السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

عقـبات ومحاذيـر

مع إننا لم نتصور تطبيقاً للشريعة إلا بعد تعديلات جذرية فى مضمون وشكل الشريعة نفسها، وفى رؤية العقيدة أيضاً، وفى نشر هذه الرؤية الجديدة وتعميقها حتى تشمل أغلبية المواطنين، إلا أن هناك عقبات ومحاذير خارج إطار هذين -أي العقيدة والشريعة- يتعين علينا أن نحسب حسابها وأن يكون لدينا حلولاً لما تثيره من مشكلات وإجابات لما ستطرحه من تساؤلات.

من هذه العقبات والمحاذير :

q عدم تهيؤ المجتمع لتقبل الشريعة الآن :

________________________

هناك من يقول بمجرد أن يقرأ هذا العنوان إن تطبيق الشريعة مطلب شعبى وإن الشعب يطالب به من زمن وأنه مهيّأ لذلك من الآن، وإن الحكومات هى السبب فى تأخيره، وليس أدلّ على ذلك من تقنين الشريعة فى قوانين سنة 1987 وكان يمكن أن تعرض على مجلس الشعب وقتئذ وكان فيه مائة نائب معارض كلهم يناصرون الشريعة ولكن رئيسه العنيد رفعت المحجوب الذي كان أحد أقطاب الناصرية، احتفظ بها فى درج مكتبه وأغلق عليها وقُتِلَ والمفتاح معه.

وهذا تبسيط مخلّ، فالذي طالب بذلك كانت الهيئات الإسلامية السلفية التقليدية وكان تصوّرها كما تضمنته مسودات تقنين الشريعة لا يصلح مطلقاً لهذا العصر، ومع تصورها كما تضمنته مسودة تضامن التى عبرت عن تصوراتها العقيمة، ومع أن رفعت المحجوب قد يكون مغرضاً، فإنه فى الحقيقة وفّر على المجتمع المصري معاناة تجربة فاشلة بكل تأكيد.

الحقيقة أن المجتمع المصري -وهو ما ينطبق بصفة عامة على المجتمعات العربية الأخرى- تعرّض لمجموعة من التجارب السياسية والنظرية دون سابق استعداد أو دراسة أو اتفاق، فظهرت الأفكار اليسارية واستقطبت فريقاً كبيراً من "الانتلجنسيا" المصرية التى درست دراسات غربية وضاقت بوجوه النقص في الرأسمالية، ولكنها نقلتها كما عرضها ماركس ولينين، ومعظمها تبع الاتحاد السوفيتي، وقامت فيما بينهم منازعات وشقاقات مذهبية فرّقت شملهم، فضلاً عن أن ما قدّموه كان غريباً كل الغرابة على الأذن العربية، والقلب العربي فلم يظفروا إلا بأعداد قليلة من الناس ولكنهم وهم يسيطرون على الإعلام، ويلمّونن بأسباب العصر، استطاعوا أن يؤثّروا على مجموعات من الناس وعلى قدر من الرأي العام. وبالطبع فإن الفكر الإسلامي كان أسبق الجميع، واكتسب الشارع المصري بفضل عبقرية ونبوغ حسن البنا وموهبته الفريدة في تنظيم الإخوان المسلمين وكان يرجى منها خير كبير، ولكن الإخوان خسروا مرشدهم عام 1949، ثم توالت الأحداث وقامت حركة 23 يوليو وحدث الصدام بينها وبين الإخوان، فصمت الإخوان حينا وحُظِرَ نشاطهم العلني بينما ظهرت الجماعات الإسلامية الشاردة التي كوّنت فكرها فى سجون عبد الناصر وكردّ لتعذيبه المقيت. وككل الهيئات المتحمسة، دون دراسة عميقة، فقد ضلّلتها الشعارات والتصوّرات وألجأها حظر الحكومات لأن تلوذ بأسلوب العمل السرّي وانساقت فى منزلقاته فأضاعت على نفسها ثلاثين عاماً قبل أن تتبيّن خطأ وضلال دعاوي "الحاكمية الإلهية".

وقبيل ذلك، سقط نظام عبد الناصر مع هزيمة 67 المروّعة وسقطت شعارات القومية العربية والناصرية المزعومة، وسمح المجال بقدر من الحرّية وللأخذ بالانفتاح الاقتصادي، فظهرت الرأسمالية المتطفّلة والسماسرة والانتهازيون الذين كوّنوا ثروات طائلة بوضع اليد على أراض "المدن الجديدة" أو بالعمولات أو بالغشّ والتزييف. وتقبّل المجتمع المصري ذلك لأنه سمح لنفسه بفترة "استرخاء" بعد الحكم الحديدي الصارم لناصر، وتخبّط المجتمع المصري ما بين اقتصاد منفتح دون ضابط أثمر طبقة ثرية متخمة بثروات التطفّل والفساد الاقتصادي وبين نظام سياسي يتشبّث بالسلطة ويتمسّك بتراث عبد الناصر في الحزب الواحد والاستئثار بالسلطة وتقييد المعارضة وتزييف الانتخابات.

نتيجة لهذه التراكمات المتوالية التي كانت كلها تجارب فاشلة، فَقَدَ المجتمع ثقته في الجميع تقريباً، واستسلم واستسلمت المجموعات ذات المستوى الاقتصادي المرتفع للاسترخاء البرجوازي وانساقت وراء نزعة الاستهلاك والاستمتاع بما تقدمه "الفضائيات" من برامج تصل بعضها إلى إباحية الجنس الصريح وما تقدّمه "المول" والسوبر ماركت من سلع مبهرة بينما كان على الأغلبية أن تكدح حتى يمكن أن تكفل لنفسها بقاء وأصبحت تلهث وراء لقمة العيش.

من هنا نعرف أن المجتمع المصري لم يعد واثقاً، كما كان فى الأوّل، في التوجّه الإسلامي وإن ظل موجوداً بل وأكثرها شيوعاً، ولكن على غير وضوح وتذبذب ما بين الاتجاهات الانفعالية المتحمسة وما بين الاتجاهات السلفية المحافظة وأن بقية فئات المجتمع لا تتحمس لدعوة تطبيق الشريعة، أو حتى لتقبلها، وقد تعارضها، وأصبح يغلب عليها الإحباط.

المجتمع المصري اليوم غير مهيّأ للتطبيق السليم للشريعة، فمعظم ذوي الاتجاهات الإسلامية هم من السلفيين، وفكرتهم عن الشريعة لا تصلح، وهم يظنّون مع هذا أنهم هم الذين يمثّلون الإسلام ويقاومون كل اتجاه لتجديد أو إصلاح، أما بقية شرائح المجتمع فهي تتوزّع ما بين طبقه "الأثرياء الجدد" ومن حولهم، وقد كوّنوا لأنفسهم طوال العشرين عاماً الماضية، وجوداً وكيانا وهيمنة على الصحافة والإعلام، وما بين فلول الناصرية واليسارية والقومية ممن يعوّضون فشل نظرياتهم بالتعصّب والجلجلة والادّعاءات..

لهذا سيكون على الشريعة أن تسير طويلاً في دعوتها قبل أن تصل إلى مجموعات لها ثقل تؤمن بها. وأن تواجه صعوبات وعراقيل معارضة لأن هذه المهمّة هي فى حقيقتها تجاوز الأطر السلفية إلى فهم جديد للعقيدة والشريعة، ومنظومة المعرفة الإسلامية، وليست هذه بالمهمة الهيّنة أو السريعة.

فإذا أريد تطبيق الشريعة فلا بدّ أولاً من تقديم الصورة السليمة لها والتي تختلف جذريا عما يقدمه الفقه السلفي بقدر ما تختلف عما تقدمه الانبعاثات الجهادية، ثم عليها بعد ذلك أن تسير طويلاً على طريق الدعاة لتكسب لفكرتها عن الشريعة جمهوراً له وزن وثقل ويعتدّ به كمّاً ونوعاً، وكما هو معروف فإن هذا ليس بالأمر الهين أو الذي يمكن إنجازه فى وقت قصير.

q الخوف من الدولة الإسلامية والدعــوة لدولة علمانية :

___________________________________

يوجد -ليس فحسب- على المستوى القومي، بل على المستوى الدولي خوف من إقامة دولة دينية فى بلد مثل مصر أو سوريا أو العراق. وقد تقبّل المجتمع الأوروبي على مضض دولات دينية مثل إسرائيل وإيران والسعودية، وكان هناك في كل حالة من هذه الحالات ما يشفع لها أو يتقبلها قبول الأمر الواقع، ويغلب أن لو قامت فى مصر دولة إسلامية، أن لا تتقبّل القوى الخارجية ذلك، وستكيد لها بحيث لا يستقرّ أمرها.

والحقيقة أن تطبيق الشريعة يمكن أن لا يؤدّي إلى إقامة الدولة الدينية، لأن الشريعة هى مجموعة أحكام يقتضيها العدل ويسعى الشعب لتطبيقها بالوسائل الديمقراطية وفي الدولة الديمقراطية ولكن هذه الحقيقة انسحقت تماماً تحت ضغط الفكرة المتأصلة لدى الإسلاميين عن أن الشريعة تساوي الدولة.. بحيث أصبح هذا الباطل هو الأمر المسلّم به من الجميع، أي من الإسلاميين وغير الإسلاميين. ويتطلّب اقتلاع فكرة "دولة الشريعة" من الأذهان جهداً جباراً ومتّصلاً يقوم على مبدأين، أوّلهما أن تطبيق الشريعة في حدّ ذاته لا يعنى الدولة الدينية كما أشرنا، والمبدأ الثانى أن الدولة الدينية ليست من الإسلام أصلاً. فالإسلام لم ينزل لإقامة دولة، وإنما لهداية الناس، والدولة لا يمكن أن تقدّم شيئاً للدين لأنها لو أرادت تطبيق الشريعة دون إيمان الشعب بها فإن هذا التطبيق لا قيمه له وستفقد الشريعة روحها وطابعها الإيمانى وتصبح مجرّد قوانين من قوانين الدولة تطبّقها بردع السلطة. إن المهمّ هو الشعب وليس الدولة، لأن الشعب عندما يؤمن بالشريعة فيتوصّل إلى تطبيقها بالطرق الديمقراطية لأنها عندئذ تصبح مطلباً شعبياً يمثّل إرادة الأمّة، وعندما يُطَبَّق تؤتى ثمارها. ولكن -كما قلنا- وكما سنكرّر لأن لا مناص من هذا التكرير، أن فكرة الدولة الدينية المقدّسة قد جثمت على النفوس حتى ذهبت بالقلوب والعقول.

وقد أوضحنا فى كتابنا "الإسلام دين وأمّة وليس ديناً ودولة" إن الإسلام لم يُقِمْ دولة إلا فترة حكم الرسول للمدينة ولم تكن تلك دولة فيها أبرز مقوّمات الدولة، أعني الجيش، والبوليس، والسجون، والقوّة القاهرة، وفرض الضرائب – وفضلاً عن هذا كله فقد كان على رأسها نبي يصحّح الوحي اجتهاداتَه ويتابعه متابعة يقظة تشفّ عنها آيات عديدة، كما أن تأسيس دولة المدينة لم يكن جزءً من الإسلام عقيدة وشريعة، ولكن نتيجة لسياق الأحداث وتتابعها بصورة أوجبت قيامها، فهي بنت الأحداث وليست بنت العقيدة، أما دولة الخلفاء الراشدين فقد كانت استمراراً لحكم الرسول ولم تستمر سوى اثني عشر سنة (سنتين خلافة أبى بكر وعشرة خلافة عمر). وعندما طُعِنَ عمر طُعِنَت الخلافة الراشدة وانتهت وجاء دور الهرج الذي جعل فريقاً من المسلمين يضربون أعناق فريق آخر حتى حوّلها معاوية بن أبي سفيان إلى مُلك عضوض سنة 40 هجرية وظلّت ملكاً عضوضاً فيه كل سوءات حكم الفرد الوراثى المستبدّ حتى أزالها مصطفى كمال من الوجود ولم يكن فيها من الخلافة إلا الإسم.

وبالإضافة إلى هذا كله فإن الإسلام يكاد يكون علمانيّاً لأنه ليس فيه كنيسة، ولا يمكن أن يظهر فيه بابا أو بطريرك له حقّ التحليل والتحريم. وليس هناك شيءء من الطقوس التى ترتبط بوجود كنيسة وليس هناك تعميد أو اعتراف الخ...

والمسجد الإسلامى قطعة أرض مسورة، وأي واحد يمكن أن يكون إماما ما دام يحفظ شيئاً من القرآن، والزواج، وهو أكثر العلاقات حميميّة وقداسة هو عقد رضائي يقوم على إيجاب وقبول.

هذه هي الحقائق، ولكن الفهم السلفى التراثى لا يريد أن يقبلها ويعسر عليه أن يفهمها، ومع هذا فليس أمامنا خيار، ولابد أن نكدح حتى يمكن إزالـة الغشاوات المتكاثـفة وحتى ننقذ الجميع من الخيال الرومانتيكى أو العاطفة الجموح، أو العزوف عن الحقائق الجديدة.

ومع أننا نسلم أن هذا سيتطلب جهداً ووقتاً، فإن النقطة الهامة هي أنه من الناحية الأصولية، فإن فكرة دولة إسلامية مستبعدة، ولا يجوز أن تكون محلاً لخوف لأن الدولة في الإسلام دولة مدنية ومحور عملها العدل وتحقيق إرادة الشعب، ودورها الحقيقي لا يكون فى مجال الدين ولا حتى فى مجال الفضيلة.

q وجود أقليات غير مسلمة :

________________

توضّح الاحصائيات أن الدول العربية يقطنها مسلمون إما بنسبة 100% أو 99% في حالات عديدة، كما يوجد في حالات أخرى أقلّيات غير إسلامية بنسبة 3 و4%. وفي مصر يمثل الأقباط نسبة ما بين 5%، كما تظهر بعض الأحصائيات الرسمية، و10%، كما يرى بعض الأقباط، والدولة العربية الوحيـدة التى تشذّ عن هذا هي لبنان إذ تبلغ نسبة غيـر المسلمين ما يماثل 40%.

وعندما قدم الرسول المدينة كان من أعماله الأولى وضع وثيقة أطلق عليها المفكرون المحدثون "دستور المدينة"، وظهرت فى المراجع القديمة باسم "صحيفة الموادعة".

قرّرت هذه الوثيقة أن الأنصار -وهم السكان الأصليون للمدينة- والمهاجرين وهم من أهل مكّة أصلاً آمنوا بالإسلام وهاجروا إلى المدينة فراراً من اضطهاد المشركين لهم وتقبلهم الأنصار على الرحب والسعة. واليهود الذي كان لهم جالية كبيرة فى المدينة استوطنوها فى قديم وبنوا لأنفسهم "الآطام" أي الحصون واشتغلوا بالتجارة والصناعة وأقاموا بينهم وبين بعض قبائل الأنصار حلفاً، قرّرت الوثيقة أن هذه الفئات الثلاث "أمة واحدة"، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأنهم يتكافلون بالمعروف ولا يحارب بعضهم بعضاً كما يشتركون في الدفاع عن المدينة معاً..

أقامت هذه الوثيقة -لأوّل مرّة- حق المواطنة على أساس الأرض. فكل من يتخذ من الأرض وطناً له يصبح مواطناً له الحقوق والواجبات التى تمنح لكل الذين يقيمون في هذا الوطن على اختلاف أصولهم وأديانهم وأجناسهم.

لم يلتزم اليهود ببنود هذه الاتّـفاقية، أو يقدّروا ما فيها من كرم، لهيمنة فكرة أنهم الشعب المختار وأن النبوّات محصورة فيهم، فضلاً عن نظرتهم الدونية إلى العرب، أبناء إسماعيل بن الجارية، والذي يده على كل الناس ويد كل الناس عليه.. وكان النقض الأعظم عندما تحالفوا مع المشركين فى أشدّ حملاتهم ضراوة على المسلمين، حملة الخندق، فحكم عليهم من اختاروه بأنفسهم..

وبعد فترة النبوّة وعندما انطلقت الفتوح وانتصر فيها المسلمون وجدوا أنهم يهيمنون على أراض شاسعة، وعلى مجموعات غفيرة من السكان من ذوى الأديان المختلفة، فوجدوا أن الحل الذى يتفق مع الإسلام ويحقق أفضل النتائج أن يدعو هؤلاء السكان على ما هم عليه وأن يفسحوا لهم فى الحرية الدينية بحيث يحتفظون بدياناتهم وعاداتهم وتقاليدهم مع المحافظة على كنائسهم ومعابدهم وأديارهم ورجال دينهم وأن يقوموا بحمايتهم وكفالة الأمن والسلام والدفاع عنهم لقاء ضريبة هي "الجزية" ويُعَدّون أهل ذمّة، أي أن حمايتهم والحفاظ عليهم هي ذمّة المسلمين، وكانت تلك صفقة سعيدة للطرفين. وتمتعت هذه الأقليات فى ظلها بحرياتهم الدينية ونشاطاتهم المدنية والاقتصادية ومع الزمن تقلّد بعض أفرادهم مناصب في الدولة الإسلامية أو شغلوا مراكز رفيعة فى مجال العلوم.

كان أخذ الجزية من الأقلّيات هو الأمر المقرر فى كل الدول في هذه العصور، وقد دفع السيد المسيح نفسه الجزية للرومان. فالمسلمون لم يبدعوا هذا النظام ولكنهم وجدوه مقرّراً. وما جاءوا به هو أنهم خفّفوه إلى أقصى درجة وجعلوه مقصوراً على الرجال دون النساء ودون الأطفال كما اُستثنى منه الشيوخ وكل رجال الدين أو الرهبان.. وكان ذلك بمقاييس العصر تقدّماً ملحوظا جعل الأقلّيات تفضل أن تعيش فى ظل الحكم الإسلامي عن العيش فى ظل حكم آخر، إذا وجدت مثل هذا الحكم لأن النظام المقرّر فى أوروبا كان لا يسمح بوجود أقلّيات أو حتى أفراد يدينون بغير دين الملك. حتى لو كانوا من الدين نفسه ولكن من مذهب يخالف مذهب الملك، والمذابح والحروب ما بين البروتستانت والجزويت معروفه.

كان أقباط مصر يدينون بغير المذهب الذي تدين به بيزنطة ولهذا اضطهدت بيزنطية أقباط مصر اضطهاداً رهيباً بحيث أنه عندما دخل عمرو بن العاص مصر كان البطريرك القبطى مختبئاً فى مكان ما، هارباً من الاضطهاد البيزنطي. ولما تم النصر لـعمرو بن العاص، إلى حد ما بمساعدة من أقباط، فإنه أعاد البطريرك وأعاد له كل سلطاته بحيث يمكن القول أن ميلاد الكنيسة القبطية في هذه اللحظة تم على يدي عمرو بن العاص.

وكان أقباط مصر قد تخصصوا فى مهن معينة مثل تحصيل ضرائب الأراضي والعقارات فكان الجباة من أصغر جابي فى قرية حتى رئيس الجباية التى يشرف عليها فى عموم القطر من الأقباط، وقد سلم لهم الحكام المسلمون بممارسة هذه المهمة حتى أيام محمد علي وأبنائه، كما شمل حكام مصر من الأسرة العلوية بطريرك الأقباط بنوع خاص من الرعاية وأحاطوه بتوقير واحترام وتبرعوا بمئات الفدادين والمعونات المالية لإقامة مدارس قبطية أو مشروعات خيرية..

من الصحيح أنهم تعرضوا فى بعض الفترات لعربدات بعض الحكام وتصرفاتهم الشاذة، ولكن من الصحيح أنهم فى ظل حكام آخرين وصلوا إلى مناصب الوزارة وكانت لهم حظوة حتى وجد المسلمون أنهم قد ظلموا مع العلم أن نزق بعض الحكام وبطشهم لم يكن مقصوراً على الأقلّيات ولكن على كل الشعب، مسلمين وغير مسلمين.. وأنه كان طابع العصر في كل العالم القديم...

من هنا لم يحدث بين الأقباط وبين حكام مصر توتّرات وساد الصفاء علاقتهم بالمسلمين وعاشوا فى القرية جنباً إلى جنب إخوانهم المسلمين لا يفرّق بينهم إلا أن بعضهم يقصد المسجد يوم الجمعة بينما يقصد البعض الآخر الكنيسة يوم الأحد.

أما حالات التوتّر فكانت استثناء لا يتصوّر انتفاءه مع تطاول الأمد وامتداد الرقعة وبالنسبة لمجموعات كبيرة بمئات الألوف أو الملايين بحيث لابد أن يوجد الشارد أو المنحرف في المجموعتين، ولا يؤبه له لأنه أحد الظواهر الاجتماعية الطبيعية.

قد ورثت مصر من العهد العثمانى "فرماناً" يضع القيود على بناء الكنائس وكان من مبرراته حسم الحساسيّات التي يمكن أن تؤدّي إلى احتكاكات إذا تُرِكَ الأمر على علاته، قد وجد عدد كبير من الأقباط أن هذا يتضمن نوعاً من الحجر على حرّية التعبير واستجابت لهم الدولة بقدر ما يسمح "الهاجس الأمني" الذي يسيطر عليها ويتحكم فيها في كل شيء ونحن نرى أن بناء الكنائس أو المساجد أمر يجب أن يُتْرَك لأصحابه حتى لو بنوا مائة كنيسة، ففي هذا المجال قد لا يكون مفرّ من اتباع التجربة والخطأ بمعنى ترك الحرية حتى تثبت التجربة خطأ ممارسة ما وعندئذ يكون الإقلاع عنها أمراً طبيعياً. ومع أن هذا حلّ باهظ التكلفة فإنه يسدّ باب الادّعاءات التي يكون مبعثها الغرض أو سوء الفهم، ولا يمكن إصلاحها بالمنطق.

المهمّ فيما نحن بصدده أن مخاوف الأقباط ليس لها أساس، أولاً: لأننا استبعدنا الدولة الإسلامية، وثانياً: لأن تطبيق الشريعة بالصورة التى سنعرضها فى الفصل الأخير لن يكون إلا مشروعاً لإحلال مبدأ العدل وجعله محوراً فى عالم العلاقات والقيم والتى تحكم المجتمع. وأن يتمّ هذا بالشكل الديمقراطي أي عندما تريد ذلك الأغلبية وتسلك إلى تطبيقه عبر الطرق المشروعة – أي الانتخابات، ولعلّي لو كنت قبطياً يساورنى بعض الخوف من ذلك ولأثرت التمسك بإعمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الثابتة التى تحرم تحريماً قاطعاً المساس بحقوق الأقليات غير المسلمة بحيث لا يمكن حتى للأغلبية فى المجلس التشريعي أن تمسها والأمر في النهاية إليهم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق