الأربعاء، ٢٦ أغسطس ٢٠٠٩

الحرّية وتفاعلاتها مع المجتمع

الحرّية وتفاعلاتها مع المجتمع

كائنا ما كان تقديسنا للحرية، فإن هذا لا ينفى أن الحرية التى نتحدث عنها ليست هى حرية المنفرد فى جزيرة منعزلة غير مأهولة لا يوجد فيها سواه. إنها الحرية فى مجتمع يحفل بالأفراد والمجموعات له تاريخ وعادات وتقاليد ومصالح الخ ويكون على الحرية أن تحسب حسابها وتتعامل معها، لأنها ببساطة لا يمكن أن تتجاهلها.

وحتى من منطلق الفرد- وليس المجتمع، فإننا نجد أن تجليات النفس البشرية لا يمكن أن تتجاوز ثلاث صور.

الأولى : فكر : فالفرد يفكّر، أى يعمل عقله وقلبه وملكاته فى كل ما حوله من أوضاع ويعبر بذلك عما يتصوره، أو يهفو إليه.. بحكم قدراته وأهوائه الخ ...

هذا الفكر هو المجال الأول والأصيل للحرية. إنه عرين الحرية وعرشها الذى لا ينازعها فيه منازع وهو الأصل فى معظم ما وصلت إليه البشرية من تقدم، وما ظل فكراً وتصوراً وتنظيراً وعقلاً فيجب أن لا يقف فى سبيله قوة أخرى.. ليس فحسب لأن هذا يحول دون ظهور الأفكار الجديدة والتصورات الخلاقة والمبادرات المنشئة، ولكن أيضاً لأنه عمليا غير ممكن، فلا تستطيع أى قوة أن تتصدى له ما دام فكراً، فالفكر لا يمكن أن يقبض عليه، أو يحبس، أو يقتل والطريقة الوحيدة لمعالجته هى الفكر نفسه، وبهذا نعود إلى الحرية.. وهذه الصفة الفريدة، والأهمية العظمى لحرية الفكر هى التى جعلتنا نقول إن الحرية- وأن كانت تنبع فى الإسلام من الحق، فإن حرية الفكر هى مما لا يكون للحق وصاية عليها لأنها هى السبيل إلى تعرف الحق نفسه والإيمان به.. وهذه الحقيقة هى السر فى إطلاق القرآن الكريم لحرية الاعتقاد على مصراعيها. ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ. وهى كذلك السر فى قرن القرآن لها بالفرد. ﴿ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا

وكان القرآن الكريم فى هذا أهدى سبيلاً، من الفقهاء الذين حاولوا الافتيات عليه وتحيفه بما وضعوه من قيود على حرية الاعتقاد.

الثانية : حقّ : فالفرد يجد أن من حقه، نتيجة لحرية الفكر أن يعبر عما يفكر فيه. فينشأ حق التعبير. ويرى من حقه أن يتعاون مع زملائه فى العمل لتكوين نقابة فينشأ حق التنظيم النقابى. أو يريد أن يؤسس مع مواطنين له حزباً فتنشأ حرية تكوين الأحزاب الخ... إلى آخر ما عرضنا له فى الفصل السابق تحت عنوان "مفردات الحرية..".

وكل ما ينشأ للفرد من حقوق. وما يترتب عليها من حريات يخضع لقاعدة رئيسية من مفاخر الشريعة الإسلامية هى قاعدة عدم إساءة استخدام الحق فحتى أخص هذه الحقوق حق الفرد فى التصرف فى ماله. فإن هذا الحق- كبقية الحقوق- يخضع لقاعدة عدم إساءة استخدام الحق. فلا يجوز له أن يوصى بماله للكلاب والحيوانات بينما يوجد آدميون جوعى، ولا يجوز له أن يحرم أحد أبنائه دون آخر بلا مبرر ووضع الإسلام المعادلات اللازمة ما بين حق الفرد الخاص. وحق المجتمع، وحق أبنائه ".

فإذا كانت صلاحيات قاعدة "عدم إساءة استخدام الحق" تصل إلى هذا المدى فى حق من أخص الحقوق، فلنا أن نتصور أنها يمكن أن تذهب إلى أبعد من ذلك بالنسبة لحقوق أقل خصوصية ..

وقد يظن البعض أن هذه القاعدة يمكن أن تأتى على الحرية نفسها وبهذا نهدم فى هذا الفصل ما أقمناه فى الفصل السابق ولكن هذا غير صحيح. لأننا وقد خرجنا من إطار التفكير المجرد. ودخلنا فى إطار الحقوق "شبة العملية" فإننا بداهة دخلنا ميدان حقوق الآخرين، أو بمعنى ما حريات الآخرين. ومن ثم نتبين أن قاعدة عدم إساءة استخدام الحق إنما أريد بها حماية حريات الآخرين من أن تعصف بها حريات أنفسنا فهى حماية للحرية ولا يمكن أن تتهم بتقييد الحرية، إلا ممن يفهم أن حرية فرد ما هى حريته فى ظلم الآخرين والأضرار بهم والقضاء على حرياتهم. وهذا ما لا يقول به منصف أو عاقل.. وكل ما يقال عنه هو أن حريات الحقوق تكشف عن الطبيعة المركبة لها التى تقتضى حماية أو ضمانه، لا تكون لها حاجة بالنسبة لحرية الفكر البسيطة بطبيعتها.

على أنه حتى فى حرية الفكر، فإنها أن جاوزت إطار الفكر المجرد، النظرى الذى يعالج المبادئ والأوضاع إلى إطار الذات والأشخاص، كما يحدث عند الانتقال من نقد الأوضاع إلى نقد الأشخاص القائمين عليها كأشخاص أو التنديد بتصرفات خاصة لهم الخ... والالتجاء إلى القذف فإنها تكون قد جاوزت إطار صلاحياتها ودخلت إطاراً يمكن أن يخضعها لقاعدة "إساءة استخدام الحق" أو أنها تجاوزت هذا الحق، ومن ثم يحق محاسبتها ومعاقبتها ..

الثالثة : عمل : فالفرد يريد أن ينشئ مصنعا وأن يستأجر عمالاً، أو أن يبنى منزلاً، أو أن يتخذ زوجة، أو أن يتملك أرضاً ويزرعها إلى أخر ما يجاوز إطار الحق إلى إطار العمل والممارسة. وهنا فإن الإسلام يخضعه لقاعدة رئيسية هى العدل. وهى صورة أكثر تكثيفا وشمولية وأصولية من قاعدة "عدم إساءة استخدام الحق" لأن العدل هو الحق مطبقاً. فإن طبيعة الحق هى التجريد وطبيعة العدل هى التطبيق ومن أجل هذا جاز أن يكون الحق اسما من أسماء الله. أما العدل فلا يكون إلا صفه من صفات الله..

من هنا فإن حرية الفرد فى أن ينشئ مصنعاً ويقيم علاقات مع العمال أو حرية الحاكم فى أن يصبح رئيساً للدولة ويقيم علاقات مع الجمهور.. أو حرية الفرد فى أن يتزوج وما ينشأ عنه من علاقة بالزوجة والأبناء... كل هذا يخضع للعدل وليس فيه من حرية للفرد إلا المبدأ فحسب، أما الممارسة فتخضع كلها للعدل. والذى لا يمكن أن يعد قيداً على الحرية، ولكن تنظيماً لها أو هو بالأحرى حماية حرية الآخرين – عادة الضعفاء والفقراء- من حماية الآخرين عادة الأقوياء. والأثرياء.. وطبيعى أن يضيق به هؤلاء... وطبيعى أيضاً أن لا نأبه لهذا الضيق..

ويجب أن نقول إن الطبيعة المركبة والمعقدة للمجتمع التى أوجبت قيام ضمانات تبقى على الحرية وتحول دون أن تقضى الحرية على نفسها إنما هى جزء من طبيعة الأشياء. فحتى لو كان فرد ما منعزلاً لا يسكن فرد آخر معه.. فإن حرياته محكومة بقدراته فهو لا يستطيع أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا...

من أجل هذا نجد أنه باستثناء حرية الفكر التى هى هواء متجدد لا يمكن القبض عليه، أو التحكم فيه، فإن كل الحريات الأخرى تتفاعل بدرجات متفاوتة مع الضرورات التى تنشأ من المجتمع ..

وسنعرض فيما يلى لبعض هذه التفاعلات ...

zzz

أوّلاً : الحرية والقانـون والأعراف

يقولون أن "جحا" جلس يوماً هو وزوجته أمام قدر الطعام. وبعد أن ذاقه قال "ما أطيب الطعام لولا الزحام !" فقالت زوجته وأى زحام وليس إلا أنت وأنا فقال "لوددت لو أنى وحدى ...!".

وليس جحا هو الوحيد فى هذه الأمنية، فهناك كثيرون يتمنون لو لم يكن سواهم. حتى وأن كان "سواهم" هم الذين أعدوا الطعام ...

ولكن طبيعة المجتمع لم تهيئ لجحا وأمثاله "الأنانيين" أمنيتهم، فما أن يجتمع اثنان حتى تنشأ "القضية الاجتماعية" أعنى تحديد حقوق كل فرد بحيث لا تتنافى أو تتعارض مع حق الآخر.. وبقدر ما يكثر العدد بقدر ما يزداد التعقيد وقبل أن يظهر القانون الذى يضع الحدود ظهر العرف الذى يقوم بذلك. وينقله الابن عـن الأب والبنت عن الأم.. وأصبح نوعاً من القانون يحدد الحقوق والواجبات. وأين تكون الحرية. و"كم" تكون هذه الحرية الخ ...

وتأثل العرف فى المراحل الطويلة والسحيقة لظهور المجتمعات الإنسانية حتى أصبح نوعاً من الدين يلتزم به ويخضع له الجميع.

ومع أن العرف لم يعد، فى المراحل التالية للبشرية هو الوحيد الذى يحكم المجتمع، كما سنرى ذلك فى الفقرة التالية. فإن أصوله الغائرة فى أعماق تاريخ المجتمع جعلت له قوة يمكن أن تقف فى وجه أعاصير التطور أو حتى الضرورات التى يمليها العقل السليم. ونرى صورة لهذا العرف ومدى تغلغله وقوته فى مجالات عديدة لعلها أكثرها ظهوراً العرف عن المرأة. فالتقاليد التى هى العرف المبلور. هى التى تحكم هذا المجتمع وتقف فى وجه الإسلام نفسه تدعيه وتتستر وراءه- وأن كانت عمليا تعارضه وكل الحلول الأخرى السليمة- التى تأخذ بها المجتمعات الأخرى، وقضت هذه الأعراف والتقاليد على حريات المرأة وحقوقها وقدمت مثالاً عـن مدى سطوة هذه الأعراف وعجز الأفراد والجماعات والدعوات الإصلاحية عن زعزعتها.. وحالة الكويت تضع النقط على الحروف بهذه الدولة التى تعد أكبر مناطق الخليج تأثراً بالأسلوب الأمريكى، وأخذا بأسباب الحياة الحديثة رفضت بإصرار منح المرأة حق الانتخابات- فضلاً عن الترشيح- ولم يكن لهذا أساس إسلامى رشيد لأن معظم الدول العربية والإسلامية أخذت بالمبدأ ولأنه بالطبع لا يتنافى مع الإسلام. والفرق الوحيد بين الدول الإسلامية التى سمحت بالمبدأ والدول الإسلامية الأخرى التى رفضته كالكويت هو أن هذه الدول الأخيرة لا تزال أسيرة الوضع القبلى الذى يقوم على العرق. حتى عندما يتستر العرف بالإسلام، وهكذا أصبح العرف مثل "جلمود صخر حطه الماضى فى طريق المستقبل فسده ..

ومع أن العرف والتقاليد احتفظت بسلطاتها فى مجالات معينة، فإن التطور كان يحل القانون محلها فى المجالات الأخرى وحدث هذا عندما لم يعد الناس ينشأون فى بقعة ما من الأرض كما تنمو الأشجار، ويظلون فيها جيلاً بعد جيل وينقل الأب ما أخذه إلى أبنه، والبنت ما تعلمته من أمها، ولم يعد المجتمع محتفظا بطابعة القبلى القديم. وإنما إنثال الناس من مختلف الأنحاء على بقعة ما لحسن موقعها أو لاحتواء تربتها على مناجم. وأخذ يقطنون فيها ويوجدون مجتمعهم "المدنى" الجديد ومن هذا الوجود ظهر القانون ..

وشيئاً فشيئاً، ومع تطور المجتمع بدرجة كبيرة من التعقد، ظهرت الحاجة إلى القانون، وبقدر ما يزداد تقدم وتعقيد المجتمع بقدر ما تزيد الحاجة إلى القانون.

وأنظر مثلاً إلى حالة الطرق والشوارع. ففى القرية لم يكن هناك حاجه لأكثر من أزقة ضيقة لا يزيد عرضها عما يسمح للفلاح وحماره بالسير.. وحتى عندما أصبحت هذه القرية مدينة، ومدينة كبيرة مثل روما- بجلالة قدرها- فلم تكن طرقاتها تسمح بالمركبات التى كانت امتيازاً لفئات محدودة جداً من علية المجتمع بينما تجرى فيها الخيول ويُحمل السادة والنبلاء على محفات يحملها العبيد ..

فى هذا المجتمع كانت الحاجة إلى القانون ضئيلة، ولكن تأمل "الشارع" فى المدينة الحديثة وما يحتشد فيه من عربات وسيارات ووسائل نقل وركوب وما اقتضاه هذا من تخصيص جانبى الشارع للسيارات فى اتجاه معين، والآخر فى الاتجاه المضاد. ووضع إشارات لتقاطع الطرق أو التقاء الشوارع الفرعية بالشوارع الرئيسية مما دعا إلى وضع "قوانين المرور" التى تنظم المرور وتجعله سيالا متحركا لا تقف سيارة فى وسط الطريق فتعطل سير كل السيارات وراءها.. أو تنطلق واحدة بسرعة فتعرض السيارات الأخرى للمخاطر الخ ..

وفى الشارع الذى أسكن فيه بالقاهرة وهو شارع الجيش (وكان يدعى قبلاً شارع فاروق) تحتشد كل وسائل المواصلات. فهناك الترام الضخم الذى يشبه القطار وهناك العربات التى تجرها الخيل أو الحمير، وهناك الأتوبيسات الضخمة والمينى باص والميكروباص.. فضلاً عن العربات الخاصة "الملاكى" والتاكسيات وشاحنات النقل فلو غُفل عن تطبيق إشارات المرور فى مثل هذا الشارع لحظة عين لحدثت كوارث وربما قامت ثورات !

وأصبحت المدينة الحديثة أشبه بآلة ضخمة تضم المرافق بأسرها. من نقل أو صرف صحى، أو إضاءة والمؤسسات المقامة فيها من مصالح أو مدارس أو مستشفيات، والناس من رجال ونساء وأطفال.. وتسير هذه الآلة بمقتضى القوانين التى تسير الآلات بحيث لو تعطل "ترس" صغير لأصاب الآلة عطل، وربما توقفت عن السير ..

فى مثل هذا الوضع لا يكون هناك مجال لحرية الفرد ليس فحسب لأن حريته تلك قد تعطل الآلة الضخمة، ولكن لأن مناخ التنظيم - وليس الحرية- أصبح هو النسق، وهو ما يتفق مع الطبيعة الآلية للمجتمع. التى تجعل الفرد ترسا صغيراً فى الآلة يجد نفسه مسيراً بها ولا يستطيع عنها حولاً أو فكاكاً حتى فى التصرفات التى يبدو أن ليس فيها خطر كبير فهو لا يستطيع أن يقطف زهرة من شجرة بالطريق العام ولا يستطيع أن يرمى بوريقة وعليه بالطبع أن يلتزم بالمواعيد والأوقات المحددة، ولا يتصور أن يسير الهوينا فى أى وقت ليذهب إلى مصنعه أو مكتبه، فهناك وقت محدد بالدقيقة والثانية وعليه أن يجرى ليلحق بالترام أو العربة التى تبلغه محل عمله فى الوقت المحدد... فإذا دخل فهو لا يستطع الخروج إلا فى الوقت المحدد ..

وقد تغلغل التنظيم لدى الأوربيين فى كل شئ، حتى ليبدو أن أطفالهم الرضع، وكلابهم، وقططهم يلتزمون بهذا التنظيم، فلا يصرخون، ولا يتبولون، ولا يشذون عن النظام المقرر ..

وعندما ظهر مصنع النسيج الميكانيكى فى ريف بريطانيا فى الفترة التى أعقبت مباشرة الثورة الصناعية فإن هذا المصنع ظهر للعمال كسجن فالدخول إليه فى وقت محدد بصفارة، والخروج منه كذلك. وفيما بين صفارة الدخول وصفارة الخروج لا يستطيع العامل أن يترك الماكينة الجديدة. أو يجلس ليدخن سيجارة، فأين هذا من النول الخشبى فى باحة منزله، الذى كان يأوى إليه كل ما أحس من نفسه نشاطاً لينسج ما يريد ..

من أجل هذا كانت نقمة عمال بريطانيا على هذا المصنع مزدوجة، فقد حرمهم من حريتهم، كما أنه دمر وسيلة عيشتهم، وانتظم العمال فى حركة تدمير الآلات وتحطيمها حتى جعلت الحكومة عقوبتها الإعدام !

ولا يتسع المجال لإسهاب أكثر.. المهم أن طبيعة المجتمع الحديث التى تتسم بالتعقيد الشديد.. والآلية أدت إلى سن قوانين عديدة تنتقص من حرية الأفراد.. وتملى عليهم الالتزام بها واحترامها ولم يكن مناص عنها لأنه لا يمكن دونها الاستمتاع بطيبات الحياة التى يقدمها العصر ..

ولكن مما يعطى هذه الحقيقة صورة أخرى أن الإنسان الحديث فى المجتمع الأوربى قد أشرب احترام القانون حتى كاد أن يصبح طبيعة ثابتة، ولم يعد يرى فى ذلك غضاضة أو انتقاصاً لحريته. وإنما قياماً بواجبات والتزامات المواطن. والنظر إلى الواجبات- قبل- أو مثل- النظر إلى الحقوق وبهذا يحقق التوازن بينهما. وعند الإخلال به لغرض الاستئثار، فإن هذا يكون اتجاها فى طريق "جحا" الأنانى الذى لا يستحق احتراما...

بل قد رأى الجمهور فى القانون ملاذاً يلتجأون إليه لكبح الجماح وحل الاختلاف، ورأى علماء النظم السياسية أن "حكم القانون" هو أفضل النظم، وأنه يفضل "الحكم بالأصوات" فى المجتمعات الأوربية ولا يطعن فى هذه الفكرة إلا أن القانون فى المجتمعات الأوربية يسن بالأصوات. وما أراده أرسطو وأفلاطون عندما تحدثا عن "حكم القانون" وعجزا عنه هو ما جاء به الإسلام عندما أعتبر أن القرآن باعتباره القانون الموضوعى الذى لا تضعه الأصوات هو أساس الحكم.[7]

z

ثانياً : إشكالية الحـرية والعدالة

ظن البعض أن هناك تعارضاً ما بين الحرية والعدالة وأن على الشعوب إما أن تأخذ بالحرية وتخسر العدالة، وإما أن تأخذ العدالة وتخسر الحرية. وهذا فهم سقيم أدت إليه ظواهر بعض تجارب الحكم السياسى التى تكون حرة إلى حد الانتقاص من العدالة أو عادله ولكن دون حرص على الحرية.

والحقيقة أنه ليس هناك تعارض أصيل ما بين الحرية والعدالة، ولكن هناك تميز يميز كل واحدة عن الأخرى.. فالحرية هواء، وفكر، والعدل غذاء وعمل، والغذاء يؤثر سلبا وإيجابا على الصحة، ولكن الهواء هو الشرط الرئيسى الذى لا غناء عنه للحياة وإن لم يكن وحده هو الذى يكفل الحياة ..

وفى كتابنا "نظرية العدل فى الفكر الإسلامى والفكر الأوربى" أثبتنا أن الحرية الطليقة يمكن فعلاً فى بعض الحالات أن تفتات على العدل بالنسبة لفئات أخرى كحرية استغلال أصحاب الأعمال للعمال، أو حرية استبداد بعض الحكام للمحكومين أو حرية استعلاء الرجال على النساء الخ.. ولكننا أثبتنا بحكم المنطق، والوقائع. أن هذه الحرية نفسها تفسح المجال لهؤلاء المظلومين جميعاً للعمل للانتصاف، وللقضاء على الاستغلال. فهذه الحرية مكنت العمال من تكوين النقابات التى استطاعت أن توقف الاستغلال الرأسمالى، ومكنت الشعب المجرد من السلطة ومن حق الانتخابات والترشيح أن ينال هذا الحق، وأن ينتخب نوابه فى المجلس. وأن يضع على رأس السلطة التنفيذية فى بلد كإنجلترا يمثل التقليد والحفاظ امرأة وليس رجلاً. [8]

وهذه المرأة، أبوها بقال وأمها خياطة ثم ترأس حزب المحافظين العتيد رمز الاستقراطيه الوراثية، وتصبح هى نفسها بعد تركها للسلطة عضواً فى مجلس اللوردات... ثم لا تكون استثناء لأن الذى خلفها فى رآسة الحزب المعارض- (العمال) كان من عامة الشعب، ومن أفقر فئاته، وقبل هذا، فإن حزب العمال فاز فى انتخابات عام 1945 على تشرشل الذى قاد بريطانيا إلى الانتصار فى أشد معاركها بأسا، وقسوة، وحقق حزب العمال للمرة الأولى "دولة الرعاية" ووضع نظم التأمينات التى هى مفخرة العهد الحديث.. كما مكنت الحرية بحارة الأسطول البريطانى أن يتمرد على قباطنته، ومكنت شعب فرنسا أن يعلن ثورته التى ترفع راية المساواة وتذهب بملكية آل البوريون.. وتحطم سجن الباستيل ..

والأمثلة أكثر من أن يتسع لها هذا الموجز.

ومن ناحية ثانية، فإننا لاحظنا أن فكرة العدل هى القيمة الحاكمة فى القرآن الكريم، وأنه لو كان للأديان بصمة لكانت العدالة بصمة الإسلام، ومع هذا فإن انعدام الحرية، سمح بظهور الملك العضوض على يدى معاوية بن أبى سفيان- وحال هذا دون تحقيق العدالة ...

أن العدل.. والحرية وجهان لأصل واحد هو الحق وليس هناك ما هو اسمى من الحق الذى قامت به السموات والأرض وانزل الله به كتبه ورسله، والحرية هى وسيلة الإنسانية للتعرف على الحق. ومن هنا كان احتفاء الإسلام بحرية الفكر، وإعطائه "كارت بلانش" لها وعدم وضعه أى حدود عليها، لأن هذه الحرية هى التى تعرف الحق، وهى التى تميز ما بين الحق والباطل ...

وهذه هى أهمية الحرية، وأنها هى التى تفتح الباب للعدالة. وقد خدع بعض الحكام شعوبهم عندما أوهموهم أن العامل والكادح والفلاح الخ.. ليس فى حاجه إلى الحرية، وإنما هم بحاجة إلى العدالة، فقدموا لهم شيئا من العدالة وحرموهم الحرية.. وكانت الصفقة خاسرة تماماً لأن الحرية ليست هى التى تفتح الباب للعدالة فحسب، وإنما هى أيضا التى تحمى العدالة نفسها وبدون الحرية يمكن للحاكم أن يرجع عما أعطاه لشعبه من عدالة. ومن ثم فإن عدالة دون حرية لا يمكن أن تكون عدالة حقه. ودائمة.. فالحرية هى التى تجعلها كذلك.. فإذا لم تكن هناك حرية فلن تكون هناك عدالة ومأساة المجتمع الإسلامى على مدار تاريخه هى أكبر مأساة تؤكد هذا المبدأ.

على أننا لاحظنا عند وضع أصول دعوة الإحياء أن الكلام السابق وأن كان صحيحاً بلا جدال، إلا أن الفئات المضطهدة والمظلومة، وإن مكنتها الحرية من استعادة حقوقها المسلوبة وتحقيق العدالة. فإن هذا قد يتطلب وقتاً يمكن معه لجيل كامل أن يقضى حياته قبل أن يظفر بحقه، ولا يظفر به إلا الجيل الثانى، وربما الثالث وتاريخ الحركة النقابية يوضح ذلك. فإن عمال بريطانيا لم يستطيعوا لشراسة الاستغلال وقوة الرأسماليين، وجهالة العمال وفاقتهم وتمزقهم التكتل، إلا بعد مضى قرابة مائة سنة، دارت رحى الاستغلال فيها على العمال. حتى استطاعت النقابات أن تصل من الفعالية الدرجة التى صدت فيها جائحه الاستغلال الرأسمالى .

ولأننا أيضا لاحظنا "أن الظلم من شيم النفوس" كما قال الشاعر وأن الإنسان دون الأديان التى تهدى قلبه وتكبح جماحه، يمكن أن يصبح أسوأ من الوحوش المفترسة لهذا فإننا أجرينا خطاً اعتباريا ما بين الحرية والعدالة. فكل ما يتصل بالفكر والفرد (أى سلوكه، بما فى ذلك الملكية الاستهلاكية التى تعد لصيقة بشخصه) تخضع للحرية وتكون لها حصانة من أى تقييد، ولكن عندما ينتقل الأمر إلى التعامل مع الآخرين فإنه يخضع لقواعد العدالة التى لا تعد مضادة للحرية، ولكن إحسان استخدام الحرية. خاصة وأن الحرية المطلقة التى لا يجوز المساس بها إنما هى حرية الفكر التى تدور حول المبادئ والأفكار.. والتى يمكن- مع هذا- وتطبيقا لها- مقاومة الرأى بالرأى والفكر بالفكر. أما فى مجال العمل وما يمس الأمن المادى للأشخاص والأفراد- بكافة مجالاته من العيش والعمل والوظيفة وحقوق المواطن فى الأمن والمشاركة فى القرار.. وحقوق الفئات المهضومة أن تنتصف.. فهذه كلها لا يمكن أن تكون موضوعاً لحرية طليقة لأنه لا يمكن لضحاياها أن ينتصفوا كما هو الحال فى رد الكلمة بالكلمة والبرهان بالبرهان- وإنما يكون عليهم أن يتحملوا ظلم الأقوياء-حقبا طويلة حتى يمكن لهم أن يكسبوا قوة للمقاومة. وقد يفشلون فى هذا ومن ثم فيتعين أن يكون العدل هو الحكم والفيصل فى تقرير الأوضاع الاجتماعية والاقتصاد السياسى الخ ...

z

ثالثاً : بين الحـرية والديمقراطية

حدث فى بعض الأحيان خلط بين الحرية والديمقراطية فى حين أنهما متميزان. فالحرية نظرية إنسانية والديمقراطية أسلوب عملى وفى الحرية ما فى التنظير من انطلاق وموضوعية وفى الديمقراطية ما فى العمل من ضرورات وذاتيات. وكما يفهم من المعنى اليونانى لكلمة الديمقراطية فإنها حكم العامة، وقد تحورت فى التطورات الحديثة إلى حكم الأغلبية ويقتضى حكم الأغلبية بداهة على الأقلية الخضوع للأغلبية والتسليم لإرادتها، حتى لو كانت هذه الإرادة غير سليمة، وليس هناك ما هو أدل على هذا من الحكم على سقراط بالموت نتيجة لرأى أغلبية قضاته، وقد كان تسليم سقراط للحكم ورفض الفرار أو المقاومة مؤشراً على التسليم لحكم الضرورات حسنة أو سيئه، بحكم كونها ضرورات. أو أنه احترام للقانون القائم، والذى إذا أريد تعديله فبطريقة القانون نفسه، على كل حال إذا كان حكم الأغلبية على الأقلية شيئاً سيئاً فأسوا منه حكم الأقلية على الأغلبية. وهكذا فلا مناص من التسليم فى النهاية. وأثبت سقراط أنه فيلسوف مطبوع.

والعلاج الوحيد لهذا النقص الذى تحمله الضرورة هو ولو على المدى البعيد- الحرية. فمع الحرية يمكن للأقلية أن تغير الاتجاه، وأن تصبح هى الأكثرية، وتتكرر التجربة.. أو على الأقل تحول دون ظلم الأغلبية لها.

ولكن إذا استهدفت الأغلبية- بحكم أغلبيتها- تقليص الحريات لتستبد بالحكم، أو لتضيق على غيرها سُبل الوصول إليه. فإنها فى هذه الحالة لا تصبح ديمقراطية، ولكنها تتحول إلى نوع من الديكتاتوريات.. واحتمال تحول الديمقراطية إلى ديكتاتورية أمر وارد، بل هو الأغلب، وقد ظهرت الديكتاتوريات فى روسياً، وألمانيا، وإيطاليا من عباءة الديمقراطية الفضفاضة والحائل الوحيد دون هذا التطور هو الحرية. فإذا كانت قد سدت تماماً منافذ الحرية، فليس إلا الثورة التى تذهب بالحكم الديكتاتورى للأغلبية، وتعرض البلاد لما تحدثه الثورات من اضطراب.

وهكذا يتضح لنا التمييز ما بين الحرية والديمقراطية ويتضح لنا أن الحرية هى حامية الديمقراطية، كما أنها حامية العدالة ومن هنا أيضا يظهر المبرر لأولوية الحرية...

z

رابعاً : البلبلة والاختلاف والائتلاف

من أكبر ما يُدعى به ضد الحرية أنها تثير الفوضى والقلق وتبعث على البلبلة والاختلاف وتؤدى إلى التفتت والتعدد فى الهيئات. وما يثيره هذا كله من تبديد جهود، وإهدار مال، وإضاعة الوقت الثمين ..

فإذا كان من حق كل "من هب ودب" كما يقولون أن يصدر صحيفة أو أن يؤسس جمعية، أو حزبا فلابد أن تحدث البلبلة ويمكن أن تصدر مائه مجلة وأن يظهر مائه حزب ولهؤلاء نقول، ولنفرض هذا. فما هو المانع أو المحظور إن التطور سيحكم عليها بالبقاء أو الفناء تبعاً لما فيها من عناصر قوة، أو ضعف.

وعلى كل حال فليست الحرية وحدها هى المسئولة عن الاختلاف فى شتى مظاهره لأن الاختلاف مطبوع فى النفس البشرية. وهو جزء لا يتجزأ من طبيعتها ولن نجد حتى أخوين تؤمين يتفقان كل الاتفاق فى كل شئ. وقد أقر الإسلام الاختلاف كأمر طبيعى مغروس فى نفوس الأفراد وكان حريا بالإسلام- كدين- أن يضيق بالأديان الأخرى أو أن يعمل ليكون كل الناس مسلمين، ولكن القرآن سلك نقيض ذلك. فقرر الاختلاف بطريقة لا يمكن أن يوجد ما هو أصرح منها وأكثر تأييداً وتقريراً للاختلاف إلى نهاية البشرية، وأن هذا الاختلاف هو من دواعى خلق البشرية.. ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..﴾ [118-119 سورة هود]. وقد رضى أن تظل مجموعات الناس على أديانهم رغم أنه يرى أنها كفراً، وكما أن النبى لن يعبد ما يعبده الكافرون فإن الكافرين كذلك لن يعبدوا ما يعبده النبى ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.

فإذا كان الإسلام قد قبل الاختلاف والتعدد حتى فى أهم جانب- وهو العقيدة- فأحرى به أن يقبل الاختلاف والتعدد فيما هو أقل شأنا من مأكل، أو مشرب، أو لباس أو سلوك الخ ...

ولو لم يكن الاختلاف أمر طبيعة فارضة نفسها بحكم حقيقتها ووجودها لوجب أن يكون مما يعمل له ويسعى إليه الناس لأن معنى الاختلاف هو إظهار جانب من جوانب القضية لم يكشف عنه، ولما كانت الحقيقة متعددة الأبعاد والجوانب، فإن كشف كل جانب يساعد فى الوصول إلى الحقيقة.. وبهذا يكون الاختلاف عاملاً من عوامل التكامل والتعرف على كل أبعاد الموضوع ..

جانب آخر ينساه الذين يضيقون بما يوجده الاختلاف من تعددية وبلبلة هو أن هذا الاختلاف ثمرة لإعمال العقول ولما كانت العقول متفاوتة وهناك من يفهم أكثر من الآخر، فإن النتائج التى يتُوصل إليها تكون مختلفة. وهذا الاختلاف أفضل من فرض الصواب على الناس فرضاً (إذا تصورنا وصولنا إليه) لأن هذا الفرض وحده لن يؤدى إلى إعمال العقل. وإعمال العقل ميزه وهى ضرورة بحيث لا يكون الخطأ هو النقص الأكبر. ولكن النقص الأكبر هو عدم إعمال العقل. لأن الخطأ يمكن أن يؤدى إلى الصواب، بل إن أعرق وأقدم طرق المعرفة هى "التجربة والخطأ" لهذا كان المبدأ النبوى عن استحقاق المجتهد المصيب لحسنتين والمجتهد المخطأ حسنة أمراً سليماً تماماً ..

الحرية إذن لم توجد الاختلاف إيجادا، على أنها لو أوجدته لما كان هذا مأخذاً عليها بل كان فخرا لها لأننا رأينا أن الاختلاف إنما هو عملية كشف الجوانب المسكوت عليها، ودور الحرية فى هذا المجال يشمل أمرين: الأول أنها ساعدت على ظهور الآراء المختلفة بحكم كونها حرية. تفسح المجال لكل رأى وترفض أى تضييق. والأمر الثانى وهو إلهام هوائه ما دام الوعى بالحرية والإيمان بها عميقاً فإن الاختلاف لن يؤدى إلى تمزق، وفرقة، لأنه إنما يكون ذلك إذا ساد التعصب. وهو تقيض الحرية.. أما إذا سادت الحرية فسينطبق بالفعل قول الشاعر "اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.." فالحرية عندئذ تكون هى المناخ الذى يستوعب كل هذه الاختلافات ويحولها إلى تكامليات... وقد يتطلب الأمر نوعاً من التنظيم والتفضيل واعتبار الأولويات. وهو مالا ترفضه الحرية بل هو التطور الطبيعى للتعددية ما دام هناك إيمان بالحرية. فإذا لم يكن هناك إيمان بالحرية فإن التعددية لابد وأن تنتهى إلى نوع من سيطرة رأى على الآراء الأخرى أو يحدث ما حدث بالنسبة للمجتمع الإسلامى عندما أدت بلبلة حرية إصدار الأحكام إلى غلق باب الاجتهاد ولو كان مناخ الحرية سائداً لتمت عملية "بلورة" أو "تنهيج" تحقق الاستفادة من التعددية.


0 التعليقات:

إرسال تعليق