السبت، ٢٢ أغسطس ٢٠٠٩

صعـوبات االتقـنـيـن

تطبيق الشريعة شعار أشهر من نار على علم، كما يقولون، وهو القاسم المشترك الأعظم فى الهيئات الإسلامية على اختلافها حتى وإن تفاوتت فى المدى أو الكيفية وكلها تجمع على أن من يرفض ذلك يُعَدّ مرتداً..

والرأى السائد لدى هذه الهيئات أن تطبيق الشريعة يلبى مطلباً جماهيريا ويحقق فرضاً إسلامياً، وأن القوانين التى تبلور ذلك موجودة فعلاً، فقد عكفت عليها لجان عديدة برآسة الدكتور صوفى أبو طالب أيام رآسة السادات ولكن رئيس المجلس العتيد رفعت المحجوب احتجزها فى أدراج المجلس وحال دون أن ترى النور...

إن إنعام النظر يوضح لنا أن الموضوع أصعب وأكثر تعقيداً مما تتصوره هذه الهيئات، وأن هناك اعتبارات عديدة وعوامل يجب التغلب عليها قبل أن يحقق ذلك. وبعض هذه العوامل صعبة، بينما الآخر يجعل هذا التحقيق – فى الأوضاع الحالية – مستحيلاً أو عقيماً..

واستقصاء التاريخ يوضح لنا أن تطبيق الشريعة – باستثناء فترة وجود الرسول، كان حراً يخضع لاجتهادات عديدة ولم يأخذ شكل "قانون" حتى عندما وضعت تركيا "مجلة الأحكام العدلية" وحتى بعد أن أصدر محمد قدرى باشا كتابه "مرشد الحيْران إلى معرفة حقوق الإنسان" اللذين قننا نصوص الشريعة فى مواد قانونية.

كما يوضح لنا التاريخ أن فكرة تقنين الشريعة – بطريقة ما، ساورت عدداً من الخلفاء فى العهد الأموى والعباسى ولكنها كلها لم تنجح.

كان أولهم الخليفة عمر بن العزيز الذى بدأ تدوين السُنة لشىء أكثر من خوفه من ذهاب العلم، كما يفهم ذلك من حديث أبى زرعه "أراد عمر بن عبد العزيز أن يجعل أحكام الناس والاجتهاد حكما واحدا، ثم قال إنه قد كان في كل مصر من أمصار المسلمين وجند من أجناده ناس من أصحاب رسول الله وكان فيهم قضاة قضوا بأقضية أجازها أصحاب رسول الله ورضوا بها وأمضاها أهل المصر كالصلح بينهم فهم على ما كانوا عليه من ذلك".

وهذا النص يوضح أن عمر بن عبد العزيز كان يريد من وراء التدوين، أن يتحول ذلك إلى قانون يحمل الناس عليه أو يلزمهم به، ولكن خلافته لم تستمر سوى عامين، وذهب بعض الكتاب إلى أن الوليد بن عبد الملك (86-96 هـ) أراد ذلك قبل عمر بن عبد العزيز وأنه كتب يحمل القضاة على قول خالد بن معدان الكلاعي، ولكنها لم تنجح أمام الأعراف الفقهية السائدة.

على أن الأثر الأكثر شيوعا ودلالة أيضا هو ما رُوِيَ عن مالك بن أنس مع المنصور وقد رواه مالك نفسه فقال "لما حج أبو جعفر المنصور دعانى فدخلت عليه فحادثته وسألنى فأجبته فقال إنى عزمت أن أمر بكتبك هذه التى قد وضعت يعنى "الموطـأ" فتنسخ نسخا ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وأمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإنى رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم وأن ردّهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم، فقال لعمرى لو طاوعتني على ذلك لأمرت به".

واسترعى أنظار ابن المقفع اختلاف الأحكام باختلاف الأمصار وكتب فى "رسالة الصحابة": "ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين (الكوفة والبصرة) وغيرهما من الأمصار والنواحى اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التى قد بلغ اختلافهم أمرا عظيما فى الدماء والفروج والأموال فيستحل الدم والفرج بالحيرة، وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف فى جوف الكوفة فيستحل فى ناحية منها ما يحرم فى ناحية أخرى.. فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه فى كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس. ثم نظر فى ذلك أمير المؤمنين، وأمضى فى كل قضية رأيه الذى يلهمه الله، ويعزم عليه عزما وينهى عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتابا جامعا.. ثم يكون ذلك من إمام آخر الدهر إن شاء الله".

ولكن هذه المحاولة أيضا لم ترزق استجابة..

ويلحظ أن المبادرة فى هذه المحاولات جاءت من الحكام أو أعوانهم، وهو أمر مفهوم سواء لأن ذلك يضع الزمام فى أيديهم ويمنحهم مزيدا من السلطة، ويضفى على هذه السلطة ثوب الشرعية، أو لأن مناخ الحرية السائد وقتئذ أدى إلى بلبلة وفوضى فى إصدار الأحكام، كما أشار ابن المقفع وهو أمر من الصعب أن تقف الدولة موقفا سلبيا إزاءه. فكان لدى الحكام دافع مضاعف لتقنين الشريعة ولكنهم لم ينجحوا لأن الأمر كان أكثر تعقيداً مما تصوروا، فمن ناحية رفض الفقهاء هذه المحاولة التى تنقل السلطة من أيديهم لتضعها في يد الدولة، حتى وإن كان بعضهم فى إطار الدولة كقضاة، لأن المعول لا يكون على القضاة الذين يعملون فى خدمة الدولة ولكن على الفقهاء الذين يضعون الأحكام التى يحكم بها القضاة.

وكانت تلك هى فترة انطلاقة الفقه وازدهار الاجتهاد ولم يكن سهلاً كبحه أو تأطيره لأنه كان يصدر عن إيمان عميق من الفقهاء برسالتهم ودورهم والأمانة التى استحفظوا عليها.

وكان أهم من هذا كله الشعور المستكن فى أعماق المجتمع الإسلامي وقتئذ جماهير وفقهاء من أن الأمر الطبيعى للشريعة أن يترك ما بين الفقهاء ومحابرهم، وما بين الجماهير ومشاعرهم وأن تكون العلاقات حرة ومتفتحة، فهذا الوضع يدفع لازدهار الفقه، وبالتالى الشريعة، وتفتح آفاقها وفنونها، كما يُسْمَح للجماهير بحرية الأخذ برأي هذا الفقيه أو ذاك، الانتماء إلى هذا المذهب أو غيره، ويربط الجميع ويوحد بينهم -كائنا ما كان التنوع- إطار القرآن بحيث ينطلق الجميع من "وازع القرآن".

كانت تلك هى الفترة الحرة التى تأبّت على كل تقييد ورفضت كل تجديد وأرادت أن تسير حرة كما تشاء "كانت أشبه بجواد برّي لم يوضع على ظهره سرج ولا في فمه لجام ويرفض أن يركبه أحد.

هل ترى كان يمكن لمثل هذا المجتمع المتفتح الذى يعتز فيه فقهاؤه وجمهوره بأنفسهم ديناً وعن حكم الدولة المركزية والسلطة التى تفرض أرادتها على الجميع -حتى لو كان قانونا؟ وتستوعب الحرية فيه كل الاختلافات..

بالطبع ما كان يمكن لهذا المجتمع أن يبقى ويستمر. كان منطق التطور والمبادئ التى تقوم عليها المجتمعات يأبى ذلك، كان إلزاما أن يفرض ضروراته، وينهي هذه الحقبة باعتبارها إحدى "المحطات" التى يتلبث فيها التاريخ قبل أن ينطلق ويستأنف سيره.

وحتى ولو تجاوب الفقهاء شيئا ما فإن التوصل إلى التقنين المطلوب كان يقضى إما الأخذ بمذهب دون بقية المذاهب الأخرى، وطبيعى أن هذا الحل لن يظفر بتأييد فقهاء المذاهب المتروكة. وإما أن يقوم التقنين على أساس انتقائى/ تلفيقى وهو أمر يعسر التوصل إليه لأن الاختلاف بين المذاهب اختلاف أصولى. أى يعود إلى قواعد الوصول إلى الحكم، والانتقاء والتلفيق لا يمكن تحقيقه لأن تنافر الأصول تحول دون الانصهار فى بوتقة واحدة، إلا على أساس تجاوز إطار "أدّلة الأحكام" المقرر فى "أصول الفقه" إلى الأهداف المتوخاة من الشريعة كـ "المصلحة" عند الطوفي أو "المقاصد" عند الشاطبي، وهو ما لم يسمح المجتمع بالوصول إليه في هذه المرحلة، بل وحتى الآن.

ووجد الحكام أنفسهم أمام متاهة لا يمكنهم التوصل فيها إلى الطريق المطلوب.. ولم يستطيعوا إلا بعد فترة طويلة جدا حسم الأمر بالطريقة التى فعلتها الدولة العثمانية عندما جعلت المذهب الحنفى مذهبا مقررا متبعا فى الدولة وعندما وضعت "مجلة الأحكام العدلية"، أو عندما قررت الدولة الصفوية فى إيران المذهب الجعفرى مذهبا لها وكان هذا بالطبع بعد أن أغلق باب الاجتهاد بوقت طويل وطويت صفحة التألق والإبداع وساد التقليد مما سمح باتخاذ هذه الخطوة.

وتم هذا الحسم بمبادءة من الدولة، وحدث دون صراع فى حالة الدولة التركية التى وصل منها التردّي درجة حالت دون وجود مقاومة، ولكنه فى حالة إيران تطلّب حرباً على المذاهب السُنية أُهْدِرَت فيها الدماء إثراء.

وكما كان منتظراً فإن تدخل السلطة عندما كان هذا التدخل لفرض تطبيق الشريعة، وحتى لو تضمنت السلطة عناصر من رجال الفقه فإنه أدّى لفساد كل شئ ولأن تفقد الشريعة روحها ومهما اتخذ من ضمانات فإن السلطة تتوصل بهذه الطريقة أو تلك إلى تجميد هذه الضمانات، وفي النهاية يعود كل شيء إلى "وازع السلطان".

بل إن نظرة الناس إلى الشريعة ستختلف وبعد أن كان العامل الأعظم فى تفعيل الشريعة هو الإيمان فإن هذا العامل يتحول إلى "الإذعان" وما أعظم الفرق بين حلاوة الإيمان ومرارة الإذعان وشيئا فشيئا تفقد "الشريعة" قداستها ودفئها وما يصطحب بها من انتماء إلى الله والرسول والصحابة وأجيال الفقهاء والعلماء الذين عملوا بوحى من الإيمان والإخلاص والقربى إلى الله وتصبح مجرد قانون تصدره الدولة تشرف سلطاتها على تطبيقه.

فهل فكّر دعاة تطبيق الشريعة في هذه الاحتمالات والتطورات التي

________________________________________

ينتهي إليها التطبيق المنشود؟

__________________

إن بعض الذين وضعوا هذه الاحتمالات نصْب أعينهم وجدوا أنفسهم وهم يعارضون تطبيق الشريعة. فعندهم أن من الأفضل أن تكون الشريعة فكرا بين الناس يؤثر فيهم ويتفاعل معهم بحكم أفضليته ومنزلته من أن يكون قانونا مفروضا عليهم من الدولة. خاصة أن دور العقوبات الحدّية دور هامشي فى أحكام الشريعة "وقد أحاطها الشرع بمحترزات جعلت أكثرها غير قابل للتطبيق فى العادة" أما التعازير فإنها اجتهادية تعود للقاضى، وينتهي هؤلاء إلى ما قاله الدكتور رضوان السيّد.

"وخلاصة القول أن شعار تطبيق الشريعة يقود إلى نتائج تتناقض مع أهداف الذين يطرحونه. فهو يحتّم تدوين الفقه فى صورة تقنين قانوني، وهو يقلّل من شأن الشريعة ووظيفتها الاجتماعية عندما يضعها فى مرتبة القانون القامع، وهو يعطي الدولة صلاحيات جديدة انتزعها منها مجتمعنا التاريخى فيكل إليها سلطة قامعة إضافية، وهو يتناقض مع التجربة التاريخية للأمة القائمة على فكرة الجماعة إذ يشرذم المجتمع. وهو يخلق فى النهاية نظاما قيميا جديدا ينسجم مع متطلبات الدولة القومية ذات الطابع القطري".

وهي مآخذ تُضائل -إن لم تكن تقضي- على المزايا الباهرة المتصوّرة لتطبيق الشريعة، ومن ناحية أخرى فلا يمكن العودة إلى مرحلة الاجتهاد الحر الطليق الذي يؤدي إلى تعدّد الأحكام وتفاوتها في الموقع الواحد.

وهذا هو المأزق الذي يتطلب اجتهاداً جديداً حتى تخلص الشريعة منه، وهو ما يحاول هذا البحث أن يقدّمه.


0 التعليقات:

إرسال تعليق