السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل التاسع: السلطة تفسد اليهودية وتحولها إلى صهيونية

فى الفصول السابقة التى أظهرنا فيها كيف تفسد السلطة الأيدلوجيا كان الصراع يدور حول السلطة بطبيعتها المفسدة من ناحية وبين معنويات وقيم موضوعية كالتى جاءت بها الأديان أو أوحت بها الاشتراكية. ولكننا فى هذا الفصل نجد السلطة بطبيعتها المفسدة ونجد أمامها أيدلوجية مشوهه تشويهاً أفقدها طبيعتها الموضوعية. فالأيدلوجية اليهودية كما تقدمها التوراة التى بين أيدينا تقوم على إله غيور يتفقد ذنوب الأباء فى الجيل الرابع من الأبناء وهو يغضب أو يرضى بما يقدم إليه من ذبائح أو يرفع إليه من تضرعات وهذا الإله الغيور يختص سلالة – هى أبناء يعقوب الذى سُمى إسرائيل بأفضلية فوق العالمين، وأن العلاقة بينه وبينهم الختان. وأنه يملكهم منطقة كبيرة من الأرض تمتد من نهر مصر حتى نهر الفرات مسكونة بكثير من الناس ويأمر صراحة، وبصورة متكررة، بأن على جنسه المختار هذا أن يستحوز على الأرض ويقتل أهلها جميعاً رجالاً ونساءً "بحد السيف" بل ويقتل الحيوانات ويحذرهم من الاختلاط بالأجناس الأخرى والتعايش معهم أو التزوج منهم.

وهكذا نرى أن الأيدلوجيا اليهودية ليست – كما هى فى الإسلام مثلاً – أن تكون كلمة الله هى العليا، ولكن أن يكون الجنس اليهودى هو الأعلى، وأن يستحوز على الأرض التى ملكها يهوه لهم وأن يقتلوا بحد السيف أهلها.

ومن هنا فإن الأيدلوجيا اليهودية التى تقدمها التوراة لها طبيعة السلطة فى ذاتيتها واستهدافها الاستحواز بل إن وسيلتها هى شر الوسائل وأكثرها وحشية وهى القتل بلا رحمة، فلم يعد للسلطة شىء تفسده وإنما تطبق هذه التوجيهات وعندئذ نرى أمامنا أسوأ صورة للحكم.. صورة تتعاون السلطة مع الأيديولوجية لبلوغ أقصى درجة من الفساد. وهذا هو ما يعمل شارون لتطبيقه الآن فى فلسطين – رغم كل القوى المعارضة.

نحن المسلمين نؤمن أن اليهودية هى أحد الأديان السماوية الكبرى، بل هى أولاها وأن الله تعالى أنزلها على إبراهيم الذى يعد أبا الأنبياء وأن مضمونها هو مضمون كل الأديان من الإيمان بالله والكفر بالوثنيات والشرور والعمل لتطبيق القيم النبيلة من حب وإخاء ومساواة وحرية ومعرفة.. وأن الله تعالى اختص إبراهيم وسلالته بحمل هذه الرأسمالية وفضلهم بهذا على العالمين، ولكنهم لم يقوموا بهذه الرسالة، بل قاموا بعكسها فقتلوا الأنبياء وأشاعوا الفساد فأنزلهم الله من مستوى أفضل العالمين إلى مستوى القردة والخنازير. إن الأوامر التى تضمنتها التوراة (المحرفة بالطبع) عن القتل حتى الإبادة، ليس فحسب للإنسان بل والحيوان أيضاً هى ما يبـرر هذا الحكم ..

وقصة هذا التحول من ديانة سماوية سامية إلى شرعة أرضية منحطه والدور المساعد للسلطة هى ما ستوضحه النبذات التالية.

- 1 -

خصوصية الدين اليهودى

يتميز الدين اليهودى عن بقية الأديان بثلاث خصائص قلما نجدها فى دين آخر. أولى هذه الخصائص أنه أقدمها عهداً فهو يعود إلى أربعة آلاف سنة مضت إذا أخذنا بتاريخ دعوة إبراهيم 1955 قبل الميلاد، والثانية أنه دين مغلق، مقصور على جنس واحد هو بنى إسرائيل. ومع أنه يبدأ من إبراهيم، وأن إبراهيم كان له من الأبناء إسماعيل، بل هو ابنه البكر، فقد استبعد التاريخ الإسرائيلى إسماعيل، بل وصفه بصفة تكاد تكون من "الإسقاط" السيكولوجى "يده على الجميع، ويد الجميع عليه" وهو ما يصدق على أبناء إسرائيل أكثر مما يصدق على أبناء إسماعيل.. ومن أول سطر ولعله أقدس سطر – نجد أن إله إسرائيل يصطفى إسرائيل ونسله ويفضلهم على العالمين ويهب لهم كل الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات على أن تكون العلاقة بينه وبينهم الختان. كما أن تقديس السبت يأخذ أهمية كبرى بحيث حكم على حطاب احتطب يوم السبت بالإعدام رجما بالحجارة وسنرى أن التقاليد والعادات والمواسم والأعياد كلها مرتبطة بالجنس اليهودى أو بمناسبات تعلقت بتاريخه، وأخيراً فإن الخاصية الثالثة هى أن هذا التاريخ الطويل حتم على اليهود التعايش مع "الأغيار" وفى فترات القوة فإنهم لا يرقبون إلا ولا ذمه فيهم، فأرضهم وناسهم ونساؤهم كلها مباحة للجنس اليهودى المختار. ولكنهم فى فترات الضعف يتسللون إلى المجتمعات الأخرى بصورة تبقى عليهم، وفى حالات كثيرة. تسمح لهم بالبروز، وهم مع هذا يحتفظون بشخصيتهم الخاصة ولا يفرطون فيها. ولما كان تاريخهم طويلاً فقد شهد عدوان الإسرائيليين على جيرانهم فى عهد قوتهم، ثم شهد مقاومتهم المستيئسة للشعوب والحضارات الأقوى، ثم استسلامهم وتسللهم.

ومع أن من مقتضى هذه الخصائص الاحتفاظ بشخصيتهم المميزة وعدم التأثر بالشعوب والحضارات الأخرى وهو ما حدث بالفعل – كما ذكرنا – إلا أن طبائع الأشياء أغلب. وكان لابد أن تؤثر الحضارات الأخرى التى كانت تماثل الدين اليهودى فى العراقة – كالحضارة المصرية القديمة وحضارة الرافدين على العادات والتقاليد اليهودية وأن تثريها بعناصر ليست فى الديانة المغلقة المقصورة على جنس واحد.

وقد نشأت الديانة اليهودية أولاً فى أور فى الرافدين ومركز الحضارة الكلدانية الآشورية وكان إبراهيم معاصراً لحمورابى الملك والمشرع الكبير وقد بدأ دعوته فى السنة الأولى لملك هذا العاهل الذى عرف بقوانينه، ثم انتقل إبراهيم إلى كنعان (فلسطين) بناء على رؤية، واصطحب معه زوجته سارة ولوطا ابن أخيه. ثم انتقل إلى مصر عندما أصاب الجفاف فلسطين وعاد مرة أخرى إلى كنعان حيث ولد له إسماعيل واسحق وأبعد إسماعيل وأمه إلى الحجاز بينما استقر اسحق وتزوج وانجب يعقوب الذى سيحمل اسم إسرائيل. ورزق يعقوب اثنى عشر ولداً هم الأسباط. أبرزهم يهوذا الذى منحه حق "البكورية" ومنهم يوسف وهو أحب أبنائه إلى نفسه. وهو الذى ائتمر عليه أخوته وباعوه لقافلة مسافرة إلى مصر.

وتكررت قصة هجرة إبراهيم إلى مصر إذ أصاب الجفاف فلسطين فأرسل يعقوب أبناءه ليمتاروا. وكان يوسف الذى بيع لوزير ملك مصر قد وصل إلى منصب رفيع فى الدولة لأنه نجح فى تأويل حلم الملك عن السبع بقرات العجاف التى تأكل سبع بقرات سمان بأنه سيحل بالبلاد جفاف يستمر لسبع سنوات تسبقه سبع سنوات رخاء. وعندما جاء أخوته ليمتاروا عرفهم ولم يعرفوه.. وفى النهاية دعاهم للإقامة فى مصر فى رعاية الحيثيين الذين كانوا يحكمون مصر وقتئذ. وحسنت حالتهم، ولكن طرد المصريين للحيثيين وزيادة عدد بنى إسرائيل جعل المصرين يسيئون معاملتهم ويستخدمونهم فى الأعمال الشاقة وبناء المعابد الـخ... حتى ظهر فيهم موسى (سنة 1600 ق. م) الذى أشفقت عليه أمه عند ولادته أن يقتله المصريون فوضعته فى سلة ودفعت بها إلى النيل. فالتقطتها ابنة فرعون وتبنته فنشأ موسى فى بلاط فرعون كما لو كان نبيلاً مصرياً. واصطفاه الله لينقذ بنى إسرائيل ويحررهم، وتم هذا، وسار بهم إلى فلسطين، ومات موسى قبل أن يدخل فلسطين وقام بهذه المهمة يوشع. وبدأ استقرار الإسرائيليين الأول فى فلسطين، وتكونت مملكتان هى مملكة يهوذا وعاصمتها أورشليم ومملكة إسرائيل وعاصمتها شكيم ثم السامرة. ودامت الأولى 346 سنة حتى أسر بابل ودامت الثانية 210، وفى المرتين هدم الهيكل ونقل الإسرائيليون أسرى إلى بابل، وبهذا عاد اليهود مرة أخرى إلى موطنهم الأصلى الذى أصبح منفاهم ودار غربتهم. ولكنهم رجعوا إلى فلسطين بعد أن حررهم الفرس من حكم الكلدانيين. وأعادوا مرة أخرى بناء الهيكل. وجاء الإسكندر وهزم الفرس وخضعت إسرائيل للبطالسة بمصر ثم للسلوقيين بسوريا حينا من الدهر ليخضعوا للرومان (سنة 40 ق. م) وحصل هيرود كبير اليهود من الرومان على لقب "ملك اليهود" وظل اليهود تحت حكم الرومان ردحاً من الدهر ولكن الصراع بين اليهود والرومان كان متصلاً وهدم المعبد مرتين مرة سنة 70 قبل الميلاد ومرة سنة 133 ميلادية عندما دمر نهائياً وحظر الرومان الديانة اليهودية وهاجر معظم اليهود إلى بابل.

وعندما ظهر الإسلام اتصل اليهود بالمسلمين فى الدولة العباسية والدولة الفاطمية وفى دول الأندلس وشغلوا مناصب رفيعة وكان موسى بن ميمون – أكبر فيلسوف يهودى – يكتب بالعربية والعبرية ويبدو مسلماً فى القاهرة ويهوديا فى قرطبة. وعندما أزال الأسبان للمرة الأخيرة حكم المسلمين من غرناطة واضطهدوا المسلمين اضطهدوا معهم اليهود واستطاع معظم اليهود أن يفروا إلى مختلف بلاد العالم وبوجه خاص تركيا التى فتحت بابها لهم وأسلم فريق كبير منهم فى الظاهر وهم الذين يطلق عليهم يهود الدونمة، ووصل بعضهم إلى أعلى المناصب.

وعمقت هذه الاحتكاكات خبرة ومعرفة اليهود بطرق التعايش مع النظم بصورة تمكنهم من أن يكونوا أصحاب نفوذ دون أن يفقدوا شخصيتهم. ولم يبلغ شعب من الشعوب ما بلغوه فى هذا الصدد وقد تغلغلوا فى المجتمعات الأوربية واستطاعوا – رغم موجات الاضطهاد فى بعض الحالات – أن يكونوا صيارفة أوروبا وأصحاب المهن. وعن طريق العلم والمال احتلوا منزلة رفيعة فى المجتمعات الأوروبية وفى الوقت الذى تكون إنجلترا محاربة لفرنسا، وتكون فرنسا محاربة لألمانيا، فإن أبناء روتشلد فى إنجلترا، وفى فرنسا وفى ألمانيا يحصدون ثمرة هذه الحروب.

وعندما أراد دزرائيلى أن تشترى انجلترا أسهم شركة قناة السويس من مصر ولم يكن البرلمان منعقدا أرسل دزرائيلى سكرتيره إلى روتشيلد ليطلب إليه تقديم أربعة ملايين جنيه إسترلينى قيمة الأسهم فزاره وهو على مائدة الطعام، وعلى مائدة الطعام أمر روتشلد بتقديم المبلغ.

وفى الأيام الأولى لدخولهم المجتمع الأوربى، فإن لفيفا من كبرائهم تنصر لأن المسيحية كانت شرطاً لازماً، ولكن فيما بعد لم يعد ذلك لازما وعندما اختير البارون ليونيل روتشيلد نائبا فى مجلس العموم البريطانى ثارت مسألة قسمه على غير الإنجيل. وعندما عين دزرائيلى رئيساً للوزارة وهنأه صديق له رد دزرائيلى التهنئة وختمها: "وكما نقول فى الشرق "الله أكبر" فهو الآن أكبر من أى وقت آخر". وكان دزرائيلى يقول للإنجليز إن اسلافه كانوا يعيشون فى قصور عندما كان الإنجليز يعيشون فى الكهوف والغابات.

لم يكن، والأمر هكذا، من الغريب أن يتسلل النفوذ اليهودى إلى أعلى دوائر المال والسياسة فى إنجلترا والولايات المتحدة وأن يظفر اليهود أخيراً بإعلان بلفور، ويفتح باب فلسطين لليهود ليقيموا فيها وطناً قوميا.

- 2 -

الميثولوجيا التى صنعت النفسية اليهودية

يطلق تعبير "الميثولوجيا" عادة على منظومة الآلهة اليونانية التى سجلها هوميروس وهزيود وغيرهما من شعراء اليونان الأقدمين وأبدعوا عالم "الأوليمب" بما فيه من آلهة يرأسهم زيوس ويحف به بقية الآلهة هيرا، وفينوس، ومارس وأبولو الخ... وتحدثت الميثولوجيا طويلاً عن مغامرات هذه الآلهة التى وهبت قوة الآلهة ونزق البشر، وتدخلها فى مصاير الدول والجماهير، وعندما ذكر خبا اليونان وعلا ذكر روما نقلت روما عنها هذه الميثولوجيا بعد أن غيرت الأسماء إلى أسماء رومانية.

وانغرس عميقاً أثر الميثولوجيا فى النفسية اليونانية والرومانية، وورثتها عنها المجتمعات الأوربية التى أحيت الحضارة اليونانية-الرومانية.

وتقف الميثولوجيا على مشارف الفن والدين وقد تبدأ من نقطة تمثل أبرز ما فى شخصية اليونان أو الرومان، ولكنها تمد هذه النقطة وتكثفها وتضفى عليها من عطاء الفنان – عادة الشاعر – وعبقريته الخاصة أطيافاً وأعماقاً تعطيها قوة وتجعل لها تأثيراً فعالاً بحيث تضاعف – أضعافاً مضاعفة – النقطة التى بدأت منها.

ولا نعدم فى الميثولوجيا خيطاً من نبوة لم يستسغها الوضع (كما هو الحال بالنسبة لكل الدعوات الدينية) فشوهت وحولت إلى كهانة فالميثولوجيا هى أبرز تجليات "الوثنية" أى الشخوص التى يصنعها الإنسان ويضفى عليها صفة الألوهية، وينسب إليها ما يشاء من قوى.

ولم يلحظ معظم المؤرخين السياسيين هذا الأثر، لأن دراسة الميثولوجيا عولجت فى الآداب أو الاجتماع وليس فى مجال التاريخ ولهذا لم يظهر أثرها فى تطور المجتمعات. خاصة وأن الدراسات الأكاديمية شغلت نفسها بالجزئيات التى تضحى بالكليات، وتحصر نفسها فى دوائر الدراسات الجامعية المغلقة، ومن ثم دق إدراك الأثر الكبير للميثولوجيا على المجتمعات الحديثة، وتطورها التاريخى، ولعل خير من أدرك ذلك هو الكاتب الفرنسى القديم جوستاف لوبون الذى رأى أن العقل يصنع العلوم، ولكن العاطفة والأحاسيس والمشاعر هى التى تصنع التاريخ وتطور المجتمعات.

ولعل خير ترجمة عربية لكلمة الميثولوجيا هى ما جاء فى القرآن الكريم "أساطير الأولين".

وإلى حد ما فلكل دين "ميثولوجيته" والاختلاف بينها هو فى الدرجة. وهو فى الإسلام أخفها، ولكن لا ينكر أن الفقهاء أقاموا قلعة من الفكر السلفى تخالف فى كثير مما ذهبت إليه ما نص عليه القرآن. وتأثروا بالثقافات الفارسية واليونانية وأقحموها فى الفقه والتفسير، كما أدى وجود "الموالى" إلى تطوير فى المجتمع الإسلامى الخ ...

كما أن الخرافات والتقاليد التى كانت قائمة عندما ظهر الإسلام، وحاول القضاء عليها، بقى بعضها، فالعصبية التى وصفها الرسول بأنها منتنة عادت مرة وأصبحت هى دعائم النظام الاجتماعى فى السعودية ومناطق الخليج – وعاد السحر، والتقديس، والشفاعة والأولياء، وهى كلها سمات للوثنية التى أوجدت الميثولوجيا، نقول إن هذه زحفت على الإسلام وزاحمت أفكاره الحقه وظفرت بتأييد الجمهور. ذلك لأن الأديان تتطلب درجة من السمو قد لا يتأتى للجميع بلوغها، فى حين تتحدث الميثولوجيا عن واقع الجماهير كما هو.. وأفعالهم وتصرفاتهم فلا عجب أن تكون أقرب إلى قلوب الجماهير. ومعروف بالطبع ما عاناه الأنبياء من مشاق ليتوصلوا إلى إيمان المجتمع. وأنهم رغم صفتهم الاستثنائية – لم يحققوا نجاحاً تاما، ولم يكتسبوا الأغلبية دائماًً.

وقد أثرت الميثولوجيا اليونانية/ الرومانية تأثيراً بالغاً على الشخصية الأوربية بحيث نجد أحداثها وأبطالها فى الفنون والاجتماع، بل وتطلق على الأفلاك وعلى أعماق علم النفس كما هو واضح تماماً فى التحليل النفسى لفرويد. وقد كانت دراسة الآداب اليونانية هى أهم دروس "المدارس العامة – كما يقولون مثل ايتون ورجبى وهى التى تعلم أبناء الخاصة والأرستقراطية.

وأثرت الميثولوجيا اليهودية على المجتمع الأوربى. لأنها كانت كالميثولوجيا اليونانية حافلة بأحداث الحروب والهزائم والانتصارات والمؤامرات والعواطف والشخصيات التى تقوم بأدوار معينة، ولأن إله بنى إسرائيل يشبه إله الميثولوجيا اليونانية فهو يغضب ويرضى ويحابى شعبه ويوقع الهزائم بالشعوب الأخرى كما أن التاريخ الذى تقدمه حافل بالمؤامرات والدهاء الخ... وهناك أناشيد طويلة، وأمثال حكيمة، وشعر عاطفى وابتهالات وروايات عن أولياء وكهنة، بحيث يمكن القول إن التوراة استكمل كل المواصفات التى تخلق "ميثولوجيا" ناجحة ومن هنا دخلت الميثولوجيا اليهودية المتمثلة فى التوراة الآداب والمجتمعات الأوربية. وقد كان اليهود من الذكاء بحيث أقحموا التوراة فى المسيحية بحيث أصبحت مطالعة التوراة جزءاً من واجبات المسيحى التقليدى. ولم يكن لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية التى وضعت وعد بلفور جاهلاً بحدود "الميثاق" الذى وضعه "يهوه" لإبراهيم ووعده فيه "بالأرض من نيل مصر إلى النهر الكبير الفرات" وقال لكلمنصو أن إعلان بلفور يضم أراض فلسطينية حسبما تشير التوراة من "بانياس إلى بئر السبع".

إذا كان هذا هو أثر "الميثولوجيا" اليهودية على المجتمع الأوربى. فلنا أن نتصور أثرها العميق والشامل على اليهود لأنها تضم الدين، والفنون، والتاريخ، والشريعة الخ... ولأن المحور الذى يدور عليه كل هذا هو أفضلية الشعب المختار وحقه فى السيادة على العالمين. وأن هذا الحق إنما جاء من إله بنى إسرائيل فالتاريخ أصبح دينا، والدين تاريخاً، واستطاع اليهود وهم أقدم أقلية فى التاريخ – وفى يدهم هذه الوثيقة، أن يتقدموا – بفضل تراكمات متوالية عبر القرون – بحيث شغلوا منزلة تفوق بمراحل نسبتهم العددية. واندمجوا بذكاء فى المجتمعات الأوربية، وفى الوقت نفسه احتفظوا بشخصيتهم "التوراتية"، ولم يحل دون ذلك أن يؤمنوا بالإسلام كما فى يهود "الدونمة" أو بالمسيحية كما فى "ذرائيلى" الذى تغلغل فى الأرستقراطية البريطانية ورأس حزب المحافظين والوزارات أكثر من مرة، ومع هذا واصل إصدار الروايات التى تنم عن جذره اليهودى ..

لقد عايشت اليهودية الحضارة الفرعونية المصرية، وعايشت الحضارة البابلية عشرة قرون، فى كل منها ثم، عاصرت فى مرحلتها الأخيرة الحضارة الرومانية حتى دورها السكندرى. ولم تكن هذه مجرد اتصالات ولكنها معايشة طويلة فقد ولد إبراهيم فى بابل وعاش فترة فيها ثم ذهب إلى مصر وعاد منها. وعاش نسله فى هذه المناطق وعاشروا أهلها وتشربوا بها – حتى فى الأسر البابلى اختلط اليهود بالمجتمع البابلى وكان لهم وجود بارز وهناك من الآثار ما ينم عن مؤسسة مالية ظلت عاملة لأكثر من قرنين متوالين فى بابل. وقبلها عاش اليهود فى مصر وتربى موسى فى بلاط الفرعون كما لو كان نبيلاً مصرياً وخضع اليهود بعد فترة الترحاب بهم أيام يوسف إلى موجات من السخط عندما تحالفوا مع الحيثيين الغازين ولما خرجوا إلى فلسطين تأثروا بحضارة الكنعانيين وأخيراً عندما بسط الرومان حكمهم على هذه المناطق كلها تأثر اليهود بالحضارة الرومانية/ الهلينسية وكانت الإسكندرية معقلاً لليهود كما كانت معقلاً للحضارة الهلينسية. وفيها ترجمت التوراة وبقية كتب اليهود.

هذه المعاشرة الطويلة للمجتمعات الوثنية ذات الميثلوجيات المختلفة أثرت طويلاً على اليهود بحيث طُوعت كلمة إبراهيم ودعوته الحقه للإيمان بالله لهذه الميثلوجيات فاختلطت بها وأوجدت ميثولوجيا يهودية خالصة عبرت عنها التوراة بوجه خاص فى أسفارها الخمسة التكوين – والخروج – واللاوبين والعدد والتثينه وهى الأسفار التى يقولون إن موسى كتبها بخط يده (وكيف يكتب بخط يده خبر وفاته، وما بعده).

كيف تم هذا؟ إن هذا تم بعشرات الطرق، وعلى امتداد عشرات ومئات السنين وعمل فيه جنود مجهولون لم تسجل صفاتهم أو تعرف أسماؤهم وأسلمه الأسلاف إلى الاخلاف ليقدموا إضافتهم وليسلموه مرة أخرى إلى أجيال جديدة... ووراء هذا كله التطورات التاريخية والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التى تملى على البشر تكييف تصوراتهم طبقاً لما اقتضته ضرورة هذه الأوضاع.

هذا هو الحل الوحيد للمأزق الذى يجد المفكر المسلم نفسه فيه، فهناك تأكيد لوجود إبراهيم وأنه كان رجلاً ممتازاً وأن الله تعالى خصه برسالة التوحيد وأنه دعا قومه إلى الله فكذبوه هذا هو ما يمكن أن يؤكده التاريخ – وهو ما نص عليه القرآن أيضا – أما ما تورده الروايات عن هذا الإله يهوه الذى عشق عشقاً إبراهيم ونسله وفضلهم على كل العالمين ولم تكن له همة إلا إعطاءهم العهود بتمكينهم من الأرض "من نهر مصر حتى نهر الفرات الكبير". وتكررت هذه العهود لإبراهيم، ثم ليعقوب ثم لموسى ثم من بعده.. وأنهم هم الشعب المختار والمميز وأن العلاقة بينهم وبينه الختان.. وأنه إله غيور يفتقد ذنوب الآباء فى الجيل الرابع من الأبناء الخ... فهذا كله ما يضرب عنه المفكر صفحاً، وما لا يرى فيه إلا صياغة لميثولوجيا يهودية وضعها رجال الدين اليهودى فى أوقات متأخرة لتمكين هذه العقيدة فى نفوس اليهود بحيث تحكمهم حكماً لا فكاك لهم منه لأنها فى الوقت الذى تخضعهم لها فإنها تؤكد لهم أنهم الجنس المختار، وأن ليس للأميين منزلة تقارب، فضلاً عن أن تضارع – الجنس اليهودى المختار ..

إن ماركس قدم لنا مفتاحاً لحل المسألة اليهودية عندما قال "إننا لن نبحث عن سمة اليهودى فى دينه، بل سنبحث عن سر هذا الدين فى اليهودى الحقيقى" ولا يختلف الرأى الذى ينتهى إليه المفكر المسلم عن هذا "أن معظم ما تضمنته التوراة إنما هو من وضع اليهود." فقد وضع اليهود دينهم بأنفسهم، كما اختاروا الاههم. وهذا الدين يختلف – بل ويتناقض – مع ما أنزله الله على إبراهيم من دين يتسم ككل الأديان الإلهية بالموضوعية والانفتاح وليس الذاتية والانغلاق وأن ظلت بعض توجيهاته، وهى التى أكسبت الإعجاب ومثلت إضافة اليهودية فى عالم الأديان.

نحن لا يخالجنا شك فى أن هذا هو سبب ما أضيف إلى دعوة إبراهيم السمحة، من إقامة حكم باسم الدين وهذه الأوامر التى يصدرها يهوه إلى قادة بنى إسرائيل باستئصال أعدائهم استئصالاً وقتل الرجال والنساء وسبى الأطفال وقتل البهائم واقتلاع المزروعات، وأن من يعمل فى يوم السبت يرجم.

ويجب أن نذكر أن وعد إبراهيم المزعوم جاء فى سفر التكوين الحافل بتقديرات وهمية عن تكوين الأرض وظهور الإنسان ونسل آدم الخ... وعندما يرد فيه أن موسى كتب الأسفار الخمسة بيده فهذا نفسه دليل على أن هذا نص كتبه غيره.

وهذا ما ينطبق بوجه خاص على الوعد الذى أعطاه يهوه لإبراهيم بأن يملكه ونسله الأرض من نهر مصر إلى نهر الفرات، إذ لا معنى له. فقد ولد إبراهيم فى أور واستقر بها والمفروض أنه دعا قومه إلى الإيمان وإذا كان سيملكهم أرضاً، فيكون ذلك فى الأرض التى ظهر فيها، ولا داعى لتمليكهم أرضاً بعيداً عنها واعتبار هذه الأرض أرض غربة والأرض الجديدة موطنا. فإدراج هذا النص أمر ينم – فيما يشبه اليقين – أن أحبار بنى إسرائيل قد وضعوه فى فترة متخلفة ليكون أساساً لحق مزعوم فى فلسطين. وما يمكن التسليم به هو أن موسى دعا قومه للذهاب إلى فلسطين عندما أراد أن يحررهم من مصر "أرض العبودية" سواء كان هذا نتيجة أمر إلهى، أو أنه كان التصرف الوحيد العملى، مما دام قد قرر أن يخلص من مصر، فليس أمامه إلا فلسطين، لأنه لا يعقل أن يخوض بهم فلوات الصحراء ليذهب إلى ليبيا أو العراق. ففلسطين كانت هى أقرب الأراضى التى يمكن أن يلجأ إليها. وكان يمكنه هذا بالطبع بالاتفاق مع الأهليين، أو حتى عند رفض هؤلاء بحرب محدودة. وينتهى الأمر ..

f

من المهم أن نعلم إن عدم اتفاق الميثولوجيا مع العلم أو العقل لا يوهنها، أو يضائل الإيمان بها، لأنها تعتمد على الوجدان والمشاعر والعواطف التى يكون لها منطقها الخاص ومكانها فى النفس البشرية. ومن هنا كان الكثير من "العلمانيين" يؤمنون بها فى مجالها ولا يؤثر هذا على عقلانيتهم فى المجالات الأخرى. ولعل هذا الإيمان أن يستكمل لهم ناحية معينة فى النفس البشرية. وكان أكبر دعاه الصهيونية من العلمانيين مثل هيرزل ووايزمان وبن جوريون. ولكنهم مع هذا يأنسون إلى الميثولوجيا اليهودية كما جاءت بها التوراة. وكان إيمان بن جوريون بها يختزل ثلاثة آلاف سنة ويراها كما كانت حية وكان يفخر على الأوروبيين الذين لا يذكرون ماذا أكلوا فى أسبوع مضى فى حين أنه يعلم ماذا أكل أسلافه عندما خرجوا من مصر منذ ثلاثة آلاف عام. لقد أكلوا خبزاً فطيراً بلحم مشوى وأكلوه وهم وقوف. وأحقاؤهم ممنطقة ونعالهم فى أرجلهم وعصيهم فى أيديهم كمن هو على أهبه السفر. وكان هذا يثير دهشة مستمعيه وإعجابهم.. ووجد دزرائيلى – وهو فى منصب الوزارة البريطانية – فى الميثولوجيا اليهودية – مادة لروايتيه كننجسبى وتنكريد.

لا عجب إذن إذا كانت الميثولوجيا اليهودية التى وضعت من أقدم الآباد هى التى كونت "النفسية اليهودية" وكانت الرباط الذى يجمعهم فى الشتات فى أوربا، وفى آسيا الخ... ويجعلهم أمة واحدة. أمة التوراة.. وقد يزيد بعضهم أمة التوراة والسبت، واليوم هم يزيدون "أمة التوراة. والسبت والهيكل".

- 3 -

من الخروج إلى الدياسبورا[37]

خرج موسى ببنى إسرائيل من مصر "أرض العبودية" مستقبلاً أرضاً جديدة. أرض الحرية. وأعانه الله تعالى على ذلك حتى دخل صحراء سيناء وتمرد عليه اليهود وعادوا مرة أخرى لعبادة العجل الذهبى وحنوا إلى مصر وفولها وعدسها.. فعاقبهم الله بالتيه فيها طوال أربعين عاماً.. انتهى خلالها الجيل الذى عاش فى العبودية وحن إليها. ومات موسى وهارون نفسه وتعين على يوشع أن يدخل الأرض المقدسة فعبر بهم نهر الأردن وأمر يوشع أن يختتن الشعب كله لأن هذه الشعيرة هى العلامة ما بين إسرائيل وإلههم[38]، وهى بمثابة المعمودية عند المسيحيين. ثم دخل أريحا بعد أن نبأه الرب أنه ما إن يطوفوا حول الأسوار سبع مرات وينفخ الكهنة فى الأبواق حتى تتداعى أسوار المدينة.. وأهلك اليهود كل من وجدوه من رجل أو امرأة حتى البقر والغنم بحد السيف "كما أمر الرب".

وبدأت سلسلة من الحروب والقلاقل ارتؤى فيها أن يقوم القضاة بالحكم، وبدأ حكم القضاة الذين ساسوا فى الفترة من موت يشوع حتى اختيار شاول أول ملك لليهود.. وتبلغ هذه الفترة أربعمائة سنة على وجه التقريب.

ويتحدث أحد المراجع عن هؤلاء القضاة " بيد أن هؤلاء لم يكونوا حكاماً، ولا حتى قواداً عسكريين بكل معنى الكلمة، بل أبطالاً اختارهم الله رأساً من بين الشعب لمهمة معينة، حسبما كانت تقتضيه الظروف، وذلك لتخليص الشعب من أعدائهم ومضايقيهم.

ومن ثم لم تكن هناك خلافة متسلسلة الحلقات بين هؤلاء القضاة، الذين لم تتعد سلطة القاضى منهم فى بعض الأحيان سبطه الخاص. وربما كان بعضهم معاصراً لبعض.

أما من جهة أخلاقهم فلم تكن، على الدوام، على ما يرام، ولا سيما أخلاق بعضهم. فهم فى الواقع قادة عسكريون أكثر منهم مصلحون، وإن اهتم بعضهم بهدم معابد الأصنام وتطهير شعبه من أرجاس الوثنية.[39]

إن أشهر هؤلاء القضاة، هم: عتننيئيل، وأهود، ودبورة النبيه، وبارق، ثم جدعون، ويفتاح، وشمشون.

ويلحظ هنا أن هؤلاء القضاة، وهم أفضل بنى إسرائيل، وأن بعضهم كان يتلقى وحى إله بنى إسرائيل ويبتهل إليه.. نقول إن تأثير الميثولوجيا عليهم كان عميقاً وجعلهم "محامين" لشعب إسرائيل، وليسوا قضاة يحكمون بالعدل، وليس عبثاً أن يكون أحدهم "شمشون"الجبار الذى استطاع "بفك حمار" ميت قتل قرابة ألف من الفلسطينيين. وهو نفسه الذى استسلم لإغراء "دليلة" حتى ذكر لها أن سر قوته هو فى شعره، فحلقت شعره وهو نائم وأسلمته إلى الفلسطينيين أعداءه الذين طربوا لذلك. ولكن شمشون تاب إلى الله فأعاد الله إليه قوته وعندما أراد الفلسطينيون أن يسخروا منه، وكان واقفا بين عمودين من الهيكل شد بيديه العمودين فسقطاً وانهدم الهيكل وهو يقول علىَّ وعلى أعدائى يارب"، ويقال إنه بهذه الصورة قتل من الفلسطينيين أضعاف ما قتلهم فى حياته.

ولعل أفضل هؤلاء القضاة هو صموئيل الذى استطاع أن يخلص إسرائيل من هيمنة الفلسطينيين وعبادة الآلهة الغريبة، فاعترف كل الإسرائيليين به قاضياً عليهم وتولى هذه المهمة حتى شاخ وكبر.. وعندئذ طلب الإسرائيليون منه أن يولى عليهم ملكا.. وتضمنت الفقرة التى جاءت فى سفر القضاة عن هذه النقطة كلاماً حكيماً فعندما ساء ذلك صموئيل ابتهل إلى الله أن يهديه أجابه الله "اسمع لكلام الشعب فى جميع ما يقولون لك. لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياى رفضوا حتى لا أملك عليهم. ولكن أشهدهم وأخبرهم بوسائل الملك الذى يملك عليهم حتى إذا ما أثقل عليهم لا يلوموا إلا أنفسهم".

فجمعهم صموئيل وقال لهم هذا هو ما سيفعله الملك بكم إذا حكمكم. سيأخذ أبناءكم ليستعبدهم فى أعماله، وليسعون بين يدى عرباته وسيعين بعضهم قادة ليكونوا ضباطاً فى جيشه، وآخرين ليكدحوا فى حقوله ومزارعه وآخرين لإعداد عرباته وأسلحته وسيأخذ بناتكم ليكن وصائف وخادمات وخبازات وطباخات، وسيأخذ أفضل حقولكم وأشجار الزيتون والأعناب، وسيأخذ العشر من الحبوب ليعطيها لأتباعه، وسيأخذ أفضل ماشيتكم، وسيثقل كواهلكم بالضرائب وأنتم تكونون عبيداً له.

فأبى الشعب أن يسمع لهذا التحذير، وقالوا بإلحاح كلا بل يملك علينا ملك كسائر الأمم يقضى بيننا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا.

فلما رأى إصرارهم اختار لهم شاول ملكاً.

وبدأ عهد الملوك ..

ولكن شاول انحرف عن طريق الله وخالف وصاياه. فتعدى على سلطة الكهنوت فقد كان متفقاً على ألا يبدأ المعركة، قبل تمام سبعة أيام. وإذ ذاك يأتى صموئيل، فيقرب محرقة للرب، طالباً معونته وحماية جنود إسرائيل.

وحل اليوم السابع، وطال انتظار شاول، ولم يأت صموئيل. ورأى شاول الشعب يتفرقون من حوله، وطلائع الفلسطينيين تقترب من معسكره، فنفد صبره. وطلب أن يقدموا إليه المحرقة وذبائح السلامة، فقدموها. وما هى إلا لحظة حتى أخذ يصعدها بنفسه.

وأغضب هذا صموئيل وقال له "إنك بحماقة فعلت حيث لم تحفظ وصية الرب إلهك. فإن الرب كان قد أقر ملكك على إسرائيل إلى الأبد، فأما الآن فلا يدوم ملكك" (1 مل 13 : 5-14).

أما المعصية الثانية الكبرى التى ارتكبها شاول فكانت بمناسبة الحرب ضد العمالقة، وكانت حرباً انتقامية، أمر بها الله لإبادة هؤلاء العمالقة، الذين تعرضوا لإسرائيل عند دخوله أرض الموعد.

وعلى ذلك فقد ُأمر شاول بإبادة جميع السكان وكل مواشيهم: الغنم والإبل والحمير، بحيث لا يبقى على حى إطلاقاً.

غير أن شاول قتل شعب العمالقة فقط. أما ملكهم فلم يشأ أن يقتله، بل جاء به حياً، ليشهد بنصره عند القاصى والدانى. كما أنه أعدم كل ما كان حقيراً مهزولاً. أما خيار الغنم والبقر، وكل ثمين فقد احتفظ به.

ولهذه المعصية غضب إله إسرائيل على شاول وقرر أن يكون داود ملكا.[40]

وخلف شاول داود، الذى برز عندما استطاع أن يقتل العملاق الفلسطينى جالوت (جليات) بحجر من مقلاعه، وملك داود ولكن شيعة شاول، نازعته الملك فقامت الحرب بين بيت داود وبيت شاول لما يقرب من سبع سنين وانتصر داود فى النهاية وملك داود على كل إسرائيل لمدة أربعين سنة. ونقل عاصمة ملكه من حبرون إلى أورشليم بعد أن أخرج من القطاع الأعلى منها اليبوسيين سكانها الأصليين بحد السيف ونقل "التابوت" إلى أورشليم باحتفالات باذخة وحدث وقتئذ أن جمحت الثيران التى تجر التابوت فمد "عزة" وهو أحد قوادهم يده ليسند التابوت "ولكن لما كان لمس التابوت غير مسموحاً به إلا للكهنة. فقد اشتد غضب الرب على عزة وضربه لأجل جسارته هذه فمات".

"فشق على داود ضرب الرب لعزة، وخاف خوفاً شديداً من أن ينزل تابوت الرب عنده. ومن ثم فقد عدل به مؤقتاً إلى بيت عوبيد أدوم. فبقى تابوت الرب فى بيت عوبيد ثلاثة أشهر، كانت ميمونة على عوبيد وكل بيته، حيث باركه الله وكل ماله، بركة غزيرة.

فلما سمع داود ذلك، مضى فى موكب عظيم، وأصعد تابوت الرب من بيت عوبيد إلى مدينة داود، كما كان مقرراً من ذى قبل. وكان الفرح شاملاً. فكان كلما خطا حاملو التابوت ست خطوات يذبحون ثوراً وكبشاً مسمناً.

وكان داود يرقص بكل قوته أمام تابوت الرب طوال الطريق، حتى وصلوا به إلى أورشليم، إلى حصن صهيون، وأدخلوه السرادق الفخم المقام له خصيصاً بذلك الحصن. وكان بعد ذلك أن أصعدت المحرقات، ونحرت ذبائح السلامة، ووزع لحمها على جميع الحاضرين رجالاً ونساء. ثم بارك داود الشعب وصرفهم."[41]

ومع هذا فقد تمرد على داود ابنه أبشالوم وقامت حرب أهليه حتى هرب داود وعبر الأردن، ولكنه انتصر بعد مدة ورفرف السلام على ربوع المملكة إلى أن أمر داود بعمل إحصاء للشعب.

"وبما أن طلب ذلك الإحصاء كان بدافع الكبرياء، فقد غضب الرب على داود، فأرسل إليه جاد النبى، قائلاً: "إنى عارض عليك ثلاثاً. فاختر لنفسك واحدة منها، فأنزلها بك: أن تأتى عليك سبع سنين جوع فى أرضك. أم تهرب أمام أعدائك ثلاثة أشهر. أم يكون ثلاثة أيام وباء فى أرضك.

فقال داود لجاد، وقد علم خطأه: لقد ضاق بى الأمر جداً، ولا أعلم ماذا أختار، ولكن إن كان لابد من ذلك، فالأحرى أن أقع فى يد الرب، ذى المراحم الكثيرة، من الوقوع فى يد الناس.

فبعث الرب فى كل إسرائيل وباءً شديداً جداً، فمات من الشعب سبع وسبعون ألف رجل. ولم تكفّ الضربة، إلا عندما رفع داود أكف الضراعة إلى العلى. ليرحم ذلك الشعب البرىء قائلاً: أنا الذى فعلت السوء. وأما أولئك الخراف فماذا فعلوا ؟

فتعطف الله على عبـده داود وعلى الشعب، فكفت الضربة (2 مل 24..).

وقبل أن يموت داود جمع جميع رؤساء إسرائيل وخاطبهم قائلاً "لقد كان فى نفسى أن أبنى بيتاً لتابوت عهد الرب، وقد أعددت كل مواد البناء. إلا أن الله قال لى: أنت لا تبنى بيتاً لاسمى، لأنك رجل حروب، وقد سفكت الدماء‍! بل سليمان ابنك هو يبنى بيتى، لأنى إياه اصطفيت لى ابناً. وأنا أكون له أباً. وأقر ملكه إلى الأبد، إن ثبت على العمل بوصاياى وأحكامى.

وبعد توصية قصيرة للشعب، حثهم فيها على الثبات فى حفظ جميع وصايا الله، أبرز رسم بيت الرب وملحقاته، مع تصميم جميع الآنية وأمتعة الخدمة، ودفعها إلى سليمان ابنه.. (1 أى 28..) وقال للرؤساء: إن العمل عظيم، لأن الهيكل ليس لبشر، بل للرب الإله... وبعد فإنى لرغبتى فى تحقيق هذا الأمر، لدى مال خاص من الذهب والفضة، وهبته لبيت إلهى، علاوة على جميع ما أعددته – من مال الدولة وأسلاب الحروب – لبيت القدس: ثلاثة آلاف قنطار من ذهب، وسبعة آلاف قنطار من فضة.

حينئذ تطوع الرؤساء، وأدوا لخدمة بيت الله خمسة آلاف قنطار من الذهب، وعشرة آلاف من الفضة، وكميات كبيرة جداً من النحاس والحديد.

وبارك داود الرب قائلاً: مبارك أنت أيها الرب إله إسرائيل... لك يا رب، العظمة والجبروت والجلال والبهاء... من لدنك الغنى والمجد، وأنت مالك على الجميع، وفى يدك القدرة... أيها الرب إلهنا إن كل هذه الثروة التى أعددناها لنبنى لك بيتاً، إنما هى من يدك والجميع لك.

وبارك الشعب كلهم الرب إله آبائهم، وخروا وسجدوا للرب وللملك. وذبحوا للرب ذبائح كثيرة. ثم توجوا سليمان، فجلس على عرش إسرائيل مكان أبيه (1 أى 29..).

وملك سليمان وامتد سلطانه على كل الممالك الصغيرة المجاورة لإسرائيل من نهر الفرات إلى أرض فلسطين إلى حدود مصر.

وفى السنة الرابعة من ملكه بدأ فى إقامة الهيكل ..

وتورد التوراة أرقاماً "فلكية" .."بلغ عدد العمال الذين استخدمهم سليمان لإنجاز هذا العمل العظيم ما يقرب من المئتى ألف عامل، منهم: ثلاثون ألف عامل سخرة، كان يرسل منهم إلى لبنان عشرة آلاف فى الشهر مناوبة، لقطع الأخشاب مع عبيد حيرام ملك صور، صديق سليمان. وسبعون ألف عامل لحمل الأثقال فقط ونقلها، وثمانون ألفاً لقطع الأحجار ونحتها قبل تصديرها إلى أورشليم. هذا ما عدا الرؤساء وكلاء سليمان القائمين على الأعمال، والبالغ عددهم نيف وثلاثة آلاف رجل (3 مل 5: 13..).

ويتكون الهيكل أو بيت "يهوه" بحصر المعنى، من القدس وقدس الأقداس، وهو ضعف مساحة المسكن الذى أقامه موسى تماماً. ومن ثم كان طوله ثلاثين متراً وعرضه عشرة أمتار. ويمتد أمام القدس الدهليز، وهو بعرض البيت فى طول خمسة أمتار.

وكان للقدس، الذى لم يكن مسموحاً بدخوله إلا للكهنة، شبابيك مرتفعة. أما قدس الأقداس أو المحراب الذى لم يكن مسموحاً بدخوله إلا لرئيس الكهنة، ومرة واحدة فى السنة فقط، فكان مظلماً تماماً.

وكانت تمتد على محيط بيت الله ثلاثة طبقات من الغرف، لحفظ أدوات الهيكل، والأقداس والنذور (3 مل 6 : 1 – 10).

ويبلغ ارتفاع رواق القدس أو الدهليز ثلاثون متراً، والقدس خمسة عشراً متراً. أما ارتفاع قدس الأقداس أو المحراب، فكان كطوله وعرضه أى عشرة أمتار، وإذن فهو عبارة عن عشرة أمتار مكعبة.

ولكى نعطى فكرة للقارئ عن فخامة هذا البناء وعظمته، نقول: إنه بنى جميعه بحجارة ثمينة تامة النحت. وقد ألبست جدرانه وسقوفه وأرضيته بخشب الأرز والسرو، ثم غشيت جميعها بالذهب الخالص. وقد نقشت على جميع جدران البيت صور ملائكة ونخيل وزهور مفتحة بارزة محكمة النقش. كما أن جميع أدوات بيت الله، التى صنعها سليمان كانت من الذهب الخالص (3 مل 6 : 14..).

وكان يحيط بالهيكل من مدخله وجانبيه، على أيام سليمان ساحتان كبيرتان: ساحة الكهنة، وساحة إسرائيل. وكانت الأولى، وهى المقام عليها الهيكل، أعلى من الثانية بخمس عشرة درجة، وفى وسطها مذبح المحرقات، والبحر، والمغتسلات العشرة، التى صنعها سليمان من النحاس المجلو.

وكان حول هاتين الساحتين أروقة كبيرة فسيحة، ذات أعمدة مرتفعة من الرخام، يتخللها عدد كبير من الغرف لسكنى الكهنة، والأغراض الأخرى المختلفة.

فى تدشين الهيكل :

ولما تم بناء الهيكل بجميع أقسامه، أدخل سليمان جميع الأقداس، التى أعطاه إياها داود أبوه، من الفضة والذهب، وجعلها فى خزائن بيت الرب (3 مل 7 : 51).

حينئذ جمع إليه شيوخ إسرائيل، وجميع رؤساء الأسباط، وكل عظماء الدولة إلى أورشليم، ليصعدوا تابوت عهد الرب من "صهيون" إلى الهيكل الجديد. فأصعدوه بفرح واحتفال عظيمين.

وما أن أدخل الكهنة تابوت الرب إلى مكانه فى قدس الأقداس، تحت أجنحة الكروبين العظيمين، اللذين صنعهما سليمان من داخل المحراب، حتى ملأ الغمام بيت الرب. فلم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب الغمام، المشير والمعلن بحلول الله فى بيته.

وإذ رأى سليمان أن مجد الرب قد ملأ الهيكل، قام فجثا على ركبتيه أمام مذبح الرب، أمام جماعة بنى إسرائيل كلها، وبسط يديه نحو السماء، وصلى صلاة طويلة، نقتبس منها الفقرات التالية، قال: أيها الرب إله إسرائيل، ليس إله مثلك فى السماء من فوق، ولا فى الأرض من أسفل.. إن السماوات، وسماوات السماوات لا تسعك، فكيف هذا البيت؟.. اللهم التفت إلى صلاة عبدك وتضرعه. ولتكن عيناك مفتوحتين على هذا الباب، والنهار والليل.. نحو تضرع عبدك وشعبك، واصغ إليهم فى كل ما يدعونك فيه.

وكان لما أتم سليمان صلاته، أن هبطت النار من السماء، فأكلت المحرقة والذبائح، وملأ مجد الرب البيت. وبذا تم تكريس الهيكل بجميع مذابحه وأدواته.

وعاين جميع بنى إسرائيل هبوط النار، ومجد الرب، فخروا بوجوههم إلى الأرض، وسجدوا لله جلَّ جلاله، معترفين بصلاحه تعالى ورحمته.

وذبح سليمان الملك أمام الرب ذبائح: اثنين وعشرين ألفاً من البقر، ومئة وعشرين ألفاً من الغنم، ما عدا ما ذبحه الشعب.

واحتفل سليمان وكل جماعه بنى إسرائيل بتدشين الهيكل أربعة عشر يوماً. صرفهم بعدها الملك إلى بيوتهم فرحين طيبى القلوب (3 مل 8...).

وتجلى الرب لسليمان ليلاً، وقال له: قد سمعت صلاتك، واخترت لى هذا المكان بيت ذبيحة، وقدسته ليكون اسمى فيه إلى الأبد (3 مل 9..)."[42]

مع هذا كله، فقد حاد سليمان عن طريق الحكمة واستسلم للشهوات على ما روت التوراة "ولذلك فإن كثيراً من العلماء ومفسرى الكتاب يشكون فى أمر خلاصه.

بعد موت سليمان انشقت دولة إسرائيل إلى مملكتين مملكه يهوذاً الخاضعة لرحبعام بن سليمان وعاصمتها أورشليم ومملكة إسرائيل الخاضعة لياربعام وعاصمتها شكيم ثم السامرة.

ويمكن تقسيم تاريخ هذه المملكة إلى ثلاث فترات: الأولى، فترة الحروب بين الدولتين الناشئتين، وتمتد حتى أواخر ملك آحاب.

الثانية: فترة سلام بين المملكتين الشقيقتين. وتمتاز هذه الفترة بظهور الأنبياء، ومنهم إيليا، وأليشاع الخ ...

الثالثة: فترة حروب أيضاً بين الدولتين، حتى خراب دولة إسرائيل على يد شلمنآسر ملك آشور، وجلائها إلى نينوى.

ويمكن القول أن كل ملوكها كانوا أشراراً، بما فى ذلك الملك عمرى الذى ملك 12 سنة (886 – 875 ق. م). والذى أسس مدينة السامرا التى صارت عاصمة الدولة، وكان معظمهم يعبدون العجل، أو البعل. وظهر وقتئذ بينهم إيليا الذى أوحى له الرب بأن يعظ الملك أحاب – سابع ملوك إسرائيل. ولما أمر الملك بقتله أوحى له الرب بأن يهرب إلى نهر كريت تجاه الأردن ويشرب منه وأن الغربان ستأتيه بطعامه. فكان يشرب من النهر وتأتيه الغربان بخبز ولحم كل يوم صباحاً ومساءاً (3 مل 17: 1-6). وأجرى الله على يدى إيليا معجزات عديدة حتى يرتدع حكامها وفى النهاية جاءت مركبة نارية، وخيل نارية فصلت ما بين إيليا وتلميذه المخلص أليشاع وطلع إيليا فى العاصفة النارية إلى السماء بينما خلفه أليشاع الذى حلت فيه روح إيليا فأطاعه بنو إسرائيل. وأظهر أليشاع معجزات عديدة منها تحويل المياه المرة إلى مياه حلوة. ومنها معاقبة فريق استهتر به فخرجت دابتان من الغاب وافترستا منهم اثنين وأربعين صبياً‍!. (4 مل 2 : 22) ومنها تكثير الزيت، ومنها إحياء ابن لامرأة تقية بعد أن مات من ضربة شمس، ومنها إصلاح الطعام السام، ومنها تكثير الخبز إذ جعل مائة رجل يأكلون من عشرين رغيفاً حتى شبعوا وفضل عنهم.. (4 مل 4 : 42). وشفاء نعمان الشامى قائد الجيش، كما كشف عن خطط ملك سوريا ضد مملكة إسرائيل، وكذلك إنقاذ مدينة السامرة.

وحدثت فتن أدت إلى قتل بيت آحاب الملك ومسح ياهو ملكاً على إسرائيل، وطهر المملكة من عبادة البعل، بعد أن أوهم الناس أنه سيقوم بتقديس البعل فجاء كل عباد البعل من كل أنحاء إسرائيل إلى السامرة، وفيما هم يقدمون الذبائح، للبعل أمر ياهو رجاله فضربوهم ضربا بحد السيف.

وملك ياهو على كل إسرائيل ثمانى وعشرين سنة. وهو مؤسس الأسرة الملكية الخامسة، التى قدر لها أن تعيش ما يقرب من المائة سنة. فقد قال الرب لياهو: حيث إنك أحسنت فى كل ما صنعت ببيت آحاب، فسيجلس من بنيك على عرش إسرائيل إلى الجيل الرابع.

بيد أن ياهو، وإن طهر مملكة إسرائيل من عبادة البعل الرجسة، إلا أنه لم يحد عن آثام ياربعام بن نباط، فعبد مثله الرب الإله تحت صورة عجلى الذهب، اللذين فى بيت إيل ودان.

ولذا فإن الرب سلط عليه حزائيل ملك أورام. فكال حزائيل الضربات لإسرائيل قاسية، حسب نبوة أليشاع رجل الله. واقتطع من تلك المملكة، التى كانت تحيط بها الأعداء من الجنوب والشمال، كل مدن شرقى الأردن، من عروعير إلى جلعاد وباشان. ولم ينج ياهو من نير آشور، فدفع الجزية لملكها شلمنآسر الثالث (4 مل 10..).

ومات ياهو، فخلفه على عرش إسرائيل ابنه يوآحاز (814 – 798 ق. م). الذى أضحت فى أيامه دولة إسرائيل – فى فترة من الزمن على الأقل – عبارة عن ولاية خاضعة لملوك دمشق الآراميين.

فلم يكن ليوآحاز سوى خمسين فارساً، وعشر مراكب حربية، وعشرة آلاف راجل. وهى القوة التى كان يسمح بها لحكام الأقاليم الخاضعة للممالك الكبرى فى ذلك الزمن (مل 3: 1-8).

ونهضت بعد ذلك إسرائيل نهضة بلغت أوجها فى عهد ياربعام الثانى الذى ملك إحدى وأربعين سنة (784 – 744 ق. م) على أن هذه النهضة المادية العظيمة، التى لم تكن تستند على أسس ثابتة من الأخلاق وروح الدين، لم تلبث أن أخذت فى الانهيار. وقد بدأ هذا الانهيار بوضوح بعد موت ياربعام، وارتقاء زكريا ابنه بالعرش. وهنا تبدأ الفترة الثالثة والأخيرة من تاريخ دولة إسرائيل. وهى فترة تقهقر واضمحلال بطىء انتهى بفناء هذه الدولة.

ومن ملوك هذه الحقبة الأخيرة :

زكريا بن ياربعام، هو آخر ملوك الأسرة الخامسة، التى أسسها ياهو. لم يملك على إسرائيل أكثر من ستة أشهر، فقد تآمر عليه شلوم بن يابيش، وقتله علناً أمام الشعب، وملك مكانه. (4 مل 15 : 8 – 12).

ولم يتمتع شلوم قاتل سيده، بالحكم أكثر من شهر، فقد تحالف عليه منحيم الترصى، وقتله فى السامرة، وملك مكانه (4 مل 15 : 13 – 15).

واستطاع منحيم أن يملك على إسرائيل عشر سنين (744 – 735 ق. م)، ولكن بالقوة الجبرية. وبما أنه كان يعرف أن عرشه متزعزع، فقد أعطى لفول، وهو تجلت فلآسر الثالث ملك أشور، ألف قنطار من الفضة، حتى تكون يده معه لإقرار الملك فى يده. فكان يدفع بانتظام هذه الجزية سنوياً، مغتصباً قيمتها من الشعب. (4 مل 15 : 16 – 22).

أما ابنه فقحيا فلم يملك أكثر من سنتين (735 – 733 ق. م)، فقد تآمر عليه أحد قواده المدعو فاقح، وقتله فى قصره مع عدد من حاشيته، وملك مكانه. (4 مل 15 : 23 – 26).

وفى عهد فاقح (733 – 731 ق. م) اكتسح آشور إسرائيل، وأضحت خراباً يباباً، ولم يبق منها إلا مقاطعة السامرة وما يحيط بها من أقاليم جبلية، وجاء دورها هى الأخرى على يد سرجون الأشورى الذى حاصرها وفتحها وأعمل السيف فى رقاب أهلها، وأخذ معه من رجال إسرائيل قرابة ثلاثين ألف أسرى إلى آشور وذلك فى سنة 722 ق. م. (4 مل 17 : 5 – 6).

كما أسكن لفيفاً من أشور وأعمالها مدينة السامرة فنشأ عن ذلك الشعب الذى عرف باسم السامريين.

مملكة يهوذا :

أما مملكة يهوذا فمع أنها لم تكن لها مساحة ولا كثافة مملكة إسرائيل، إلا أنها كانت تمتاز عنها بطابع الوحدة كما أنها كانت تضم أورشليم وهى العاصمة القديمة ولهذا قدر لها أن تعيش قرابة 346 سنة تبدأ من 932 – 586 ق. م.

ويمكن تقسيم تاريخ مملكة يهوذا إلى فترتين طويلتين، تمتد الأولى: من نشأة هذه الدولة، حتى سقوط دولة إسرائيل. والثانية: من سقوط دولة إسرائيل حتى سبى بابل.

وتمتاز الفترة الأخيرة من تاريخ يهوذا، بصراع هذه الدولة المستميت ضد أعداء أشداء، كملوك مصر وبابل. وكان صراعاً للبقاء، انتهى بغلبة الأقوى، أى بغلبة بابل، وزوال دولة اليهود، ولو إلى حين.

وفى عهد الملك رحبعام هاجم شيشان ملك مصر أورشليم ونهبها وأخذ كل نفائس بيت الرب. وخلف رحبعام ابنه أبيا أو أبيام وجرى على جميع خطايا أبيه من عبادة الأصنام والإلهة الغريبة. وحارب أبيا وشعبه ياربعام وهزمه وسقط من إسرائيل خمس مائة ألف رجل (3 مل: 1 – 8). وجاء بعده آسا ابنه، ومن بعده يوشافاط الذى يعد من أتقى ملوك يهوذا، إلا أن نهايته لم تكن سعيدة لأنه ارتكب عدة أخطاء كان منها زواج ولى عهده يورام من عتيليا ابنه إيزابيل ذات الشهرة السيئة. ولهذا فعندما ولى يورام العرش كان من أسوأ ملوك يهوذا وأول عمل قام به هو أنه قتل جميع إخوته بحد السيف مع جماعة من رؤساء إسرائيل فغضب عليه الرب وأرسل إليه رسالة عن طريق إيليا وأنذره فيها بضربة عظيمة من الرب مع بنيك وأزواجك ويضربك أنت بأمراض كثيرة حتى تتساقط أمعاؤك بسبب المرض. وتحققت هذه النبوءة بهجوم الفلسطينيين والعرب على يهوذا وافتتحوها وأصيب يورام بالمرض حتى خرجت أمعاؤه.

ويتوالى الملوك أحزيا (842 ق. م) وعتليا وهى أم أحزيا (842 – 836) وبوآش (836 – 797) وأمصيا 797 – 769 وعزيا وهو المدعو أيضاً عذريا 769 – 737 وهو الذى استولى على إيلت على البحر الأحمر وجدد بناءها بحيث أصبحت من أعظم أسواق التجارة ببلاد الجنوب إلا أنه لما تمكن، طمح قلبه للفساد، وشاء أن يستأثر بالسلطة الكهنوتية أيضاً. ودخل يوماً الهيكل ليقرب على مذبح البخور، فقاومه عزريا رئيس الكهنة وكان لفيف الكهنة معه، غير أنه لم يسمع لهم، واشتد حنقه عليهم، فضربه الله إذاك بالبرص، فاضطر إلى الخروج من الهيكل، وقد شمله الخزى والخجل. ويوتام (737 – 733) وآحاز (733 – 718) الذى استنجد بملك آشور وحزقيا (718 – 689 ق. م) الذى يعد أعظم ملوك يهوذا بعد داوود. لم يكن بعده مثله فى جميع ملوك يهوذا ولا فى الذين كانوا من قبله (4 مل 18 : 3 – 5) وأعاد الإيمان بالدين وخلص البلاد من آثار الوثنية. وفى عهده زحف سنحاريب ملك آشور على مدن يهوذا وأخذها جميعاً ما عداً العاصمة واضطر حزقيا إلى أن يطلب الصلح معه على أن يدفع جزية. وقبل سنحاريب بعد أن فرض جزية ثقيلة للغاية أتت على كل ما فى أورشليم وأرسل ثلاثة من قواده على رأس جيش عظيم.

فلما سمع حزقيا تهديد وتجديف رسل ملك آشور، مـزّق ثيابـه ودخــل بيت الـرب لابساً المسـح[43] متذللاً. وسمع أشعيا النبى بالأمر فأرسل إلى حزقيا يقول: هكذا يقول الرب، لا تخف من الكلام الذى سمعته، مما جدف به علىَّ غلمان ملك آشور، فإنى أجعل فيه روحاً، فيسمع خبراً، فيرجع إلى أرضه، وأسقطه بالسيف فى أرضه.

وكان فى تلك الليلة أن خرج ملاك الرب وقتل من جيش آشور مائة وخمسة وثمانين ألفا فرجع سنحاريب إلى أرضه وأقام بنينوى. وفيما هو ساجد، يوماً، فى بيت "نسروخ" إلهه قتله أدْرَمَّلك وشرآصر ابناه بالسيف، وهربا إلى أرض أراراط.

وفى تلك الأيام مرض حزقيا، حتى أشرف على الموت، فوافاه أشعيا بن آموص النبى وقال له: "هكذا يقول الرب: أوص لبيتك لأنك تموت ولا تعيش". فحول حزقيا وجهه إلى الحائط، وأخذ يبكى، وصلى قائلاً: "اذكر يا رب كيف سلكت أمامك بالحق وسلامة القلب".

فلم يخرج أشعيا إلى وسط الدار، حتى صار إليه كلام الرب قائلاً: ارجع وقل لحزقيا، إنى قد سمعت صلاتك ورأيت دموعك وهاءنذا أشفيك وفى اليوم الثالث تصعد إلى بيت الرب. وسأزيدك على أيامك خمس عشرة سنة.

وقال حزقيا لأشعيا: ما الآية على أن الرب يشفينى فأصعد فى اليوم الثالث إلى بيت الرب؟ فقال أشعيا هذه آيه لك، أيتقدم الظل عشر درجات، أم يرجع عشر درجات؟ فقال حزقيا: ليرجع الظل إلى الوراء عشر درجات. فهتف أشعيا إلى الرب. فأرجع تعالى الظل فى الدرجات التى نزلها عشر درجات إلى الوراء".

ومع هذا كله فقد تملكته روح الكبرياء حتى استحق غضب الرب الذى أعلن له على لسان أشعيا. "أنها ستأتى أيام يؤخذ منك كل ما فى بيتك مما أدخره آباؤك إلى هذا اليوم. إلى بابل ويؤخذ من بنيك فيكونون خصيانا فى قصر ملك بابل (4 مل 20: 17 – 18).

وكانت تلك نبوءة تحققت فى عهد ابنه منسى الذى كان شر خلف لأصلح سلف إذ استخدم السحر وأقام المذابح الوثنية داخل بيت الرب فى المكان المقدس نفسه فكان عاقبة ذلك أن سلط الله قواد جيش آشور فأخذوه فى الأصفاد وأوثقوه بسلسلتين من نحاس وذهبوا به إلى بابل.

وملك آمون ابنه مكانه. فصنع الشر كما صنع منسى أبوه، وعبد الأصنام، تاركا الرب إلهه. فتحالف عليه عبيده، وقتلوه فى بيته، بعد سنتين فقط من ملكه (641 – 639 ق. م). (4 مل 21 - 18.. و2 أى 33: 20).

وأقام الشعب خلفاً لآمون يوشيا ابنه، وكان ابن ثمانى سنين. وقد ملك بأورشليم إحدى وثلاثين سنة (639 – 609 ق. م). وصنع يوشيا القويم فى عينى الرب. ومضى فى كل طرق داود أبيه، ولم يعدل عنها يمنة أو يسرة.

وأول عمل قام به لما بلغ أشده، وكان ذلك فى السنة الثامنة عشرة لملكه، ترميم الهيكل ترميماً شاملاً، وتطهيره من تماثيل الآلهة الوثنية، وأدوات عبادتها، وحرق الكل فى وادى قدرون، خارج أورشليم.

وفيما كانت أعمال الترميم قائمة على قدم وساق فى بيت الرب، وجد حلقيا الكاهن العظيم سفر التوراة، فدفعه إلى شافان كاتب الملك. ودفعه شافان إلى الملك، فلما قرأه يوشيا مزق ثيابه، لأنهم لم يعملوا بأحكامه، لا هم ولا آباؤهم.

وسألوا حُلدة النبية بخصوص ما جاء فى السفر، فقالت لهم: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: هآنذا جالب الشر على هذا المكان وعلى سكانه، من أجل أنهم تركونى وقربوا لآلهة غريبة، فاضطرم غضبى على هذا المكان ولن ينطفئ.

وأما ملك يهوذا، فهكذا تقولون له: من أجل أنه لان قلبك وخشعت عند سماعك ما قلته على هذا المكان وعلى سكانه، فمزقت ثيابك وبكيت أمامى، فهآنذا أضمك إلى آبائك، فتنضوى إلى قبرك بسلام، ولا ترى عيناك الشر، الذى أنا جالبه على هذا المكان.

وامتدت حركة الإصلاح، التى قام بها يوشيا إلى جميع أطراف يهوذا وإسرائيل، فأزال المذابح والمشارف التى تجاه أورشليم، التى بناها سليمان لعشتاروت، وملكوم، وكموش، وحطم الأنصاب، وقطع الغابات. وأيضاً المذبح الذى فى بيت إيل فى المشرف الذى أقامه ياربعام بن نباط هدمه مع المشرف، وأخذ عظاماً من القبور فأحرقها على المذبح، ونجسه على حسب قول الرب.

وذبح يوشيا جميع كهنة المشارف الوثنية التى بالسامرة، وأحرق عظام الموتى عليهم تنجيساً لهم. كما أزال أصحاب التوابع والعرافين من أورشليم ويهوذا.

كما قد يمكن الإشارة إلى يوآحاز (609 ق. م) الذى أسره فرعون مصر هو وبعض اليهود حيث مات فى الأسر بمصر.

على أن النهاية الحقيقية لأورشليم جاءت مع تولى نبوكدنصر (بختنصر) الحكم فى بابل إذ أرسل جيشاً إلى يهوذا استولى على أملاكها وأعمل السيف فى رقاب أهلها وبدءوا فى حصار أورشليم واستسلم الملك يويا كين فأخذه ملك بابل هو وأمه وعبيده ورؤساء خصيانه وكل عظمائه، وأجلاهم إلى بابل، مع نفائس آنية بيت الرب.

كما أجلى جميع الرؤساء والمقتدرين من ذوى الأملاك، عشرة آلاف نفس، ومن رجال الحرب، سبعة آلاف نفس، ومن الصناع المهرة ألف نفس، وعدداً آخر غير معلوم من السكان، ولم يبق فى المدينة إلا فقراء الشعب (4 مل 24 : 6 – 16). وأقام نبوكدنصر، صدقيا واليا وأخذ عليه العهود على أن يكون مخلصاً لبابل. ولكنه بعد عدة سنوات ثار على نبوكدنصر، الذى عاد على رأس جيش عظيم قهر صدقيا، وأخذوه إلى ملك بابل الذى ذبح جميع أبنائه أمام ناظريه وفقأوا عينيه وأوثقوه بسلسلتين من نحاس وأخذوه إلى بابل.

ودخل الجيش الظافر المدينة المقدسة وأعملوا السيف فى رقاب جميع سكانها، دون أن يشفقوا على فتى أو عذراء، ولا على شيخ أو أشيب.

وما أن جمعوا كل نفيس فى المدينة، وجميع آنية بيت الله الكبيرة والصغيرة، وخزائن بيت الرب، وخزائن الملك ورؤسائه لتضم إلى كنوز نبوكدنصر ببابل، حتى أخذوا فى حرق الهيكل، وبيت الملك، وجميع بيوت العظماء. وبعد ما أحرقوا ودكوا كل معالم المدينة وما فيها من قصور، هدموا أسوارها جميعها، فلم يبق من أورشليم المدينة الزاهرة غير كوم من الخرائب (586 ق. م).

أما الذين نجوا من السيف فجلاهم نبوكدنصر إلى بابل، حيث صاروا عبيداً له ولبنيه، حتى ملكت دولة فارس لكى يتم ما تكلم به الرب بفم إرميا النبى، حتى استوفت الأرض سبوتها، لأنها سبتت كل أيام خرابها، إلى تمام سبعين سنة.

وأما من بقى من الشعب فى أرض يهوذا، فقد ولى أمرهم يهودى اسمه "جدليا". فلما مات هذا، بمؤامرة من اليهود أنفسهم، قاموا جميعاً من الصغير إلى الكبير، وأتوا مصر، لأنهم خافوا انتقام الكلدانيين. وفى مصر أسسوا جالية كبرى زاهرة. (4 مل 24:17.. و25.. و2 أى 10: 36:10).

f

فى الفترة الأخيرة من ملك يهوذا والتى عاصرت تدمير الهيكل وسبى الشعب إلى بابل ظهر الأنبياء الكبار الذين حفظوا التراث اليهودى من الاندثار، وأضافوا إليه إضافات تعززه، بما فى ذلك – فيما نرى – الوعد المحورى وعد يهوه لإبراهيم بامتلاك الأرض التى من نهر مصر إلى نهر الفرات الكبير.

من هؤلاء الأنبياء أشعيا الذى أمر الملك منسى بنشره حيا فمات شهيداً سنة 696 ق. م.

ويعد أشعيا من أعظم كتبة العهد القديم.

أما إرميا فهو الذى ندب إسرائيل وتنبأ لها بكل مصيرها. وكان إرميا من جمله من أبقاهم نبوكدنصر فى أرض يهوذا حيث جلس وسط ذلك الخراب يبكى ويرثى شعبه بتلك المرائى التى طبقت شهرتها الآفاق مثل "كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب!.. صارت كأرملة، العظيمة فى الأمم. السيدة فى البلدان صارت تحت الجزية. كل شعبها متنهدون، ملتمسون طعاماً. بسطت صهيون يديها، ولا معزى لها. ألم يبلغكم يا جميع عابرى الطريق؟ تأملوا وانظروا، هل من وجع كوجعى.. بماذا أعظك، وماذا أشبه بك، يا بنت أورشليم؟ إن حطمك عظيم كالبحر، فمن ذا يشفيك".

وكان لما هرب اليهود، الذين بقوا فى يهوذا، إلى مصر، أنهم اضطروا إرميا النبى إلى الذهاب معهم. وهناك بعد مدة رجموه، لكى يتخلصوا من توبيخه لهم على سوء سلوكهم، فمات شهيداً.

ومن أشهر نبواته: نبوته عن السبعين سنة، التى دامها الأسر البابلى وعن عودة مملكتهم إلى الظهور من جديد، بعد تلك المدة.[44]

أما حزقيال فقد كان من أصل كهنوتى من جمله من جلاهم بنوكدنصر إلى بابل وبدأ رسالته كنبى فى بابل فى السنة الخامسة من الجلاء.

وقد تنبأ حزقيال فى بابل اثنين وعشرين سنة. ونبوآته مليئة بالرموز والرؤى، مما يجعل فهمها وتفسيرها فى غاية الصعوبة. ومن أشهر نبواته: وصف الإنجيليين الأربعة، والدينونة العامة، وقيامة الموتى فى اليوم الأخير.

وأخيراً فهناك دانيال النبى الذى كان من جمله الذين أخذوا فى السبئ إلى بابل واشتهر بتفسير الرؤيا وتحقيق معجزات عديدة وقد شغل منزلة رفيعة لدى ملك الآشوريين.

من هذا يتضح أن السبئ البابلى وإن قضى على اليهود كدولة، فإنه عزز وجودهم كشعب، وهذه الفترة بالذات هى التى سجلت أجمل ما جاء فى "الميثولوجيا اليهودية" خاصة تصوير لوعتهم من الأسر وشوقهم المحرق للعودة إلى أورشليم، "والتى أصبحت من مأثورات الكتابات اليهودية" على أنهار بابل هناك جلسنا فبكينا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف فى وسطها علقنا كنانيرنا. هناك سألنا الذين سبونا نشيداً، أن رنموا لنا من ترانيم صهيون. كيف نرنم ترانيم الرب فى أرض غربة. إن نسيتك يا أورشليم، فلتنسنى يمينى. ليلتصق لسانى بحنكى إن لم أذكرك."

ولكن الواقع أن اليهود لم يقضوا حياتهم فى ندب صهيون فإنهم عوملوا معاملة حسنة حتى إن كثيراً من اليهود، حينما صرح لهم بالعودة إلى بلادهم، فضلوا البقاء فى أرض المنفى، على العودة إلى وطنهم. "ولعلنا نذكر أنها هى نفسها المقر الأصلى لإبراهيم، وأن صهيون هى أرض الغربة التى جعلوها أرض الميعاد، ومن ثم وطنهم"، ولا سيما أن البعض كان قد أثرى ثراءً فاحشاً، وارتقى البعض الآخر أرقى مناصب الدولة، مثل دانيال النبى، ويكنيا الملك، الذى ردت له منزلته ومقامه الملكى (4 مل 25: 27 و28).

كما أعطيت لأفراد الجالية اليهودية حريات واسعة، فيما يتعلق بشؤون دينهم، فكان لهم الحق فى أن يجتمعوا كيفما شاءوا لقراءة التوراة، وإقامة الشعائر الدينية. (باروك 1 : 3).

وازدهرت أحوالهم فيها كما لم تزدهر خلال تلك السنوات الحافلة بالحروب والمؤامرات والدسائس والهزائم فى فلسطين. ومن هنا فنحن نظن أن هذه الفقرات التى تمثل اللوعة لمغادرة أورشليم إنما أدرجت فى مراحل لاحقة عندما تركز الأمل الصهيونى فى فلسطين.

على كل حال عاد اليهود إلى أورشليم بفضل سماحة كورش الفارسى الذى انتصر على الآشوريين والبابليين – بعد سبعين سنة من خروجهم منها. ولم يكن هذا الرجوع عاماً لأن الكثيرين فضلوا البقاء حيث أثروا ثراءً عظيماً – فضلاً عن أن عدداً آخر تأثر بالحضارة البابلية وآدابها وعقائدها.. بحيث آثر البقاء ..

وبعد جهد جهد، ومرور اثنين وعشرين عاماً أعاد اليهود بناء الهيكل. وقد ساعدهم كورش مساعدة كبيرة ولكن الفلسطينيين بمختلف طوائفهم حالوا دون أن يمضى العمل بسهولة، مما دفعهم لبناء أسوار حول أورشليم.

لم ينعم اليهود بعد عودتهم من جلاء بابل، بالاستقلال التام، إلا فى عهد المكابيين. أما فيما عدا هذه الفترة، التى تقدر بثمانين سنة، فقد ظلوا خاضعين لنفوذ الدول الأجنبية، حتى اندثار أمتهم وتشتتها بين الشعوب فى السنة السبعين للميلاد على يد الرومان.

فمن سنة 537 إلى سنة 330 كان اليهود يدفعون الجزية لدولة الفرس. ومن سنة 330 إلى سنة 323 للاسكندر الأكبر. ثم للبطالسة بمصر من سنة 323 إلى سنة 203 ثم للسلوقيين بسوريا من سنة 203 إلى سنة 166 ق. م.

وفى سنة 166 ق. م استطاع اليهود بعد جهاد طويل، أن يتخلصوا من حكم السلوقيين الجائر. ويرجع الفضل فى ذلك للأخوة المكابيين، الذين استقلوا بحكم بلادهم منذ تلك السنة حتى سنة 40 ق. م أخيراً خضع اليهود للدولة الرومانية، وذلك من سنة 40 ق. م إلى سنة 70 للميلاد.

خلال الحقبة الرومانية (حوالى سبعة قرون) خضدت شوكة اليهود فى فلسطين بعد المعارك الطاحنة مع الرومان التى استأصل فيها الرومان المقدسات اليهودية، وساء الوضع عندما اصطنعت الإمبراطورية الرومانية المسيحية لأن المسيحيين يؤمنون بأن اليهود هم سبب صلب المسيح وأن الوالى الرومانى عندما عرض العفو عن واحد من المحكوم عليهم بالصلب وهما المسيح ولص يدعى بارباس أجمع اليهود على أن يعفو عن بارباس فلم تكن الإمبراطورية الرومانية البيزنطية بأحنى على اليهود من الإمبراطورية الرومانية الوثنية. وأنست هذه التطورات الكاسحة اليهود وساوسهم ثم جاء العرب مع الإسلام، وكان لليهود موقف معادى للإسلام ومع هذا فإن سماحته حالت دون النيل من حقوقهم. ولكن لم يكن بالطبع لليهود أمل فى "صهيون" فى ظل الإسلام لأن أورشليم أصبحت مقدسة لدى المسلمين باعتبارها أولى القبلتين وثانى الحرمين وغاية الإسراء وبداية المعراج.

وفى هذا الوقت كانت الحظوظ تتقلب باليهود فى أوربا فطوراً تسمح لهم وطوراً تطردهم وعرف عن روسيا وبولندا اضطهاد اليهود وحدوث مذابح لهم. ولكن اليهود فى النهاية تمكنوا من دخول المجتمع الأوربى، بل والتغلغل فيه طريق الميثولوجيا اليهودية (التوراة) التى اعتبرت أصلاً للديانة المسيحية، ونتيجة لامتلاك اليهود الأموال لأنهم كانوا الذين يتعاملون مع الذهب والفضة كسلعة باعتبارهم الصاغة، ولأنهم وحدهم كانوا يقرضون النبلاء والملوك بفائدة، إذ كانت الفائدة محرمة على المسيحيين. ومكنهم هذا من تكوين البنوك وأن يكونوا سادة المال. يضاف إلى هذا حرصهم على العلوم باعتبارها أقوى وسيلة ترفع من منزلتهم لذلك فإنهم فى بريطانيا، وفى فرنسا، وفى ألمانيا والنمسا احتلوا مراكز مرموقة تفوق ما وصلت إليه أقلية أخرى. وكان ذلك مثار ضيق فى فرنسا ظهر فى قضية "دريفوس" وفى ألمانيا عندما رأى هتلر أن اليهود قد هيمنوا على الصحافة، والرأى العام، والمهن – باختصار على الشعب الألمانى – وكانت الدولة التى ركزوا جهودهم عليها هى بريطانيا واستطاعوا فى النهاية الحصول على وعـد بلفور ..

- 4 -

من وعد بلفور حتى الفترة الراهنة

كان المخاض الذى أدى لظهور دولة إسرائيل مخاضاً دموياً عسيراً نشأ عن زيجة انعدمت فيها الشرعية تماماً. فلم يكن من حق بريطانيا أن تعطى اليهود وطناً قومياً فى فلسطين لأنه لا علاقة شرعية بين بريطانيا وفلسطين التى كانت وقتئذ تحت حكم الأتراك وكان وعد بلفور ينص على "وطن قومى" لليهود مع ملاحظة عدم المساس بحقوق السكان الموجودين فى فلسطين. ولكن اليهود ما إن تمكنوا حتى أعلنوا عن دولة إسرائيل التى بدأت من اليوم الأول لها فى اغتيال حقوق السكان، بل قل إنها قامت على حقوق الفلسطينيين.

إن ظهور إسرائيل، وما سبقه من إرهاص ثم ما لحقه من مخاض دموى عسير لم يقف عند ولادة إسرائيل، بل تفاقم بولادتها الذى لم يكن إلا نتيجة لعاملين مفتعلين حَكَمَا المأساة اليهودية ..

العامل الأول: إننا نرى فى سفر التكوين، وجنبا إلى جنب التصورات البدائية الخرافية لتكوين الكون ونشأة الإنسان منذ أربعة آلاف سنة وظهور أدم وتسلسل أبنائه ابنا ابنا حتى ظهور إبراهيم فى مدينة أور. نرى المبدأ الذى بلور المأساة كلها. نرى إلها يهب شعباً واحداً على وجه التعيين أراض شاسعة من "نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات" ولم تكن هذه المنطقة خلاء أو دون سكان. بل كان فيها سكانُ يعددهم الوعد القلزانيين، والقدومانيين، والحيثيين واليابوسيين والكنعانيين، ويكفل الوعد لإبراهيم ونسله (من ابنه اسحق) وابن اسحق يعقوب الغلبة والسيطرة على هذه الأقوام، وأن سلالة يعقوب – الذى سيحمل اسم إسرائيل هو الجنس المختار من الإله، وأنه أفضل العالمين.

هذه البداية "الغلط" والتى لا نجدها فى أى دين، ولا يستسيغها أى نظام سياسى هى التى هيمنت وحكمت القضية من العهود القديمة حتى آباء الصهيونية الحديثة: إله. وجنس. وأرض وكانت هذه هى لب "الميثولوجيا اليهودية" لأنه لا يعقل أن يصدر إله هذا الوعد لهذا الجنس، ولكن هذا القسم من الميثولوجيا كان هو الذى استبد بلب وفكر ونفس اليهود فكلهم يعودون إلى الوعد الذى وعده الرب لإبراهيم ..

ومنه بدأت المشاكل ...

بدأت مع دخول يوشع هذه الأرض التى أطلق عليها أرض الميعاد وبدأت سلسلة لا تنتهى من الحروب والمؤامرات والهزائم والانتصارات تمكن فيها الفلسطينيون من هزيمة اليهود مراراً وأخذوا فى إحدى المرات "تابوت العهد" كما انتصر اليهود فى حالات أخرى، ولكن الميثولوجيا اليهودية تنسب هذه الانتصارات إلى يهوه – إله اليهود الذى يؤخر لهم الشمس ويفتح لهم النهر، ويجعل دوى الأبواق يسقط أسوار أريحا ويوقع بأعدائهم الآفات والأمراض وينزل ملاك الرب ليقتل منهم عشرات الألوف.. وبالمثل فإن هزائم اليهود تعود إلى أنهم "عملوا الشر" وآمنوا بآلهة وثنية، وعبدوا البعل والعجل. وتزوجوا من وثنيات... ففى هذه الحالات يوقع الرب عليهم الهزائم، ولا يرفعها عليهم إلا بعد استجداء أنبيائهم، وتقديم القرابين والمحرقات الخ... وعندئذ يرضى عنهم، وظل هذا من يوشع حتى المكابيين كما يتضح لكل من يلم بالتاريخ اليهودى.

فإذا صدق المؤرخ هذه الروايات. فلا يكون لليهود فضل فى الانتصار أو وزر فى الهزيمة لأن يهوه هو صاحب الانتصار والهزائم فهو يحارب عنهم، كما يوقع الهزيمة بهم. وإذا شك فى هذه الروايات – وهو ما يمليه العقل – فإن هذا يثير الشك فى مصداقية الميثولوجيا كلها ..

والمؤكد على كل حال أن إقامة اليهود فى فلسطين منذ دخول يوشع لم يخل من قلائل وهزائم، وحتى عندما توصلوا إلى تكوين دولتيهم فإن بركات ولعنات يهوه كانت هى العامل الفاصل. ولم ينج من لعنة يهوه أكبر ملوكهم داود وسليمان، وقد عنينا بإيراد ملخص تلك الملاحم حتى يأخذ القارئ فكرة عنها ..

ومن يراجع تاريخ اليهود فى تلك الفترة السحيقة يجد وجوه شبه عجيبة بما تفعله إسرائيل الآن. فقد استولى داود على القطاع الأعلى من أورشليم من سكانه الأصليين البيوسيين لكى يقيم الهيكل وأقام الكاهن نحميا سوراً حول أورشليم ليحميها من غزوات سكان المنطقة. وهى ممارسات يقوم بها شارون الآن ...

إن الخطأ هو فى صميم القضية. فلا يمكن أن يدعى جنس ملكية أرض لأن إلههم وعدهم، ولا يمكن لإله أن يعد جنساً بأرض لها سكانها ولا يمكن لدين أن يقوم على جنس وأرض، إلا إذا وجد إله "ملاكى" خاص ببنى إسرائيل يفضلهم على العالمين. ويكفل لهم النصر ما ظلوا مطيعين لأوامره وتعليماته خاصة الختان وملاحظة يوم السبت.

إننا نجد خليطاً من العنصرية، والعقيدة والسياسة فى بوتقة واحدة وهى كلها عناصر متناحرة لا يمكن أن تصهر لتوجد "سبيكة".

وإذا كانت السلطة التى هى خصيصة الدولة قد زحفت على المسيحية فأفسدتها، وزحفت على الخلافة الإسلامية فحولتها ملكاً عضوضاً. فإن السلطة كانت جزءاً لا يتجزأ من القضية اليهودية، لأنها قامت على "أرض" منحت لهم دون سكانها الأصليين فكانت السلطة ممثلة فى الجيش هى أداة استخلاص الحق المزعوم ولهذا فإن الفساد صاحبها طوال تاريخها. بل كان جزءاً لا يتجزأ من كيانها، وعندما انطفأت جذوة الدولة الفلسطينية بعد الاستئصال الرومانى وما تلاه من قرون متوالية جاء هرتزل فأعادها جذعة وقال بصريح العبارة "إن المشكلة اليهودية ليست مشكلة اجتماعية أو دينية مع أنها فى بعض الحالات تتخذ هذين الطابعين إنها مسألة قومية. ولإيجاد حل لها يجب أن ننظر إليها على أنها مشكلة سياسية.. "والسبيل إلى حل المشكلة اليهودية هو تكوين دولة تتجمع فيها تلك العناصر المشتتة وتكون فيها الإرادة السياسية إرادة يهودية تعبر عن تلك الجماعة التى هى شعب واحد امنحونا السلطة فوق قطعة من الأرض فى هذا العالم تكفى حاجاتنا القومية المشروعة.. إن خلق دولة جديدة ليس بالأمر الغريب أو الصعب. ألم نَرَ تكوين دول فى عصرنا هذا علماً أنها أكثر منا فقراً وأقل ثقافة وأكثر ضعفاً ؟

فعادت المشكلة مدججة بالأسنة البريطانية وفى حماية الانتداب ومزودة بالمال.. والعلم والمهارات وظهرت آثار ذلك فى اختلاف موجات الهجرة التى عاصرت أو أعقبت الفكر الأوربى الصهيونى كما عرضه هرتزل، عن الهجرات السابقة عليها التى كان يتعايش أهلها مع العرب ويتعاطفون معهم. إن الهجرات الجديدة أرادت بناء "دولة" بدون العرب، أو بمعنى أصح بإبعاد العرب ..

إلى جانب هذا العامل الأصولى فى العقيدة التى شكلت النفسية اليهودية وضمت العنصر والأرض والإله.. فهناك خطأ عملى وقع فيه الذين طالبوا بالدولة اليهودية.. والذين طبقوها بالفعل، فكما قلنا لم تكن بريطانيا تمثل فلسطين أو لها علاقة رئاسة أو إشراف فقد كانت فلسطين تتبع السلطة العثمانية وكان الإنجليز أنفسهم يتعهدون للشريف حسين بدولة عربية من فلسطين حتى الحجاز ...

"وفى 27 فبراير سنة 1919 وقف مندوب الحركة الصهيونية فى مؤتمر الصلح "ميناحيم أو سيسكين" يدافع عن قضيته فيقول "باسم أكبر جماعة يهودية تلك التى توجد بروسيا أقف أمامكم اليوم أنتم يا قادة العالم لأصوغ الطلب التاريخى للشعب اليهودى: أن تَدَعوه يعود إلى حدوده، أن تعطوا أبناء إسرائيل الأرض التى وعدوا بها منذ أربعة آلاف عام من السلطة العليا، الأرض التى عاش فيها أجدادنا والتى خلفوا فيها حضارة رائعة خالدة، الأرض التى منها عقب ذلك استمدت جميع شعوب الأرض خير ما يملكون من ثروات روحية. هذه الأرض التى انتزعت من اليهود بالعنف منذ ألف وثمانمائة عام بواسطة الرومان أسياد العالم فى تلك الفترة. الشعب اليهودى حكم عليه بأن ينفى من أرضه وبأن يشتت فى جميع أنحاء العالم. وأنا اليوم ابن هؤلاء الذين حكم عليهم بالنفى الإجبارى، وباسم هذا الشعب الجريح قد أتيت أمامكم، أنتم ورثة الرومان سياسيا وحضارياً لأصوغ مطالبى: أعيدوا إلينا موضوع ذلك السطو التاريخى."

إن هذه الدعوى التى تقدم بها صهيونى أوربى إلى السلطة الأوربية العليا وقتئذ، والتى تنسب إلى الرومان القدامى اغتصاب حق اليهود، وتطالب ورثة الرومان بإعادة الحق السليب إلى أهله تنسى أن الأرض التى وعدوا بها من السلطة العليا – ولم يكن يستطيع أن يقول يهوه إله إسرائيل – كان بها سكان وأن اليهود اغتصبوا هذه الأرض من هؤلاء السكان ثم نسى بكل بساطة ألف وأربعمائة سنة من الحكم الإسلامى الذى جاء بعد الرومان، والذى زود المنطقة وأعطاها اللغة العربية، والإسلام وجعلها مركزاً لحضارة أعظم من الحضارة الرائعة والخالدة التى يشير إليها هذا الدعى سواء كانت الحضارة اليهودية أو الحضارة الرومانية.. فكانت عاصمة للخلافة الأموية الزاهرة وأنجبت أجيالاً بعد أجيال طوال أربعة عشر قرنا ثم يأتى هذا الصهيونى فلا يأبه لهذا، ولا يشير إليه، كأنه لم يحدث وكأن التاريخ وقف عند الرومان أو كأن العرب والمسلمين لا يستحقون الإشارة ..

إن تجاهل حقيقة أن فلسطين كان لها سكانها عندما دخلها يوشع وطوال السيطرة الرومانية، ثم تجاهل العهد الإسلامى الذى لم ينقطع واعتبارها "أرضا دون شعب لشعب دون أرض" كان تجاهلاً لحقيقة تاريخية – جغرافية هيمنت ليس فحسب على فلسطين، ولكن على كل الدول التى تحيط بها.. بحيث أصبح من المستحيل إقامة دولة فيها على حساب أهلها وبالمجافاة لكل الدول التى تحيط بها لأنه يتجاهل كل الوقائع الجغرافية والتاريخية الحاكمة فى المنطقة ..

وهذا الخطأ لا يعود إلى وعد بلفور وحده، إنه يعود – أولاً – إلى وعد "يهوه" لإبراهيم ونسله بملكيته الأرض ما بين مصر والنهر الكبير الفرات فى حين أن هذه الأرض كان بها سكان لهم حضارتهم وعندما أراد يوشع أن يحقق وعد إلهه اصطدم مع هؤلاء السكان الأصليين. ودام هذا الصدام طوال حقبة الوجود اليهودى فى فلسطين. فقد كانت كلها حروب متصلة ولم تنته إلا بقضاء الرومان عليهم... ثم عاد هذا الخطأ مع وعد بلفور مع اختلاف هو أن سكان هذه المنطقة كانوا قبائل شتى فلما ظهر الإسلام تبلوروا فى شعب واحد له دينه ولغته. وحضارته كما أن هذا التطور ساد كل المنطقة فلم تكد كتائب الهاجانا تحاول إقامة الدولة حتى اصطدمت بالفلسطينيين، ثم بشعوب المنطقة المحيطة بها... بحيث أخذ الصراع شكلاً دولياً جسيما ومعقداً.

ولما لم يكن من حل فى الحالين: حال الوجود اليهودى الأول بقيادة يوشع.. ثم الوجود الثانى بقيادة بن جوريون إلا السلطة فى أسوأ صورها: القوة الوحشية، والقبضة الحديدية فإن هذا هو ما حدث، ويحدث بالفعل. فنحن نرى إفساد السلطة فى أسوأ صورها.. وأكثرها إثقالاً فى الغشومة. فمع وجود المتناقضات الأصولية والجغرافية والتاريخية لم يكن هناك سبيل لحل.. وكان التصرف الوحيد هو القطع.. القطع بالسيف البتار أو بالتعبير التوراتى "بحد السيف" قديما، وبالدبابات والطيارات حديثاً ..

لقد قامت إسرائيل قديماً وحديثاً، على أساس عنصرى دينى واستخدمت السيف والقهر. ولا يزال فيها الآن من يؤمنون بهذا وهم العناصر التوراتية التى تؤمن بكل ما جاء فى "الميثولوجيا" اليهودية من أوهام وادعاءات وستأتى نهايتها ليس فحسب لصراعها مع العرب والمنطقة ولكن – أيضا – للصراع الداخلى ما بين هذه الفئة التى تريد إعادة حكم يهوه.. وبين الذين يريدون إقامة دولة طبقاً للأصول التى تقوم عليها الدول.

وإذا كانت السلطة تفسد فى صلاح الإيديولوجيا فإننا نجد هنا أيديولوجيا فاسدة بالفعل. فزادتها السلطة فساداً، خاصة وأن العقيدة مرتبطة بالجنس، وهذا هو سر الوحشية المضاعفة للصهيونية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق