الثلاثاء، ١٨ أغسطس ٢٠٠٩

جناية «قبيلة حدّثنا» ( ٢ ــ ٣ )

في العدد الماضي أخذنا صورة عن عالم رواية الأحاديث في المدينة المنورة في عهد الرسول، وعهد الخلفاء الراشدين وكيف أنها كانت محدودة ولها ضوابط .

في هذا المقال سنحاول أن نفسر التطور المذهل الذي انتهت إليه الرواية، وهو تطور يتناسب مع التطور الذي وصل إليه الفتح الإسلامي، فخلال عشرين عامًا فتح المسلمون العالم القديم من إسبانيا حتي الصين ومن سيبريا حتي السودان، ولم يكن فتحًا عسكريا،

ولكن كان بالدرجة الأولي حضاريا وحقق أكبر حركة تلاقح للحضارات وامتزاج للشعوب بعضها بعضًا تحت لواء السماحة الإسلامية، فأي فرد من رعايا البلاد المفتوحة يمكن أن يسلم ويصبح واحدًا من المسلمين، ويمكن أن يبقي علي ديانته وتحفظ له حرياته في العقيدة والزواج والطلاق.. إلخ، لقاء دفع مبلغ «الجزية» التي كانت تجبي من الأفراد القادرين ويستثني من دفعها النساء والشيوخ والأطفال،

وأغرت سماحة الإسلام وبساطته وبعده عن التعقيد اللاهوتي وأنه دين الفطرة، وأن له طبيعة عملية، معظم سكان البلاد المفتوحة علي اعتناق الإسلام، بل إنهم أصبحوا السادة في العلوم الإسلامية من فقه أو حديث أو حتي اللغة، وفي الوقت نفسه فإن الحكام الذين كانوا أحرص الناس علي الاستئثار بالحكم ورفض أي معارضة فتحوا الباب علي مصراعيه أمام النحل والملل وكأنهم أرادوا أن يشغلوا الناس بقضايا العقيدة عن معارضتهم، ولعله الوجه السيئ في هذه العولمة .

ويمكن القول دون مبالغة إن الفتوح العربية قامت بأعظم حركة مزاوجة في العالم ما بين الشعوب الغالبة والشعوب المغلوبة، فبعد بداية مرحلة التصادم، جاءت مرحلة التسالم، ثم أعقبتهما مرحلة «التلاقح» الفكري التي قدمت فيها الشعوب المغلوبة، التي كانت أكثر حضارة،

علومها فترجمت كتب من الهند وفارس، ثم ترجمت الفلسفة اليونانية وظهر أن العرب أكثر حرصًا عليها من حرص أهلها أنفسهم، وهذه التجربة في تاريخ البشرية لم تسبق أو تلحق، ولا يمكن أن تقارن بها محاولة التقريب التي قام بها الإسكندر ما بين اليونان وفارس، ولا حركة التزويج ما بين يونانيين وفارسيات فإنها طويت مع النهاية السريعة للإسكندر .

ولكن هذه الصورة الفريدة من «العولمة» المبكرة تضمنت أيضًا عناصر سلبية أوهنت من «وحدة المجتمع وسمحت بدخول أجناس من كل شعوب العالم من ترك وديلم ومن فارس وإيران وبيزنطة ومصر والهند وأفريقيا، ولكل هذه الأجناس رواسبها وتراثها الحضاري ومللها ونحلها،

ومن يقرأ كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني يعجب مما حفل به المجتمع الإسلامي، إن بلدة صغيرة مثل «سلمية» في سوريا كانت تضم من الملل والنحل ما يكفي لبلبلة دولة، وأن «جبل عامل» في لبنان كان معقل الفكر الشيعي،

وأن البصرة كانت باب العراق المنفتح علي الهند وفارس، ومنها دخلت أفكار زرادشت وماني، وكان المتنبي يجري جواده مسافات شاسعة في صميم الوطن الإسلامي، «ولكن الفتي العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان»، بينما كان موسي بن ميمون يتنقل من بغداد إلي قرطبة، فيكون مسلمًا في بغداد ويهوديا في قرطبة، ويكتب العبرية بحروف عربية .

كان المجتمع الإسلامي يعيش في «فوضي خلاقة» تسمح لكل صاحب فكر بجانب من الحرية بحيث يمكن أن تظهر «القدرية» جنبًا إلي جنب «الجبرية» و«المرجئة» جنبًا إلي جنب «الخوارج»، و«الشيعة» جنبًا إلي جنب «السُــنة»، وتنبثق عن «السُـنة» «المعتزلة»، بينما يخلع شيخ المعتزلة ثوبه في المسجد ويعلن أنه «خلع» المعتزلة كما خلع ثوبه. ووجد من النساء اللائي :

يخبئن أطراف البنـــان من التقي/ويسعين شـــطر البيت معتمرات

كما وجدت الوقاحة الصريحة :

أنا والله أصـلح للمعــــــالي/وأمشي مشــيتي وأتيه تيهـا

أمكن عاشقي من لثم خـدي/وأعطي قبـلتي من يشتهيها

ويجب ألا ننسي أن الحكم الإسلامي تحول في فترة مبكرة من الخلافة الراشدة إلي الملك العضوض علي يدي معاوية الذي أوجب لعن علي بن أبي طالب علي المنابر، وجاء معاوية بزياد الذي أعلن مانيفستو الإرهاب في خطبته التي قال فيها : «حرام علي الطعام والشراب حتي أسويها بالأرض هدمًا وإحراقاً، وإني أقسم بالله لأخذن الولي بالمولي، والمقيم بالطاعن .. الخ،

حتي يقول الناس «انج سعد فقد هلك سعيد»، وفرض عدم التجول ليلاً، وختمها «وأيم الله إن لي فيكم لصرعي كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي»، ثم بدأت سلسلة المنكرات بمذبحة كربلاء، وقتل آل البيت وانتهاك حرمة المدينة وقتل أهلها واستباحة نسائها، ومبايعة من بقي علي أنهم «خول يزيد»، وجاء عبد الملك بالحجاج وخطبته المشهورة : «إني لأري رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها»،

وعندما طويت صفحة الأمويين بدأت صفحة العباسيين بوصية الإمام إبراهيم لأبي مسلم : «إن استطعت أن لا تدع بخراسان من يتكلم العربية فافعل، وأي غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله»، ونفذ أبو مسلم ذلك حتي قيل إنه قتل ستين ألفاً .

هذه الصور المتلاحقة من حكم طغاة وإشاعة إرهاب أذلت النفوس، وأفقدت الناس حرية الإرادة، وأفقدت الإسلام الصحيح في النفوس وقضت علي إرادة التحرر والتسامي، وحلت محلها الطقوس والمظاهر والشكليات، وهيأت النفس التي لم تعد أبية ــ حرة ــ لتقبل الصور العديدة من الغزو الفكري،

وللخضوع لإرادة الأحكام، وعندما يستمر ذلك عهودًا فإن النفس تألف كل صور الزيف والتحول، ولا تري زيفاً أو تحولاً وتبلغ الدرجة التي تري فيها المعروف منكرًا والمنكر معروفاً، فانطلي عليها كل ما وضعه الكائدون للإسلام، وتقبلت كل ما فرضه الحكام من أحكام، وإن كان فيها ما يخالف القرآن وما يسيء إلي الرسول، ولم تتحرك فيهم حاسة الإيمان لأنها كانت قد أشربت هذه العوامل وتلوثت بها دون أن تدري .

كان هذا المجتمع رغم اختلافاته إسلاميا، وكانت القضايا العديدة اقتصاديا واجتماعيا تتطلب حلولاً قانونية، وكان القانون فيها هو الإسلام، والقرآن الكريم لم يذكر أحكامًا تفصيلية، فلم يبق إلا السُـنة،

ولكن السُـنة كما ذكرنا في المقال الأول كانت محدودة للغاية، فلم يعد حل سوي أن يبحث المحدثون عن أحاديث في آخر الأرض كأن الرسول قد تحدث بمائة ألف حديث تعالج أحكام هذا المجتمع «الكوزموبيليتاني»، وأن هذه الآراء كانت مخبوءة في مكان ما مثل المومياوات والآثار التي خلفها المصريون القدماء واستكشفها المستكشفون.

وسبقت مسيرة البحث عن الحديث مرحلة من الترخص في قبول الأحاديث، فبعد أن وضعوا شروطاً صعبة للحديث الصحيح «الذي يؤخذ منه الحكم» بدأوا يستثنون ويسمحون بالتنازل ثم عمدوا إلي الحديث الحسن وهو الذي لا يتوفر فيه شرط الصحيح فألحقوه بالحديث الصحيح وأخذوا يتحايلون علي الحديث الضعيف بحيث ألحقوا الكثير منه بالحديث الحسن، ومن ثم بالحديث الصحيح.

ولكن هذا لم يكن كافيا.

لم يعد مفر من «الوضع».

ومع أن قضية الوضع تبدو مروعة، فإن قوي عديدة تضافرت قضت علي كل مقاومة في النفس، بل إنها دفعت للوضع بحماس، فالطبيعة البشرية تتأثر بالعوامل، وهذه العوامل التي تجعل من أمر ما ضرورة يمكن أن تمضي قدمًا حتي تجعل منه فضيلة .

وكانت هناك سابقة تلقي ضوءًا علي هذه العملية، فإن عددًا من الشيوخ رأي انصراف المسلمين عن القرآن وولعهم بالمجادلات الفقهية، فأخذوا يضعون أحاديث في فضائل السور سورة سورة، فمن قرأ سورة كذا بني الله له بيتاً في الجنة، ومن قرأ سورة كذا أصبح كيوم ولدته أمه، ومن قرأ سورة كذا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،

وعاتبهم بعض أقرانهم الذين علموا بذلك وقالوا «أتكذبون علي رسول الله" ؟ فقالوا نحن نكذب لرسول الله»، أي لحساب رسول الله، فهؤلاء أرادوا خيرًا ولكن بوسيلة سيئة، وهذه الواقعة تصور لنا كيف يمكن أن توجد عوامل تدفع ــ تطوعًا واحتسابًا ــ إلي الوضع وهو أسوأ صور الكذب.

وجد الفقهاء أنفسهم والحكام يلحون عليهم في موافاتهم بأحاديث تكون أساسًا لقوانين يريدونها، وما كانوا يستطيعون رفضًا، وقد تقبلوا إمارة المغتصب وكل من تمكن في الاستيلاء علي السلطة بأي طريقة، لأنهم وجدوا أن الثورة عليه ستؤدي إلي فتنة و «الفتنة أشد من القتل»،

وكان خيال صفين والفتنة الكبري في أعماقهم، وكان هناك دافع بريء هو أن يحدوا من شر هؤلاء الطغاة إلي أقل مدي، فبدأوا في وضع الأحاديث اضطرارًا ثم مسايرة ثم أصبح ذلك دأبًا ومهنة، وكان يدفعهم ما يظفرون به من تقدير باعتبارهم حملة حديث الرسول، ويقدرون بقدر ما يروون من أحاديث.

وكان مما سهل عليهم عملية الوضع أن طبيعة الرواية تعتمد علي «التجميع»، ومن يعمل بالتجميع فإنه لابد بطريقة ما أن ينحو نحو التكاثر، كما أن عملية التجميع لا تريد إعمال فكر وإنما ذاكرة بحيث يكون من حفظ حجة علي من لا يحفظ، ومن ثم فإن الاستكثار وليس مبدأ الوضع أصبح موضع الاهتمام، فنسمع عمن ألم بمائة ألف حديث ومن عرف خمسمائة ألف حديث وقيل إن الإمام أحمد عرف ألف ألف حديث «مليون». من أين جاءت هذه الأحاديث ؟

وإلي أين ذهبت ؟ لقد ذهبت مع الريح واكتسحها التطور الذي لا يبقي إلا علي الصحيح . بجانب فئة «الوضاع الصالحين» و«الفقهاء المشرعين» وجدت فئة تريد الكيد للإسلام، وما أكثر ما ظفر الإسلام بعداوات من أصحاب الأديان الأولي أو الحضارات التي قضي عليها الإسلام، وبدأت عداواتهم تظهر من أيام الرسول،

وحاولوا أن «يلغوا في القرآن»، ولكنهم عجزوا وأرادوا أن «يزيدوا فيما أنزل الله» ففشلوا ولكنهم وجدوا السبيل الذي يحقق مآربهم في الكيد للإسلام وهو أن يصطنعوا أحاديث يحللون بها الحرام ويحرمون بها الحلال وينالون من قداسة القرآن ومن عصمة الرسول، ويجعلوا لها سندًا يرقي إلي عائشة أو عبد الله بن عمرو بن العاص أو عبد الله بن مسعود،

وحدث هذا من الأيام الأولي ولكنه لم يعلن إلا عندما سمحت بذلك ظروف الدولة الإمبراطورية، ورأي الجماعون هذه الأحاديث تنسب حيناً لعائشة وحيناً لعبد الله بن عمر بن الخطاب فأخذوها دون أن يعملوا عقولهم، وسلكت سبيلها إلي المراجع الإسلامية «الكلاسيكية» التي ألفها كبار الفقهاء ككتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي، ومثل تفسير الطبري وابن كثير، ولم يعد أحد يجرؤ علي القول إنها أحاديث مدسوسة .

0 التعليقات:

إرسال تعليق