السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

الباب الثالث : الدولة الإسلامية فى العصر الحديث بين التنظير والتطبيق

كان تحويل معاوية بن أبى سفيان الخلافة فى وقت مبكر للغاية (سنة 40 هجرية) إلى مُلك عضوض وجعلها وراثية جبرية. ضربة قاصمة لفكرة الإسلام عن الحكم، وأنهت عمليا الحكم الذى يقوم على أصول إسلامية.

ومع مرور قرنين أو ثلاثة، ظهرت نتائج هذا التحول خاصة مع بروز العناصر الفارسية والتركية والديلم والسلاحقة. فتحلل قلبها وانتقضت أطرافها واستقلت عنها مصر، وشمال أفريقيا والأندلس وخراسان.

ولكن الخلافة ظلت متماسكة حتى أصيبت بضربتين قاصمتين الأولى الغزو التترى للعراق الذى قضى على بغداد واسطة العقد النظيم وعاصمة العالم الوسيط والتى كانت "روما" الإسلام. وكانت الضربة من القوة بحيث لم تقم لها قائمة وأخذت تتدهور من عاصمة العالم حتى أصبحت على مشارف العصر قرية كبيرة. وأصابت الضربة الثانية القاهرة، وهى التى قامت بعد اندثار بغداد وحلت الخلافة فيها عندما داهمها الترك بعد هزيمة السلطان الغورى فى موقعة مرج دابق فتحولت القاهرة من إحدى العواصم الزاهرة والقوى المؤثرة إلى أطلال وآثار تنبئ عن الماضى العريق.

وأسر الأتراك – فيما أسروا من القاهرة الخلافة ونقلوها إلى "الأستانة" فشط بها المزار وظلت غريبة تنطق برطانة تركية لا بلسان عربى مبين حتى قضى عليها مصطفى كمال سنة 1924 م.

وخلال القرون الخمسة أو الستة الأخيرة من التاريخ الإسلامى كان الظلام قد أطبق على أرجاء العالم الإسلامى واستسلمت شعوبه لنوم طويل لم تتيقظ منه إلا على مدافع الأسطول البريطانى والجيش الفرنسى أو غيرهما من القوات الأوروبية الغازية التى بدأت مرحلة الاستعمار من القرن التاسع عشر.

f

ماذا كان موقف الفقهاء من هذه الصور من الحكم البعيدة عن الإسلام طوال هذه القرون ؟

إن دفعة المعارضة، التى وصلت إلى الثورة المسلحة فى السنوات الأولى للملك العضوض، وبوجه خاص على يزيد بن معاوية، والتى اتصلت حتى الخلافة العباسية خبت بعد أن فشلت كلها، كما تلاشت على حد السيوف مقاومة الخوارج الباهرة والشُجاعة، ولم ينجح الزيديون الذين يؤمنون بالثورة على البغاة فى زعزعة النظم القائمة.

بل لقد انساقوا مع التيار على يد شيخ من شيوخهم هو الإمام يحيى بن حميد الدين الذى جعل خلافته وراثية ضارباً عرض الحائط بأصول الفقه الزيدى وتاريخه وتقاليده. مما يوضح مدى وعمق التطورات التاريخية من ناحية والأثر الأكبر للحكم على العقيدة.

وشيئاً فشيئاً بدأ نوع من تبرير الاستسلام للقادة الذين يغتصبون الحكم، أو الحكام الظلمة على أساس أن الثورة عليهم – مع عدم التمكين – لابد وأن ينتهى بالهزيمة وسفك الدماء دون نتيجة، بل حتى لو كانت القوى الثائرة فى مثل قوة النظم الحاكمة فإن تصادمهما لن يسفر إلا عن التمزق والفتنة. وكان هاجس "الفتنة" يسيطر على ذهن الفقهاء "من أيام صفين" عندما سفك فريق من المسلمين دماء فريق آخر دفاعاً عن السلطة ..

وكان ابن خلدون قد تحدث عن أن الحكم لابد له من عصبية، وأن العصبية كانت فى بنى أمية وكان لابد أن يؤول إليهم الحكم. وبعد بنى أمية، فإن كل من توصل إلى عصبية فإنه يستطيع أن يحكم بمقتضى هذه العصبية "فإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبى الأموال ولا تكون فوق يده يد قاهرة."

وتحدث الغزالى حديثاً مؤثراً عرض فيه محنة العالم الإسلامى وشرح مبررات التسليم.

"وليست هذه مسامحة عن الاختيار، ولكن الضرورات تبيح المحظورات. فليت شعرى من يقضى ببطلان الإمامة فى عصرنا لفوات شروطها – وهو عاجز عن الاستبدال بالمتصدى لها بل هو فاقد للمتصف بشروطها، فأى أحواله أحسن: أن يقول القضاة معزولون والولايات باطلة والأنكحة غير منعقدة وجميع تصرفات الولاة فى أقطار العالم غير نافذة وإنما الخلق كلهم مقدمون على الحرام، أو يقول الإمامة منعقدة والتصرفات والولايات نافذة بحكم الحال والاضطرار؟ ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب، وأهون الشرين خير بالإضافة، ويجب على العاقل اختياره."

قد يقال.. لماذا لم ينصح الغزالى بالثورة على الحكام أو الهجرة أو ممارسة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى آخر درجاته؟ الرد أن الغزالى وكل الفقهاء فى القرون التى سبقته، والتى لحقته تأكدوا من عجز الشعوب عن الثورة، وأن الثورة إذا قامت فلن تزيد الجماهير إلا ضعفاً والحكم إلا بأساً.. وأن النتيجة ستكون سفكاً لدماء أفضل العناصر – وهى العناصر الثائرة – فإذا فرضنا قدراً من التعادل ما بين فريق الثائرين، والحاكمين فإنها الفتنة التى تستأصل الفريقين وتجعل كل واحد منهما يقضى على الآخر أو يوهنه وكان هاجس الفتنة – كما ذكرنا – عميقا لدى الفقهاء بعد أن شاهدوا مصرع كل الثائرين الأول وفشل قوماتهم.

من هنا يمكن أن نفهم موقف الغزالى الذى كتب بجانب سطور الاستسلام فى "إحياء علوم الدين" سطوراً أخرى تقطر كراهية ومرارة لكل من يعاشر السلطان أو يسايره فى أهوائه.

ومع أن الغزالى كان وثيق الصلة بالوزير نظام الملك فإنه لم يكن أبداً من فقهاء السلاطين.

وقبل الغزالى فإن الإمام أحمد كان أبرز أئمة الأمة تصريحاً بوجوب طاعة الخليفة ما دام الأمر قد استقر له. ولم يؤثر عليه فى حكمه ما ناله على يدى المأمون.

بل إن الفقيه الذى عرف بثوريته وهو ابن تيمية سلم بهذا المبدأ مرتكزاً على حديث "أدوا إليهم حقهم، واسألوا الله حقكم".

لهذا لا نرى خلال القرون التى سبقت العصر الحديث حديثاً عن مقاومة، أو مشروعاً لدولة، فقد غرق الشرق فى سبات عميق كان من الضرورى لإيقاظه أن تزأر جيوش نابليون وأن تهدر مدافع الأسطول البريطانى. عندئذ فحسب بدأت اليقظة.

وفى هذا الباب سنعالج ظهور الفكر السياسى لدى الدعاة الإسلاميين بدءًا من جمال الأفغانى الثورى حتى حسن البنا الإصلاحى. ثم نفرد فصلاً خاصاً لفكر المودودى وسيد قطب والإضافة التى قدمها الإمام الخمينى بفكرة "ولاية الفقيه". ثم نعرض لأفكار جماعات الرفض التى تكونت فى أعقاب الفكر المودودى والقطبى وكثمرة لهما. ثم تنتقل من مجال التنظير إلى مجال التطبيق فنلقى نظرة على محاولات تكوين دولة إسلامية فى الفتـرة المعاصرة ..

f

الفصل العاشر: من جمال الأفغانى إلى حسن البنا..

بظهور جمال الأفغانى بدأت أولى حركات اليقظة السياسية فى العالم الإسلامى. كان قد سبقه أفراد مثل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى.. إمام البعثة النابغ الذى أصبح أول من حاول أن يجمع ما بين ثقافة العصر وثقافة الإسلام ما بين جمهورية فرنسا ودستورها وما بين نظام الخلافة وشوريتها. ولكن الشيخ رفاعة كان أحد رجالات الحكومة. يخضع لتياراتها ونزواتها وقد غضبت عليه أكثر من مرة ولم يكن يملك حرية العمل أو الفكر، كما أنه لم يكن الداعية الذى يتصل بالجماهير بشكل مباشر – وإن لم يمكن إغفال دوره لأنه أول من عرّف المجتمع المصرى بالمجتمع الأوربى. كما ظهر فى تونس السيد خير الدين التونسى الذى كان أكثر تحديداً وتجديداً.

الظاهرة التى توجب الأمانة العلمية أن نسجلها أن كل "إرادات التغيير" إنما جاءت كرد فعل لتعرف المفكرين الإسلاميين على المجتمع الأوربى ونظم الحكم فيه. وهى الظاهرة التى لفتت انتباه السيد رشيد رضا قبلنا ودفعته لأن يقول "فأعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوربيين، معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة، واصطباغ نفوسهم بها – أى المعرفة – حتى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيد بالشورى والشريعة، بالحكم المطلق الموكول إلى إرادة الأفراد.

"لا تقل أيها المسلم إن هذا الحكم – المقيد بالشورى – أصل من أصول الدين ونحن قد استفدناه من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوربيين والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا اعتبار مجال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك أن هذا من الإسلام".

وقد يكون لهذه الظاهرة انعكاس على مضمون مفهوم الدولة الإسلامية لدى هؤلاء المجددين فإذا كان الإعجاب بما وصلت إليه النظم السياسية الأوربية من تنهيج وعدالة وحرية أدت إلى تقدم شعوبها هو الدافع المباشر لهؤلاء المجددين للقيام بدعواتهم، فمن الطبيعى أن تكون فكرتهم عن الدولة قريبة من النموذج الأوربى مع الاحتفاظ بمساحة من التميز تفصل بين الصورة المنشودة للدولة الإسلامية والصورة الأوربية الحديثة، ولكنها لا تصل إلى النقيض، والأمر المؤكد أن صورة الدولة الإسلامية لدى هؤلاء الرواد تختلف اختلافاً كبيراً عن الصورة التى انتهت إليها بعد ظهور أفكار المودودى وبعد ظهور السعودية كدولة مصدرة للبترول، وأخيراً بعد ظهور الخمينى وقيامه بثورته ..

ويجب أن نضع فى تقديرنا أن هؤلاء المجددين لم يكونوا من رجال "المؤسسة الدينية" باستثناء الشيخ محمد عبده الذى قضى وقتا طويلاً "ينظف رأسه من قاذورات الأزهر" على ما قيل ..

وكان سر حماستهم وقوتهم إيمانهم بالحرية. وقد كانت البيئة التى نشأوا فيها أو شدو إليها الرحال هى مصر التى كانت وقتئذ – رغم كل ما منيت به من كوارث – واحة للحرية يهوى إليها كل الأحرار من المناطق التى أغلقها الحكم العثمانى المتسلط. وكانت الحجاز وقتئذ منطقة فقيرة مهملة لا تذكر إلا وقت الحج وكان نصف سكانها يعملون مطوفين يخدمون الحجاج بينما يعمل النصف الآخر من الأعراب فى نهب الحجاج.. وكانت التكية المصرية والأوقاف الإسلامية الأخرى هى عصمة السكان من المجاعة والفاقة.. وعُرفت مصر حتى فى أشد فترات محنتها بصفة مميزة وبطابع من السماحة فى الفكر، وكانت بحكم موقعها وبدفعه نهضة محمد على الكبير ملاذاً لأفواج متتالية من الزوار والسياح والأحرار وحافظت على هذه الصفة طوال مرحلتها الليبرالية من ثورة 19 حتى انقلاب 52 الذى شوه الأوضاع وعاث فيها فساداً ..

من أجل هذا فنحن فى حكم اليقين من أن هؤلاء المجددين أرادوا نهضة بالبلاد وتحريرها من الاستعمار والاستبداد والجهالة والتأخر. ووجدوا أن المظلة الفكرية (الأيديولوجية) الوحيدة التى تحقق هذا فى الإسلام. دون أن تكون هذه الدولة على وجه التعيين هى دولة "الشريعة"، دولة الحدود، الدولة التى تطبق ما تتضمنه كتب الفقه من استتابة مهمل الصلاة وتأديبه وقتل منكرها. وكذلك قتل كل من "جحد معلوما من الدين بالضرورة الخ... مما لا يخلو من دلالة أن كل هؤلاء المجددين كانوا يؤيدون ما منحه القرآن للمرأة من حقوق وما صرح به من حرية فى الفكر والاعتقاد ..

وتقصِّى الملابسات التى أحاطت بهم ودعوتهم يُصدِّق هذا فجمال الأفغانى الذى ربط المستشرقون بينه وبين "الجامعة الإسلامية" كان هو نفسه جامعة دولية يلتف حوله من اتباعه يعقوب صنوع المصرى اليهودى وأديب أسحق وسليم نقاش المسيحيان اللبنانيان وغيرهما من الإيرانيين، وقد كان هو ومحمد عبده أول من رفعا شعار "مصر للمصريين" وعندما ألفا حزبهما كان حزبا مدنيا، وليس حزبا إسلامياً. وكان جمال الأفغانى الذى طوف ما بين الأفغان وإيران والهند ومصر وتركيا وفرنسا وروسيا وإنجلترا رجلاً دوليا، ولم يأنف أن يدخل الماسونية عندما اعتقد أنها ستفيده فى التنظيم الذى يريد إقامته وكان فى مآكله ومشربه (الشاى والسجائر) رجلاً عصرياً ..

ولم يرد ببال جمال الأفغانى جامعة إسلامية، لأن هذه الجامعة كانت قائمة بالفعل فى ظل الخلافة، وإنما أراد النهضة بدولة إسلامية، يمكنها أن تنهض ببقية الدول. وقد علق أمله على مصر وأمضى فيها ثمان سنين متصلة، وهو الذى لا يستقر بدولة، ومع أن قوى عديدة حالت دون أن يحقق فكرته، فإن أمله لم يخب تماماً. وكانت البذور التى بذرها هى التى أثمرت التطورات التى نهضت بمصر ..

ويجب أن لا ننسى أن هؤلاء الدعاة ظهروا فى الفترة التى وصلت فيها العقلانية والتنوير والتقدم إلى أقصى غاياتها فى أوربا. وأن آخر هؤلاء ظهوراً – حسن البنا – هو ابن ثورة 19 والذى نشأ وترعرع فى ظل الليبرالية المصرية التى غرسها دستور سنة 23.

ومن الثلث الأخير للقرن التاسع عشر حتى العقد الأول للقرن العشرين ولم تتغير الأطر العامة. بمعنى أن فكر المجددين رأى فى الإسلام مقوما من مقومات الدولة، وربما يكون أكبر وأبرز مقوم، ولكن لا يذهب فكرهم إلى تكوين دولة إسلامية، على نهج دولة المدينة والخلفاء الراشدين، أو دولة يكون همها الأول تطبيق قواعد الشريعة، كما وضعها الفقهاء – فهذا ما لم يكن مطروحاً وقتئذ وما لم يظهر على الساحة إلا فى فترة لاحقة ..

ولم يترك لنا جمال الأفغانى، ولا محمد عبده صورة للدولة الإسلامية المنشودة. وكل ما نقطع به فى هذا المجال هو أنها دولة الحرية والعدالة. فلا يجوز للحاكم أن يكون مستبداً. فإما تاج دون رأس أو رأس دون تاج كما قال الأفغانى أى أن يكون هناك ملك يملك ولا يحكم على طريقة بريطانيا، أو أن يكون هناك من يحكم دون أن يكون ملكاً، كما فى الجمهورية. ومادة حديث جمال الأفغانى سدى ولحمة هى الثورة على الاستبداد فى الداخل وعلى الاستعمار فى الخارج. كما لم يترك لنا محمد عبده تصوراً للدولة الإسلامية وقد كان فى أيامه الأخيرة كارها للسياسة مؤمنا بالإصلاح التربوى والاجتماعى.

f

وهناك صفحة مطوية قد لا يعلم المؤرخون المعاصرون شيئاً كثيراً عنها مع أنها عن أول محاولة لوضع دستور دولة عربية مستقلة هى سوريا. ففى العقد الثانى للقرن العشرين عقد فى دمشق مؤتمر لوضع دستور لسوريا التى كانت قد تخلصت من الحكم التركى بانتصار ثورة الحسين بن على ودخول جيش عربى على رأسه فيصل ابن الحسين(الذى طرده الفرنسيون من سوريا عندما دخلوها وأعُطى عرش العراق ترضيه له). وسبق هذا المؤتمر جهود وتدبيرات ودراسات عديدة. وكان من أبرز الذين أسهموا فى هذا العمل مجموعة من المشايخ والعلماء منهم من كان قد هاجر إلى القاهرة مثل السيد رشيد رضا الذى كان قطب حزب اللامركزية وفيما بعد نائب رئيس حزب الاتحاد السورى (الذى كان رئيسه ميشيل لطف الله). والشيخ كامل القصاب، والسيد محب الدين الخطيب، ومن علماء دمشق الشيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ تاج الدين الحسينى والشيخ مسلم الحصنى، والشيخ عبد القادر الكيلانى والشيخ عبد العظيم الطرابلسى. وعقد المؤتمر الذى ضم هؤلاء جميعاً وآخرين فى 7 يونيو سنة 1919 لإعداد دستور الدولة الجديدة التى كان سيرأسها الأمير فيصل، وكشفت المناقشات عن وجود انقسام فى الرأى بالنسبة لموقف الدولة الجديدة من الإسلام فقد كان هناك فريق يتبنى نظام حكم علمانى مدنى لسوريا المستقلة وجاء فى أحد وثائق هذا الفريق "أن يكون الحكم فى سوريا المستقلة على مبدأ من الديمقراطية اللامركزية ويكون أساس قوانينها وأحكامها مدنيا بحتا ما عداً الأحوال الشخصية" ويعترف الشيخ رشيد رضا فى وقت لاحق أنه رضى أن يكون مع هذا الفريق المخالف لمذهبه السياسى لأجل "الحرص على تعاون المسلمين مع النصارى على طلب الاستقلال التام الناجز لسورية بعد أن أطال الدعوة إلى مذهبه فلم يستجب له من فضلاء النصارى بمصر إلا أفراد قليلون.[45]

واعترضت مجموعة المشايخ على أن مداولات المؤتمر لم تبدأ بالبسملة! ودار نقاش عريض انتهى بالاكتفاء ببسملة عامة من كلمتين "باسم الله".

وعاد الانقسام مرة أخرى فى هذا الموضوع، وفى موضوع الحقوق السياسية للمرأة أما فيما يتعلق بالموضوع الأول – هوية الدولة فقد "اقترح بعض الأعضاء من غير المسلمين أن ينص فى قرار المؤتمر على أن حكومة سورية لا دينية "لائيكية" ووافقه بعض المسلمين وعارضه آخرون مقترحين أن ينص فيه على أنها حكومة إسلامية عربية أو أن دينها الرسمى الإسلام. وحين احتدم الخلاف بين الطرفين تدخل الشيخ رشيد رضا باقتراح السكوت على هذه المسألة لأنه "إذا أعلنت الحكومة لا دينية يفهم منها جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية فلا تجب طاعتها ولا إقرارها بل يجب إسقاطها عند الإمكان". ووافقت غالبية الأعضاء على هذا الاقتراح والاكتفاء باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمى هو الإسلام. وبعد إعلان استقلال سورية فى اليوم التالى {8 آذار 1920} بدأ المجلس بمناقشة مواد مشروع الدستور الجديد. وتأخر إقرار المادة الأولى التى تتعلق بنظام الحكم حتى 12 تموز 1920، حتى جاءت منسجمة مع نتيجة المناقشة التى دارت حول ذلك فى جلسة 7 آذار 1920 وهكذا تضمنت المادة الأولى أن "حكومة المملكة السورية العربية حكومة مدنية نيابية عاصمتها دمشق الشام ودين ملكها الإسلام" أى أن العلاقة بين الدولة والدين "الإسلام" انحصرت فى ديانة ملكها فقط".[46]

يتضح من هذا أنه عندما سنحت الفرصة لوضع دستور لدولة عربية مثل سوريا، فإن مجموعة كبيرة من المشايخ لم تأنف، ولم ترفض نصاً مدنيا، واستبعدوا أى إشارة إلى الإسلام باستثناء أن يكون دين الملك.

وتوضح هذه الواقعة أن الدعوة إلى الدولة الإسلامية ما كان يمكن أن ترتفع لو ظلت مقصورة على شخصيات الشيوخ رغم المنزلة الرفيعة لهم، ورغم إيمانهم بها.

وقد يؤيد هذا أيضاً أن هذه الفترة شهدت صدور كتاب الشيخ على عبد الرازق الذى كان فى الحقيقة إعلانا عن مشاعر فريق كبير من المثقفين الإسلاميين، ومع أن الكتاب قوبل بعاصفة من المعارضة، فالحقيقة أن هذه المعارضة لم تتصدى لمضمون الكتاب، باستثناء ما كتبه شيوخ الأزهر وأعادوا ما تحفل به المراجع التراثية. أما غيرهم فقد جاءت المعارضة من إلتباس صدور الكتاب لرغبة الملك فؤاد أن يكون خليفة، بعد أن أعلن مصطفى كمال زوالها. الأمر الذى كان محل معارضة الأحزاب المصرية. فضلاً عن أن الكاتب فى عرضه لفكره كان يردد تقريباً فكرة أبداها المستشرقون، وفى الوقت نفسه فإنه تجاهل قيام دولة المدينة والخلفاء الراشدين التى استلهمت المبادئ الإسلامية بحيث لا يمكن القول إنها ليست إسلامية ..

فهذه العوامل كانت فى أصل كتاب الشيخ على عبد الرازق. ولعل الرد الذى كتبه سعد زغلول فى أغسطس سنة 1925م يوضح لنا ذلك.

"لقد قرأته بإمعان، لأعرف مبلغ الحملات عليه من الخطأ والصواب، فعجبت أولا كيف يكتب عالم دينى بهذا الأسلوب فى هذا الموضوع؟!.. وقد قرأت كثيراً للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم فى الإسلام حدة كهذه الحدة فى التعبير، على نحو ما كتب الشيخ على عبد الرازق، لقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعى أن الإسلام ليس مدنيا ولا هو بنظام يصلح للحكم؟.. فأية ناحية مدنية من نواحى الحياة لم ينص عليها الإسلام؟.. هل البيع أو الإجارة أو الهبة أو أى نوع أخر من المعاملات؟.. ألم يدرس شيئاً من هذا فى الأزهر؟!.. أو لم يقرأ أن أمما كثيرة حُكمت بقواعد الإسلام فقط عهودا طويلة كانت أنضر العصور؟.. وأن أمما لا تزال تحكم بهذه القواعد وهى آمنة مطمئنة؟.. فكيف لا يكون الإسلام مدنيا ودين حكم؟!.. وأعجب من هذا ما ذكره فى كتابه عن الزكاة؟!.. فأين كان هذا الشيخ من الدراسة الدينية الأزهرية ؟! ..

إنى لا أفهم معنى للحملة المتحيزة التى تثيرها "جريدة السياسة" حول هذا الموضوع.. وما قرار "هيئة كبار العلماء" بإخراج "الشيخ على" من زمرتهم إلا قرار صحيح لا عيب فيه، لأن لهم حقاً صريحاً – بمقتضى القانون والمنطق والعقل – أن يخرجوا من يخرج على أنظمتهم من حظيرتهم، فذاك أمر لا علاقة له مطلقاً بحرية الرأى، التى تنعيها "السياسة". إن العلماء قد فعلوا ما هو واجب وحق، وما لا يجوز أن توجه إليهم أدنى ملامة فيه.

والذى يؤلمنى حقاً أن كثيرا من الشبان الذين لم تقو مداركهم فى العلم القومى، والذين تحملهم ثقافتهم الغربية على الإعجاب بكل جديد، سيتحيزون لمثل هذه الأفكار، خطأ كانت أم صوابا، دون تمحيص ولا درس، ويجدون تشجيعاً على هذا التحيز فيما تكتبه "جريدة السياسة" وأمثالها من الثناء العظيم على الشيخ على عبد الرازق، ومن تسميتها له بالعالم المدقق والمصلح الإسلامى والأستاذ الكبير الخ ..." انتهى.

فهذا النقد الذى عُنى بإبراز الفقه وأن أمما كثيرة حكمت بقواعد الإسلام فقط عهوداً طويلة كانت أنضر العصور... لا يتعرض لتحقيق "أصولية" الدولة الإسلامية وليس أدل من أنه كلام مرسل من أن سعد زغلول نفسه كان رائداً للعقلانية والمدنية، بل والعلمانية إلى حد كبير، وأنه عندما شكل وزارته لم يضم إليها فقهاء ولكن أقباط، وأنه كرئيس وزارة لم يضع قانوناً يمكن أن يقال إنه "قانون إسلامى" ..

f

فى وسط هذا الاتجاه الليبرالى الذى إن لم يكن عازفاً عن الدين فلا يمكن القول إنه يناصره ظهر حسن البنا، وأبدع شعار "الإسلام دين ودولة" ونقله من دائرة المتخصصين – سواء كانوا فقهاء، أو علماء نظم سياسية – إلى الجماهير – بحيث أكتسب شعبية وشهرة مدوية.

ولكن الحقيقة أن حسن البنا عندما وضع شعار "الإسلام دين ودولة" لم يكن يستهدف إقامة الدولة الإسلامية كما تصورها بعد ذلك المودودى وسيد قطب. والخومينى. ولكنه أراد نظاماً للحكم يستلهم القيم والمبادئ والأصول الإسلامية. وهذه الأصول هى التى عرفتنا عليها النظم الأوربية، وتحدث عنها الإمام البنا كما يتحدث الأوربيون، وليس على طريقة الفقهاء، لأن طريقة الفقهاء مختلفة تماماً. وهذا هو ما يستخلص من رسالته الهامة "مشكلاتنا الداخلية فى ضوء النظام الإسلامى".

فهو يبنى نظام الحكم على ثلاث دعائم :

الأولى: مسئولية الحكم.

الثانية: وحدة الأمة.

الثالثة: احترام إرادة الأمة.

فهذه "تقسيمه" من الأدب السياسى الحديث استعارها الإمام البنا وبرهن عليها بأدلة خالصة من القرآن الكريم والسُنة ومن عمل الخلفاء الراشدين.

"يقول علماء الفقه الدستورى إن النظام النيابى يقوم على مسئولية الحاكم، وسلطة الأمة. واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه يمنع من وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست الفرقة، والخلاف شرطاً فيه، وإن كان بعضهم يقول إن من دعائم النظام النيابى البرلمانى: الحزبية. ولكن هذا إذا كان عرفاً فليس أصلاً فى قيام هذا النظام، لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية.

وعلى هذا فليس فى قواعد هذا النظام النيابى ما يتنافى مع القواعد التى وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيداً عن النظام الإسلامى ولا غريباً عنه. وبهذا الاعتبار يمكن أيضاً أن نقول فى اطمئنان إن القواعد الأساسية التى قام عليها الدستور المصرى لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيده من النظام الإسلامى ولا غريبة عنه، بل إن واضعى الدستور المصرى رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها، فقد توخوا فيه ألا يصطدم أى نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية "دين الدولة الإسلام" وقابلة للتفسير الذى يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذى يقول "دين الدولة الإسلام أو قابلة للتفسير الذى يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذى يقول "حرية الاعتقاد مكفولة."

وأحب أن أنبه هنا إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التى تسير عليها المحاكم، إذ أن كثيراً من هذه القوانين يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام، وذلك بحث آخر سنعرض له فى وضعه إن شاء الله.

ومع أن النظام النيابى والدستور المصرى فى قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام فى نظام الحكم، فإننا نصرح بأن هناك قصوراً فى عبارات الدستور، وسوءاً فى التطبيق، وتقصيراً فى حماية القواعد الأساسية التى جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور، أدت جميعاً إلى ما نشكو منه من فساد، وما وقعنا فيه من اضطراب فى كل هذه الحياة النيابية.[47]

وقدم الإمام البنا ملاحظات على بعض وجوه النقص فى الدستور المصرى كإعفاء رئيس الدولة من المسئولية والغموض فى الدستور المصرى واستشهد بمذكرة كتبها الدكتور إبراهيم مدكور عضو مجلس الشيوخ المصرى، والأستاذ مريت غالى فى مذكرتهما "نظام جديد" قالا تحت عنوان "الدستور وغموضه" :

"فأما العامل الأول فملخصه أن دستورنا على الرغم من دقته وضبط عباراته، قد وقع فى نفس الغموض الذى وقعت فيه دساتير أسبق منه، وترك أهم نقطة فى الحكم النيابى دون أن يحددها التحديد الكافى، ونعنى بها سلطة الوزراء وصلتهم بالشعب ممثلة فى نوابه من جهة، وإشرافهم على ما يؤدى إليه من خدمات من طريق المصالح والإدارات من جهة أخرى. كما أجمل إجمالاً مخلاً فى بيان موقفهم من رئيس الدولة ومليك البلاد. واكتفى بأن يصوغ هنا فى عبارات تصلح لكل ما يراد منها. وواضح أن الوزارة هى العمود الفقرى لهيكل النظام النيابى كله، وحلقة الاتصال بين التشريع والتنفيذ، ومبعث الحياة والحركة فى نظام يراد به احترام سلطة الشعب مع تصريف شؤون الدولة تصريفاً محكماً سريعاً. وإذا ما رجعنا إلى الدستور وجدنا أن ما جاء به متصلاً بهذه النقطة الحساسة لا يكاد يتجاوز ثلاثة أسطر كلها غموض وعموم، فيقرر فى المادة 29: "أن السلطة التنفيذية يتولاها الملك فى حدود هذا الدستور" وفى المادة 48: "الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه" وفى المادة 49: "الملك يعين وزراءه ويقيلهم" وفى المادة 57: "مجلس وزرائه هو المهيمن على مصالح الدولة" وفى المادة 61: "الوزراء مسؤولون متضامنون لدى مجلس النواب عن السياسة العامة للدولة، وكل منهم مسئول عن أعمال وزارته" وفى المادة 63: "أوامر الملك – شفهية أو كتابية – لا تخلى الوزراء من المسئولية على أية حال."

تلك تقريباً جملة النصوص المتصلة بهذا الموضوع، ولا نظن أن فيها ما يكفى مطلقاً لحل أى مشاكل من المشاكل التى أشرنا إليها". انتهى.

وقد أفاضاً بعد ذلك فى الشرح والتمثيل بما يفصل ما تقدم من هذه المعانى.. والمهم أن هذه النقطة وهى لب الأمر تحتاج إلى إيضاح واستقرار، وهى القاعدة الأولى من قواعد "النظام الإسلامى" أو النيابى على السواء، وبغير ذلك لا يمكن أن تستقيم الأمور أو تسلم.[48]

وكان للإمام البنا رحمه الله رأى فى الأحزاب وقد بنى حكمه على أسباب موضوعية واستشهد بآراء كتاب ومفكرين مصريين فقال :

"وهذا الكلام الذى انعقد إجماع الأمة عليه، أعلنه شيوخ ونواب وفقهاء. ودستوريون فى صراحة ووضوح. ومن قرأ ما كتبه علوبة باشا فى كتابه "مبادئ وطنية"، أو الأستاذ حسن الجداوى فى كتابه "عيوب الحكم فى مصر" أو غيرهما من الكتَّاب، رأى صدق ما نقول. وحسبنا أن ننقل هنا فقرة من كتاب الفقيه الدستورى الأستاذ سيد صبرى "مبادئ القانون الدستورى" عن الأحزاب المصرية قال: "والواقع أنه لم يعد لأغلب الأحزاب السياسية فى مصر برنامج يدافع عنه أنصار ومريدون، ولهذه النتيجة أهميتها، فإن الانتخاب لن يقوم على المفاضلة بين البرامج، فقد أصبحت واحدة للجميع، بل سيقوم على الثقة بالأشخاص أو المفاضلة بينهم، وستكون الانتخابات شخصية لا حزبية بالمعنى المفهوم لدى الشعوب الغربية، وبديهى أن بقاء الأحزاب على هذا المنوال يقسم البلاد شيعاً وأحزاباً ويثير الشقاق والمنازعات بين الأفراد والأسرات بلا سبب مفهوم ولا أساس معقول."

وإذا أضيف إلى هذا أن مصر ما زالت بلداً محتلاً إلى الآن، وأن الذى يستفيد من هذه الفرقة هم المحتلون الغاصبون فقط، وأنه إذا استسيغ الخلاف – وهو غير مستساغ بحال – فى أمة من الأمم، فإن أمة وادى النيل هى أحوج ما تكون إلى أكمل معانى الوحدة لتتجمع قواها فى نضال الاستقلال وفى عمل الإصلاح الداخلى، إذا أضيف هذا كله كان الأمر أخطر من أن يهمل أو يستهان به."

وبالنسبة للدعامة التالية – احترام إرادة الأمة تناول الإمام البنا "عيوب نظم الانتخاب فى مصر وكان عمدته هو كلام الدكتور سيد صبرى فى كتابه "مبادئ القانون الدستورى" ..

"أنه أوجد هيئة ناخبة لا يمكنها تحقيق الغرض من الانتخابات على الوجه المطلوب، وأنه لم يحقق فكرة تمثيل الأمة تمثيلاً صحيحاً، وأنه لم يصل إلى إيجاد هيئة تعمل للصالح العام مجردة من كل قيد.." وقد أورد بعد ذلك إحصائية دقيقة خلص منها بالأرقام إلى أن قرارات البرلمان المصرى فى أدواره المختلفة لا تعبر إلا عن رأى نسبة ضئيلة من مجموع من له حق الانتخاب، لم تصل يوماً إلى 12%.

واقترح الإمام البنا الإصلاحات الآتية :

"لابد من تعديل وإصلاح لقانون الانتخاب، ومن وجوه هذا الإصلاح الضرورية :

1. وضع صفات خاصة للمرشحين أنفسهم، فإذا كانوا ممثلين لهيئات فلابد أن يكون لهذه الهيئات برامج واضحة وأغراض مفصلة يتقدم على أساسها هذا المرشح. وإذا لم يكونوا ممثلين لهيئات فلابد أن يكون لهم من الصفات والمناهج الإصلاحية ما يؤهلهم للتقدم للنيابة عن الأمة، وهذا المعنى مرتبط إلى حد كبير بإصلاح الأحزاب فى مصر. وما يجب أن يكون عليه أمر الهيئات السياسية فيها.

2. وضع حدود للدعاية الانتخابية، وفرض عقوبات على من يخالف هذه الحدود، بحيث لا تتناول الأسر ولا البيوت ولا المعانى الشخصية البحتة التى لا دخل لها فى أهلية المرشح وإنما تدور حول المناهج والخطط الإصلاحية.

3. إصلاح جداول الانتخاب، وتعميم نظام تحقيق الشخصية، فقد أصبح أمر جداول الانتخاب أمراً عجباً بعد أن لعبت بها الأهواء الحزبية والأغراض الحكومية طوال هذه الفترات المتعاقبة، وفرض التصويت إجباريا.

4. وضع عقوبة قاسية للتزوير من أى نوع كان، وللرشوة الانتخابية كذلك.

5. وإذا عدل إلى الانتخاب بالقائمة، لا الانتخاب الفردى كان ذلك أولى وأفضل، حتى يتحرر النواب من ضغط ناخبيهم، وتحل المصالح العامة محل المصالح الشخصية فى تقدير النواب والاتصال بهم.

وعلى كل حال فأبواب الإصلاح والتعديل كثيرة، هذه نماذج منها، وإذا صدق العزم وضح السبيل، والخطأ كل الخطأ فى البقاء على هذا الحال والرضا به، والانصراف عن محاولة الإصلاح."

هذا هو ما جاء فى رسالة "مشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامى". ومن الواضح أنها ملاحظات مصلح ديمقراطى يؤمن كل الإيمان بسيادة الأمة وضرورة احترام إرادتها وإقامة النظام السياسى على أساس برلمانى. ولا نجد فيه كلمة واحدة من شنشنة سيد قطب والمودودى أو ادعاءات جماعات الرفض أو حتى فيهقه الفقهاء. بل لا نجد فيه إشارة إلى "تطبيق الشريعة" أو تنفيذ الحدود أو حتى الخلافة.

من هنا ندرك مدى الخطأ الذى يقع فيه الذين يعتبرون أن الإمام البنا كان رائداً للذين جاءوا من بعده. إن الدولة التى أرادها الإمام البنا هى الدولة الديمقراطية بعد إجراء تعديلات وإن كانت جذرية، ولكنها لا تغيرها عن طبيعتها وإنما تصلح بعضها. ولم يكن هو الوحيد الذى طالب بذلك ولكن لفيف كبير من أساتذة النظم الدستورية والكتاب والمفكرين.

إن حسن البنا أراد دولة إسلامية... ولكن لم يرد "دولة الإسلام" والفرق كبير كما سيتضح من الفصول التالية.

من الواجب علينا بعد أن أشرنا إلى الأفغانى والبنا – أن نشير إلى داعية تركى أصطلى بنيران العمل السياسى حينا، حتى طلقه طلاقاً لا رجعة فيه، بل رأى فيه عمل الشيطان نفسه – ذلكم هو السيد بديع الزمان سعيد النورسى الذى حاول أن يثنى مصطفى كمال عن غيه، فكانت النتيجة أن اضطهده وكاد أن يقضى عليه حتى لاذ بركن قصى من تركيا عكف فيه على استلهام القرآن ليصدر "رسائل النور" التى كانت أساساً لجماعة إسلامية كبيرة هى "جماعة النور" وكان النورسى يمليها على اتباعه فى منفاه القصى دون أن يرجع إلى كتاب أو يستشير مرجعاً لأنها إنما كانت إلهاماً من القرآن نفسه. ولهذا كان فيها نقاء القرآن وإخلاص صاحبها.

وقد اضطهد الإمام النورسى رحمه الله اضطهاداً لم يقتصر على شخصه بل امتد إلى مدفنه، فنقل مراراً وأخيراً دفن فى مكان مجهول !!

0 التعليقات:

إرسال تعليق