السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الفصل السابع : السلطة تفسد المسيحية وتحولها إلى محكمة تفتيش

من بين الأديان تميزت المسيحية بأنها ديانة الحب، والصفح، والخير والرحمة. وكما اتصف رسولها عيسى بن مريم – المسيح – بالبساطة والشعبية والبعد عما يحرص عليه الناس عادة من مال أو جاه أو قوة فكان رجلاً بسيطاً يمشى فى الأسواق ويستخلص دعاته من صيادى الأسماك والفقراء والمنبوذين والنساء والمرضى بالبرص أو الصرع الخ... وقد أجمل لنا فكرة المسيحية ورسالتها وقداستها فى الحياة فى "موعظة الجبل" التى يطلق عليها فى الكتابات المسيحية "التطويبات" ..

ماذا جاء فى "موعظة الجبل" التى تُعَدّ دستور المسيحية ؟؟

إنها على ما رواه متّـى فى إنجيله :

«الفصل الخامس :

1. فلما رأى يسوع الجموع صعد إلى الجبل. ولما جلس دنا إليه تلاميذه. 2. ففتح فاه يعلمهم قائلاً. 3. طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات. 4. طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض. 5. طوبى للحزان فإنهم يعزون. 6. طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون. 7. طوبى للرحماء فإنهم يرحمون. 8. طوبى للأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله. 9. طوبى لفاعلى السلامة فإنهم بنى الله يدعون. 10. طوبى للمضطهدين من أجل البر فإن لهم ملكوت السماوات. 11. طوبى لكم إذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كل كلمة سوء من أجلى كاذبين. 12. افرحوا وابتهجوا فإن أجركم عظيم فى السماوات لأنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم. 13. أنتم ملح الأرض فإذا فسد الملح فبماذا يُملح. إنه لا يصلح لشىء إلا لأن يطرح خارجاً وتدوسه الناس. 14. أنتم نور العالم. لا يمكن أن تخفى مدينة مبنية على جبل. 15. ولا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال لكن على المنارة لينير على كل من فى البيت. 16. هكذا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذى فى السماوات. 17. لا تظنوا أنى أتيت لأحل الناموس والأنبياء إنى لم آت لأحل لكن لأتمم. 18. الحق أقول لكم إنه إلى أن تزول السماء والأرض لا تزول ياء أو نقطة واحدة من الناموس حتى يتم الكل. 19. فكل من يحل واحدة من تلك الوصايا الصغار ويعلم الناس هكذا فإنه يدعى صغيراً فى ملكوت السماوات، وأما الذى يعمل ويعلم فهذا يدعى عظيماً فى ملكوت السماوات. 20. فإنى أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين فلن تدخلوا ملكوت السماوات. 21. قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تقتل فإن من قتل يستوجب الدينونة. 22. أما أنا فأقول لكم إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة. ومن قال لأخيه راقا يستوجب حكم المحفل. ومن قال يا أحمق يستوجب نار جهنم. 23. فإذا قدمت قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئاً. 24. فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض أولا فصالح أخاك وحينئذ أئت وقدم قربانك. 25. بادر إلى موافقة خصمك ما دمت معه فى الطريق لئلا يسلمك الخصم إلى القاضى ويسلمك القاضى إلى الشرطى فتلقى فى السجن. 26. الحق أقول لك إنك لا تخرج من هناك حتى توفى آخر فلس. 27. قد سمعتم أنه قيل للأولين لا تزن. 28. أما أنا فأقول لكم إن كل من نظر إلى امرأة لكى يشتهيها فقد زنى بها فى قلبه. 29. فإن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها عنك فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله فى جهنم. 30. وإن شككتك يدك اليمنى فاقطعها وألقها عنك فإنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يذهب جسدك كله إلى جهنم. 31. قد قيل من طلق امرأته فليدفع إليها كتاب طلاق. 32. أما أنا فأقول لكم من طلق امرأته إلا لعلة زنى فقد جعلها زانية ومن تزوج مطلقة فقد زنى. 33. قد سمعتم أيضاً أنه قيل للأولين لا تحنث بل أوف للرب بأقسامك. 34. أما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها عرش الله. 35 . ولا بالأرض فإنها موطئ قدميه. ولا بأورشليم فإنها مدينة الملك الأعظم. 36. ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منه بيضاء أو سوداء. 37 . ولكن ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير. 38. قد سمعتم أنه قيل العين بالعين والسن بالسن. 39. أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرير بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر. 40. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فخل له رداءك أيضا. 41. ومن سخرك ميلا فامش معه اثنين. 42. من سألك فأعطه. ومن أراد أن يقترض منك فلا تمنعه. 43. قد سمعتم أنه قيل أحبب قريبك وأبغض عدوك. 44. أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم. 45. لتكونوا بنى أبيكم الذى فى السماوات لأنه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. 46. فإنكم إن أحببتم من يحبكم فأى أجر لكم أليس العشارون يفعلون ذلك. 47. وإن سلمتم على إخوانكم فقط فأى فضل عملتم أليس الوثنيون يفعلون ذلك. 48. فكونوا كاملين كما أن أباكم السماوى هو كامل.»

«الفصل السادس :

1. احترزوا ألا تصنعوا بركم قدام الناس لكى ينظروكم وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذى فى السماوات. 2. فإذا صنعت صدقة فلا تهتف قدامك بالبوق كما يفعل المراءون فى المجامع والأزقة لكى يمجدهم الناس. الحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم. 3. أما أنت فإذا صنعت صدقة فلا تعلم شمالك ما تصنع يمينك. 4. لتكون صدقتك فى خفية وأبوك الذى يرى فى الخفية هو يجازيك. 5. وإذا صليتم فلا تكونوا كالمرائين فإنهم يحبون القيام فى المجامع وفى زوايا الشوارع يصلون ليظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم. 6. أما أنت فإذا صليت فأدخل مخدعك وأغلق بابك وصل إلى أبيك فى الخفية وأبوك الذى يرى فى الخفية هو يجازيك. 7. وإذا صليتم فلا تكثروا الكلام مثل الوثنيين فإنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يستجاب لهم. 8. فلا تتشبهوا بهم لأن أباكم عالم بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه. 9. وأنتم فصلوا هكذا. أبانا الذى فى السماوات ليتقدس اسمك. 10. لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض. 11. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. 12. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن لمن أساء إلينا. 13. ولا تدخلنا فى تجربة لكن نجنا من الشرير. آمين. 14. فإنكم إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوى زلاتكم. 15. وإن لم تغفروا للناس فأبوكم أيضاً لا يغفر لكم زلاتكم. 16. وإذا صمتم فلا تكونوا معبسين كالمرائين فإنهم ينكرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين الحق أقول لكم إنهم قد أخذوا أجرهم. 17. أما أنت فإذا صمت فأدهن رأسك واغسل وجهك. 18. لئلا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذى فى الخفية وأبوك الذى ينظر فى الخفية هو يجازيك. 19. لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض حيث يفسد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون. 20. لكن اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء حيث لا يفسد سوس ولا آكلة ولا ينقب السارقون ولا يسرقون. 21. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك. 22. سراج الجسد العين فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً. 23. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً. وإذا كان النور الذى فيك ظلاماً فالظلام كيف يكون. 24. لا يستطيع أحد أن يعبد ربين لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويرذل الآخر. لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال. 25. فلهذا أقول لكم لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست النفس أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس. 26. انظروا إلى طيور السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوى يقوتها. أفلستم أنتم أفضل منها. 27. ومن منكم إذا هم يقدر أن يزيد على قامته ذراعاً واحدة. 28. ولماذا تهتمون باللباس. اعتبروا زنابق الحقل كيف تنمو. إنها لا تتعب ولا تغزل. 29. وأنا أقول لكم إن سليمان فى كل مجده لم يلبس كواحدة منها. 30. فإذا كان عشب الحقل الذى يوجد اليوم وفى غد يطرح فى التنور يلبسه الله هكذا أفلا يلبسكم بالأحرى أنتم يا قليلى الإيمان. 31. فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس. 32. لأن هذا كله تطلبه الأمم وأبوكم السماوى يعلم أنكم تحتاجون إلى هذا كله. 33. فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذا كله يزاد لكم. 34. فلا تهتموا بشأن الغد فالغد يهتم بشأنه يكفى كل يوم شره.»

«الفصل السابع :

1. لا تدينوا لئلا تدانو. 2. فإنكم بالدينونة التى بها تدينون تدانون وبالكيل الذى به تكيلون يكال لكم. 3. ما بالك تنظر القذى الذى فى عين أخيك ولا تفطن للخشبة التى فى عينك. 4. أم كيف تقول لأخيك دعنى أخرج القذى من عينك وها إن الخشبة فى عينك. 5. يا مرائى أخرج أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تنظر كيف تخرج القذى من عين أخيك. 6. لا تعطوا القدس للكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وترجع فتمزقكم. 7. اسالوا فتعطوا. اطلبوا فتجدوا. اقرعوا فيفتح لكم. 8. لأن كل من يسأل يعطى ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له. 9. أى إنسان منكم يسأله ابنه خبزاً فيعطيه حجراً. 10. أو إذا سأله سمكة يعطيه حية. 11. فإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تمنحوا العطايا الصالحة لأبنائكم فكم بالحرى أبوكم الذى فى السماوات يمنح الصالحات لمن يسأله. 12. فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم فافعلوه أنتم بهم. فإن هذا هو الناموس والأنبياء. 13. ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب، ورحب الطريق الذى يؤدى إلى الهلاك والداخلون فيه كثيرون. 14. ما أضيق الباب وأحرج الطريق الذى يؤدى إلى الحياة وقليلون الذين يجدونه. 15. احذروا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بلباس الحملان وهم فى الباطن ذئاب خاطفة. 16. من ثمارهم تعرفونهم. هل يجتنى من الشوك عنب أو من العوسج تين. 17. هكذا كل شجرة صالحة تثمر ثمراً جيداً والشجرة الفاسدة تثمر ثمراً رديئاً. 18. لا تستطيع شجرة صالحة أن تثمر رديئاً ولا شجرة فاسدة أن تثمر ثمراً جيداً. 19. كل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى فى النار. 20. فمن ثمارهم تعرفونهم. 21. ليس كل من يقول لى يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات. 22. فإن كثيرين سيقولون لى فى ذلك اليوم يا رب يا رب ألم نكن باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. 23. فحينئذ أعلن لهم أنا لم أعرفكم قط فأذهبوا عنى يا فاعلى الإثم. 24. فكل من يسمع كلامى هذا ويعمل به يشبه رجلاً حكيماً بنى بيته على الصخر. 25. فنزل المطر وجرت الأنهار وهبت الرياح واندفعت على ذلك البيت فلم يسقط لأن أساسه كان على الصخر. 26. وكل من يسمع كلامى هذا ولا يعمل به يشبه رجلا جاهلاً بنى بيته على الرمل. 27. فنزل المطر وجرت الأنهار وهبت الرياح وصدمت ذلك البيت فسقط وكان سقوطه عظيماً. 28. ولما أتم يسوع هذا الكلام كله بهت الجموع من تعليمه. 29. لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان لا ككتبتهم والفريسيين» انتهى.

كان لابد أن ننقلها بطولها ما دمنا نتحدث عن المسيحية التى جاء بها رسول الناصرة لنعرف الحقيقة وليس ما تقدمه الكنائس أو الأحبار. لأنها هى التى تمثل روح المسيحية الحقة، والتى يكون علينا كمسلمين أن نؤمن بها تطبيقاً لتوجيهات القرآن المتكررة، ولأن عرضها بالكامل سيوضح – عند المقارنة بما آلت إليه المسيحية – جناية السلطة عليها.

وهى تمثل أسمى ما يمكن أن يصل إليه خلق أو سلوك أو تطيب عليه نفس أو تخلص به روح.

ولا يعاب عليها أنها "مثالية" كما يقولون لأن هذا بالذات – تقديم المثل والقيم – هى مهمة الأديان إن عليها أن تقدم هذه القيم والمثل التى تشبه النجوم فى السماء لا يلمسها أحد، ولكنه يسير فى ضوئها فيهتدى ويأمن الضلال.

ومن المسلم به أن التطبيق الحرفى والكامل لها هو ما يصعب على الناس، ولكن عدم التطبيق الحرفى لا يعنى إغفالها، ولا هو يعنى من باب أولى رفضها.

فما لا يمكن إدراكه كله. وما لا يمكن تطبيقه بالكامل لا يترك كله، ففيما يدرك مقنع خاصة إذا اقترن ذلك بشعور الإنسان بعجزه ورغبته فى المزيد ..

وسيرة المسيحيين الأول هى مصداق ما ذهبنا إليه ...

فقد كانوا فى السنوات الأولى لهم جماعات تؤلف بينها المحبة والرغبة المحرقة فى تطبيق هذه المثل، ومن أجل هذا لم يستهدفوا الثروات والمناصب والاستعلاء، وشارك من كان لديه حظ من مال إخوانه ممن ليس معهم. كانوا يشتركون فى كل شىء "سوى زوجاتهم" كما قال ترتليان. وكانوا يمتنعون عن دخول الملاهى أو مشاهدة الألعاب أو سماع الموسيقى أو حلق اللحية أو التزى بأردية مزينة الخ... كما كان الكثير يعرض عن تناول اللحم أو يكثر من الصيام والتبتل ولا يقرب النساء الخ... وكان أفلوطين. وهو الفيلسوف القبطى المصرى رغم تأثره بالفلسفة اليونانية "يستحى أن يكون لروحه جسم"!

وخلال الثلاثمائة سنة الأولى من تاريخ المسيحية انتشرت فى عدد كبير من البلاد والدول فى أوربا وأفريقيا بفضل جهود الحواريين والرسل الذين كانوا يمثلون "الصحابة" ومن جاء بعدهم من التابعين ومما يثير الدهشة أن الحماسة للدين الجديد انتصرت على الوحشية الرومانية، وصنوف التعذيب عندما كان المسيحيون يلقون إلى الوحوش المفترسة فى الأرينا من أيام نيرون حتى بقية أباطرة الرومان وكانوا يجلدون. حتى تنفصل لحومهم عن عظامهم، أو أن لحمهم كان يقشر عن عظامهم بالأصداف وكان الملح أو الخل يصب فى جروحهم، ويقطع لحمهم قطعة قطعة ويرمى للحيوانات الواقفة فى انتظارها، أو يشدون إلى الصلبان فتنهش لحومهم الوحوش الجياع جزءاً جزءاً. ودقت عصى حادة الأطراف فى أصابع بعض الضحايا تحت أظافرهم، وسملت أعين بعضهم، وعلق بعضهم من يده أو قدمه، وصب الرصاص المصهور فى حلوق البعض الآخر، وقطعت رؤوس بعضهم أو صلبوا، أو ضربوا بالعصى الغليظة حتى فارقوا الحياة؛ ومزقت أشلاء البعض بأن شدت أجسامهم إلى غصون أشجار ثنيت ثنياً مؤقتاً.[26]

كان من الممكن أن تسير المسيحية فى مسالكها الشعبية لولا أن ظهر عاملان غيرا اتجاهها تغييراً بعيداً ..

العامل الأول: أن الطابع الحر والتلقائى للمسيحية أدى إلى ظهور العشرات من الشيع والفرق. والتكتلات والتجمعات كل واحدة على ناحية معينة من مجالات العقيدة متأثرة فى هذا بظروفها الخاصة. ويجب أن نذكر أن المسيحية ظهرت فى قلب اليهودية. وأن أتباعها الأول – بما فيهم المسيح نفسه – كانوا يهوداً، وأن اليهودية هى أقدم الأديان وأكثرها تأثراً بالمراحل العديدة التى مرت بها من ظهورها فى العراق ثم لواذها بمصر وبقائها بها قرابة أربعمائة سنة تأثرت ولا شك بالوثنية الفرعونية ثم خروجها إلى فلسطين وتلاقيها بالأقوام الذين كانوا فيها وما أثمر هذا اللقاء من مسالمات وعلاقات أدت إلى تأثر اليهود. ثم طغيان النفوذ الرومانى وأن ملوكها كانوا حلفاء للرومان فى حقب عديدة من تاريخها ثم السبى البابلى الذى يعد نقطة تحول وبداية لعهد جديد وما تأثرت به اليهودية فترة هذا الأسر. وأخيراً تأثر الفكر اليهودى بمدرسة الإسكندرية وفكرها اليونانى فى مرحلته المتأثرة بالديانة المصرية القديمة.. كل هذه المؤثرات كانت تتفاعل فى اليهودية وتنعكس على الذين آمنوا بالدين الجديد من اليهود. ثم لا يقف الأمر عند اليهود فالمسيحية انتشرت فى مناطق أوربية كانت وثنية، ولها عادات وتقاليد بيئية لم يكن من السهل دائما التخلى عنها. نتيجة لهذا كله اصطحبت الزيادة العددية بالخرافات والخلافات المذهبية التى أثرت على العلاقات بين الكنائس والتكتلات القائمة ..

من هنا ظهرت ضرورة "التنظيم" ودخل التنظيم الحلبة بحيث أصبحت هناك ثلاث كنائس رئيسية فى القسطنطينية وفى روما وفى الإسكندرية. ورزقت كنيسة روما عوامل مواتية منها ما أدعى أن المسيح أوحى إلى بطرس أن يقيم كنيسته على هذه الصخرة.. "الفاتيكان" فضلاً عما رزقته من شأن عظيم فى التاريخ.

وشيئاً فشيئاً أصبح بابا روما هو سيد المسيحية فى أوربا وفى كثير من دول العالم، ولم تؤثر فى سلطته كثيراً معارضة كنيسة الإسكندرية أو بيزنطة.

ويقدم لنا التاريخ درساً فى التنظيم لا يتغير ولا يتبدل فما أن يتحول الدين إلى كنيسة والإيمان إلى كهنوت حتى يظهر السدنة والأتباع. وحتى تتكون شيئاً فشيئاً "للمؤسسة الدينية" التى هى ثمرة التنظيم مصالح خاصة مستقلة عن مصالح الدين الذى قامت له، وفى بعض الحالات متعارضة مع الذى قامت له ..

هذا درس لا خلاف عليه، ولا مناص منه، وهو يظهر عندما تتحول الدعوة الدينية إلى مُلك. والرياضة من هواية إلى نادى. كما ظهرت فى كل المؤسسات التى ترفع راية عقيدة، أو فكرة، أو طائفة، أو معرفة، ثم تكون لها بعد ذلك شخصيتها ومصلحتها على حساب الدعوة التى قامت لها.

أصبحت البابوية أقوى هيئة حاكمة فى أوربا، وأصبح من المألوف أن يطلق على كرسى القديس بطرس "العرش البابوى" وكان فى حقيقته عرشاً أكثر سطوة من عرش أى ملك آخر، وضمت سلسلة الباباوات عدداً من أكثر الناس فسقا وفحشا ومجونا وأشدهم عتوا واستعلاءً وأعظمهم خبثاً ودهاء وجاء وقت أصبح الملوك بمثابة قطع شطرنج فى أيدى البابوات.

وقد يصور مدى ما وصل إليه استعلاء البابوية البيان الذى أصدره البابا إنـوسنـت الثـالث (Pope Innocent III) فى أكتوبر سنة 1066.

  • البابا هو الذى يضع القوانين الجديدة.

  • كل أمراء الأرض يقبلون قدميه.

  • البابا مقدس، إنه لا يذنب ولا يأثم.

  • ليس لأحد أن يحاكم البابا.

  • إن كل فرد يحتمى بالبابا لا يمكن الحكم عليه.

  • البابا لا يخطئ ولا يمكن أن يخطئ.

فانظر إلى خليفة السيد المسيح الذى قال "مملكتى ليست فى هذا العالم" والذى أبى أن يتولى قسمة ميراث والذى غسل أقدام المصابين بالجذام.. كيف أصبح يحكم ممالك العالم ويرأس الملوك ويطالب الجميع بتقبيل قدميه !!

وبعد إصدار هذا القرار بعشرة أعوام جاءت واقعة كانوسا (the Walk to Canossa) المشهورة عندما تمرد الإمبراطور هنرى الرابع (the Holy Roman Emperor Henry IV) على الكنيسة فأصدر البابا جريجوريوس السابع (Pope Gregory VII) قراراً بحرمانه. فأضطر سنة 1077 أن يذهب إلى البابا فى قرية كانوسا حيث كان هناك وأن يقف على بابه ثلاثة أيام قبل أن يسمح له بالمثول بين يديه ويظفر بالصفح عنه.

وناصبت الكنيسة العلوم والفكر العداء. وأقامت وصاية على نشر الكتب وذلك بإصدار ما يسمونه "الجدول" (Index Librorum Prohibitorum) الذى تعود فكرته وقراره الأول إلى مجمع نقيه (the Council of Nicaea) سنـة 325 عنــدمـا حـرم كتــاب الأسقــف أريـوس (Arius - AD ca. 250 or 256-336) المعنون Thalia، ويعود تاريخ ظهوره الفعلى مع تطبيقه على ما سبق إلى مجمع ترينتى (Council of Trent) سنة 1564. وهذا الجدول يصدره البابا ويعاد طبعه كل عام، ويتضمن أسماء الكتب التى تحرم الكنيسة طباعتها وتداولها. ويدخل فيها بالإضافة إلى نصوص التوراة والأناجيل غير المعتمدة لديها كتب كثيرة منها كتب لجاليليو، وهوبز، وديكارت، وجان جاك روسو، وفولتير، ومونتسكيو، وكانت، وجوته، وسبينوزا، وجون ستيورات ميل، وفكتور هوجو، وفورييه، وماركس، وبرجسون الخ... وتمسكت الكنيسة بحماقة بفكرة ثبات الأرض وأنها لا تدور، واعتبرتها قضية مقدسة ثلاثاً وأنها أهم من أية قضية تتعلق بالعقيدة المسيحية.

ووقفت الكنيسة دائماً فى صف النبلاء ضد الجماهير، وكان للأساقفة تمثيل كبير خاص بهم فى مجلس اللوردات وقاوموا أولى الانتفاضات الجماهيرية فى بريطانيا التى حملت اسم ثورة الفلاحين فى القرن الرابع عشر. كما قاومت الكنيسة البروتستنتية وعلى رأسها وقتئذ مارتن لوثر نفسه قومة الفلاحين الألمان التى عرفت باسم ثورة الفلاحين فى القرن السادس عشر، ودعا مارتن لوثر النبلاء إلى سحقها بكل قوة.

وكأن هذه الضرورة التنظيمية التى أدت إلى ظهور الكنيسة واستئثارها بالمسيحية فى العالم الأوربى احتكارها لكل شئون الدين، وما يرتفق من شئون الدين على الدنيا لم تكن كافية إذ اقترنت أيضا بالهيمنة على شئون الحكم وإدارتها للسلطة بحيث كان البابا هو الذى يتوج الملوك والأباطرة.

وألحقت السلطة بالمسيحية وصمتين كانتا أبعد ما تكون عن روح المسيحية الحقه الأولى الحروب الصليبية والثانية محاكم (أو ديوان) التفتيش (Inquisition tribunals).

بدأت الحروب الصليبية باجتماع كليرمونت (Council of Clermont) الذى دعا إليه البابا أربان الثانى (Pope Urban II) في عام 1095 وطالب المجتمعين نائباً عن الرب قائلاً "لست أنا، ولكن الرب هو الذى يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات الخ..." !! وبهذه الكلمات بدأت الحروب الصليبية التى أعلنها البابا باسم الرب، والتى حمل فرسانها علامة الصليب، والتى قاد الحملة الأولى فيها نائب البابا وتوالت الحملات حتى بلغت سبعاً كانت أخراها حملة لويس التاسع على مصر التى هزم فيها وأخذ أسيراً واستمرت طوال المدة منذ أن بدأت سنة 1095 حتى استعاد السلطان قلاوون كل المناطق الإسلامية التى كان الصليبيون قد فتحوها عام 1291 وعندما فتح الصليبيون فى حملتهم الأولى بيت المقدس اقترفوا المنكرات ولجأ الناس إلى المسجد الجامع فذبحوهم جميعاً، ودام الذبح فى كل أنحاء المدينة حتى بلغت الدماء سيقان خيلهم وغاصوا حتى الركب فى الدماء وقدر أن سبعين ألفا من الرجال والنساء والأطفال قتلوا ..

كانت هذه الحروب أقوى دليل على استغلال السلطة للمسيحية لتحقيق مآرب سياسية دنيوية خالصة ..

والوصمة الثانية أشنع من الأولى وهى محاكم التفتيش التى كونتها الكنيسة لمحاربة بعض الفئات التى لم تلتزم بالخط الكاثوليكى وأبرزهم "الالبين" ( Albigeois) نسبة إلى "البى" ( Albi) وهى مدينة صغيرة فى جنوب فرنسا، ثم تقرر تكوينها فى فرنسا وإيطاليا، وألمانيا، ولكن أسوأ صورها كانت فى الأندلس "أسبانيا" حيث تولت إبادة المسلمين بحيث ظهر الشيطان فى شكل أحد آباء الكنيسة وهو توركيمادا (Tomás de Torquemada) الذى حمــل الملكة إيزابيــلا (Isabella I of Castile)، وقد كان كاهنها الخاص، على أن تستصدر من البابا سكتوس الرابع (Pope Sixtus IV) أمرا بتكوين ديوان التفتيش فى قشتاله (Castile) سنة 1478 وديوان آخر فى أشبيليه (Seville) سنة 1480م.

وقيل إن ضحايا محاكم التفتيش منذ أن أسست سنة 1333 لملاحقة الألبيين حتى ألغيت نهائيا سنة 1835 وصل إلى تسعة ملايين.[27]

وقد رأيت، وأنا أتصفح كتاباً عن تاريخ أوربا فى القرون الوسطى صورة أحد المخالفين وقد ربطوه من معصميه ووضعوا تحت إبطيه شمعتين مشتعلتين بينما جلس راهب يقرأ الإنجيل ليساعده على "خلاص" روحه !

وهذه المحاكم هى التى حكمت على جوردانو برونو بالإعدام حرقاً سنة 1598 وهى أيضاً التى تولت تعذيب جاليليو رغم كبر سنه إذ "علق الحديد بعنقه وتولى الجلادون تعذيبه ولما مثل أمام هيئة المحكمة جىء به عريانا حافى القدمين فربط إلى آلة خشبية وجلد وألبس فى رجله حذاء حديدياً محميا له مسامير". فإذا كانت هذه هى طريقة تعذيب رجل مثل جاليليو، فلنا أن نتصور تعذيب المسلمين الذين عجزوا عن مغادرة أسبانيا والنجاة بجلودهم.

ولدينا أوصاف لطرق التعذيب التى مارستها محاكم التفتيش يشيب لهولها الولدان، ولا يتسع لها المجال، ولكن لإعطاء القارئ فكرة ننقل هذه السطور:

"... كانت قاعة التعذيب مظلمة رطبة، جدرانها سوداء. وقد ثبتت فيها مسامير ناتئة قد صدئت، يغلق عليها بباب من الحديد السميك وفى أرضها سلاسل ضخمة مشدودة إلى حلقات الأرض. وكانت تلك السلاسل لربط المذنبين حين تعذيبهم. وإلى جانب ذلك توجد مجالد من الجلد المعقود على رصاص ودواليب وسحابات ذات مسامير صادئة حادة لتمزيق الأجساد، وعضاضات حديدية لعض اللحم، ثم أكاليل حديدية ذات مسامير حادة نائتة من الداخل تطوق بها جبهة المعذِّب ثم يأخذ المعذِب بتضييقها شيئاً فشيئاً بواسطة مفتاح يدور بلولب حتى تغرز المسامير فى الرأس. ثم هناك كلاليب ذات رءوس حادة لسحب أثداء النساء من الصدور، وآلات لسل اللسان من أصله، وأخرى لتكسير الأسنان، وأحذية حديدية تحمى لدرجة الاحمرار يلبسونها لمن ساء حظه ووقع فى يد أولئك الوحوش، ثم أحذية أخرى حديدية ذات مسامير من الداخل يضعونها فى رجل السجين ثم يأخذ الموكل بالتعذيب فى تضييقها شيئاً فشيئاً، وسفافيد حديدية متباينة الأشكال لتحمى فى النار وتستعمل لكى المعذب، ثم مشنقة معلقة فى السقف لكى تشنق المعذب نصف شنق، فلا هو حى فيرجى ولا هو ميت فيوارى. ثم سلاسل ضخمة وأثقال حديدية معلقة أيضا فى نواحى مختلفة من السقف ليربط فيها السجين وبينها، فتتجاذبه وتمزق أعضاءه تمزيقاً فى جهات عديدة، وتابوت كان عبارة عن خزانة حديدية يقف فيها المعذب وفى بابها ست من الحراب القصيرة المثبتة. فإذا ما أغلق ذلك الباب بقوة دخلت حربتان فى عينى المعذب فتنفذان من مؤخرة الجمجمة، وتدخل حربه فى قلبه وأخرى فى معدته وأخريان فى بطنه. ثم كانت توجد آلات كثيرة لطى الأسنان وكسر عظام ظهره، ثم أخرى لإنزال نقط الماء البارد على رأسه بعد حلق شعره حتى يجن المسكين بعد ساعات أو زمن قليل. ثم إسفنج تغمس فى الماء المغلى لسلق المعذب، ومطارق ثقيلة لسحق الرؤوس، ثم صليب سمى بـ(صليب اندراوس) لصلب ضحايا التفتيش، ثم مائدة كبيرة وضعت فى جانب البهو عليها ملاآت بيض وبجانبها برميل للماء. فإذا ما أغمى على معذب من شدة الألم يضعونه عليها ويلفونه بملاءة تبل بالماء البارد لإنعاشه حتى إذا ما أفاق أعادوا تعذيبه.

وكان يوجد فى وسط القاعة (الجحش الخشبى) فكان يربط السجين إليه لإزهاق روحه بواسطة التضييق على رئتيه، فكانوا يطوقون صدوه بآلة حديدية ثم يأخذون فى تضييقها بواسطة لوالب حتى تنقطع أنفاس المعذب المسكين.

وكانت أرض قاعة العذاب من خشب قديم قد هرأ ونخر السوس فى أجزائه تتصاعد منه رائحة كريهة. أما المكان الذى كان يجلس فيه رجال التفتيش فكان مملوءاً بالصلبان وبالكتابة التى تشاهد عادة على القبور يقصد بذلك إلقاء الرعب فى قلوب المعذبين، وكانت تشاهد دماء من عذبوا من قبل عليها وكثيراً ما تركت جثث فى زوايا القاعة يقع عليها الذباب ويتصاعد منها كريه الروائح ليزيد كل ذلك فى خوف المساكين الذين وقفوا أمام محاكم التفتيش. وقد أحاط بهم رهبان فى ثياب سوداء وأغطية سودا تغطى وجوههم ورؤوسهم لا تظهر منها إلا عيونهم وقد وقفوا وفى أيديهم كتب صلاة يرددون منها أنغام محزنة ومخيفة وبأصوات كلها الخشونة.

وكان بعض هؤلاء الرهبان يجلس إلى جوار رئيس المحكمة يمدونه بالنصائح والإرشادات فى مسائل التعذيب والحكم على المضطهدين. وكان من بين هؤلاء القوم راهب يحمل بيده صليبا رسمت عليه صورة المسيح مصلوبا يأمر هذا الراهب المعذبين بإدامة النظر إليه.

وكان يحضر التعذيب طبيب، عمله أن يفحص كل معذب حتى إذا أغمى عليه أمر بإيقاف التعذيب وإنعاش المسكين بشراب ما ليتحمل العذاب فيعاد تعذيبه من جديد.

وكان يحظر على المعذب إبداء أى حركة أو صراخ أو أنين. وكان يكلف بأن لا يرفع صوته.

وقد اخترعوا لذلك آلة حديدية كانوا يضعونها فى فم المعذب المسكين عوضا عن المناديل التى توضع لمنع الصياح. وقد جعلوا فى تلك الآلة مربعا على هيئة الصليب ليتنفس منه المعذب ولا يمكنه الصراخ منه. ومن المستحيل عليه أن لا يصرخ ولا يتألم وكيف يمكن ويتسنى أن يعذب مسكين مثل ذلك العذاب ولا يبدى حراكا أو يصيح من الألم الذى يمزق جـلده ؟!"[28]

ما كان أغنى المسيحية السمحة عن أن تُرتكب تلك الموبقات باسمها وبدعوى حمايتها ولكنها السلطة التى تمسخ نفوس الذين يتلبسون بها.

كانت تلك هى بداية الانحراف الذى زج بالمسيحية فى غمار السلطة والحكم والسياسة.. التى أفسدتها تماماً وحولتها إلى محكمة تفتيش وجعلتها تزجى وتعبئ الجنود لإثارة الحروب.. ثم دخلت فى صراع مع السلطة هزمت فيه لأنها خلطت ما بين الدين والسياسة وجعلها ذلك تعود لمهمتها الأصلية.

وكل واحد يقرأ موعظة الجبل، التى هى دستور الحياة المسيحية ومنهجها لا يخالجه شك فى أن المسيح استبعد تماماً الحكم والسياسة وقال "مملكتى ليست فى هذا العالم" ورفض حتى أن يقسم الإرث بين أفراد عائلته وكانت مهمته الوحيدة تخليص الروح وإنقاذ النفس الإنسانية من الغوايات والشهوات والمآرب التى تستحوز عليها ..

لابد أن تخلص المسيحية نفسها من هذا الوباء لتستطيع أن تخلص الناس ..

لابد للكنيسة أن تغسل يديها من هذا الماضى وأن تعود إلى المسيحية التى جاء بها المسيح وبلورها فى خطبة الجبل.

لابد أن تفهم أن السياسة والسلطة هى أسوأ ما يمكن أن تبلى به.

لقد تعلمت الكنائس الأوربية هذا الدرس إلى حد ما، ولكن بعض الكنائس الشرقية فى حاجة لاستيعابه.

وقد يعيننا هنا، ويعين المسيحيين الغيورين على المسيحية، أن نعرض رأيين لعالمين من آباء المسيحية ..

أول هذين هو المونسيور باسيليوس موسى وكيل الأقباط الكاثوليك فى مصر سنة 1920 والثانى هو الأب متى المسكين وهو أحد أباء الكنيسة الأرثوذكسية فى تلك السنوات التى ارتفعت فيها دعوى "الفتنة الطائفية" وحدث صدام ما بين الكنيسة والسلطة.

قال المونسيور باسيليوس موسى[29] إن المسيحى عليه أن يخدم وطنه بإخلاص حتى لو لم يكن هذا الوطن مسيحى ما دام لا يجبره على تغير عقيدته أو عبادة ألهه أخرى لأن الوطنية شىء.. والدين شىء آخر واستشهد بسلوك المسيحيين فى عهد الرومان، فإنهم قالوا " أيتها الدولة الرومانية إننا حقيقة لا نعبد آلهتك ولا يمكننا أن نعبدها، لكن اعلمى أننا رغما عن ذلك نحن أخلص الناس لك ولاء لأن الدين غير الدولة، الدين هو من اختصاصات الضمير، أما الدولة فإنها إما نتيجة ظروف جغرافية طبيعية، وإما نتيجة الانتصارات، فلا دخل لها فيما يمس الضمير.

ويوجه المؤلف النظر إلى أنه رغم زيادة عدد المسيحيين وانتشار المسيحية فى مختلف مستويات الناس ومسالك الحياة، فلم يخطر ببال هذه الجموع، التى لا عداد لها أن تثور يوما من الأيام فى وجه الدولة أو وجه ملوكها، بل صبر المسيحيون على الاضطهاد وظلوا ثلاثة أجيال تُسفك دماؤهم عن طيب خاطر، وهذا دليل قطعى على أنهم مع تمسكهم الشديد بالنصرانية كانوا موالين لملوكهم فى نفس الوقت والزمن الذى كان هؤلاء الملوك يوقعون بهم كل أصناف الأذى والتعذيب.

وقد استشهد المؤلف بحقيقة أن التجنيد فى الجيش الرومانى لم يكن إجباريا ولكن عددا كبيراً من المسيحيين تطوعوا فى الجيش الرومانى وحاربوا تحت ألوية "النسر" ببسالة مع تمسكهم بدينهم، وأورد المؤلف حالات عديدة لفرق أو مجموعات من الجنود المسيحيين أراد الإمبراطور أو القادة إجبارهم على تقديم الذبائح للآلهة الرومانية ولكنهم رفضوا وتعرضوا للفناء وكان لسان حالهم كما ذكر أحد أفرادهم "حضرت سبع مواقع شهيرة لم أتقهقر فى واحدة منها وقت القتال بل كنت مثال الهمة والشجاعة كما يشهد رؤسائى فهل تظن أنى بعدما قمت بواجبى نحو الدولة بذمة وأمانة أخون واجبى الأسمى نحو الله."

وفى كل هذه الحالات لم يدفع المسيحيون محاولة الرومان بالقوة أو يدافعوا عن أنفسهم بحد السلاح، رغم أنهم كانوا مدججين به ومحنكين فى استعماله، ولكنهم آثروا أن يلقوا سلاحهم ويستسلموا لأعدائهم، وهذه الوقائع كلها تدل على أن "المسيحى خادم أمين لدولته كما أنه خادم أمين لربه، وأن الدين والوطن هما شيئان متمايزان من يقوم بفروضهما لا يقبل أن يخون أحدهما ولو اضطره الأمر أن يسفك دمه."

ويعيد المؤلف هذا الموقف على أساس مبدئى هو "اترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وأن المسيح حقق فى حياته ذلك بدفعه الجباية عندما طولب بها، ودفع الجباية إقرار واعتراف بسلطان من يطلب الجباية، ولما سأله الفريسيون هل يلزم دفع الجزية أم لا؟ أجابهم بالإيجاب وأضاف إلى ذلك الآية الشهيرة التى تدل صراحة على التمييز بين السلطة الدينية والسلطة المدنية وهى "أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" ثم لما قصده أحد الناس وقال له "يا معلم قل لأخى يقاسمنى الميراث" أجابه يسوع قائلاً: "يا رجل من أقامنى عليكم قاضيا أو مقسما ؟" فصرح بكلامه هذا بأنه لم يأت إلى العالم ليكون ملكا أرضيا بل ملكا روحيا، وأن كل خلاف يدور حول الأرضيات يجب رفعه للسلطة المدنية.

وأن ما عمله المسيح قد عمله الحواريون.

قال مار بولس "لتخضع كل نفس للسلاطين العالية فإنه لا سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة إنما رتبها الله، فمن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله، والمعاندون يجلبون دينونة على أنفسهم، فلذلك يلزم الخضوع للسلطان."

إن هذا النص لا يحتاج إلى تأويل؛ لأن معناه واضح، وهو أنه يتحتم على المسيحى – من باب الذمة وتبعا لأوامر الضمير – أن يخضع للسلطة المدنية الشرعية، وقد جاءت هذه الآية فى رسالة ماربولس الموجهة إلى المسيحيين الرومانيين الذين كان يحكمهم فى ذلك العهد نيرون عدو النصارى والنصرانية، والذى طوح به الجنون إلى أن يحرق روما لينسب هذه الجريمة إلى المسيحيين حتى يهيج عليهم الرأى العام ويفتك بهم، فكان بولس يقول: "ليس لكم يا مسيحى روما عدو ألد من نيرون، ولكن بما أنه صاحب السلطة الشرعية فيلزمكم من باب الذمة والضمير أن تخضعوا له وقد أمر ماربولس الأسقف طيطس أن يذكر الشعب بوجوب الخضوع للرئاسات والسلاطين."

وما علمه بولس فقد علمه بطرس رأس الحواريين، إذ قال: "فأخضعوا إذن لكل خليفة لها عليكم سلطة شرعية، وأما للملك فكالأعلى (أى مثل الأعلى) وأما للولاة فكالمراسلين من قبله للانتقام من فاعلى الشر وللثناء على فاعلى الخير."

ويستطرد المؤلف :

"فهل يوجد شك بعد كل هذه البراهين الجلية والأدلة القطعية فى ان حقيقة التمييز بين الدين والوطن هى من أصول المسيحية ؟"

وقد علم الرسل أنه يلزم الولاء الكلى للسلطة المدنية، وأمر بولس الرسول "أن تقام تضرعات وصلوات وتوسلات وتشكرات من أجل جميع الناس، من أجل الملوك وكل ذى منصب، لنقضى حياة مطمئنة ذات دعة فى كل تقوى وعفاف فإن هذا حسن ومقبول لدى الله مخلصنا."

وعملاً بأمر الرسول لم تزل الكنيسة منذ نشأتها تطلب إلى الله فى صلواتها الرسمية أن يحفظ الملوك فى سلام، ويوطد بينهم الاتحاد والائتلاف، ولو كان هؤلاء الملوك غرباء عن النصرانية أو أعداء لها. ومن الجيل الأول إلى يومنا هذا ما فتئت الكنيسة القبطية مثلا تصلى كل يوم فى أثناء القداس الإلهى (وهو أسمى عمل دينى تعمله) من أجل الملوك والجنود والرؤساء والوزراء مع أنه منذ الجيل السابع لم يحكم مصر إلا حكام غير مسيحيين والبعض منهم أساءوا إليهم وعاملوهم بمعاملة لو ذكرت لما شكرت."

والثانى من هذين هو الراهب المتجرد – متى المسكين – كبير رهبان دير وادى النطرون. الذى كان أشد صراحة ووضوحا فى إظهار أن الكنيسة المسيحية لها مهمة واضحة يجب ألا تتجاوزها أبداً، وهذه المهمة هى تخليص النفوس بالبشارة المفرحة وكلمات الرب عندما أجرت معه جريدة الأهرام القاهرية حديثا طويلاً عرض فيه هذه الفكرة.[30]

وهو يرى أن تدخل الكنيسة حتى فى الخدمات الاجتماعية يخرجها عن مهمتها، ويوقعها فى متاهات، ويورطها فى مواقف تتعارض مع دورها. وعندما سأله المحرر ماذا عن علاقة الكنيسة بالمجتمع؟ قال: إن مهمة الكنيسة ليست أن تخدم المجتمع ولكن أن تخدم الإيمان وأن تخدم المسيح فى أشخاص الخطاة والعرايا والأذلاء والمشردين – وكلما خرجت الكنيسة عن اختصاصات مسيحها وبدأت تنزع إلى السلطان الزمنى وتجيش العواطف والمشاعر باسم الصليب وزاغت وراء أموال الأغنياء وارتمت فى أحضان أصحاب النفوذ وحاولت الجمع بين السلطان الدينى والسلطان الزمنى ودأبت على المطالبة بحقوق طائفية وعنصرية – فشلت المسيحية فى تأدية رسالتها ودب فيها الخصام والنزاع والوهن وأقفل فى وجهها ملكوت السماء وصارت فى حاجة إلى من ينتشلها من ورطتها ويردها إلى حدود اختصاصاتها الأولى.

إن متى المسكين وهو يسعى إلى إنقاذ المسيح فى إنقاذ كنيسته صارم فى حدوده. إنه يرى حتى فى ذلك الدور الذى تؤديه الكنيسة تحت عناوين من الخدمة الاجتماعية وغيرها خروجا عن دور الكنيسة.

لماذا ؟

لأن الخدمة الاجتماعية – هكذا قول متى المسكين – إذ تشمل رعاية الشباب اجتماعيا وتوجيههم وتثقيف العمال وفحص أحوالهم ومطالبهم والعناية بالطلبة وإقامة النوادى والمعسكرات وترتيب المؤتمرات لبحث المشاكل الداخلية والخارجية للشباب بل وإقامة المستشفيات والملاجئ تدخل فى اختصاص نظام الحكم، فإذا علمنا أن أى نظام للحكم لابد أن يكون له اتجاهه الخاص وخططه فى التوجيه والرعاية الاجتماعية لجميع ما عنده من الفئات فإنه يتحتم فى جميع الأحوال أن تكون الكنيسة دارسة لنظام الحكم حتى يكون مخطط الكنيسة الاجتماعى موافقا ومطابقا لمخطط الحكومة، وإلا فالصدام بين الكنيسة والدولة أمر لا مفر منه.

إن أردنا الاستفاضة يجيبنا متى المسكين قائلاً :

إذا عجزت الكنيسة عن أن تضبط الإيمان بالإقناع والمحبة وهرعت إلى الملوك والرؤساء لتستصدر منشوراً بالإيمان تكون قد أخطأت الطريق. إن الإيمان لا يحميه السيف ولا يحميه القانون وإنما تحميه البشارة المفرحة وكلمات الرب والإقناع بكلماته.

وعندما احتمت الكنيسة فى سيف قسطنطين الملك فى القرن الرابع ليتولى حماية الإيمان بالسيف ماذا حدث؟؟ قاد قسطنطين حربا صليبية فى العالم رافعا راية الصليب على سارى العداوة جاعلاً شعار الحياة هو نفسه شعار الموت، ربما لم يكن من العار أن يحارب أعداءه ولكن كان العار عليه – كل العار – أن يحارب أعداءه باسم الصليب.

إنه سيان أن تطلب الكنيسة القوة من السلطان الزمنى، أو تحض على الاستهتار بقوة السلطان الزمنى، لأن فى الأولى خروجا على اختصاص الكنيسة، وفى الثانية خروجا على منطق المسيح ووقوعا فى دينونة الله. إن الحض على الاستهتار بسلطة الدولة متمثلة فى السلطان الزمنى هو تشجيع للشر لأن الكنيسة لا ينبغى أبداً أن تأخذ موقف العداء من الدولة والوطنية، ومصدر الخطر أن الذين يلقنون الدين للجميع يبنون الفرقة والتحيز والانقسام والتكتل.

إن يسوع المسيح يقول ليس سلطان إلا من الله. كما أنه يقول أعطوا الجميع حقوقهم، الخوف لمن له الخوف، والسلطان لمن له السلطان، والإكرام لمن له الإكرام، وبالتالى فإن تصرفات المواطن المسيحى فيما يختص بأمور السلطان الزمنى لا تقع تحت سلطان الكنيسة، فالكنيسة لا تستطيع ولا ينبغى لها أن تستطيع أن تلفت نظر وزير أو مسئول مسيحى فى تصرفاته الحكومية لأنه ليس تحت سلطانها، الكنيسة فقط تسأل المواطن المسيحى فيما يختص بإيمانه وعقيدته وسلوكه الروحى، إن ذلك يؤدى إلى أن تكون حرية المواطن المسيحى مكفولة فى التصرف وإبداء الرأى والاشتراك فى كل ما يخص وطنه فى كل الأمور دون أن تكون الكنيسة مسئولة عن تصرفه ودون أن تكون الكنيسة مسئولة عن تقصير أبنائها فى أدائهم الواجب الوطنى، ودون أن توحى الكنيسة لأبنائها بالتزام خطة معينة أو بسلوك تصرف معين تجاه الدولة حتى لا تكون الكنيسة مسئولة أمام السلطان الزمنى عن تصرف زمنى، لأن مسئولية الكنيسة فقط أمام المسيح وهى مسئولة فقط عن تصرفها الروحى.

وباختصار يقول متى المسكين: إن وطنية المسيحى وكل ما يتعلق بها من تصرفات خاصة وعامة سواء فى الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة إنما تنبع من كيان المواطن لا من كيان الكنيسة، لأن الدولة هى المسئولة فى النهاية عن وطنية المواطن المسيحى لا الكنيسة أو رجال الدين.

إذا لم تكن تلك هى مهمة الكنيسة فما مهمتها على وجه التحديد ؟

إن صوت متى المسكين يصل إلينا من صومعته فى وادى النطرون خافتا خاشعاً ولكنه صوت واضح ومحذر، إنه يريد أن ينقذ الكنيسة من الخطر الذى يتهدد مصيرها إذا ما نسيت رسالتها الأصلية، إذا ما نسيت أن أخطر عدو يهدد كيانها بالانحلال هو أن يهتم القائمون على أمرها بموضوع آخر غير خطيئة الإنسان فيتركوا دعوة المسيح للخطاة وهى التى كانت مهمته العظمى لينشغلوا بالإنسان من جهة حياته الاجتماعية، إن ذلك فى رأيه ليس فقط خروجا على المسيحية، ولكنه مقاومة لها.

كيف ذلك؟ مرة أخرى يعيد متى المسكين على مسامعنا صوت بولس الرسول "صادقة هى الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم: أنا"!

إن الأمر فى رأيه وفى رأى بولس الرسول بالغ الخطورة، لأن الذين يحاولون أن يخرجوا الكنيسة عن مهمتها إنما يفعلون ذلك لعدم قدرتهم على الكرازة بالتوبة لتجديد الإنسان وخلاصه؛ لأن الخسارة التى سوف تجنيها الكنيسة من جراء ضم مواضيع جديدة للكرازة سوف تنتهى أخيراً بانطفاء سراج المناداة بالتوبة لخلاص الخطاة.

إن القائمين على الكرازة فقدوا الطريق الموصل إلى قلب الإنسان، فأخذوا يدورون فى متاهات جانبية بعيدة تماماً عن مهمة الكنيسة، بل لقد ضيع هؤلاء بموقفهم، ذلك المفتاح المقدس الذى سلمه الرب يسوع إلى الكنيسة ليدخلوا به إلى قلوب الخطاة؛ لأن المفتاح الكبير الذى سلمه الرب إلى الكنيسة هو أن تفتح ملكوت السماوات للخطاة ولكنها ضيعت المفتاح عندما انشغلت بأموال الدنيا وتلاهت عن خلاص الخطاة بمهمة أخرى.

إن هؤلاء ينسون أن المسيح لم يخلط أبداً بين مملكة الله ومملكة الدهر، لأن محاولة الكنيسة الاهتمام بالأمور الزمنية باسم المسيح هو بمثابة تنصيب المسيح ملكا على الأرض، كما أن تقوية سلطان الكنيسة بدعوى المطالبة بحقوق الجماعة هو رجعة لإقامة ملك المسيا كما يحلم به اليهود.

إنه فيما لو صُفى فكر الكنيسة من كل أطماع الدنيا وفيما لو نفضت عنها كل الحقوق المطلوبة والحقوق المسلوبة حينئذ ستذكر الكنيسة قول سيدها "مملكتى ليست من هذا العالم" ستتذكر أن التوبة ينبغى أن تكون شغل الكنيسة الشاغل لأنها رسالتها.

f

وعندما يقول الأب باسيلوس إن الدين شىء والوطنية شىء آخر، وإن المسيحى الأمين يخدم دولته حتى وإن لم تكن مسيحية ما دامت تكفل له حرية عقيدته المسيحية. وعندما يقول الأب متى المسكين إن المهمة الوحيدة للكنيسة هى أن تكفل الإيمان للإيمان للمسيحى بحيث يكون الخلاص – خلاص النفس، وخلاص الجسد هو الأمل الأسمى.

وعندما يستشهدان بكلام السيد المسيح وأباء الكنيسة، فإنهما فى الحقيقة يتلاقيان مع القرآن الذى يقول – ويكرر إن الدين لله، وإذا كان الدين لله فعندئذ يتسع الوطن للجميع فالمسيحى لا يرفض خدمة الدولة غير المسيحية. والدولة المسلمة لا ترفض خدمة المسيحى.

الأديان تُجمّع وتصلح، ولكن السلطة تفرق وتفسد ..

0 التعليقات:

إرسال تعليق