الخميس، ٢٠ أغسطس ٢٠٠٩

الحجاب

قد لا يعلم أبناء هذا الجيل المشغول بالأحداث والمهموم بأعباء المعيشة والمنقطعة صلاته أن الحجاب كان سبباً فى قيام ثورة عاتية فى الأفغان فى العقد الثانى فى القرن العشرين عصفت بأسرة مالكة، وجاءت بأخرى. فعندما جروء الملك أمان الله خان – خلال محاولته تحديث بلده القبلى الجبلى الوعر – على أن يظهر زوجته الملكة ثريا وقد تخلصت من النقاب وبدت مكشوفة الوجه، عارية الذراعين ثارت ثائرة الشعب فاقتلعت الملك أمان الله من عرشه وقضت على أولى محاولات تحديث الأفغان وأعادت المرأة الأفغانية مرة أخرى إلى خدرها ونقابها.

وعلى مدار ألف عام وقد خضعت المرأة المسلمة لرأى فقهى متزمت يقضى على المرأة بأن تضع نقاباً كثيفاً يغطى وجهها، ويحرمها من التعليم والعمل ويحول بينها وبين الاختلاط أو التعرف على المجتمع، ويجعل مهمتها الوحيدة إرضاء الزوج وإنجاب الأبناء وتربيتهم، ويقصر عالمها ما بين المطبخ وغرفة النوم.

ومنذ مائة عام فحسب ظهرت الدعوة لتحرير المرأة فى بعض الدول الإسلامية. مثل مصر وتونس وخاضت معركة مريرة ما بين دعاة السفور ودعاة الحجاب. ونجحت الحركة فى أن تستنقذ المرأة المصرية من عالم القرون الوسطى وتنقلها إلى عالم العصر الحديث، وأن لم تقضى على دعاة النقاب، الذين رزقوا فى بعض الأوقات عوامل شدت أزرهم وأعلت صوتهم.

ولكن الأمر الواقع فرض نفسه على هذا السجال ما بين دعاة السفور ودعاة الحجاب، فإن المرأة المسلمة – على الأقل فى مصر – أخذت زمام المبادرة فظهرت إلى الميدان مكشوفة الوجه واليدين مستورة الشعر فيما أطلق عليه "الحجاب" تمييزاً له على النقاب الذى يغطى الوجه باستثناء فتحة صغيرة أمام إحدى العينين !

وخلال الثلاثين عاماً الأخيرة أصبح المحجبات هن الأغلبية العظمى من النساء اللاتى يسرن فى الشوارع أو يمارسن المهن والأعمال من طبيبات ومحاميات ومحاسبات ومعلمات إلخ... وتحتشد بهن دواوين الحكومة، بل نجدهن فى الإعلام حيث يتعرضن لمضايقات شديدة يتحملنها دون أن يتخلين عن حجابهن. فلا معنى لتجاهلهن، والتنديد بهن. فقد أصبحن الأغلبية وبدائه الديمقراطية تقضى بأن تذعن الأقلية للأغلبية. وأن يسلم المراقبون والمتابعون لشئون المجتمع بها بدلاً من أن يكابروا فيها.

وهذه ظاهرة جديدة، لابد وأن تكون لها أصل فى اقتناع المرأة المصرية المسلمة بهذا الحجاب ولا يمكن عزوها إلى عناصر قهرية حتى عندما نضع فى الحسبان ضغط بعض الأباء. إن الذى حدث هو العكس، فقد تعرض اللائى أخذن بهذا الحجاب لضغوط لكى يقلعن عنه، ولكنهن رفضن حتى بعد أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 فى نيويورك وواشنطن عندما تعرضت المسلمات اللاتى يأخذن بهذا الزى لموجة من الكراهية وإساءة المعاملة والشكوك إلخ... كما أن بقاء المجموعة التى تؤمن بالنقاب يوضح أننا أمام ظاهرة جديدة تحتاج معالجة موضوعية، متحررة من الأهواء والنزعات والآراء المترسبة فى الأذهان والمتأثرة بعوامل عديدة غير موضوعية.

وقد كانت معظم المعالجات السابقة تنطلق من منظور "شرعى" باعتبار أن الحجاب هو أحد الآداب التى اصطحبت فى الأذهان بالإسلام. ومن ثم يقولون "الزى الشرعى". وغلب على الكتابات الإسلامية عن المرأة طابع التحايل والمراوغة، فبعض هذه الكتابات يعرض ما قدمه القرآن الكريم من حقوق وضمانات وكرامة للمرأة دون أن يعرض لآراء المفسرين والفقهاء الذين هدموا هدما ما جاء به القرآن. والكثير منها يتوقف أمام حديث يعد بمقاييس المحدثين القدامى صحيحاً أو مما يؤخذ به. فيتأخر ويتقهقر ويحاول أن يلتمس مبررات للأخذ به والوقوف عنده، وإن تضمن انتقاصاً من حقوق المرأة. أو يلجأ للمماحكات والتأويلات لإبراز أن ليس فيه شئ يمس المرأة.. وقد سئم الناس من هذه الكتابات لأنهم يريدون الحق الصراح، كما يريدون معالجة جديدة تختلف عن المعالجات التقليدية والمكررة والتى أشبهت نوعاً من الاجترار.

ولعل من عناصر الإبداع فى هذا الكتاب أنه تنبه إلى أن الحجاب – وبمعنى أدق النقاب الذى كان مستخدماً طوال القرون الماضية ويحجب وجه المرأة – هو المسئول الأول عن تدهور وضع المرأة المسلمة لأنه أغلق الباب فى وجهها وشل كل الحريات التى أعطاها القرآن للمرأة. كما أنه عالج الجانب (الشرعى) فى ضوء فهم جديد للنصوص وطريقة جديدة للتعامل معها يمكن بها التوصل إلى حقوق المرأة على أساس أصولى ليس فيه تعسف وإن كان فيه تجديد.


وقضية الحجاب قضية متعددة الأبعاد فهى تشمل المرأة، والمجتمع، ولا نجاوز الصواب إذا قلنا إنها تشمل الرجال أيضاً.

وقد كشف هذا الكتاب عن بعدين لم يظفراً بالمعالجة فبما كتب عن الحجاب عادة. البعد الأول الجذر التاريخى وكيف أن الحجاب يعود إلى الحضارات الأولى. وأن البشرية جمعاء – باستثناء الحضارة المصرية القديمة – كانت تفرض على المرأة صوراً ثقيلة من صور الحجاب وأن هذه الحقيقة التى لم تتحرر منها المرأة إلا فى الحقبة الحديثة وبالنسبة للمرأة الأوربية لظروفها الخاصة – كان لها أثرها فى بقاء الحجاب لأن القضاء على هذا التقليد القديم ليس سهلاً وأن الإسلام ليس مسئولاً عنه، فقد كان موجوداً قبله فى كل الحضارات وبصورة أشد مما أراده الإسلام.

والبعد الثانى هو أثر الحجاب على المجتمع. فالحجاب الذى كان مطبقاً طوال القرون الماضية كان هو النقاب الذى يغطى وجه المرأة، وبالتالى يعزلها عن المجتمع، ويعزل المجتمع عنها وكان لهذه الحقيقة أثار عميقة وشاملة على المجتمع – قلما يُلم بها أو يعنى بها الذين يكتبون عن الحجاب، ويتغنون بمزاياه ..

ولم تتوصل المرأة المسلمة الحديثة إلى الحجاب الذى يكشف الوجه واليدين ويسمح بالتالى بوجودها فى المجتمع – إلا أخيراً جداً ويفضل حركة تحرير المرأة التى ينددون بها.


وكان من المفاتيح التى كشف عنها هذا الكتاب إن أزمة الكتاب الإسلاميين الذين عالجوا موضوع المرأة إنما جاءت من أنهم نظروا إليها كأنثى وليس كإنسان ولهذا فإنهم رغم التكرار الذى لا يملونه عن مساواة الإسلام للمرأة بالرجل، وتكريمها إلخ... يأتون بعد هذا الكلام مباشرة بما يهده هدا وينقضه نقضا دون أن يستشعروا حرجاً أو يحسو خجلاً وإنما جاء ذلك لأنهم لا يفهمون مضمون كلمة الإنسان وما يستتبعه من حريات وحقوق. والحقيقة إن جهالتهم تلك تضم النساء والرجال معاً. لأن فكرة الإنسان لديهم باهته تماماً، وقد كاد أن يقضى عليها الفهم القديم للإنسان والالتباس الذى أحاط بتعبير "العبودية لله" وقد اقتحمت فكرة المرأة كإنسان عليهم الباب بتأثير الحضارة الأوربية وعسر عليهم الإيمان بها، ولكنهم بتأثير عوامل عديدة قبلوها اسماً ورفضوها عملاً يرفعونها إلى عنان السماء بألسنتهم وينزلون بها إلى الدرك الأسفل بأعمالهم لتمكن وتأصل الدرجة المتدنية للمرأة المستكنة فى أعماق نفوسهم، وهذا هو سر الازدواجية التى أصبحت من سمات الكتاب الإسلاميين ما بين الإدعاء والحقيقة، القول والعمل.

ولا يقل أهمية عن الإلمام بهذه الأبعاد وأثرها. المعالجة الجذرية لطريقة فهم الإسلام والموقف من النصوص، هذا الموقف الذى قد يبدو مجافيا لها، ولكنه فى هذا إنما يرتفق بعوامل من صميم الدين نفسه. فالنصوص ليست صماء كما لا يجوز للذين يعالجونها أن يخروا عليها صما وعميانا.

f

على أن فى هذا الكتاب شيئاً آخر، شيئاً أهم من استكشافه الأعماق التاريخية والأبعاد الخفية للحجاب. ومعالجته المعالجة غير التقليدية للنصوص، هذا الشىء هو الإيمان العميق بأن النساء ظلمن على ممر العصور ظلماً شديداً ورضخن لحماقات وإساءات و "رزالات" الرجال، وجردن من إدارة شئونهن بحيث لم يعد لهن من أمرهن شيئاً. وأصبحن "عوان" أسيرات كما قال الرسول وهو يدفع عدوان الرجال، ولم تستطع قوة أن تنقذهن حتى مشارف العصر، بما فى ذلك الإسلام رغم آيات القرآن ومحاولات الرسول للأسباب التى سنوضحها فى باب "الإسلام والحجاب" فعشن مقهورات ومتن وفى النفس غصة.

هذا الإحساس العميق الذى يحمر له الوجه خجلاً ويتصدع منه الفؤاد أسى.. كان هو الباعث على تأليف هذا الكتاب كاعتراف بالذنب وكاعتذار عنه.

إن هذا لهو أقل ما تستحقه المرأة، هذا المخلوق الكريم الجميل المضحى الذى أعطى الكثير، وكان جديراً بالاحترام والتقدير، ولكنه جوزى بالعقوق والتحقير.

إنه حق الأم. والأخت، والزوجة والحبيبة ولا يوجد فى عالم الحقوق ما هو أقدس وأوجب منه.

فأى حق يفضل حق الأم التى حملت فى رحمها وأرضعت على صدرها ورعت بكل حواسها طفولة تزحف على الأرض ولا تملك لنفسها شيئاً حتى جعلت منها صبيا عفيا، أو شابة بهيجة وأى حق يطال حق الزوجة التى أدارت البيت بكفاية وحققت لزوجها الإشباع العاطفى والنفسى وكانت له الحب والسكن.

بأمل أن تصلح هذه السطور ما أفسدته تلك العصور، وأن يكون الآتى أفضل من الماضى، وأن تظهر أخيراً المرأة المحررة بكل ما فيها من جمال وعطاء... ألّفنا هذا الكتاب.

جمال البنّـا

0 التعليقات:

إرسال تعليق