الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل الثاني إشارات القرآن إلى التعدّدية

كل من يتصفح القرآن الكريم، ويتأمل سوره سورة سورة، يجد أنه بمقدار ما حرص على إبراز وتأييد التوحيد بالنسبة لله تعالى بقدر ما أبرز التعدّديات فيما عداه.

بل إن القرآن نفسه كان من اكبر مصادر التعددية، ذلك لأن أسلوبه المجازى وصياغته المتميزة للكلمة تجعل لها معانى متعددة، فما من كلمة قرآنية أو آية إلا ويمكن تقديم عدد من التفاسير لها لأن القرآن أُنزل لكل المسلمين فى كل العصور وكان سر الأعجاز القرآنى أن الكلمة القرآنية تتسع لتأويل يتفق مع مفاهيم العصر الحديث، كما تقبلتها مفاهيم العصر القديم. بل إن الأحكام (العقوبات) القرآنية نفسها التى يفترض فيها التحديد- صيغت بصورة عامة مما استوجب أن تقوم السنة بدور كبير فى "البيان" القرآنى، ونشأت عن هذا كله مجلدات التفاسير والحديث وما بُنى عليهما من فقه وسمح جو الحرية الأول بظهور المئات والألوف من التعدديات فى العقيدة والشريعة قبل أن ينغلق باب الاجتهاد.

فالقرآن نفسه يُعَدُّ من أكبر مصادر التعددية، أو قل إنه الأصل فى التعددية الإسلامية.

ويوضح لنا القرآن صوراً من التعددية أبعد وأكثر مما يتصوره أنصارها.. فهذا الكوكب الأرضى الذى نعيش عليه ليس إلا وحدة صغيرة من ملايين أو حتى بلايين الكواكب تفصل ما بين الأرض وبينها مئات السنوات الضوئية، ويفوق بعضها الأرض حجماً مرات عديدة، ومره أخرى فإن كل هذه الكواكب والمجرات التى يضمها الكون ليست إلا عالم "الشهادة"، وهناك عالم آخر يطلق عليه عالم الغيب.. يبدأ حيث ينتهى عالم الشهادة، وفي عالم الغيب هذا جنّة ونار، وعذاب وثواب.

وفي عالمنا الصغير – كوكب الأرض – تتعدد الأنهار والبحار ويختلف الليل والنهار وترتفع الجبال والهضاب وتنخفض السهول والوديان.. وهناك أنواع بمئات الألوف من الحشرات والطيور والنبات أما الإنسان نفسه فرغم أنه واحد يسير على قدمين فإنه متعدد الجنسيات والألوان والألسنة واللغات والأديان والمعتقدات فالكون الأرضى ومجتمعه الإنسانى أبعد ما يكون عن الواحدية.

واستبعد القرآن أن يكون الناس أمة واحدة ينتظمهم اتفاق ورأى إنهم مختلفون، وسيظلون مختلفين تميز بعضهم عن بعض ألوان البشرة ولغة اللسان والعقائد والانتماءات.. وأنهم فى الأمة الواحدة سلف.. وخلف.. يختلف بعضهم عن بعض وأعتبر من آيات الله ﴿اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، وما أكثر مادة "اخْتَلَفَ" فى القرآن "اخْتَلَفَ- اخْتَلَفْتُمْ- اخْتَلَفُوا- تَخْتَلِفُونَ- خِلَافٍ- اخْتِلَافِ- مُخْتَلِفٌ" فهذه كلها تدل على مساحة واسعة للاختلاف وبالتالي التعدّدية ...

وإذا كان القرآن الكريم قد وصف أمّة المسلمين إنها "واحدة" فهذا يعنى أنها واحدة فى عقيدتها ولكنه لا ينفى عناصر التميز والاختلاف والتنوع بين شعوب وفصائل هذه الأمة داخل الإطار الفسيح للعقيدة الواحدة.

على أن القرآن الكريم لا يكتفى بهذه الإشارات العامة إلى التعددية ولكنه يقرنها بعدد من القواعد التى ترسى التعددية، ثم يصل إلى الغابة عندما يقرر التعددية الدينية وتعايش الأديان جنباً إلى جنب.

ومن القواعد التى ترسي التعدّدية فى القرآن الكريم :

1- النص على أن الله تعالى خلق كل شىء من زوجين، وبهذا نفى الواحدية من المجتمع وأثبت التعددية ابتداء من زوجين أو "أزواجاً" بصيغة المجتمع.

  • ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ {36 يس}

  • ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا {11 فاطر}

  • ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ {26 الشعراء}

  • ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49 الذاريات}

فهناك تعددية حتمية أدناها " الزوجيّـة " ..

2- تقرير مبدأ الـ دَرَجَاتٌ بما يتضمنه ذلك من تفاوت، وبالتالى تعدّدية وقد استخدم القرآن كلمة "دَرَجَة" ليميز بها بين فئات من المؤمنين فقال ..

  • ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا {95 النساء}

  • ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {132 الأنعام}

  • ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ {165 الأنعام}

  • ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ {20 التوبة}

  • ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ {32 الزخرف}

وحتى بالنسبة للأنبياء ..

  • ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ {253 البقرة}

3- تقرير مبدأ استباق الخيرات، وجاء تصوير القرآن لهذا المبدأ متضمناً حرية انطلاق الأفراد من منطلقاتهم الخاصة ..

  • ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ .. {148 البقرة}

  • ﴿... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48 المائدة}

  • ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ {100 التوبة}

  • ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ {32 فاطر}

  • ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ {21 الحديد}

4- تقرير مبدأ "التدافع" وهو أقوى من مبدأ استباق الخيرات، وقد جاء فى سورتي {البقرة} و{الحج}.

  • ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251 البقرة}

  • ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا {39-40 الحج}

وهذا المبدأ يصور المجتمع وفعالياته، والصراع ما بين الحق ودعاته والباطل وأشياعه. كما يشير إلى بعض تجليات التعددية فى الصوامع والمساجد والصلوات والبيّع...

5- شمول العطاء الإلهى ..

تحدث القرآن الكريم عن الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، أو الذين يستسلمون للمغريات، وتقبّل هذا كأمر واقع بحكم الضعف البشري الذي يستولي على بعض الناس. وأوضح أن عطاء الله ليس محظوراً عليهم، وأن حسابهم لا يكون فى هذه الدنيا، وإنما فى الآخرة ..

﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا {19 – 20 الإسراء}

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ {20 الشورى}

6- تقرير مبدأ حرية الاعتقاد- ولعل تقرير القرآن لهذا المبدأ- أعظم دليل على تقرير التعددية فى مبدأ هو صلب الأديان جميعاً : الاعتقاد، وجاء تقرير القرآن له صريحاً لا يقبل لبساً، وفى العديد من الآيات التى يضيق هذا الموجز عن استيعابها مثل:

  • ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ {256 البقرة}

  • ﴿... فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ {108 يونس}

  • ﴿مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا {15 الإسراء}

  • ﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ {29 الكهف}

وأوضح القرآن أن الدعوة إلى الإسلام لا تستتبع قسراً أو إغراء.. أو حتى ما لابد وأن يساور نفس الداعية من أمل فى الهداية وضيق بالرفض.. لأن الهداية من الله ودور الرسول هو البلاغ وليس له أن يأسى لرفض الرافضين.

  • ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ {272 البقرة}

  • ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ {99-100 يونس}

  • ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ {56 القصص}

  • ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا {6 الكهف}

  • ﴿أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى {5-7 عبس}

7- تقرير القرآن أن الأصل في الأشياء الحل، وفي الأعمال الإباحة، وهى وإن كانت صياغة فقهية إلا أنها مستقاة من الآية ...

  • ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ {93 آل عمران}

  • ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا {13 الجاثية}

كما أن ذلك هو مفهوم جعل التحريم والتحليل وقفاً على الله تعالى وحده فيما ينص عليه فى القرآن الكريم جلياً وصريحاً، ومثل هذه التحريمات معدودة ولا تمس الأصل الذي هو الحل، وما يعنيه من تعدّدية.

f

ويثبت تقرير القرآن لهذه القواعد، أن القرآن الكريم يتفهم المجتمع البشري تفهما صحيحاً وعميقاً، ويحترم طبيعته، وأنه لم ير هذه الطبيعة جسماً صلبا يستعصي على التطوير، كما أنه ليس جسماً طرياً تسير فيه سكين الإصلاح كما تسير فى قالب زبد.. وليس هو أيضاً عجينة رخوة هلامية، ليس لها قوام ويمكن تشكيلها حسب الإرادة أو الطلب. وإنما هو كيان معقّد مركّب متعدّد يتفاعل بطريقته الخاصة، وله الطبيعة العضوية للجسم الإنسانى الذى يكتسب وجوده وحياته من الأعضاء والدم والانسجة والأعصاب والعظام، كل منها يؤدى وظيفة محددة، وله الهيئة التى تمكنه من هذا وفى الوقت نفسه فإن عمل كل عضو من هذه الأعضاء يتلاقى ويتجاوب مع عمل بقية الأعضاء، وكلها تصب فى مجرى واحد وتستهدف غاية واحدة هى صحة الجسم الإنسانى وقيامه بمهامه نتيجة للتخصص الدقيق والتجاوب التلقائى بين كل هذه التخصصات، ويتم هذا بنعومة وسرعة تفوق فى بعض الحالات لمح البصر.

ويصدق هذا التصور على جسم كل فرد من البلايين الذين يمثلون مجموع الجنس البشري وفى الوقت نفسه فما من فرد من هذه البلايين يشبه الآخر شبهاً تاماً فى كل شيء، وقد نجد عدداً من الأخوة الأشقاء لأب وأم، وكل واحد منهم يختلف عن الآخر.. فبعضهم يرث صفات عن أمه، والبعض الآخر عن أبيه والبعض الثالث عن صفات مضمورة فى الأعمام والأخوال والأجداد الخ... وما من واحد منهم له بصمة يد تشبه بصمة أخيه. فضلاً عن الآثار الاجتماعية المكتسبة والمختلفة لكل واحد كحظه فى الزواج والعمل، والموقع الذي يعيش فيه والتعليم الذي ناله.

هذه هى صورة المجتمع البشري، والقرآن الكريم الذى تنزل من لدن خالق هذا المجتمع، يعامل المجتمع تبعاً لهذه الطبيعة.

وكان يجب أن تؤدي طريقة تعامله مع المجتمع البشري وإشاراته المتكررة التى تصب فى بحيرة التعدّدية لجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً تعدّدياً بمعنى الكلمة تزدهر فيه الآراء.. وتتلاقح الأفكار ويدلى كل واحد بدلوه، ويرفع كل واحد صوته، ولكن هذا لم يتحقق إلا فى بعض جوانب الحياة، ولفترة محدودة مما جعل الإنسان يتساءل كيف حدث هذا، ولماذا ...

لقد كانت الفترة الذهبية القصيرة فى تاريخ الإسلام هى الفترة النبوية والخلافة الراشدة، وقد حدثت فى مجتمع ساذج بسيط هو المجتمع ما بين مكة والمدينة فلم يتطلب تعدّدية كبيرة، ومع هذا فإن صحيفة الموادعة التى وضعها الرسول غداة قدومه المدينة، واعترفت باليهود جنباً إلى جنب الأنصار والمهاجرين واعتبرتهم "أمّة واحدة" نموذج فريد فى تقبّل التعدّدية على قدم المساواة وداخل إطار فسيح يضم مختلف الأعراق والديانات.

كما أن موقف الرسول من "المنافقين" الذين صرح القرآن بكفرهم، وعدم اتخاذ إجراء نحوهم، بل صلاة الرسول على جثة كبيرهم عبد الله بن أُبَيّ هى صورة نادرة من السماح بوجود الآخر.. وقبول ما يعلنه رغم أنه يضمر عكس ذلك الأمر الذى يضع مبدءاً من أخطر المبادئ وأهمها هو أن المحاسبة تكون على الظاهر، أما باطن الإنسان، وما يقر فى أعماقه وبين جنبيه فيجب أن لا يكون موضوعاً لبحث أو محاسبة، كما يجب ملاحظة أن إشارات القرآن الخاصة بحرية الاعتقاد كانت فى أصل سماحة الإسلام تجاه الأديان الأخرى وإقراره كل ذى دين على دينه على نقيض سياسة الدول الأوربية التى كانت تفرض على اليهود والمسلمين نبذ دياناتهم والإيمان بالمسيحية حتى مشارف العصر الحديث.

ولو أستمر التقدم الحضارى للمجتمع الإسلامى، ولم يبتلِ بما أوقفه، لكان من المحتمل أن تصل التعدّدية فى هذا المجتمع إلى مستوى قريب مما وصلت إليه التعدّدية فى المجتمع الأوروبي لأن طبيعة التعدّدية تملي عليها ظهور التجليات العديدة للنفس البشرية حسنة أو سيئة، وصور الإغواء وإشباع الشهوات بمختلف الطرق، وسنرى التكييف "الشرعي" لمثل هذا الوجود فى مجتمع إسلامي طبقاً لما يقرره القرآن، ولازدهرت الفنون والآداب ومشاركة المرأة فى حياة المجتمع، ولما فقد المجتمع جمالياته التى جعلته يشبه صحراء غبراء بلقع.. إن هذا التطور لم يحدث، فقد قضت عليها النظم الحاكمة الاستبدادية والتقليد الفقهي المغلق.

ويصور تطور الفقه الإسلامي هذه المأساة ففي فترة الازدهار طوال القرون الثلاثة الأولى تعدّدت الاجتهادات تعدّداً وصل إلى حد البلبلة، وتعدّدت، وتناقضت الأحكام فى المدينة الواحدة وبقدر ما كان هذا يدل على درجة عالية من الحرية والخصوبة فى الفكر، بقدر ما كان يتطلب نوعاً من التنظيم، ولكن هذا تأبى على المجتمع وقتئذ. فالتجأ الفقهاء إلى إغلاق باب الاجتهاد.. وكانت تلك بداية النفق المظلم الذي سار فيه الفكر الإسلامي قرابة عشرة قرون فقد تجمد الفقه، وحُبِسَ في قميص المنطق الصوري الأرسطي، وتجمّد معه الفكر الإسلامي.. وشيئا فشيئا أصبح الفقهاء هم رجال القانون الذين يحفظون النظام القائم ويعبرون عن سياساته، وبذلك فقد المجتمع الإسلامي حرّيته الفكريّة بعد أن فقد حرّيته السياسية.

والحرّية هي أم التعدّدية فإذا لم تعد حرّية فليس هناك تعدّدية.

ومع هذا فإن المجتمع الإسلامى بحكم الحيوية الفائقة للإسلام والروح الثورية والتحررية للقرآن، لم يفقد صوراً عديدة "للتعددية" فظهر فى العصر العباسى فى بغداد ما لم يظهر فى روما من التعددية الفكرية ما بين الإلحاد (أو الزندقة كما كانوا يقولون) حتى التزمت فظهرت الطرق الصوفية وازدهرت بينما انتعشت دعوة "إخوان الصفا" الغامضة المتحررة ووجدت من الملل والنحل ما ملأ كتاب ابن حزم والشهرستانى، وما يصعب تصوره الآن، وقرأنا عن ندوات تجمع الصوفى، والملحد والمتكلم والفقيه لا يرفض أى واحد منهم الآخر، ولكن يكله إلى خالقه.

أما فى القضية الحساسة "المرأة" التى كان يمكن أن تكون أصلاً لعدد كبير من التعدديات فإن إشارات القرآن إلى تحريرها ومساواتها، وممارسات الرسول المتعاطفة مع المرأة. لم تنجح كلها فى اقتلاع "حمية الجاهلية" التى انتقلت من العهد الجاهلى حتى العصور التالية.. وكان المجتمع الجاهلى الذى يقوم على النهب والسلب لا يعترف بالمرأة لأنها لا تحارب ولا تأتى بغنيمة وترسب هذا المعنى فى نفسية المسلمين حتى بعد أن تغير المناخ الاجتماعى فى بغداد، وقد حل هذا المجتمع مشكلة المرأة باتخاذ الإماء (الجوارى) والقيان والسماح لهن بأداء دور يكسر حدة إبعاد المرأة عن الحياة وحجبها فى البيوت بحيث سمح هذا التطور بظهور صور من المجتمع المختلط وإن لم تكن الصورة سليمة ..

f

فإذا كان انعدام التعددية فى المجتمعات الإسلامية إنما يعود بالدرجة الأولى إلى فقد هذه المجتمعات لحرياتها السياسية والفكرية، وليس إلى سبب أصولى فى الإسلام فإن استعادة هذه الحرية يمكن أن تحقق التعددية، وتلك هى المشكلة التى يكون على المجتمع الإسلامى الحديث أن يجابهها بقوة، ذلك أن الألفة الطويلة لعهود الانغلاق كادت تطمس الإشارات المتكررة للقرآن الكريم عن الحريات والتعدديات خاصة بعد أن قام المفسرون بتأويلها تأويلات تميل بها عن هدفها كما حدث بالنسبة لحرية الاعتقاد يدل على ذلك متابعة المفكرين الإسلاميين المحدثين لما ذهب إليه الفقهاء القدامى من تطبيق حد الردة على كل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، إذا رفض الاستتابة، وهو نص مناقض لكل آيات حرية الاعتقاد فى القرآن الكريم التى عرضنا لها، بل ومناقض لسلوك وعمل الرسول الذى لم يحدث أبداً أن أوقع حداً لمجرد تغيير الدين، وإنما ضم إلى ذلك مقاومة الدولة والتخلى عن الجماعة والانحياز إلى الأعداء ..

وهو ما يدل على ضرورة معالجة القضية فى صورتها التى يمكن أن تأخذها عمليا معالجة لا تخشى المصارحة بل تقوم على المجابهة ...

0 التعليقات:

إرسال تعليق