الأربعاء، ٩ سبتمبر ٢٠٠٩

إلهامات قرآنية.. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ كتب جمال البنا

ما إن نقوّم الأديان حتى يتصدى لها فريقان:
الفريق الأول : الحكام والأغنياء وكبار الملاك والتجار الذين يستفيدون من الوضع القائم إذ يضع فى يدهم السلطة والثروة، فمن الطبيعى أن يتمسكوا به وأن يضيقوا بأى تغيير، ويريدون أن يستمر هذا العهد أبدًا، فما إن يظهر دين جديد حتى يتصدوا للتو لمقاومة هذا الدين، فالأديان بالنسبة للطبقة الحاكمة أعظم خطر يمكن أن يظهر وأن يزلزل قوائم عهدها ليس فحسب لأنه تغيير كاسح، ولكن يضيق لأن هذا التغيير يستهدف تدمير ملكهم ويسلم هذا الملك إلى غيرهم.
والفريق الثانى: هو الذى أطلق عليهم القرآن الكريم تعبير «الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا»، وهذا التعبير يوحى بأنهم لم يكونوا أصلاً ضعفاء، ولكن النظم الحاكمة توصلت إلى جعلهم ضعفاء، بتأثير ما فرضته عليهم من ضرائب ثقيلة ذهبت بمكاسبهم وأرباحهم من عملهم، بحيث أصبح لا ييسر إلا القوت الضرورى، بل هذا القوت لا يتيسر إلا بالعمل الشاق ليل نهار، فإذا أبدوا ضيقاً أو رفضًا سلطت عليهم قوتها القاهرة الجيش والبوليس والسجون والمحاكم التى تحكم بشرعة القوى، فلم يبق أمامهم إلا الاستسلام .
تلك فى الحقيقة هى قصة الحكم ما بين سادة ظالمين وجمهور مستضعف.
يظهر القرآن الكريم الدين هنا قوة تقلب الوضع، وتنفخ فى هؤلاء المستضعفين قوة إيمانية تجعلهم يتصدون، وإنما تم هذا لأنه هو ما أراده الله، وما تم لأن الله تعالى يريد هذا، جعل دينه وسيلة لتحقيق ذلك، ولأن يرث هؤلاء المستضعفون الملك العريض من السادة المستبدين.
إن سورة «القصص» تعرض لنا بأسلوب القرآن المعجز قصة الحق الذى كان ضعيفاً، مستسلمًا حتى تملكته قوة الأديان، بينما يتملك التخبط والذعر هذه الطبقات الحاكمة فتأتى أفعالاً تؤدى إلى نهايتها.
وكان الله تعالى يرمز إلى القدر الذى أراده، بأن تأفل دولة الظلمة وأن تسود دولة المستضعفين.
سورة «القصص» تبرز لنا الدين كقــوة تحرير، يتملك المستضعفين فيعملون جميعًا، سواسية، تحت إمرة نبى يمثل القيادة الربانية فيكتب لهم النجاح والتوفيق .
«إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَنُرِى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ».
لقد حاولت الجماهير خلال تاريخها الطويل أن تحرر نفسها، وأن تتوصل إلى ما يجعل ضعفها قوة، ولكنها قلما نجحت، وفى الحالات التى نجحت فيها، شاب نجاحها نقص حال دون أن تهنأ بانتصارها، أما ثورة الأديان فقد توفر لها أفضل عناصر نجاح الثورة: النظرية ممثلة فى الإيمان بالله، والقيادة ممثلة فى الأنبياء، وإرادة التغيير الشاملة التى تنهى عهدًا لتبدأ عهدًا، وأخيرًا المشاركة الجماهيرية بشكل مباشر وفعال.
وما ترويه لنا ســورة «القصص» إنما هو الفصل الأول من تحرير الأديان للجماهير، وسيأتى فصل آخر عندما تحرر المسيحية الجماهير من إسار قبضة الإمبراطورية الرومانية القوية العاتية بفرسانها وطرقاتها وقوانينها، والسيف الرومانى القصير العريض، أما الفصل الأخير فى تحرير الأديان للجماهير فهو ثورة الإسلام التى جعلت من القبائل المتنازعة أمة تحمل الكتاب

0 التعليقات:

إرسال تعليق