السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الإسلام دين وأمّة وليس دينًا ودولة مقدّمة

فى هذا الكتاب دراسة إسلامية وثقافة اجتماعية وسياسية لأننا نؤمن أن معالجة موضوع الدولة، أو الحكم فى الإسلام لا يجوز أن يقتصر على الكتابات الإسلامية كما هو الدأب المألوف. فيعود الكاتب إلى ما كتبه الماوردى فى الأحكام السلطة وابن تيمية فى السياسة الشرعية. ويتصفح تاريخ الطبرى والبداية والنهاية ويعود إلى الأحاديث صحيحها وسقيمها ويعتبر أن دوره ينتهى عند هذا. إن ما فات هؤلاء الكتاب أن الحكم – إسلاميا أو غير إسلامى – هو الحكم وأن له طبيعته الخاصة التى لا يمكن لأى صفة تعلق به أن تجرده منها وإنما قصارى ما يمكن أن تصل إليه هو أن تضيف إليها، أو تنقص منها بعض الصفات دون أن يؤدى هذا إلى تغيير طبيعتها.

إذا كان الأمر كذلك فإن من الواجب تفهم تجارب الحكم فى مختلف النظم والعهود والشعوب وما يمكن أن يبديه ذلك التفهم من أعماق الحكم وجوانبه المتعددة ثم دراسة تفاعل الإسلام مع طبيعة الحكم، ومدى نجاحه فى كبح جماحها وحُسن توجيهها.

وأدت بنا دراسة الحكم منذ أن ظهر من أقدم العصور حتى العهد الحديث إلى المبدأ المحورى الذى حكم سياق وروح الكتاب. ألا وهو "إن السلطة التى هى خصيصة الدولة تفسد الأيديولوجيا (أو العقيدة) وأن هذا الإفساد هو فى طبيعة السلطة ولا يمكن أبداً أن تتحرر منه. وأن أى نظام يقترن بها بفكرة إصلاحها لابد وأن تفسده.. وأن أى نظام يحاول تطويعها لابد وأن تطوعه، وبدلاً من أن يكون سيدها يصبح تابعها".

هذا المبدأ القاهر هو الذى جعلنا نقول إن الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة.

ويجب الإشارة إلى أن هذا المنهج الذى أغفله الكتاب الإسلاميون، ورأى البعض فيه منهجاً علمياً أو موضوعياً مستقلاً عن الإسلام هو فى حقيقته إسلامى لأن القرآن الكريم قرن إنزاله الكتاب بإنزاله "الحكمة" وأمر بالسير فى الأرض ودراسة آثار السابقين وعاقبة أمرهم. فنحن عندما نطبقه إنما نطبق منهجا أمر به الإسلام..

كما أن تركيزنا للأهمية على الأمة وليس على الدولة، وجعلها (أى الأمة) المعول فى التقدم جعلنا نطرق مجالات جديدة على كتاب عن الحكم فى الإسلام كما يتضح ذلك فى ثنايا فصوله وبوجه خاص فى الباب الأخير، مما قد يعد استطراداً فى غيره، ولكنه لزوم بالنسبة له وبحكم اسمه وعنوانه.

f

عالج الكتاب فى الباب الأول "دولة المدينة في عهد الرسول والخلفاء الراشدين" ورأى أنها "تجربة فريدة لا تتكرر" وأن من الخطأ الفاحش تصور إقامة دولة على غرارها لأن دولة المدينة لم تتوافر فيها مقومات الدولة بالصورة التى يفترض أن تتوافر فى الدول الحديثة.. فلم يكن لديها جيش محترف، ولا سجون، ولم تفرض الضرائب.. وأهم من هذا كله أن رئيسها كان نبياً مرسلاً يرعاه الله ويصحح له الوحى اجتهاداته ولا يملك من الأمر شيئاً وإنما يحكم بما أنزل الله.. وهذه كلها لا يمكن أن تتوافر فى أى دولة أخرى. ثم كانت الخلافة الراشدة امتداداً للعهد النبوى وسيراً فى آثاره وانتهت هذه الخلافة بطعن عمر بن الخطاب وموته. أى أنها لم تستمر سوى أقل من ثلاثة عشر عاماً. ثم أخذت بذور الفساد تظهر.. وعندما أراد على بن أبى طالب أن يعيد الأمر إلى ما كان عليه عهد الشيخين استحال ذلك.

بهذا الباب حل الكتاب مشكلة الحكم فى الإسلام "فحقاً" إنه كان هناك دولة فى عهد الرسول وفى عهد الخلفاء، ولكن هذه الدولة كانت تجربة فريدة لا تتكرر. فلم تتوافر لها مقومات لابد منها فى الدولة الحديثة. بينما أضيفت لها مقومات (حكم الرسول لها) لا يمكن أن تتوافر فى العصر الحديث فالقياس عليها باطل..

وفى الباب الثانى – السلطة تفسد الأيديولوجيا – تحدث الكتاب عن التفرقة ما بين الأمة والدولة، وأن العلاقة الفارقة بينهما هى السلطة التى لا تتوافر للأمة والتى تجعل الدولة جهاز قمع أو إرشاء وبالتالى فلا يمكن أن تنهض برسالة دعوة أو تحقق قيم دين، وأن هذا يجب أن تتولاه "الأمة" التى تضغط على الدولة وتدفعها إلى تطبيق الشريعة، ثم تراقب هذا التطبيق حتى لا تفسده السلطة. ثم بين فى خمسة فصول كيف أن السلطة أفسدت الخلافة الإسلامية فحولتها إلى حكم عضوض. وكيف أنها أفسدت التشيع العلوى فحولته إلى تشيع صفوى وكيف أنها أفسدت المسيحية من ديانة المحبة فجعلتها محكمة تفتيش وكيف أفسدت اليهودية وحولتها إلى صهيونية. وكيف أفسدت الاشتراكية فجعلت منها مدرسة الحكم الشمولي.

يعود الكتاب فى الباب الثالث إلى المجال الإسلامى "الدولة الإسلامية فى العصر الحديث بين التنظير والتطبيق" فيشير فى فصل إلى جمال الأفغانى وحسن البنا باعتبارهما أفضل من كتب عن الحكم الإسلامى. ويبرز نقطة هامة هى أن حسن البنا الذى صك صيغة "الإسلام دين ودولة" كان من واقع كتاباته ديمقراطيا يتقبل دستور مصر سنة 23 وإن طالب بتعديله ثم ينتقل الكتاب إلى محاولات تنظير الدولة الإسلامية فيتحدث عن المودودى. وسيد قطب. والإمام الخمينى وفكرة "ولاية الفقيه" وأخيراً فإنه يتابع جماعات الرافضة الجديدة وبوجه خاص جماعة التكفير والهجرة الرائدة. ثم حزب التحرير ثم جماعة الجهاد...

ويختم الباب بفصل عن تجربة إقامة الدولة الإسلامية فى العصر الحديث، يستعرض تجربة "السعودية" وتجربة الجزائر، وتجربة السودان، وتجربة تركيا، ويقف طويلاً عند تجربة إيران التى يراها أنجح هذه التجارب وإن كانت تتعرض لمأزق خطير. وينتهى إلى أن العناصر الذاتية التى فرضت نفسها على "التنظير" وأفقدته الصفة الموضوعية تجلت عند التطبيق وأن محاولات الدولة الإسلامية فى هذه الدول ليس فيها المقومات الجوهرية للدولة الإسلامية، وأنها تكاد تكون أسوأ من نظم سياسية فى أوربا وأمريكا. ففيها القمع، وكبت الحريات والسجون والفساد المالى والثراء الفاحش والفقر المدقع، وانتفاء المعارضة السياسية الحرة، وفيها السجون التى تحتشد بالمخالفين وتمارس فيها أساليب التعذيب فأين الإسلام !!

ويختم الكتاب بالباب الرابع "إنما تتقدم الأمم بدعوات الأنبياء.. وجهود الجماعات والهيئات والعلماء والمخترعين" يكشف عن أن الأنبياء كانوا أول من حرر الجماهير والجماعات من النظم الوثنية. ويبرز الدور القيادى للأنبياء، وأنهم قدموا المثال لما يجب أن يكون عليه القائد والقيادة.

وفى العهد الوسيط يتحدث الكتاب عن وجود الهيئات والجماعات من أحزاب ونقابات وهيئات إصلاح الخ... وأثرها فى تقدم الأمم ويضرب المثل بالحركة النقابية فى بريطانيا. وأخيراً يظهر كيف أن العلماء والفلاسفة والمخترعين والأدباء والدعاة هم الذين بدؤوا العصر الحديث وأقاموه لحمة وسدى وجمعوا بين العلم والعمل وجعلوا العلم فى خدمة الحياة فأثروها وأناروها بالكهرباء، وجعلوا الحياة الدنيا جنات تجرى من تحتها، وجاوزوا ما وصل إليه سليمان فى القديم.

فهذه الجهود التى بدأها الأنبياء وختمها العلماء هى سبب تقدم الأمم وهى التى كانت من القوة بحيث كبحت جماح السلطة ووجهتها وجهة الخدمة وليس السيطرة.

f

فى ختام هذه المقدمة أعترف للقارئ أننى ترددت قبل وضع عنوان "الإسلام دين وأمه وليس دينا ودولة" لعلمى بمدى اعتزاز فريق كبير من الجمهور الإسلامى بفكرة الدولة الإسلامية، ولأن كلمة دولة قد تتضمن أطيافاً عامة، ولكن لما كانت "السلطة" هى فى النهاية جوهر الدولة، فلم يعد مناص من الانتهاء إلى عنواننا حسماً لآثار هذا العنصر المدمر. وقد آن للمسلمين أن يعلموا أن كل ما خرج عن إطار الاعتقاد دخل فى إطار الاجتهاد وما دمنا لا نتحدث عن الله تعالى أو طبيعته أو ذاته، وما دمنا لا نجحد الوحى والرسل واليوم الآخر فلا جناح علينا إذا أخضعنا الموضوعات الأخرى للاجتهاد وإذا كانت الدولة الإسلامية ترتبط فى أذهان البعض بذكريات مجيدة، فإنها تتضمن أيضا سوءات عديدة.

ولابد أن نقلع – ونحن نجابه المستقبل – عن التأثر السلبى بالماضى أو محاولة فرضه على الحاضر )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ({البقرة 141}.

جمال البنّـا

0 التعليقات:

إرسال تعليق