من الصعب أن يبقى فى جماعة ما بعد فترة من الزمن على ما كان عليه فى البداية. وأن وضع الحسابات على بقاء هذا المستوى من الإيمان هو من الأخطاء التاريخية فى فكر الدعوات الإسلامية فحتى إيمان الصحابة لم يهدهم إلى السلوك الأمثل فى الفتنة الكبرى التى كان تأييد على – وهو الأحق – يعنى سفك دماء عشرات الألوف من المسلمين. والدرس الذى يقدمه لنا تطور المستوى الإيمانى للجماعة الإسلامية التى بدت عميقة الإيمان ملتزمة بموجبات هذا الإيمان. تجعلنا نقتصد ونضع فى اعتبارنا هامشاً عريضاً لحساب الضعف البشرى وقوة إغراء العوامل الاجتماعية الأخرى، ولا يعنى هذا إهمال هذا المقوم الهام ولكنه يعنى دعمه بمختلف الوسائل الأخرى. وعدم تركه وحده ضحية لعوامل الإغراء والتعرية وفى الوقت نفسه عدم الارتفاع به إلى مستوى لا تسمح به الأوضاع العملية ...

وما يهمنا هنا هو نظرية المودودى فى الدولة الإسلامية وهو ما يوضحه كتيب "منهاج الانقلاب الإسلامى" عن خصائص الدولة الإسلامية كالآتى :

1- ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين فى الدولة نصيب من الحاكمية فإن الحاكم الحقيقى هو الله والسلطة الحقيقية مختصة لذاته تعالى وحده والذين من دونه فى هذه المعمورة إنما هم رعايا فى سلطانه العظيم.

2- ليس لأحد من دون الله شئ من أمر التشريع والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرعوا قانوناً ولا يقدرون أن يغيروا شيئاً مما شرع الله لهم.

3- أن الدولة الإسلامية لا يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون المشروع الذى جاء به النبى من عند ربه مهما تغيرت الظروف والأحوال. والحكومات التى بيدها زمام هذه الدولة لا تستحق طاعة الناس إلا من حيث أنها تحكم بما أنزل الله وتنفذ أمره تعالى فى خلقه.

من هنا يتضح لنا أن الدولة الإسلامية لا تُعَــدّ ديمقراطية بالمعنى الشائع لأنها لا تجعل إرادة الشعب هى أصل التشريع، ولكنها حكومة إلهية (ثيوقراطية Theocracy) مع اختلاف جذرى فى المدلول الأوربى للكلمة لأن الحكومة الإسلامية لا تعرف طبقة السدنة (رجال الدين) الذين يتولون وحدهم فى الدولة الثيوقراطية بالمفهوم الأوربى التقنين أو التفسير طبقاً للشريعة الإلهية ومن هنا فإن الثيوقراطية الإسلامية يمكن أن تكون (ثيو-ديمقراطية) Theo democracy أو الحكومة الإلهية الجمهورية وذلك لأنها خولت للمسلمين حاكميــة (أو سيــادة) شعبيـة محـدودة A limited popular sovereignty تحت سلطة الله القاهرة. ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين وبيدهم يكون عزلها من منصبها وكذلك جميع الشئون التى لا يوجد عنها فى الشريعة حكم صريح لا يقطع فيها بشىء إلا بإجماع المسلمين.

وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع لا يقوم ببيانه طبقة أو أسرة مخصوصة وحدها بل يتولى شرحه وبيانه كل من بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين..

فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامى ديمقراطيا إلا أنه – كما تقدم ذكره من قبل – إذا وُجد نص من نصوص الكتاب والسُنة فى شأن من الشئون فليس لأحد من امراء المسلمين أو مجتهد أو عالم من علمائهم ولا للمجلس التشريعى (Legislature) بل ولا لجميع المسلمين فى العالم أن يصلحوا أو يغيروا منه كلمة واحدة، من هذه الجهة يصح إطلاق كلمة "الثيوقراطية " انتهى الاقتباس..

وفى كتابه "الحكومة الإسلامية" وهو من الكتابات المتأخرة للمودودى عرض القضية كالآتى :

إن المطالبة بالحكومة الإسلامية والدستور الإسلامى تنبع من الشعور الأكيد بأن المسلم إذا لم يتبع قانون الله، كان ادعاؤه الإسلام باطلا لا معنى له.

1- يقرر القرآن أن الله تعالى هو مالك الملك، ومن ثم فهو صاحب الحق فى الحكم بداهة، كما يقرر أن تنفيذ أوامر أحد غيره، أو حكم أحد سواه فى أرضه وعلى خلقه، إنما هو باطل وكفر مبين. والصواب أن يحكم الحاكم بقانون الله ويفصل فى الأمور بشريعة الخالق بوصفه خليفة لله ونائبا عنه فى أرضه.

2- وبناء على هذا سُلب الإنسان حق التقنين لأنه مخلوق ورعية، عبد ومحكوم، ومهمته تتركز فى اتباع القانون الذى سنه مالك الملك. وقد أباح الإسلام بالطبع مزاولة الإنسان الاستنباط والاجتهاد وتفريعاتهما الفقهية، لكنه شرط ذلك بألا يخرج عن إطار حدود الله. كذلك أعطى المؤمنين حق التقنين فيما لم يرد فيه حكم صريح من الله ورسوله، على أن تراعى فى التقنين روح الشريعة ومزاج الإسلام، لأن سكوت الشارع عن إصدار حكمه فى بعض المسائل يعنى أن للمؤمنين الحق القانونى فى سن أحكامها وضوابطها. لكن الأمر الأساسى الذى لا غمة فيه ولا خفاء أن من يترك قانون الله ويؤمن بقانون آخر وضعه بنفسه أو شرعه له غيره من البشر إنما هو طاغوت باغ خارج عن طاعة الحق، وأن من يبغ الحكم بهذا القانون الوضعى، ويعمل على تنفيذه فهو باغ عات عن أمر ربه أيضاً.

3- أن الحكومة الصحيحة العادلة فى أرض الله هى التى تتأسس وتحكم بالقانون الذى بعثه الله على أيدى أنبيائه، واسمها الخلافة.

4- أن كل ما يصدر من أعمال من قبل أية حكومة تقوم على أساس شرعة أخرى غير شرعة الله وقانونه الذى جاء به الأنبياء من لدن رب الكون وإلهه باطل لا قيمة له ولا وزن، مهما اختلفت هذه الحكومات فيما بينها من تفاصيل فى الشكل والنوع، وحكمها غير شرعى البتة، فإذا كان مالك الملك الحقيقى لم يعطها سلطانا، فأنى لها أن تكون حكومات شرعية.

إن القرآن الكريم يرى كل ما تقوم به هذه الحكومات محض عدم لا وزن له ولا قيمة، وقد يقبل المؤمنون – وأعنى بهم رعايا الله الأوفياء – وجود هذه الحكومات باعتبارها أمراً واقعاً خارجا عن إرادتهم وقدرتهم، لكنهم لا يعترفون بها وسيلة حكم شرعية، وسلطة تفصل فى أمورهم وقضاياهم، إذ لا يحق لهم طاعة الخارجين على حاكمهم الأصلى (الله) أو قبولهم حكما فى مجريات حياتهم، ومن يفعل ذلك فقد خرج من زمرة المؤمنين الأوفياء مهما ادعى الإسلام والإيمان " انتهى ..

ويمكن تلخيص فكرة المودودى فى القواعد الثلاث الآتية :

أولا: العبودية لله التى تجعل المسلم يعيش فى كل حركاته ابتغاء مرضاة الله والتزاما بما وضعه الله.

ثانيا: الحاكمية الإلهية التى تجعل المجتمع يحكم بما أنزل الله ولا يجوز لفرد أو سلطان أو هيئة أو شعب وضع القوانين طبقاً لما يراه ..

ثالثا: الجاهلية. وهى الصفة التى أطلقها المودودى على المجتمعات التى لا تؤمن بالحاكمية الإلهية، حتى لو كانوا من المسلمين.

f

وللمودودى رأى عن الإنسان بالنسبة لله تعالى قال فيه :

لقد سبق لى القول من قبل مرة بعد أخرى أن الإسلام يستهدف أن يدخل حياة المرء بجميع مظاهرها فى عبادة الله ويصفها بصفتها. الإنسان خلق عبدا – والعبودية هى فطرته التى فطره الله عليها – فليس له أن يكون حراً لا فى فكره، ولا فى عمله، من هذه العبودية. عليه أن ينظر فى جميع مظاهر حياته وجميع أوقاته ما هو رضا الله؟ وما هو سخطه ليتخذ ما كان يرضى الله ويبتعد عما يسخط الله – ابتعاده عن النار – ويسلك المسلك الذى يحبه الله ويجتنب الطريق الذى يبغضه. وإذا رأيت أحداً قد صيغت حياته فى هذا القالب صياغة كاملة فاعلم أنه أدى حق عبوديته لسيده ومولاه وأتم الغرض المنشود لآية )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(.

f

ما هى تحفظاتنا على فكر المودودى ؟

أولاً: أن العلامة المودودى وقع فى "إسقاط" بشرى على الطبيعة الإلهية وتصور سلطة الله تعالى وحاكميته كما لو كانت سلطة ملك على شعبه أو قائد على جنده. أو مالك على عبيده. وكان من أبرز الأدلة على ذلك الأمثلة العديدة التى أراد أن يوضح بها هذا الفهم، ومثل هذا القياس خاطئ تماماً لانتفاء التماثل فى العلة إن لم يكن مستبعداً أصلاً. فالله تعالى غنى عن العالمين، لا تضره معصية، ولا تنفعه طاعة – وأى مالك ليس غنيا عن عبيده – ولا هو فى حصانة من معصيتهم، أو غنى عن طاعتهم. وعلم الله تعالى الذى يفصل به بين العباد، ويحكم به على الأعمال، يتسامى عن فهمنا المحدود المتأثر بالعوامل الذاتية ونحن يتملكنا الغضب لأنفسنا وتأخذنا العزة عند المخالفة – ونحرص على ذواتنا، وأموالنا، ومراكزنا وسلطاننا.. ونحاسب تبعا لقواعد الحساب.. وهذا كله شىء لا يمكن أن ينسب إلى الله تعالى – فرحمة الله أعظم مما نتصورها – وخزائنه لا تنفد. وهو يكافئ بسبعمائة ضعف وأكثر. وعلمه وحكمته تجعله ينظر إلى المخالف نظرة العارف المتعال: وهم يقولون عن البشر "من يعرف أكثر.. يغفر أكثر.." ومن ثم كانت معاملة الفيلسوف الحكيم تختلف عن معاملة العسكرى الفظ.. وهذا كله بالنسبة للآدميين. فما بالك بالله رب العالمين. إننى لأخشى أن المودودى رحمه الله فى حماسته لتدعيم وجهة نظره كاد أن يقرب من تجسيم إن لم يكن مادياً – فهو فكرياً.. وأراد أن يمحى كل أثارة من أثارات الشرك.. فكاد أن يقع فيما يماثل ذلك عندما كيّف الطبيعة الإلهية تكييفاً بشرياً.

ثانيا: أن العبودية لله لا تعنى – كما تصور المودودى – انعدام حرية الإنسان فى الأرض والتصور الذى قدمه المودودى للعبودية الإنسانية الذى رتب عليه انعدام الحرية يخالف مخالفة تامة التصور الإسلامى للحياة واستخلاف الإنسان على الأرض وإرصاد الشياطين لغوايته وإرسال الأنبياء لهدايته. وما ينبنى على هذا من وجود حرية فى التصدى وعقل فى التكييف. وكلمة حرية وعقل هما من المحرمات فى كتابات وآداب الرافضة الجديدة – كما يندر أن نجدهما فى كتابات المودودى. وإغفالهما، مع التركيز على مضمون العبودية يخل بالتصور الذى أراده الإسلام، ولو أعطت كتابات المودودى الحرية الإنسانية. والعقل الإنسانى جزءًا مما ركزته فى العبودية – لاختلف التكييف – ولكان هذا أدعى لهداية الإنسان من تجاهلهما ..

ثالثا: يختلف الطابع العام لأحكام المودودى ومنطلقاته عن الطابع العام الذى نجده فى القرآن وفى الحديث. ففى هذين نجد العقيدة وتوجيهاتها تعرض "كمثال" ونجد الطبيعة البشرية بضعفها والعوامل المحددة لها.. تعرض كواقع. وتتجاوب الأحكام مع تلاقى المثال بالواقع.. ومدى إخضاع الواقع للمثال، أو مدى توصل الواقع إلى المثال. ومن أجل هذا يقرر القرآن )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا( وكان الرسول أيضاً عندما يبايع المؤمنين يردف "فيما استطعتم". وهذه اللمسات الإلهية والنبوية فى معاملة الإنسان وعمق المعرفة بالطبيعة البشرية لا نجدها فى أحكام المودودى التى تنزع نحو تطبيق المثال كاملاً غير منقوص، وتميل بصفة عامة للتشدد. والإسلام دين اليسر. وتريد قيام مجتمع كامل لا يتضمن نقصاً. فى حين أن الإسلام افترض وجود التقصير والضعف أمام الإغراء، بل إنه إفترض حدوث الكفر. ولم يكن هذا فى حد ذاته ليعنى الإسلام وقد وجه الله تعالى نبيه لأن لا يحزنه الذين يسارعون فى الكفر. لأنه تعالى – لا تضره معصية – ولا تنفعه طاعة – فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومن شاء فليكفر.. ومن شاء فليؤمن. وقد أراد الله تعالى لهذه الدنيا أن تضم الكفــرة – وغيـر المؤمنيـن الــخ... )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ( {النحل 61} ..

رابعا: إن الإلحاح على فكرة العبودية لله مع استبعاد أى إشارة إلى حرية أو عقل يمكن أن يوظف لخدمة الحكام والنظم ويفتح الطريق لهما. لأنه مع استبعاد العقل والحرية، تنبهم العبودية، ولا يمكن التفرقة بين أن تكون لله أو لغير الله ويمكن أن يصبح الإنسان عبداً للخرافة ويختلط عليه الحق بالباطل.

خامساً: أن اتباع النصوص القرآنية يتطلب فهما لها يتأثر بدرجة الثقافة وملاحظة روح الإسلام ومقاصد الشريعة وضرورات العصر. وهذا الفهم لا يكون جامداً وليس شرطا أن يتفق مع فهم السلف، ولا مع ما يقرره المفسرون لأن هؤلاء جميعاً من الصحابة حتى الآن ليسو مشرعين وما جاءوا به من أحكام لا يعد ملزما. وقد وضح لنا عمر بن الخطاب أن المهم فى النص هو توافر العلة أو الحكمة، وأنه لما انتفت العلة من نص لم يعمله ولا يعد هذا مخالفة بل هو تطبيق لحكمة التشريع كما فى حالة الزكاة والطلاق الخ... فحتى النص القرآنى فيما يتعلق بالدنيويات يمكن أن يوقف النظر فيه إذا انتفت العلة التى أدت إلى إصداره كما فعل عمر بن الخطاب من قبل ويدخل فى ذلك ما يخص الحكم.

أما السُنة فيجب أن تضبط بمعايير قرآنية حتى لا نكون ضحايا الوضع أو غيره فما شاب السُنة بعد أن تأخر تدوينها مائة عام.

وتطبيق هذه الاعتبارات وإن كان لا يخرج عن الإطار العام الذى وضعه المودودى لأنه التزام بالقرآن والسُنة. إلا أن تكيفها هذا يوجد – بكل تأكيد – مفاهيم ونتائج بعيدة كل البعد بل ومنافية لما تصوره المودودى الذى لم يكن لديه من طريقة لفهم وتطبيق النصوص إلا ما جاء به السلف.

والحقيقة أن المودودى يتحدث بأسلوب يختلف تمام الاختلاف عن أسلوب القرآن فالمودودى يقول "ليس لأحد من دون الله شىء من التشريع والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرعوا قانوناً ولا يقدرون أن يغيروا شيئاً مما شرع الله لهم.

وإذا وجد نص من نصوص الكتاب والسُنة فى شأن من الشئون فليس لأحد من أمراء المسلمين ولا لمجتهد ولا لعالم ولا لمجلس تشريعى بل ولا لجميع المسلمين فى العالم أن يصلحوا أو يغيروا منه كلمة واحدة. قارن هذا الكلام بما يقوله القرآن )وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانً(. وما يأمر به مراراً من التفكير والتدبر فى آيات الله فهناك فرق شاسع بين الموقف المنغلق للمودودى والموقف المنفتح للقرآن.

رؤية للديمقراطية فى الثمانينات :

ليس لدينا الكثير من الوثائق والكتابات عن التطورات الأخيرة للجماعة الإسلامية. وهذه الجهالة هى جزء من القطيعة الفكرية بين بلاد العالم الإسلامى، وعدم احتفال كثير من الهيئات بالإعلام المكتوب – أو الاتصال. خارج أطرها الخاصة. وما تأتينا به أجهزة الإعلام الأوربية مُتهم.

وتقلبت الحظوظ بالجماعة الإسلامية عندما دخلت العمل السياسى. ولكن قله ما لدينا من مراجع يحول بيننا وبين إصدار الأحكام. وقد وجدنا بين أوراقنا نشرة موجزة بالإنجليزية أصدرتها الجماعة الإسلامية بعنوان "الديمقراطية والتضامن القومى: مشروع المودودى للإجماع القومى عن الأسس الفكرية بباكستان". صدرت بعد 83 وهى تمثل التطور الفكرى الذى وصلت إليه الجماعة وتكييفها لمفاهيمها للتوصل إلى "إجماع قومى".

وبعد مقدمة موجزة، تعرض النشرة خمسة مبادئ لازمة لتهيئة مناخ رأى عام إيجابى هى :

1. احترام الحق والعدل.

2. التسامح المشترك (أو المتبادل).

3. تجنب المعارضة للمعارضة.

4. تفضيل الإقناع على القسر.

5. المصلحة القومية فوق المصلحة الشخصية.

وهذه المبادئ توضح مدى تطور فكر الجماعة الإسلامية. ولكن يظل مدى إيمان الجماعة بهذه المبادئ وتكييفها محل نظر.

- 2 -

سيد قطب وكتاب "معالم فى الطريق"

كان سيد قطب كاتبا ضليعاً تلقى دراساته فى دار العلوم – وواصلها بقراءاته. وأظهر من أيامه الأولى نبوغاً فى الكتابة واعتبر فترة ما الابن البكر للأستاذ عباس محمود العقاد وأفسحت له مجلة الرسالة صدرها فأثراها بمقالاته عن النقد الأدبى. وكان مما لا يزال عالقاً بالذهن مساجلة بينه وبين الأستاذ محمد سعيد العريان الذى اعتبر أكبر مؤيدى الأستاذ مصطفى صادق الرافعى وكانت المساجلة وكأنها بين الكاتبين الكبيرين "العقاد والرافعى" نفسيهما. وكل واحد يدافع عن وجهة نظره ...

ولم يكن الاتجاه الإسلامى بارزاً فى سيد قطب فى كتاباته الأولى على أنه أصدر كتاباً ممتازاً بعنوان "العدالة الاجتماعية فى الإسلام" ثم جذبه الإعجاز القرآنى الذى لابد أن يجذب كل كاتب عربى. فأصدر "مشاهد القيامة فى "القرآن والتصوير الفنى" وعدداً آخر من الكتب أبرز فيها البلاغة والإعجاز الفنى للقرآن ..

وأراد الله له أن يرسل فى بعثة إلى الولايات المتحدة وكان وقتئذ قد سلك فى سلك التربويين الذين يعملون فى خدمة وزارة التربية والتعليم ويبدو أن هذه الرحلة أثارت فيه نقطة تحول دفعت به إلى الاتجاه الإسلامى الذى كان قد شارفه، ولعل ظواهر الحضارة الأوربية، وبوجه خاص ما يتعلق بالتحرر الجنسى وظهور المرأة قد أحدث صدمه فى نفسه وهو "الصعيدى" الذى لم يغادر قريته إلا إلى القاهرة، ولم يتزوج، ومر بمرحلة حب عذرية عابرة.. ولم تكن هذه صدمة "انبهار" بل كانت صدمة احتقار لمشاهد الحياة الأمريكية.

المهم أنه عاد وهو أقرب إلى الإسلام وكان المجتمع المصرى قد تعرض بدوره لتغيير جاء به الانقلاب العسكرى لعبد الناصر. وكان هناك صداقات تجمع ما بين سيد قطب وبعض ضباط الانقلاب الذين ألفوا أن يجتمعوا فى بيته فى حلوان خاصة أيام التقارب ما بين الانقلاب والإخوان عامى 52، 53، وكان له مكتب فى مركز قيادة الثورة.

وكان لدى بعض أصدقائه من الضباط احتمال أن تعينه "الثورة" وزيراً للتربية والتعليم ولكن ما لم يفطنوا إليه وقتئذ هو أن الأمور كانت فى يد جمال عبد الناصر الشكاك الحذر الذى لا يأتمن إلا اتباعه.

وجرت الرياح على غير ما تشتهى السفن. فتوترت العلاقات ما بين الإخوان والضباط. بعد 1954 فى أعقاب التهمة التى ألصقت بالإخوان تهمة محاولة اغتيال عبد الناصر، وبدأت الاعتقالات ..

ولم يكن سيد قطب بالرغم من شخصيته المستقلة، وعلاقاته بالضباط بمنأى عن هذه التطورات التى نالته فيمن نالت ولكنه خرج منها بعد أن أحدثت أول شرخ ما بينه وبين النظام.

وأصدر فى هذه الفترة كتابه "معالم فى الطريق" ولم ينتبه القادة إلى خطورة مضمونه وقيل إنه كان يوزع بين الضباط ..

واكتسب الأستاذ سيد قطب شهرة مدوية فى أوساط الإخوان.. وانضم إليها بصفة رسمية وكان كتابه "معالم فى الطريق" هو مدخله لقلوب لفيف من شباب الإخوان ورأوا فيه صياغة رصينة، وإيمان عميق مؤصل على نصوص صريحة من الكتاب والسُنة وحدث هذا فى فترة التخلخل التى لم يوجد فيها كاتب إخوانى يواصل التأصيل النظرى الذى قام به الإمام البنا.

والحقيقة أن الفكر الذى قدمه سيد قطب وإن كان جديداً فى دوائر الإخوان وغريبا عن كتابات الأستاذ البنا، فإنه لم يكن جديداً على مجموعة صغيرة من شباب الإخوان كانوا يتابعون حركة المودودى فاستقدموا كتاباته واستأجرواً محلاً أمام المركز العام للإخوان المسلمين فى سكة راتب وبدءوا تحت اسم "لجنة الشباب المسلم" بترجمة بعض كتاباته وبوجه خاص كتابى نظرية الإسلام السياسية ومنهاج الانقلاب الإسلامى وهما من أقدم كتابات المودودى وكانتا محاضرتين ألقاهما المودودى فى لاهور وتضمنت الأفكار الرئيسية التى أبرزها سيد قطب وهى: الحاكمية الإلهية – العبودية لله – الجاهلية الحديثة وكان فضل سيد قطب فى هذا هو أنه أبرزها بأسلوب عربى رصين مثير ..

وفى 1965 حدث سباق للاستحواز على السلطة ما بين فريق عامر وفريق ناصر. وأقنعت المخابرات العسكرية التابعة لعامر عبد الناصر بأن مؤامرة إخوانية تحاك وعلى وشك أن تؤدى بدولته. وكانت قد وضعت يدها على نواة صغيرة لمجموعة أرادت أن تدرس فكر سيد قطب. فادعت أنها تخطط لنسف الكبارى وقتل الشخصيات العامة والفنانين الخ... وكانت نتيجة ذلك أن اعتقل سيد قطب ومجموعة من أخلص اتباعه مع ما يزيد على عشرة آلاف معتقل، وتعرضوا لأشنع صنوف التعذيب وقدم سيد قطب والمجموعة المخلصة التى كانت حوله وحكم عليهم بالإعدام ونفذ الحكم فوراً، حتى لا يضطر عبد الناصر للاستجابة لرجاءات الشفاعة التى سيتقدم بها بعض القادة، وكان موقف سيد قطب، ورفضه استجداء العفو ثم إعدامه هى ما أعطته الشهرة المدوية وكللت موته بتاج الشهادة ..

وقد أصبح "معالم الطريق" هو الذى يلهم كل المجموعات الرافضة ومع أن المضامين الثلاثة التى قام عليها ألا وهى: الحاكمية الإلهية والعبودية لله والجاهلية – ليست جديدة تماماً، فقد قالها المودودى من قبل إلا أن الجديد هو حُسن تقديمه وصياغته والبرهنة عليها. لا بأدلة منطقية أو علمية فهذا ما يستبعد فى مثل هذا الكتاب، ولكن بنصوص أعطيت بريقا ليس لها ..

وأصبح الكتاب وثيقة ملتهبة ..

والنقد الرئيسى الذى يوجه لفكرة "الحاكمية الإلهية" – وهى واسطة العقد فى فكر سيد قطب – هو أنها تجريد للعقيدة عن مضمونها العملى، وإعلاء لهذا التجريد، بحيث يأخذ معنى آخر يختلف عن المعنى الذى تقدمه العقيدة فى مضمونها العملى، ويأخذ طابع الشعار، أو حتى الوثن.

"فالحاكمية الإلهية" دعوى جذابة تبدو وكأنها ثورة كاسحة، وتغيير شامل ..

فإذا قلنا: وماذا تعنيه الحاكمية الإلهية "عملياً" ؟ أو: كيف يمكن لها أن تحقق ثورتها الكاسحة؟ لما وجدنا شيئاً فى مائتى صفحة من صفحات "معالم فى الطريق" إلا هذه السطور :

"ودين الله ليس غامضاً ومنهجه للحياة ليس مائعا فهو محدد بشطر الشهادة الثانى "محمد رسول الله" فهو محصور فيما بلغه رسول r من النصوص فى الأصول، فإن كان هناك نص فالنص هو الحكم، ولا اجتهاد مع النص، فإن لم يكن هناك نص، فهنا يجىء دور الاجتهاد، ومن أصوله المقررة فى منهج الله ذاته، لا وفق الأهواء والرغبة: )فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ( {النساء 59} ..

والأصول المقررة للاجتهاد والاستنباط مقررة كذلك – ومعروفة وليست غامضة ولا مائعة – فليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه هذا شرع الله.. إلا أن تكون الحاكمية العليا لله، وأن يكون مصير السلطات هو الله سبحانه لا (الشعب) ولا (الحزب) ولا أى البشر" انتهى.

فإذا كان هذا هو دين الله ومنهجه فى الحياة على ما قال فإن كل الفقهاء المسلمين السلفيين يقولونه، وليس فيما جاء به أى تجديد.

والنتيجة العملية: أن ليس فى كل الحماسة والعاطفة والثورة أى إضافة أو تجديد عن المذهب الإسلامى التقليدى ..

وقد يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك فلماذا ننقد فكره ؟ ..

السبب: أنه لم يشر إلى هذا التطبيق التقليدى إلا خلال عشرة سطور وسط مائتى صفحة، وأما الباقى كله فكلام يوحى بأن تطبيق الحاكمية غير ذلك البته ..

وإلا فلماذا لم يكف نفسه مؤونة الحديث الطويل، إذا كانت النهاية هى هذه النتيجة.

إن "الحاكمية الإلهية" لأنها "شعار" و "تجريد" يمكن أن توحى بما هو أكثر، بل بما هو خلاف ما انتهت إليه عندما اضطر للحديث عن الفحوى والمضمون. بل يمكن أن يصبح وثنا يعبد فى حد ذاته دون أى حكمة أو مضمون.

وعمليا فإن كلمة "الحاكمية الإلهية" كانت وراء استغلال الدهاة.. وضلال السذج: فقد استغلها أدهى الدهاة عمرو بن العاص عندما رفع المصاحف على أسنة الرماح ليعلى باطل معاوية على حق على. وانخدع بها الخوارج فخذلوا عليا وهو أتقى التقاه ومكنوا معاوية من الانتصار بحجة "لا حكم إلا لله".. "حكمت الرجال فى دين الله" !!

وعندما بعثت هذه القالة تكررت المأساة واستغلها بعض الأفراد الأذكياء للسيطرة على شراذم من السذج وتحكموا فيهم ..

فإذا كانت الشعارات من نوع "الحاكمية الإلهية".. "العبودية لله" تكسب الجموع وتثير الحماسة فإنها عمليا لا تعنى إلا الضلال والانحراف عندما يأتى الأمر للتطبيق. ولو انتصرت دعوة سيد قطب رحمه الله لأوجدت أسوأ الطغاة الذين يفرضون ضيق الأفق والغباء والتعصب و "اللاعقل" على الناس جميعاً.

وإذا كانت "الحاكمية الإلهية" تعنى: تحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل الله، والحكم بما أنزل الله.. فمن الخير أن يقال هذا.

وقد قالتها أم الدعوات الإسلامية فى العصر الحديث "الإخوان المسلمون" فى مقدمة شعاراتهم "الله غايتنا.. القرآن دستورنا.. الرسول زعيمنا".

وقالة أخرى مضلة هى "العبودية لله" فما المقصود بها عمليا؟.. لأنها عقيديا ليست محل خلاف ..

فإذا أريد بها ألا يكون هناك أرباب من البشر يحلون ويحرمون.. فهذا ما تضمنته دعوة الإخوان وما أشرنا إليه.

وإذا كانت تعنى ألا يكون هناك "شفاعة" أو "ولاية" مع الله.. فهذا ما قالته الوهابية وما أقامت عليه دعوتها ..

وإذا كانت تعنى أن تتأصل فكرة العبودية فى النفوس وتتغلغل فيها وتكون دائماً نُصْبَ العيون.. فهذا شىء أقرب إلى الرجاء مما هو إلى التحقيق؛ لأن الله تعالى أوجد فى نفوس البشر ما يشغلها من شهوات وغرائز، وسلط عليها الشياطين، وحرمها من نقاء وصفاء الملائكة.

وفى عهد الرسول استشعر هذا المعنى الصحابى "حنظله" وظن أن النفاق قد تطرق إليه فذهب إلى الرسول وفى طريقه قابل أبا بكر الذى سأله عن حاله فقال" "نافق حنظله" ولما استفهم منه أبو بكر عن الحقيقة ذكر له أنهم يكونون عند رسول الله r وقد تملكهم التقى ثم يئوبون إلى زوجاتهم فتتملكهم الشهوات، وعندئذ أقر أبو بكر بأن هذا ما يحدث له، فذهبا إلى رسول الله r وعرضا عليه الأمر فقال: "لو تكونون عند أهلكم كما تكونون معى لصافحتكم الملائكة! ولكن ساعة.. وساعة.."

وليس ما هو أكثر دلالة من هذا الرد المعجز البليغ ..

فالنفس الإنسانية لا يمكن أن تخلص تماماً من شواغل الدنيا ..

وحسبها أن لا تبعد عما سنه الله تعالى لها ..

أو أن توجه مشاغلها لخدمة الأهداف الإسلامية ..

وهذا هو ما كان يحدث لعمر بن الخطاب عندما كان يحسب فى صلاته "عطاء البحرين"، وقيادة الجيوش الخ... مما كان يهيمن على نفسه من قضايا المجتمع الإسلامى.

وقد رأينا كيف أن المودودى حاول أن يحقق هذا المعنى عمليا فى المجموعة التى بدأ بها جماعته، ولكن غلبت عليها الطبيعة البشرية كما لابد أن يحدث بعد فترة من الزمن.

ولم أجد فى كتاب "معالم فى الطريق" بأسره إشارة واحدة إلى "العقل" !

وهى سمة يتسم بها دعاة "الحاكمية الإلهية" ..

أما العلم؛ فإن الإشارة التى تضمنها الكتاب: هل نحن أعلم أم الله تعالى!. )وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(.

أما الآية : )هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( التى يحتج بها أنصار العلم، فإنه أعادهم إلى صدر الآية : )أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ( {الزمر 9}..

فنسفت حجتهم نسفا ..

أما الشعب، فقد صب عليه جام غضبه، ورفض أن يكون له من الأمر بشىء.. لأن الأمر كله لله ..

وأما الإنسان الذى جعله الله خليفة فى الأرض وأسجد له الملائكة وتقلد الأمانة التى عجزت عنها السموات والأرض والجبال فلا وجود له، فقد استغرقته تماماً العبودية لله.

ونتيجة لهذه التصورات عرض لنا سيد قطب مجتمعين :

مجتمع إسلامى.. ومجتمع جاهلى.

ولا توسط بينهما :

وكل المجتمعات الحديثة – إسلامية وغير إسلامية – جاهلية.

لأن المجتمعات الإسلامية لا تحقق عمادى دعوته: الحاكمية الإلهية.. والعبودية لله.

فهى جاهلية.. حتى وإن ادعت الإسلام ..

f

إذا كان سيد قطب قد بعث أفكار المودودى، ومن ثم فلا تعد جديدة، فإن الجديد الذى يمكن أن ينسب إليه هو تصوره للجهاد، وأنه لم يكن للدفاع كما يذهب إلى ذلك "المنهزمون" كما ارتأى. وإنما هو أداة الإسلام لحمل رسالته وتوصيلها للعالم أجمع، وهو التصور الذى أدى لظهور جماعة الجهاد، وأثر أثراً كبيراً على فهم هيئات إسلامية لمضمون الجهاد وكان للأسف الشديد – مضمونا يشطح بالجهاد بعيداً عن حقيقته ويحمله ما لا يحمله، بل ونقيـض مـا يحملـه.[50]

- 3 -

الإمام الخمينى وولاية الفقيه

من بين كل الحركات التى ظهرت فى الدول الإسلامية فى العصر الحديث تعد الحركة التى قادها الإمام آية الله العظمى الخمينى الوحيدة التى تستحق بجدارة اسم "الثورة" وهى بهذا تختلف تماماً عن كل الانقلابات التى تعرض لها العالم الإسلامى/ العربى وقام بها ضباط للاستحواز على السلطة ولما كانت حركات سفاح ليس لها نظرية أو شرعية تنتسب لها فإنها تنسب إلى تاريخ وقوعها فيقال ثورة شهر كذا... وليست هى من الثورة فى شئ.

لقد قلنا فى مناسبات سابقة إن الثورة لابد أن يكون لها نظرية أو عقيدة أصيلة، متكاملة وليست ملفقة أو مطلبيه. ولابد أن تشترك فيها اشتراكاً فعليا جماهير عريضة. ولابد أن تستهدف تغييراً جذرياً يشمل الاجتماع والاقتصاد والسياسة. والانقلابات العسكرية التى حدثت فى العالم العربى والإسلامى لا يتحقق فيها مقوم واحد من هذه المقومات. ولهذا لا تعد ثورات. ولكن الحركة التى قام بها الإمام الخمينى تعد ثورة توافرت فيها المقومات الثلاثة للثورة فقد جاءت بنظرية جديدة تستلهم الفقه الشيعى وتطرح النظام المدنى الذى كان سائدا.ً واشتركت فيها – بل قامت بها – جماهير عريضة جابهت بطش القوة المسلحة. وأدت إلى تغيير كاسح طوى الصفحة السابقة عليه وجاء بأوضاع جديدة فى الحكم والاقتصاد والاجتماع.

من أجل هذا فإن ما حدث فى إيران هو ثورة ..

ولكن ليس معنى هذا أن تكون الثورة رشيدة أو صائبة. فالحركة التى قادها لينين كانت ثورة إذ كان لها نظرية، واستهدفت تغييراً واشتركت فيها جماهير ولكن ما تورطت فيه الثورة من أخطاء رغم إنجازها أدى فى النهاية إلى السقوط والتحلل.

واليوم تقف الثورة الإسلامية الإيرانية موقفاً حرجاً وتتجاذبها القوى المتعارضة. ويمكن أن يحدث فيها ما حدث للاتحاد السوفيتى. وإن كنا نأمل أن توفق فى الخروج من مأزقها ..

وإيران دولة كبيرة واسعة المساحة كبيرة السكان لها تاريخ عريق يتمثل فى الحضارة الفارسية التى كان أبرز ملوكها "كورش" وكسرى الذى قد يطلق على ملوكها كما يطلق لقب فرعون على ملوك مصر القديمة وعندما ظهر الإسلام كانت فارس تسيطر على العراق وتصبغه بالصبغة الفارسية. ولكن الإسلام هزم الفرس فى معارك شهيرة وقضى على النفوذ الفارسى ثم لاحق فارس فى أرضها. ولكن معظم الفرس اعتنقوا الإسلام وأصبحت عواصم إيران منارات للفكر الإسلامى فى الحديث والفقه والتفسير.

ومع أن الإسلام أعاد "خلق" هذه المنطقة، وأحل الآداب والثقافة والفكر الإسلامى محل الثقافات الزرادتشية القديمة، إلا أن هذا لم يمح تماما الرواسب القديمة، خاصة وأن التطورات السياسية جعلت لإيران أهمية عندما ازدهرت الدعوة الشيعية فيها وبدأت الثورة على الخلافة الأموية فيها، ومع أن التطورات السياسية انحرفت بها إلى العباسيين، فإن هذا لا يضائل من أثر الفرس فى بناء الدولة الجديدة، ولم يحل دون أن يكونوا أركانها بدرجة حملت الرشيد على القيام باستئصال البرامكة بعد أن كاد نفوذهم أن يعادل نفوذه.. ولم تعدم شاعراً مثل مهيار يفخر على العرب.

قومى استولوا على الدهر فتى

ومشوا فوق رؤوس الحقب

عممـوا بالشمس هاماتـهم

وبنـوا بنـيانهم بالشـهب

وأبـى كسرى عـلا إيوانه

أين فى الناس أب مثل أبى

قد نسبت المجد من خير أب

وقبست الدين من خير نبى

وضممت الفخر من أطرافه

سؤود الفرس وديـن العرب

ولا بأس بهذه الأبيات، فنحن لا نستطيع، ولا نريد، أن نحرم شعباً من أن يتحدث بمفاخره، ويعتز بأمجاده القديمة، ما دام لا يفرض الماضى على الحاضر أو يعلى الذاتية على الموضوعية.

واعتورت إيران ما اعتور بقية الولايات الإسلامية خاصة وأنها تلاصق دولا قوية كالأفغان والهند والترك.. وروسيا حتى انتهى بها الحال إلى ظهور الدولة الصفوية فى القرن السادس عشر وهى التى عمقت المذهب الشيعى الجعفرى أو الأثنا عشرى وجعلته مذهب الدولة. ونشأت بينها وبين الدولة العثمانية التى تمثل السُنة وتتبنى مذهب أبى حنيفة حروب طاحنة أوهنت الفريقين. وفى عهد الصفويين نشأت الأساطير الشيعية التى أصبحت مأثورات المذهب الشيعى ودعمها الصفويون لتعميق تميزها عن الدولة العثمانية.

وتدهورت الدولة الصفوية وقامت على أنقاضها الأسرة القاجارية وهى من التركمان.. وحكمت إيران فى الفترة التى تعرض فيها العالم الإسلامى بأسره للاستعمار الأوربى ووقعت إيران ما بين الاستلحاق الروسى الذى انتزع مناطق كبيرة منها وألحقها بروسيا والأطماع البريطانية التى هيمنت على الاقتصاد وبدأ التغلغل الاستعمارى عندما احتل البرتغاليون جزيرة هرمز سنة 1507 وبدءوا بتوسيع تجارتهم مع إيران كما كانت الشركات الهولندية من أوائل الشركات التى حصلت على امتيازات تجارية فى إيران، تبعها البريطانيون، إذ حاولت شركة الهند الشرقية السيطرة على تجارة الحرير، واستطاعت فى عام 1571 أن تحتكر كل تجارة الحرير الإيرانية. ونشبت فيما بعد منافسة حادة بين هولندا وبريطانيا، إذ حصلت هولندا على امتياز يبيح لها الاحتكار التام للتجارة الخارجية الإيرانية (التصدير والاستيراد) وذلك فى عام 1623.

أما روسيا القيصرية التى تأخر فيها النمو الرأسمالى، فقد بدأت سياستها الاستعمارية ضد إيران فى القرن الثامن عشر، ولم تلبث أن فرضت اتفاقيات مجحفة على إيران، وخاضت معها حروبا غير متكافئة كانت دائما وسيلة تهديد وضغط على البلاط الإيرانى الضعيف. ففى عام 1722 فرضت روسيا اتفاقا ضمت بموجبه مدينتى دريند وباكو وملحقاتها حتى سواحل بحر الخزر، وفى عام 1783 وضعت روسيا منطقة كرجستان تحت سيطرتها وحمايتها.

ومنذ أوائل القرن التاسع عشر، تركزت المنافسة الاستعمارية من أجل السيطرة على الاقتصاد الإيرانى بين بريطانيا وروسيا القيصرية، إلى أن عقدت اتفاقية "تركمان جاى" عـام 1828 التى قسمت البلاد إلى منطقتى نفـوذ: بريطانية فى الجنـوب وروسية فى الشمال، وذلك لقاء حصة قيمتها (5 %) فقط من الرسوم الجمركية تدفع للدولة المركزية.[51]

وفى مارس 1890 منح ناصر الدين شاه امتياز احتكار التبغ الإيرانى وبيعه فى جميع أنحاء إيران وخارجها لشركة بريطانية لمدة خمسين عاما، وكانت الاتفاقية تمس الاقتصاد الإيرانى ومصالح مئات الألوف من المزارعين والتجار لهذا عم الاستياء واستصرخ السيد جمال الدين الأفغانى المرجع الدينى الأعلى المرزا أحمد حسن الشيرازى الذى أصدر فتوى بتحريم التبغ فلبت الجماهير نداءه. ووصلت مقاطعة التبغ قصر الشاه نفسه. واضطر الشاه إلى التراجع. وكان هذا أول انتصار حقيقى للحركة الوطنية الإيرانية على الاستغلال الأجنبى ومهد السبيل للثورة الدستورية.

وتركزت المطالبات الشعبية حول تقليص سلطان الشاه وإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية. وفى سنة 1896 اغتيل الشاه ناصر الدين (قيل من قبل أحد اتباع جمال الأفغانى) وارتقى العرش مظفر الدين شاه الذى اتسم حكمه بالتنازلات لروسيا حينا وإنجلترا حينا آخر مما عمق التغلغل الأجنبى والسيطرة على الاقتصاد الإيرانى "وحدث وقتئذ أن نشرت صورة لأحد المستشارين الأجانب فى إحدى الحفلات التنكرية بملابس رجال الدين وفى الوقت نفسه فإن السلطة قمعت بعض التجار فى إحدى المظاهرات بعنف ووضعت أرجلهم فى "الفلقة" فثارت الجماهير وبدأ أول تحصن "بست" أى لجوء جماعى إلى أحد مشاهد آل البيت فى إيران ففى 13 ديسمبر 1904 تحصن عدد كبير من رجال الدين والتجار فى مشهد الشاه عبد العظيم (أخى الإمام موسى الكاظم) مطالبين بإقامة دار للعدالة، كان عاشوراء فى تلك السنة يوافق السابع من مارس 1905، وسرعان ما اتضح الوجه الدينى للحركة من انضمام اثنين من كبار علماء الدين إليهما هما سيد محمد الطباطبائى وسيد عبد الله البهبهانى، وسمى هذا التحصن بالهجرة الصغرى، وفى 12 يناير 1906 أعطى الشاه وعدا بالاستجابة لمطالب الأمة، لكنه لم يف بوعده، كما بدأ عين الدولة من ناحية أخرى فى اضطهاد كبار رجال الدين وتفريقهم فنفى آقا سيد جمال وتصدى لعدد من الطلاب الدينيين وقتل بعضهم كما قُتل سيدان والقرآن فى أيديهما وأخلى الشوارع وركز فيها قوات الجيش بينما ظل عدد كبير من الناس متحصنين فى "مسجد شاه" ووجه سيد طباطبائى خطاباً شديداً إلى عين الدولة "أين العهود والوعود؟؟ تعلمون جيداً بأمور الدولة الخربة وتعلمون أن صلاحها ينحصر فى تأسيس مجلس نيابى يوحد بين الحكومة والأمة مع العلماء" وفى 21 يوليه 1906 بدأ التحصن الآخر، وخرج التجار فتحصنوا فى معسكر كبير أمام السفارة البريطانية بينما زحفت العناصر الدينية فى جموع كبيرة على مدينة قم "الهجرة الكبرى"، كانت الحركة شاملة ومنظمة كما كان من العسير جداً على قوة البوليس أو رئيس الوزارة أن تتصدى لها، ويشوه بعض المؤرخين الحركة بأنها كانت من تدبير السفارة البريطانية ضد النفوذ الروسى، لكنه زعم واضح الافتعال ولم يجد مظفر الدين شاه بداً من الرضوخ، فأصدر فرماناً بتكوين مجلس نيابى منتخب وسرعان ما تمت الانتخابات وافتتح أول مجلس نيابى (7 أكتوبر 1906) ونظرة فاحصة إلى أعضاء هذا المجلس تبين كيف أن الجناح الدينى قد اجتاح الانتخابات بنجاح كبير. ولم يلبث مظفر الدين شاه أن توفى فى أول يناير 1907 وتولى مكانه ابنه محمد على قاجار عرش السلطنة."[52]

ولى محمد على عرش السلطة وكان عدواً لدوداً للديمقراطية قدر ما كان عميلاً لروسيا فهاجم المجلس بفرقة القوزاق التى كان يشرف عليها ضباط روس وقصفوا المجلس وقبضوا على من وجدوه من أعضائه فتحركت الجماهير فى تبريز وأصفهان وكيلان وغيرها وزحفت على طهران ولما لم ينجح فى قمع هذه الحركة التجأ فى 16 يوليو سنة 1909 هو وخمسمائة من حرسه الخاص إلى السفارة الروسية بعد أن وضع يديه على مجوهرات الأسرة المالكة.

وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى كانت كل المعسكرات المتقاتلة تتصارع على أرض إيران. كان هناك الإنجليز والروس والألمان والأتراك أيضا مما أدى إلى ظهور الثورات فى بعض المناطق مثل جيلان (كيلان) وهى المنطقة التى تغطيها الغابات فى الشمال الإيرانى، ومن ثم يطلق عليها ثورة الغابة إذ استطاع إيرانى قدير نشأ نشأة إسلامية ثم تأثر بالأفكار الاشتراكية استثارة الفلاحين فى هذه المنطقة ورزق نصيراً له اتجاهات سوفيتية.. فنجحا فى إعلان جمهورية كيلان السوفيتية – ولكن من سوء حظ الجمهورية. أن ثورة أكتوبر نشبت فى روسيا وجعلتها تتخلى (ولو مؤقتا) عن أطماعها فى إيران فسحبت القوات الروسية التى كانت تناصر جمهورية كيلان مما مكن السلطة المركزية فى طهران أن تقضى عليها. خاصة وقد تولى ذلك قائد جديد برز على الساحة الإيرانية، عرف بالجرأة والطموح، هو رضا الذي جعل من مصطفى كمال قدوة له.

وظهرت ثورة أخرى قادها الشيخ محمد خياباتي في تبريز وكان الشيخ خياباتي نائبا في أول دورة لمجلس الشعب. ولكن القوقاز هزموا ثورة خياباتي كما هزموا ثورة الغابة من قبل و تهيأ المسرح لكي يلي الحكم رضا شاه بعد سلسلة من المناورات السياسية التي أراد بها أن يضلل فكر أعدائه عن غايته الحقيقية وهي الاستحواز على السلطة، الأمر الذي تم في ديسمبر سنة 1925.

كان رضا شاه ديكتاتورا عسكريا مثل كل الظلمة العسكريين الذين الذين ولوا الحكم في الدول الاسلامية والعربية وكان يريد فرض ما يراه من إصلاح بالقوة على الشعب، بصرف النظر عن سلامة هذه الاصلاحات أو قبول الشعب لها، وكان الطابع العام لهذه الاصلاحات هو تعزيز الجيش، والصناعة التي يرتكز عليها وإدخال وسائل الحياة الحديثة وإيجاد طبقة "بيروقراطية" ترتبط بنظام الحكم وتدافع عنه وإعلان الثورة القومية للحد من الصوت الإسلامي، ولكنه وقع في خطأ قاتل عندما أبدى تعاطفاً مع الألمان في الوقت الذي بدأت بوادر الحرب العالمية الثانية، فاجتاحت جيوش الحلفاء إيران وخلعت الشاه وولت ابنه محمد محله (في 17 سبتمبر 1941). وقد كانت بريطانيا هي التي ساندت رضا شاه في مسيرته نحو السلطة. ولكنه نسى ذلك، فلم تتردر انجلترا في عزله..

ولم يرث ابنه شيئًا من عزيمة أبيه وتصميمه، كان شخصا عقيمًا، عاجزًا، يستهويه الجاه والملك والمظاهر، ولم يكن يشارك شعبه شيئًا من مشاعرهم وآمالهم، ولم يتّعظ بمصير والده، وقد ظهر جموده السياسي عندما بدأت فترة تأميم البترول بزعامة محمد مصدّق وهو أحد الثوار القلائل الذين اكتسبوا شهرة شعبية لأنه كان من المعارضين لحكم رضا شاه. وفي سنة 1951 كان رئيسًا للوزارة فأعدّ لائحة لتأميم النفط وافق عليها البرلمان وحاول الشاه المعارضة. فتحرّكت الجماهير وثارت ولاذ الشاه بالفرار إلى إيطاليا، ولكن الحرركة عجزت في هذه اللحظات المصيرية عن أن ترسي قواعدها وأن تسلح جماهيرها، لأنه كان من الواضح أن الدول الاستعمارية لن تسكت، فضلا عن بعض الشرائح ارتبطت مصالحها بالشاه. وفي أغسطس دبّرت المخابرات الأمريكية C.I.A. انقلابا بمساعدة الجنرال زاهدي، أطاح بالحكم الوطني وأعاد الشاه وتلا ذلك مذابح وتصفيات لم توفّر أحدًا ممن قام بحركة التأميم باستثناء مُصَدَّق نفسه الذي ارتُؤى الإبقاء عليه خوفًا من ثورة الجماهير. واتّسمت الفترة التي تلت الانقلاب بزيادة النفوذ الأمريكي وتعزيز الجيش وجهاز المخابرات "السافاك" وانحسار الحركة الوطنية التي كان عليها أن تُضَمّد جروحها لفترة طويلة.

حاول الشاه أن يكتسب تأييد الشعب بانتهاج سياسات توحي بالديمقراطية، دون أن يكون لها أي فعالية كأن يؤسس حزبين أحدهما للمعارضة ثم يثنى فيكون حزبًا واحدًا هو "راستاخير" أو حزب البعث القومي أو إعلان الثورة البيضاء سنة 1962. وقال الشاه في أن من لا يؤمن بمبادئ حزب "راستاخير" فإنه لا بد أن يكون منضمًا إلى حزب أو منظمة غير قانونية.. وأمام مثل هذا الشخص أحد السجون الإيرانية أو أن يترك إيران لأنه ليس إيرانيا..!

ولما لم يكن الشاه موهوبًا فإنه عوض نقصه بالحرص على الألقاب، فمنح نفسه ألقابًا، كأن الألقاب تسبغ العظمة، "ملك الملوك" و"شمس الشعوب الآرية"، علمًا بأن أبيه بدأ حياته من القاع وعمل في إسطبل الجيش وفي حرس السفارات ودخل الجيش كعسكري ورقى إلى رتبة الضباط "من تحت السلاح".. فلم يكن في أصله وفصله ومولده وتطوّره ما يمتّ إلى العراقة أو النبالة بصلة.

وكانت غطرسة الشاه لا حد لها، كما كانت غطرسة شقيقته التوأم الأميرة أشرف التي كانت منبع الفساد المالي في الدولة. فالشاه لم يتورع عن أن يصفع رئيس وزرائه، والأميرة صفعت الامبراطورة فرح.. فإذا كانت الغطرسة وصلت إلى هذا الحد فلنا أن نتصوّر كيف كانا يتعاملان مع أفراد الشعب.

أما الوسيلة الثانية التي اتبعها هذا الشاه المعتوه لتعويض عجزه فهي السفاهة في الانفاق والبذخ، وصرف الملايين على المظاهر. وقد تجلّى ذلك في حفلات تتويجه والملابس التي يلبسها والتي تلبسها "الشاهبانو" والتاج ونظام الحضور الخ... كما تجلّى تبذيره بصورة جنونية في الحفلات التي أقامها احتفالاً بمرور 2500 عام على إنشاء دولة فارس في مدينة برسيبوليس التي بناها داريوس الأول عام 530 قبل الميلاد.

وتكلفت الخيمة الرئيسية أكثر من 500 مليون ريال وبلغ عدد المدعوين عشرين ألف مدعو. أما الخيمة نفسها فقد اتسعت لستين خيمة تفصل بينها ممرات تحمل أسماء القارات الخمس.

وكانت الوجبات تأتي من مطعم "ماكسيم" في باريس كما كانت تأتي الزهور من هولاندا. أما الخمور فقد كانت تجري أنهارًا :ما قدمت هدايا تذكارية لكل ضيف.

ويروي أنيس منصور أن ما حدث في مهرجانات برسيبوليس أثناء الاحتفال بتأسيس دولة فارس كان "النموذج الكامل لحماقة الشاه والمبرّر الأخير للثورة عليه"، وقال :

مثلا، لقد أراد أن تكون لكل جنوده لحي سوداء كما كان الجنود أيام الامبراطور قورش، وكانت ملابس الجندي الواحد بها خيوط ذهبية طولها ستة كيلومترات، ووقف الجنود تحت مليون مصباح تعلّقت بـ 400 كيلومترًا من الأسلاك بلغ وزنها 140 طنًا.

أما الطعام فكان "لحم طواويس" جاء خصيصًا، ساخنًا، من باريس !!

ويقول "فريدون هوفيدا" بأن الشاه كان يدافع بدون توقف عن احتفالات قورش التي كان فيها البذخ قد وصل إلى حد لا توجد كلمات لوصفه.

كل هذا لإظهار نفسه كملك الملوك، ولإحياء إيران القديمة ولطمس إيران الإسلامية..

وعندما توّج نفسه عام 1967 كان التاج مرصعا بـ 3755 جوهرة، وتوجت زوجته فرح ديبا بتاج فيه 1646 جوهرة، وكان هو نفسه يجلس على عرش يسمى عرش الطاووس. هذا العرش مرصع بـ27 ألف جوهرة واستقل الشاه يومها عربة ملكية مذهبة كان يبلغ ثمنها 78 ألف دولار.

وعرضت الشاهبانو فرح ديبا بعد موت زوجها بالقاهرة، شراء قصر القبة بمبلغ يقدّر بألف مليون دولار، ولكن السادات اعتذر لأن القصر من أملاك الدولة.

وعرضت الشاهبانو بعض مجوهراتها للبيع كان منها قرص من الماس تبلغ قيمته 3،5 مليون دولار، وعقد مكوّن من 18 حجرًا من الياقوت و18 حجرًا من الماس يقدّر ثمنه بمليون دولار..

كما يوجد فيه سوار فيه حجر من الماس الأصفر يزن 55،5 قيراطًا يقدر ثمنه بحوالي 12 مليون دولار، وخاتم به حجر من الماس يزن 56،07 قيراط يقدّر بـ150 ألف دولار وعقد من خمسة أدوار من اللؤلؤ الأبيض المائل للون الوردي وهو أغلى أنواع اللؤلؤ، يقدّر ثمنه بـ250 ألف دولار، وقد صنعه لها خصيصًا محل فان كليف وآربل الفرنسي.

وكان في جراج الشاه ثلاثة آلاف سيارة !

وجعله جنونه بالعظمة وحبه للسيطرة يشعر بالغيرة إلى حدّ الحقد على الآخرين. وروى هوفيدا أنه كان يشرف على ترتيبات عقد مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في طهران سنة 1968، واقترح عليه إسم "نصر الله انتظام" لرئاسة المؤتمر، ولكنه بعد أن أعطى موافقته الفورية عاد وسحبها معللاً ذلك بأن "انتظام" لم يقبل يده أثناء زيارته لنيويورك أيام كان يرأس دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1950، أي قبل 18 سنة !!

وجاء في المذكرات الخاصة له أن الجيش الذي كان يعتبره الحامي الحقيقي له ضم :

1. الدبابات: 1500 دبابة صنع بريطاني لإيران خصيصًا تسمى أسود إيران مزودة بمدفع 120 ملم وتعمل بأشعة الليزر، و800 دبابة شيفتن مزودة بمدفع 120 ملم وبأشعة الليزر، و406 دبابة م 60 أمريكية مطورة بمدافع 105 ملم، و400 دبابة م 47 مطورة بمدفع 90، و250 دبابة استطلاع من طراز سكوربيون بمدفع 90 ملم، وألف ناقلة جنود أمريكية، و2000 ناقلة جنود روسية مزودة بمدافع 73 ملم مضادة للصواريخ.

2. المدفعية : لها قوة نيران مدفعية حلف شمال الأطلنطي.

3. الطيران : 78 ف 14 تحمل صواريخ من طراز فينكس مداها 90 ميلاً مزودة برادار مداه 150 ميلاً وقادرة على إصابة ستة أهداف مختلفة في وقت واحد، و250 طائرة فانتوم مطورة مزودة بقنابل تطلق أشعة ليزر وبصندوق أسود لتضليل الصواريخ المعادية، و120 طائرة طراز ف 5 آى، 106 طائرة طراز ف 16 (وسيطلب من أمريكا تزويد إيران بـ150 طائرة أخرى)، و7 طائرات أواكس (أي طائرات إنذار مبكّر محمول جوًا) ترتفع إلى 35 ألف قدم، و24 طائرة بوينج 747 و707 مطورة قادرة على تموين نفسها بالوقود، وتبقى فترة طويلة في الهواء كما أن المصانع الإيرانية تعمل على إنتاج الطراز الروسي سام 7 وصواريـخ مافريـك الأمـريكية مداها 12 ميلاً."[53]

وكان هذا الجيش يشرف على تدريبه ضباط أمريكيون وخبراء إسرائيليون، كما كان الحال بالنسبة لجهاز الشافاك الرهيب...

ورغم كل هذا الثراء وكل هذا السلاح فإن الامبراطور لم يجد من يثق فيه حقّا إلا كلبه !!

لم يغن عن هذا الشاه التافه، المنتفخ بكل هذه القوى وكل هذه الثروات وكل التحالفات التي عقدها مع أمريكا، شيئًا عندما تصدّى له شيخ في الثمانين من عمره، لا يملك إلا سجادة صلاته، فأسقطه من عرشه وجعله يفرّ شريدًا وحيدًا.

وأعجب من هذا أن الشيخ كان على بعد 4500 كيلومتر من إيران !

f

كانت السحب تتكاثف والنذر تتوالى، ولكن الشاه كان في واد آخر وأسلم نفسه تمامًا للفكرة الزائفة، فكرة تقليد أوربا وأمريكا والأخذ بمظاهر الحياة فيها. فكان في طهران 86 ناديا للاجتماعات الرخيصة، و8 صالونات لعرض البرامج الخليعة، و7 مدارس لتعليم الرقص. وبلغ عدد الحانات في العاصمة وحدها 2075 حانة تبيع الخمور المحلية العادية، فضلا عن 82 متجرًا لبيع الخمور الأجنبية الراقية.

وطبقًا لسجلات الشرطة، فإن محضر فتح محلات النساء وإدارة بيوت الدعارة غير المرخصة – أي خارج حي الدعارة الرسمي في العاصمة – وصلت إلى 1876 حالة في السنوات الخمس التي سبقت الثورة، أما عدد مدمني الأفيون في إيران، فقد وصل إلى مليون شخص في سنة 1972، علمًا بأن الشخصية التي كانت تدير تجارة الأفيون في إيران كانت شقيقة الشاه، أشرف بهلوي.

وكانت مدينة شيراز – جنوب شرق إيران – تشهد سنويا مهرجانا عالميا للفن والثقافة المجون سمته الأساسية، حتى أن شوارع المدينة الإسلامية العتيقة شهدت في سنة 1977 عرضا مسرحيا عاريا لفرقة أجنبية، أثار ذهول الجماهير وعمّق من سخطهم.

ونشرت صحيفة كيهان في سبتمبر سنة 1961 قرار رئيس الوزراء أسد الله علم عن تعديل في القسم على القرآن الكريم عند الترشيح للمجالس المحلية بأن يحل محله أي كتاب سماوي آخر يعترف به..

وكان الشاه يتقرب إلى الأمريكان ويقرب إليه البهائيين والماسونيين، ويعترف بإسرائيل ويدعم الجيش ويعزز ويواصل سفاهته في الإنفاق، بينما كانت شقيقته التوأم وبقية أسرته يتقاضون العمولات والاختلاسات واحتكار المرافق وتهريب المخدرات ويحتكرون المتاجرة في بقية السلع..

كان في المجتمع الإيراني العديد من القيادات التي ظُنَّ أنها يمكن أن تتقلّد زمام الموقف مثل بازرجان الذي ساهم في التكوين الأخير للـ"جبهة الوطنية" و"جماعة تحرير إيران"، ومثل آية الله العظمي طلقاني الذي توفرت فيه ما لم يتوافر في غيره. فهو من رجال الحوزة البارزين، وكان له تاريخ معروف من الأيام الأولى للثورة على الشاه، وسُجِنَ مرات عديدة من 1953 حتى 1971، وتعرف خلال السجن على قيادات الشيوعيين وغيرهم وعلى أفكارهم وأعطاه هذا مرونة وسعة قلما توجد في آيات الله. و،ُفي عا 1971 إلى جنوب شرق إيران وأنشأ مع المهندس بازرجان "حركة تحرير إيران" كتنظيم منشق عن "الجبهة الوطنية" ذات الاتجاه العلماني التي أنشأها الدكتور مصدّق، وهذه الحركة هي التي أنشأت حسينية إرشاد التي كان الدكتور علي شريعتي يلقي فيها محاضراته. ويذهب البعض إلى أن طلقاني الذي حثّ شباب "حركة تحرير إيران" على إنشاء تنظيم "مجاهدي خلق". وحتى إذا لم يثبت هذا فمن الثابت أن دروسه في مسجد هدايت قامت بدور في الإعداد الفكري والأيديولوجي لقادة "مجاهدي خلق". وانتقد طلقاني احتكار رجال الحوزة للقضايا الإسلامية رغم أنه كان بالطبع من كبار رجالاتها والقائم مع الخميني في انتفاضة 1963 الشعبية. وفي السنوات الأخيرة له انتهى إلى ضرورة الثورة والإطاحة بحكم الشاه ولكنه – وهنا نجد الفارق الكبير بينه وبين الخميني – لم يكن يريد أن يحلّ ديكتاتور محلّ الشاه أو أن تُفْرَض هيمنة باسم حزب واحد وأيديولوجية بعينها. وفي نطاق تشجيع المشاركة السياسية على مستوى عملي، شجّع طلقاني أنصاره – سواء من رجال الدين أو غيرهم – على الانضمام لمجالس الأحياء التي بدأت تتشكل لتدبير الأمور اليومية وعلى دعم مجالس العمال التي بدأت تتكون في أماكن العمل.

في هذه النقطة التي تمثل بُعْد النظر، اعتُبِرَ موقفه متخلّفًا عن الروح الثورية العارمة التي تملّكت الشعب وكانت تريد الثورة بأي ثمن ودون أن تفكّر في عواقبها، وهو التيار الذي وجد طلبته في الخميني وليس في طلقاني، على أن هذا لم يكن بارزًا للعامة لأن الجماهير، لأن الجماهير وجدت فيه ثائرًا كالخميني. وقد ضمت المظاهرة التي دعا إليها وقادها في ذكرى عاشوراء سنة 1978 نحو مليون ونصف متظاهر. وعندما استولت الثورة على التلفزيون، ظهر طلقاني بعد دقائق معدودة وهنّْـأ الجماهير بنجاح ثورتها.

وعندما اعتقل الحرس الثوري (الباسدران) اثنين من أبناء طلقاني في بداية صيف عام 1979، فإنه نظّم إضرابا عن الطعام اعتراضًا على هذا اإجراء.. ودفع إضرابه هذا اثنين مليون إيراني إلى التظاهر كما احتجّ عدد من كبار آيات الله ضد انتهاك الحقوق السياسية للمواطنين. وقد أوضح طلقاني أن إضرابه لم يكن من أجل أبنائه بل دفاعا عن حرية الشعب الإيراني. وقد شكّل هذا الإضراب مواجهة علنية بين طلقاني وبين "الحزب الجمهوري الإسلامي الإيراني" الذي كان قد تشكّل في فبراير 1979 من نفس العناصر التي سبق لها تأسيس "مركز استقبال الإمام".

إن الجماهير وإن أيّدت طلقاني إلا أن رجال الحوزة الذين هم أعلم بطلقاني واتجاهاته المتحرّرة وضيقه باحتكارهم السلطة بدءوا يسحبون تأييدهم كلما قرب ميعاد عودة الخمينى ورفضوا فكرته فى ضرورة اشتراك كل ممثلى الشعب فى الاحتفال بالخمينى – وقصروا ذلك على رجال الحوزة.

وفى سبتمبر سنة 1979 توفى طلقانى بصفة فجائية، وأراح ذلك الخمينى من قائد دينى كبير، وفى الوقت نفسه يعارض دائماً الأسلوب الذى انتهجه الخمينى.

وكان هناك مجموعات أخرى من المفكرين والمكافحين السياسيين، القوميين والوطنيين والاشتراكيين. كما أن المنظمة التى قامت بدور كبير فى تعبئة الشعب الإيرانى للثورة. مجاهدى خلق – كانت غريبة على جو "الحوزة" ولها أراء غير تقليدية عن الإسلام.

ولكن ...

كان الشخص الوحيد الذى تهيأت له المقومات التى يتطلبها الموقف هو الخمينى.

وقد كان فى حوزة قم من هم أعرق تاريخاً وأكثر علماً وأعظم شهرة من الخمينى. ولكن توفر فى الخمينى الصلابة فى التعامل.. والوعى الثورى بصورة لم تتوفر لدى أقرانه ممن كانوا يؤثرون الاعتدال ويقنعون بنصف الطريق. ويخافون مغبات الثورة. كان الخمينى صلبا لا يلين ومؤمنا بالثورة. ويثبت لنا التاريخ أن الثورة لا تسلم نفسها إلا لمن لا يشرك بها، ومن يدفع مهرها الغالى. وكان الخمينى هو هذا الثورى الذى له من الصلابة والإقدام وعدم الخوف من النتائج ما يجعله يطلب الثورة ويقبل طواعية دفع ثمنها.

وظهر ذلك فى خطاباته حتى لقّبوه بـ"محطم الأصنام" وفى دعوته الشعب للثورة وتنديده الصريح بالشاه وسياسته ودعوته الجماهير عدم الالتزام بأحكامه وقراراته، وجاء هذا كله على أسس دينية بيّنة. ودعا فيها الفقهاء وآيات الله إلى اطراح "التقية" التى كانت أبرز سمات سلبية الشيعة فترة غيبة الإمام وقال التقية حرام، وخاطب الشاه :

- يا سيادة الشاه ..

- يا جناب الشاه ..

- أيها التعس ..

أيها المسكين، خمسة أربعون سنة مرت من عمرك. فكر قليلاً تدبر قليلاً، قدر عواقب الأمور قليلاً أعتبر قليلاً اتعظ بوالدك.

- جعلوا الشعب الإيرانى أكثر ذلة من كلاب أمريكا إذا داس أحدهم كلبا أمريكيا بعربته لن يسلم من العقاب. حتى شاه إيران لو داس كلبا أمريكيا لن يسلم من المساءلة لكن لو أن طباخاً أمريكيا داس الشاهنشاه فليس لأحد حق التعرض له.

- نريد الحاكم الذى لا يميز بين الناس، الذى ينظر إلى أسرته وإلى الناس نظرة واحدة وإذا سرق ابنه قطع يده، وإذا تاجر أخوه أو أخته فى الهيروين أعدمها لا أن يعدم أحداً من أجل عشرة جرامات من الهيروين فى حين أن أخته عندها الأطنان وتستورد الأطنان لحسابها.

ودعا فقهاء الشيعة ..

"التقية حرام، وإظهار الحقائق واجب مهما كانت. إن التقية تتعلق بالفروع ولكن حينما تكون كرامة الإسلام فى خطر وأصول الإسلام فى خطر، فلا مجال للتقية والسكون.

والله إن من لا يصرخ آثم. والله إن من لا يشكو مرتكب كبيرة.

f

على أن هذا ليس هو كل ما قدمه الخمينى ...

إن الخمينى كان هو الفقيه الذى أخرج النشاط الشيعى من تقوقعه فى انتظار الإمام الغائب، إلى مجال العمل الثورى بفضل إصراره على نظرية "ولاية الفقيه".

والفقه الشيعى مجمع على أنه لا يمكن النهوض بقضية الحكم ما دام الإمام غائبا. لأن الحكم هو اختصاص الإمام ولا يجوز لأحد مشاركته. وعندما يغيب الإمام فلا يمكن ممارسة مسئوليات سياسية عليا.

ومن هنا ظهرت فكرة "نيابة" الفقيه وتقبلها بعض العلماء بينما تردد فيها آخرون. ومن تقبلها فإنه حصرها فى أداء الواجبات التى لا يستقيم الدين إلا بها، أى القضاء والحدود وصلاة الجمعة.

وعندما أراد الشاه إسماعيل الصفوى إقامة الدولة الصفوية ادعى أنه كان يسير مع مجموعة من رفقائه الصوفية خارجين للصيد فى منطقة تبريز، وعندما مروا بنهر، طالبهم بالتوقف عنده وعبر هو النهر بمفرده ودخل كهفاً، ثم خرج متقلداً بسيف، وأخبر رفقاءه أنه شاهد فى الكهف صاحب الزمان وأنه قال له: "لقد حان وقت الخروج"، وانه أمسك ظهره ورفعه ثلاث مرات ووضعه على الأرض وشد حزامه بيده ووضع خنجراً فى حزامه وقال له: "اذهب فقد رخصتك".

وادعى بعد ذلك أنه شاهد الإمام على بن أبى طالب فى المنام، وأنه حثه على القيام وإعلان الدولة الشيعية.

كما أن الشاه طهماسب استقدم المحقق الكركى من جبل عامل الذى كان قد آمن بنظرية الإنابة – ودعاه إلى تبريز ليكون المرجع، وعندما وصل قال له الشاه أنت أحق بالملك لأنك النائب عن الإمام وأنا أكون من عمالك أقوم بأوامرك ونواهيك" وقبل الكركى وأعطى الشاه إجازه لحكم البلاد بالوكالة عن نفسه باعتباره نائبا عن الإمام المهدى.

ولكن هذه السابقة لم تظفر بتأييد علماء الشيعة لما يمكن أن تسفر عنه من نتائج، وإذا جازت الإنابة فيمكن عندئذ للفقيه أن يلى الأمور. وإذا جازت الوكالة عن الإنابة فيمكن أن يحكم الملوك ولا يخلو هذا أو ذاك من المخاطر. ولكن الحاج الموقف دعا أخيراً الفقيه أحمد بن محمد مهدى النراقى (توفى 1245) لإحياء فكرة ولاية الفقيه وقال بصراحة "كل ما كان للنبى والإمام فيه الولاية، وكان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك. إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما". (عوائد الإمام فى بيان قواعد الأحكام).

ولكن تطبيق ذلك عملياً لم يكن متاحاً ولعل الفقهاء أنفسهم لم يكونوا على استعداد له لذلك فقد ظهر الشيخ محمد حسين النائينى فى بداية القرن العشرين وأصدر كتابه "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" الذى دعا فيه إلى تقييد سلطة الحاكم عن طريق الدستور الذى يجعل الشعب يشارك فى السلطة. ونجد عنده أقوى دفاع عن الديمقراطية قدمه آيات الله باستثناء طلقانى الذى سيظهر بعده، وقال "إن الديمقراطية جائزة أو واجبة، من باب مقدمة الواجب، لأن الديمقراطية سبب للرفاه والتقدم والأمن. وكذلك من باب الأحكام الثانوية، وإن النواب خبراء فى السياسة وينتدبون لتحديد القوانين الثانوية. ومن باب الأمور العرفية، وإن النواب ينظمون القوانين خارج دائرة الشرع. ومن باب الدفاع عن الوطن الإيرانى."[54]

تلك كانت نقله هامة جداً سدت الثغرة ما بين العجز عن ولاية الفقيه. وفى الوقت نفسه ضرورة تقييد سلطات الحاكم حتى لا يتحول إلى مستبد وطاغوت. وكان يمكن أن تُتابع لولا أن ظهور رضا شاه العسكرى الفظ طوى هذه الصفحة بحكمه العسكرى الذى بسط إرهابه طوال مدة حكمه، ولما أراد ابنه أن يرث هذه السلطات ولم يكن له غشومة وفظاظة أبيه، خاصة فى سنواته الأولى – أخذ الفكر الشيعى يعيد النظر – وعادت مرة أخرى فكرة ولاية الفقيه باعتبارها الحل. وتولاها الخمينى بحيث جعلها التطبيق للحكومة الإسلامية، ودعم نظرية ولاية الفقيه بحيث يكون الفقهاء هم الولاة ودلل على ذلك بالفعل والمنطق من ناحية، وحشد من الأخيار عن على بن أبى طالب أو عبد الله بن جعفر الصادق وتوجيهه المعروف لعمر بن حنظله وغيره. وهذه الأخبار والروايات العديدة هى فى نظرنا مما لا تثبت ولا يكون لها مصداقية، ويكون من السذاجة بناء تنظيم سياسى عليها. ولكن يظل المبدأ فإذا كانت الحكومة إسلامية والدولة إسلامية، فليس مما يخالف المنطق أن يكون رجال الإسلام هم قادتها وولاتها.. وقد كان هذا المعنى موجوداً حتى فى أيام أسرة قاجار وفى دستور 1905 الذى أعلن الدولة إسلامية مذهبيه وأن الفقهاء يراجعون القوانين للتأكد من تطابقها مع الشرع. ولكن الخطوة التى ما كان أحد يستطيعها إلا الخمينى هى أنه وحد ما بين الدولة ورجل الدين – وهذا لأن الخمينى نفسه كان رجل دولة ورجل سياسة وتوافرت فيه خصائص "بناة الدول" "وقادة الثورات" من ذكاء. وصلابة ودهاء ومرونة وتطويع النصوص تبعا للظروف وإخضاع الظروف تبعا للنصوص إلى آخر هذه اللعبة السياسية التى هى أسمى، وأقسى، وأخطر اللعبات. والتى تتعامل مع المتناقضات بمهارة وذكاء، وليس معنى هذا أنه كان مجرداً من المؤثرات الدينية. فإنه ابن الحوزة، ولكن المقوم السياسى فى شخصيته أقوى من المقوم المذهبى. ولهذا استطاع أن يطوع المذهبى وأن يقود الثورة فى بحرها الهائج حتى يصل بها إلى بر السلام.

وتقصى تاريخه فى السنوات الحاسمة من سنة 1963 حتى سنة 1978 يوضح هذه الخصائص فقد أعلن من البداية رفضه المساومة والمهادنة والحلول الوسطى ولم يقبل فى هذا أى وساطة ورفض كل الحلول التى قدمت للإبقاء على الشاه أو غيره فكان فى هذا صورة للصلابة والثبات على المبدأ.

ثم نرى بجانب هذه الصلابة مرونة وبعد نظر بل ودهاءً لاستقطاب كل المعسكرات له. فعندما كان فى فرنسا تحدث عن المثقفين من غير رجال الدين "أحاديث إيجابية فى عمومها حيث اعتبرهم حلفاء ودعا أنصاره للتعاون معهم وأشاد بنضالهم ضد القهر والظلم ونهب ثروات الشعب. ووعد الخمينى أنه فى ظل حكومته الإسلامية المنتظرة، سيتم إدارة القضاء والاقتصاد والمجتمع والحكومة بما يتفق مع آمال هؤلاء المثقفين. وقد أعلن الخمينى وقتذاك أن هدفه ليس أن يحكم رجال الدين ولكن أن يوجهوا الشعب إلى تحديد المعايير الإسلامية الصحيحة. ومما لا شك فيه أن مفاهيم الخمينى عن الحرية والعدالة كانت غامضة وعامة عن عمد لجذب تأييد قطاعات واسعة من الشعب الإيرانى وقواه السياسية. كما كان هناك مدلولات ذات توجه يسارى فى بيانات الخمينى الصادرة فى باريس نتيجة تأثير مستشاريه من غير رجال الدين مثل الدكتور أبو الحسن بنى صدر. وورد على لسان الخمينى وعود ضمنيه لتحقيق التعددية السياسية والحكم الذاتى للأقاليم الإيرانية والحريات السياسية حتى للقوى اليسارية العلمانية التى شاركت فى المظاهرات المعادية للشاه.

"وفى يناير 1979، قام بنى صدر وعدد آخر من مستشارى الخمينى من غير رجال الدين ببلورة برنامج من ثمانى نقاط. وقد تعهد الخمينى فى هذا البرنامج بتحقيق استقلال إيران عن الولايات المتحدة، وإنهاء التمايز الطبقى فى المجتمع الإيرانى، وتحقيق الإصلاح الزراعى وتأميم المشروعات الاقتصادية الرئيسية، وضمان حرية الصحافة والأحزاب وحق الشعب فى تنظيم الاجتماعات والمظاهرات، ومساواة الإيرانيين أمام القانون وتقديم الدعم لكل المناضلين من أجل الحرية فى العالم بأسره. وقد عكست هذه النقاط مطالب مختلف القوى السياسية والاجتماعية فى إيران، بما فيها القوى الإسلامية التقدمية".[55]

وبهذه الطريقة كسب تأييد جماعة مجاهدى خلق القوية التى كان لها خبرة طويلة فى العمل السرى والإضرابات الخ... كما كسب تأييد المثقفين الإسلاميين مثل مهدى بازرجان وبنى صدر وغيرهم مع أن الخط الذى وضعه لولاية الفقيه لم يكن فى الحقيقة يعنى سوى استئثار الفقيه بالحكم طبقاً لمبادئ المذهب. وهو ما يعنى أن مواقفه تلك كانت كلها مواقف "تكتيكية" تطلبتها الظروف. ولكنه بمجرد أن تملك الأمر تماماً فإنه لم يتردد فى إبعاد كل هذه المجموعات، وأطلق على معظمهم لقب "المنافقين" مما يعنى الاستبعاد النهائى لهم.

وحتى بالنسبة لزملائه فى الحوزة، فإنه تقبلهم على مضض ولم يستجب لأى رأى يختلف عما انعقد عليه عزمه. فقد كان رأى آية الله طلقانى انتخاب مجلس من 2000 إلى 3000 عضو يمثل كل القوى والفعاليات فى إيران يكون مخولا لصياغة مشروع ختامى للدستور. وجاء هذا الموقف لطلقانى متسقا مع مواقف مجاهدى خلق والجماعات الليبرالية واليسارية والعلمانية. ألا أن طلقانى – نتيجة ارتباطه الطبيعى بمؤسسة رجال الدين الشيعة – أظهر مرونة حول هذه المسألة وتراجع فقبل بترشيح نفسه فى انتخابات مجلس خبراء مصغر مكون من 75 عضو اقترحه أصلاً رجال الدين المؤيدون للحزب الجمهورى الإسلامى. وهو حزب الخمينى، بل حصل طلقانى على أكبر عدد من الأصوات فى انتخابات هذا المجلس.

وكان آية الله منتظرى، الذى رشح لخلافة الخومينى قد حدد فى حياة السيد الخمينى اشتراطاته الفقهية والدستورية للولى الفقيه، سواء من حيث المكانة العلمية والدينية، أو من ناحية التكييف القانونى لاختياره. ففى حين يقضى الدستور الإيرانى بأن أعضاء مجلس الخبراء المنتخبين، من قبل الشعب، يقررون الشخص الذى يملك امتيازا خاصاً للقيادة، ويعلنون على الشعب باختياره قائدا، أو ينتخب المجلس عدة أشخاص من حائزى امتيازات القيادة ويعلنونهم الشعب باعتبارهم أعضاء مجلس القيادة. رأى العلامة منتظرى أن مجلس الخبراء يسمى للشعب مرشحه للقيادة، لينتخب بالاستفتاء المباشر، لأن القائد، وفقا للدستور، وبحكم الواقع، يجثم أعلى السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية الأمر الذى يتفق وأطروحات المعارضة الوطنية الليبرالية التى يؤيد منطقها الاحتكام للشعب فى اختيار ممثليه، ففى تلك الحالة تستمد السلطة مشروعيتها من حكم ممثلى الشعب، وهو ما يجسده مبدأ "ولاية الجمهور"، الذى يمكن اعتباره التعبير الشرقى الأقرب لمفاهيم الديمقراطية والمجتمع المدنى.[56]

ولم يأبه الخمينى لهذه الآراء وقد توفى آية الله طلقانى فى وقت مبكر – سبتمبر 1979 أما آية الله منتظرى فقد أعفى من منصبه وتوترت العلاقات ما بينه وبين الخومينى، واستبعدت فكرة ترشيحه لخلافة الخمينى وحل محله آية الله على خامئنى.

كما أن الخمينى فى قيادته للثورة تغاضى عن كثير من المحاكمات التى حكم فيها بالإعدام على أساس أنه الإفساد فى الأرض، والمحاربة فى حين أن الأمر لا يعدو أن يكون معارضة سياسية. بحيث يمكن القول أنه كان أقرب إلى لينين منه إلى الرسول وقد كانت لديه فرصة ليظهر أن الثورة الإسلامية تتبع تقاليد "اذهبوا فأنتم الطلقاء" أكبر مما يتبع تقاليد "لا حرية لأعداء الشعب" الذى وضعه لينين.

إن هذا كله لا ينبغى أن ينسينا أنه قاد مسيرة الثورة فى سنتيها الحرجتين 1977 و1978 قيادة تكشف عن مهارة ودهاء.. وقد شجع المظاهرات والخروج إلى الشوارع بقدر ما لجأ إلى الدعوة إلى الإضراب. ومن النادر أن نجد زعيماً ثورياً إسلاميا تفهم الإضراب ودعا إليه واستفاد منه كما فعل الخمينى.

كان الشاه يتخبط وحاقت به أخطاؤه وحان الوقت ليدفع الثمن. ومع هذا فقد حاول بكل قوة البقاء على العرش، ولعله استعاد ذكرى قومة الشعب أيام مصدق وكيف خلع. ثم عاد منتصراً بفضل مؤامرة الـ C.I.A. ولكن المأساة كانت قد قاربت فصلها الأخير.. ولم يبق معه إلا مجموعة من الضباط الذين تدربوا فى الولايات المتحدة. واستفادوا من العهد ولم يكن لديهم من المشاعر ما يسمح لهم بالتجاوب مع الشعب. ومع هذا فقد ثار سلاح الجو، واضطرت القيادات العسكرية الأخرى إلى التزام الحياد حتى اكتسحتها الثورة والحرس الثورى فهرب البعض وقتل البعض الآخر وأصدرت عليه المحاكم الثورية أحكام الإعدام. وارتأى آخر رئيس للوزارة فى عهد الشاه وهو بختيار أن يغادر الشاه طهران فى إجازة لتنقيه الأجواء وأن يتولى الحكم فى غيبته مجلس وصاية، فهلاً تذكر هذا الطاغية فاروق الذى كان كل أمله أن يكون له وريث وطلق زوجته فى هذا السبيل.. وعندما جاء الوريث كان العرش قد طار.. وأصبح وريثه شريداً فى الأرض.. وذهب هو وملكه فى أمم قد خلت )فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ( {الدخان 29}.

f

وصف شاهد عيان اليوم الذى عاد فيه الخمينى ..

"كل المدن والشوارع والحوارى زينت بالورود ونثرت فيها أطنان النُقل. كل مكان غرق فى السعادة، كل الشفاه مبتسمة، كل مكان زين بالمصابيح فجعلته يلمع بضوء كضوء الظهيرة، كل العيون حتى عيون السيارات تتألق... كل شخص يبتسم حتى الجنود والحراس... لا أدرى فى أى دولة وفى أى عصر صارت أمة ما سعيدة مبتسمة إلى هذا الحد. لكنى أعلم أن الإيرانيين لم يكونوا هكذا سعداء مرحين منذ قرون. لم أر فى حياتى إيرانياً سعيداً إلى هذا الحد، لم أكن قد رأيت قط رجلاً أو امرأة من هذا الجنس الممتحن ضاحكاً إلى هذا الحد... وبالنسبة لأمة أحنت ظهرها لقرون متتالية تحت سياط أكبر جبارى المشرق من جنكيز خان إلى آقا محمد خان ومن تيمورلنك إلى محمد رضا بهلوى وهى جريحة متألمة، ولو أنها تنفست لفترة تكون فترة قصيرة جداً وعابرة.. ومع ذلك لا تزال تحلم بسلطان عادل، وبالنسبة لأمة مبتلاة تنتظر لمدة ألف سنة ظهور الإمام الغائب حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وبالنسبة لعرق عظيم أنتج واحدة من أكثر الثقافات حرية وإنسانية على وجه الأرض وهو يعيش أسيراً فى أكثر أغوار التاريخ ظلمة، أية حادثة يمكن أن تكون أعظم وأكثر إعزازاً وأكثر بعثاً للروح من أن يقوم رجل من بين أكثر المظلومين تعرضاً للظلم، وهو فى نفس الوقت طاهر الجبلة ومتواضع وزاهد ومتقى وفى نفس الوقت عنيد ومناضل وصامد، ويأخذ حق هذه السنوات الألف من ظالم، ويصمد كل هذا الصمود، ويقاتل كل هذا القتال حتى يجتث آخر جذور الظلم من هذا الوطن العزيز."[57]

هكذا كانت طهران يوم الخميس 12 بهمن (أول فبراير 1979) يوم عودة الإمام".

"وتصف مجلة "طهران مصور" الصادرة يوم الخميس 12 بهمن بعد الظهر من وصول الإمام قائلة: "نزل الإمام من الطائرة، واحتضنه ضباط الطيران وكأنهم سد حوله بحيث تبادر إلى الذهن أنهم يريدونه لأنفسهم فقط ويريدون أن يحرموا الآخرين منه، الضباط الكبار والضباط الصغار وصف الضباط، كانوا قد نسوا تماماً تسلسل الرتب، كان كل واحد منهم يجاهد بدوره فى المحافظة على الإمام.


0 التعليقات:

إرسال تعليق